المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 51.doc

عرفنا مما تقدم أن المشهور من فقهائنا ذهبوا إلى وجوب تصدي المؤمنين لوظائف الحاكم في صورة تعذر تصديه أو في صورة فقدانه، ففي مفتاح الكرامة في كتاب الحجر قال: ويستفاد من بعض الأخبار ثبوت الولاية للحاكم مع فقد الوصي، وللمؤمنين مع فقده وفي الحدائق نسبته إلى الأصحاب وفي مجمع البرهان الظاهر ثبوت ذلك لمن يوثق بدينه وأمانته بعد تعذر ذلك كلّه وفي كتاب البيع نسبه إلى الأشهر الأظهر بين الطائفة، وفي الحدائق في كتاب الوصايا قال: لا خلاف بين الأصحاب في أنه لو مات ولم يوص إلى أحدٍ وكان له تركة وأموال وأطفال فإن النظر في تركته للحاكم الشرعي وإنما الخلاف في أنه لو لم يكن ثمة حاكم فهل لعدول المؤمنين تولي ذلك أم لا؟.

الذي صرح به الشيخ وتبعه الأكثر الأول، وفي المسالك في كتاب الوصايا في عداد بحث الأولياء الذين هم سبعة المالك والأب والجد والحاكم وأمينه والوصي والوكيل قال (رضوان الله عليه): فإن فقد الجميع فهل يجوز أن يتولى النظر في تركة الميت من المؤمنين من يوثق به قولان: أحدهما المنع، ذهب إليه ابن إدريس. والثاني وهو المختار الأكثر تبعاً للشيخ الجواز، انتهى كلامه.

وهذا مختار جمع من المعاصرين أيضاً كما يظهر من تقريرات الميرزا النائيني ومهذب السيد السبزواري وفقه السيد الشيرازي (قدست أسرارهم) وغيرهم من الأعلام، قال الميرزا كما في تقريراته: وممن ثبت له الولاية على التصرف في الجملة في أموال من ليس له السلطنة على أمواله كالقاصرين عدول المؤمنين، ومورد جواز تصرفهم ونفوذه هو عموم الحسبيات مما علم بعدم رضا الشارع بتعطيلها لاستلزام تعطيلها اختلال النظام أو العسر والحرج مع عدم التمكن من الرجوع إلى الفقيه، ولا إشكال في أصل الحكم في الجملة.

وكيف كان فيمكن الاستدلال لذلك بالأدلة العقلية كإقامة النظام ودفع الفساد والهرج والمرج وكذلك بالأدلة النقلية، وهي فيما نحن فيه متظافرة نذكر منها ما يلي:

- الأول: قوله تبارك وتعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) فإن ظاهر الاستثناء كون القرب إذا كان حسناً جائزاً وهنا كذلك، والظاهر أن الخطاب لا ينحصر بالحكام خاصة بل ظاهره العموم وخصوصية المورد لا تخصص الوارد وإذا ثبت ذلك في مال اليتيم ثبت في غيره بالأولوية وبعدم القول بالفصل.

- الدليل الثاني: قوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) وأقل المعاونة هو الاستحباب فضلاً عن الجواز والمفروض أن فرضنا هذا داخل في الإعانة على البر من دون شبهة وغير ذلك من أدلة الحسبة والمعروف كلها دالة على ذلك.

- الثالث: خصوص الروايات الواردة في باب الوصية كالخبر في من مات ولم يعين وصياً، قال (عليه السلام): (إن قام رجل ثقة فباشر ذلك فلا بأس فيه) وإذا ثبت في هذا الباب فلا قائل بالفرق بين الوصية وغيرها، ولا يرد الإشكال في أن ذلك إذن من الإمام والكلام فيما إذا لم يكن هناك حاكم لأن الظاهر من الرواية أنها في مقام بيان الحكم الشرعي وليس في مقام بيان الإذن في واقعة خاصة، ونظائره كثيرة في الفقه منها قوله (عليه السلام): (من أحيا أرضاً ميتة فهي له) فإن الفقهاء استفادوا منها الحكم وليس الأذن في الإحياء خصوصاً أن وظيفة الإمام هو بيان الأحكام.

ومن الروايات صحيحة ابن بزيع قال: مات رجل من أصحابنا ولم يوص فوقع أمره إلى قاضي الكوفة فصير عبد الحميد القيم بماله وكان الرجل خلّف ورثة صغاراً ومتاعاً وجواري فباع عبد الحميد المتاع فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهن إذ لم يكن الميت صيّر إليه وصيته وكان قيامه فيها بأمر القاضي لأنهن فروج قال فذكرت ذلك لأبي جعفر (عليه السلام) وقلت له: يموت الرجل من أصحابنا ولا يوصي إلى أحد ويخلف جواري فيقيم القاضي رجلاً منا فما ترى في ذلك؟ قال: فقال إذا كان القيم به مثلك ومثل عبد الحميد فلا بأس، ودلالة هذا الخبر مبنية على كون المراد من قوله (عليه السلام) مثلك المماثلة في العدالة والوثاقة ومع احتمال كون المماثلة في الفقاهة يسقط عن الدلالة لانحصاره حينئذٍ بالفقيه، ومنها ما رواه إسماعيل بن سعد الأشعري قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن رجل مات بغير وصية وترك أولاداً ذكراناً غلماناً صغاراً وترك جواري ومماليك هل يستقيم أن تباع الجواري قال: نعم. وعن الرجل يموت بغير وصية وله ولد صغار وكبار أيحل شراء شيء من خدمه ومتاعه من غير أن يتولى القاضي بيع ذلك فإن تولاه قاض قد تراضوا به ولم يستعمله الخليفة أيطيب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع وقام عدل في ذلك. ودلالته على المطلوب ظاهرة كما أن وجه اعتبار رضا الأكابر من ولده واضح لأنه ليس للولي ولاية عليهم.

والروايات في هذا المجال متضافرة لكن لا يسعنا المجال للإشارة إليها جميعاً.

- الدليل الرابع: ظهور إجماع الأصحاب على الجواز من دون نكير كما يظهر بالتتبع قد عرفت أن سيرتهم قامت على تولي مثل هذه المسائل.

ويتحصل مما تقدم أن لعدول المؤمنين التصدي في الأمور التي لا يرضى الشارع بتعطيلها، وهذا أمر ثابت معلوم من الأدلة العقلية والنقلية، ولا نحتاج في إثبات هذا المعنى إلى أكثر من الالتفات إلى ما يترتب عليها من إخلال النظام والفوضى والفساد والعسر والحرج ونحوها..

ومن هنا يعلم أنه إذا لم يتمكن الفقيه من تأسيس الحكومة الإسلامية إما لعدم تهيئة الظروف أو لعدم خبرته فيه أو لضغوطات الأنظمة والظلمة وما أشبه ذلك من موانع فاللازم إقدام غيره ممن يوثق بعدالته وكفاءته وحسن تدبيره وتدينه ويكون في نفس الوقت خبيراً بالأمور ومقبولاً عند الناس ينبغي أن يقدم على تأسيس الحكومة فإن ذلك أمر لا يجوز تعطيله بحال إذ لابد للناس من أمير برٍّ أو فاجر كما عرفته من الرواية وإذا دار الأمر بين الفوضى أو الحاكم الفاجر قدم الفاجر، وإذا دار الأمر بين تصدي الفاجر والعادل وجب على العادل ذلك لأولويته ولشرطية العدالة في مثل الحاكم ولكونه مكلفاً بحفظ النظام ودفع الهرج والمرج وصيانة الدين وتطبيق أحكامه وإقامته في المجتمع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها..

نعم في صورة فقدان العادل أو في صورة أكفئية غير العادل فهل يجوز تصدي غيره مع الوثاقة أم لا؟ قولان واللابدية العقلية قاضية بالكفاءة للأهم والمهم، وغير ذلك من ضرورات الأحكام العقلية والشرعية.

- المسألة الرابعة: بعد هذا التفصيل يظهر ذلك أن الشؤون الحسبية من أهم مهام الفقيه والأمة والتي بها يمارسان السلطة وحفظ النظام والأمن وبسط العدل وضمان الحقوق وسواء قلنا بأنها من مهمة الفقيه أولاً وبالذات ومع وجوده لا تصل النوبة إلى الأمة أو قلنا بأنها مهمة الأمة أيضاً وفي عرض الفقيه بل ومن الواجبات الكفائية فإن للقيام بهذه المهام الكبيرة صيغ متعددة.

- الأولى: أن يتصدى لها فرد أو أفراد متفرقون كل يلتزم بتكليفه؟

- الثانية: أن يتصدى لها جماعة خاصة تبرعاً.

- الثالثة: أن يعين الفقيه أو شورى الفقهاء من يتصدى لها بصورة مخططة ومبرمجة وخاضعة لضبط ونظام.

- الرابعة: أن تعين الأمة من تراه كفوءا لذلك.

ولا دليل يمنع من أي صيغة فيها فيتمسك فيها بالأصل الأولي الجاري في الأشياء عند عدم الدليل وهو أصالة الحل والإباحة، لكن في مقام الترجيح والتفاضل في امتثال التكليف أو أداء المهمة بأكملها فالظاهر أن الصيغة الأولى ناقصة لنقصان العمل الفردي عن الجماعي بمراتب كثيرة لا يسعنا المجال لبيانها، وقد عرفت بعض الشيء عنها في بحث المؤسسات.

والثانية من هذه الصيغ كذلك خصوصاً مع تصدي غير الخبراء مضافاً إلى ما ربما تسببه من الفوضى واختلال النظام إما مع الجماعات الأخرى وإما مع الحكومة الحاكمة فيتعين حينئذٍ الأخذ بالثالثة وهي أفضل الصيغ لو أمكن ذلك، وإلا كانت الثانية كذلك ولعل السيرة العقلائية والمتشرعية قديماً وحديثاً قائمة على التصدي لمثل هذه الأمور بأحد الطريقين حتى في مثل الدول التي لا يحكمها الفقهاء، إذ توزّع مهمات الحكومة والشؤون العامة المذكورة على الوزارات والإدارات والمؤسسات المختلفة لتنهض كل واحدة منها بمهمة من مهامها، بل ولا يبعد القول بوجوبه وذلك لكونه مصداقاً لحفظ النظام والحقوق وتطبيق الأحكام الشرعية بطرق الطاعة وعدم الخروج عن الحدود والضوابط وإلا كان واجباً تخييرياً كفائياً لتعدد البدائل الصحيحة شرعاً.

وكيف كان فإن الأمور الحسبية كما يمكن أن تمارس بطريقة عامة ولا تخضع إلى نظام معين كذلك يمكن إخضاعها إلى مؤسسات قائمة ودوائر منتظمة تعمل تحت إشراف الفقهاء أو تحت إشراف الفقيه أو تحت إشراف الأمة، ومن هنا قلنا أنها هي من أهم الوسائل التي تمارس بها السلطة من الجهتين المتقابلتين أي من الحاكم إلى الأمة ومن الأمة إلى الحاكم، وتفصيل الكلام نوكله بعد ذلك إلى الكتب الفقهية.

- المسألة الخامسة: قلنا أن الأمور الحسبية بعضها من الواجبات وبعضها من المستحبات ولا إشكال في أن تولي الأمور الواجبة واجب فهل تولّي الأمور المستحبّة مستحب أم واجب وكذا الكلام في النهي عن الحرام والمكروه فإن النهي عن الأول واجب لكونه نهياً عن المنكر فهل النهي عن المكروه كذلك؟ مستحب؟ احتمالان في المسألة بل قولان:

- الأول: الاستحباب وهو المشهور بين الفقهاء بل عند السيد محمد المجاهد (رضوان الله عليه) في كتاب المفاتيح الإجماع عليه.

- الثاني: الوجوب وهو الذي احتمله في الجواهر ويظهر من السيد الأستاذ أعلى الله مقامه الشريف الميل إليه في الفقه، واستدل المشهور بأمور:

- الأول: السيرة بل والإجماع المدّعى كما عرفت.

- الثاني: العقل القاضي بأنه مع كون الفعل مستحباً أو مكروهاً لا يعقل أن يكون الأمر بالأول والنهي عن الثاني واجباً لأنه يستلزم زيادة الفرع على الأصل.

- الثالث: العقل أيضاً القاضي بأن الحكم بوجوب الأمر بالمستحب والنهي عن المنكر يستلزم التناقض، وذلك لأن العمل المستحب والمكروه يجوز تركهما، فلو كان الأمر بالأول والنهي عن الثاني واجباً لكان التارك لذلك مستحقاً للعلن الظاهر في الحرمة لقوله (عليه السلام): (لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له) وهذا يستلزم التناقض في التشريع لكون الشارع أجاز ترك فعلهما ولعن تاركهما، وأما غير المشهور فاستدلّوا بأمور أيضاً:

- الأول: إطلاق ما دل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأدلة تشمل في عمومها وإطلاقها المستحبات والمكروهات أيضاً لكونهما من مصاديق المعروف.

- الثاني: ما دل على وجوب إقامة الدين كما في مثل قوله سبحانه: (وأن أقيموا الدين) ومن المعلوم أن إقامة الدين في المظاهر العامة تتم بالمستحبات وترك المكروهات لأن أغلب المظاهر الدينية هي المستحبات كزيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والحج المستحب والعمرة المستحبة وزيارة الأئمة (عليهم السلام) وبناء المساجد والحسينيات وإقامة صلوات الجماعة والأعياد ومجالس الذكر وتلاوة القرآن وإقامة المآتم والاحتفالات ورفع الآذان في المساجد والمآذن ونحو ذلك.. مما إذا لم يكن للدين مظاهر ولا شعار وهي كلها من المستحبات، وعليه فإنه إذا لم تكن هذه المستحبات لم يكن الدين قائماً فإقامة الدين إنما هي بإقامة هذه الأمور. وذلك ما لا يمكن إلا بالأمر بالمستحبات والنهي عن المكروهات.

ويؤيده أن أهل الشرع من العلماء والوعّاظ والصلحاء يتعاملون مع المستحبات والمكروهات معاملة الواجب في الأمر والنهي.

- الثالث: بأن الأمر بالمستحب من مصاديق الدعوة إلى الخير المأمور بها في مثل قوله سبحانه وتعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير).

عين الدليلين يرفع اليد عن أصالة عدم الوجوب لو احتملها بعض وذلك لعدم وصول النوبة إلى الأصل بعد قيام الدليل على الوجوب، والظاهر إمكان المناقشة في أدلة المشهور من وجوه:

أما الإجماع فالظاهر أنه مخدوش صغرى وكبرى، أما الصغرى فلعدم قيام إجماع على أن الأمر بالمستحب مستحب مطلقاً لما عرفت من أن الذاهبين إلى الاستحباب هو المشهور وليس الإجماع، وأما الكبرى فلاحتمال استناده إلى الأدلة التي ذكرها المشهور على الاستحباب وقد اتفقوا على أن الإجماع محتمل الاستناد ليس بحجة، وأما السيرة فيمكن إنكارها بل ادعاء قيامها على عكس ما ذهبوا إليه، وذلك لما نرى من استمرار أهل الشرع من العلماء والخطباء والصالحين بالأمر بالمستحبات والنهي عن المكروهات لفظاً وكتابة وتشجيعاً وحثا وما أشبه ذلك.

وأما عدم معقولية زيادة الفرع على الأصل فهذه ليست بقاعدة كلية لأن المحال منها ما يستلزم ما يكون الجزء أعظم من الكل وهذا إنما يصح في الحقائق التكوينية والانتزاعية العقلية ولا يجري في الأمور الاعتبارية وما نحن فيه من قبيل الثالث ولذا فكك الشارع بين اللوازم والملزومات وزاد في الفرع على الأصل في جملة من الموارد لوجود حكمة ومصلحة فيها، مثل حكم الشارع باستحباب السلام وحكمه بوجوب رده، كما من هذا القبيل أيضاً حكم الشارع بوجوب الوفاء بالعقود الجائزة كما إذا وهب الإنسان شيئاً لزيدٍ فإنه بعدها لا يجوز له التصرف فيه وإن كان له الرجوع في الهبة بل وفي بعض الموارد لا يجوز له الرجوع حتى في الهبة كالهبة إلى ذي الرحم والزوجة على قول، ونحو ذلك من الشواهد المتعددة المنتشرة في أبواب الفقه.

وكيف كان فإن الأمور الاعتبارية خفيفة المؤونة فترجع في ثبوتها وعدمها إلى اعتبارات المعتبرين وليست الضوابط العقلية الدقيقة على تفصيل ذكره الأعلام في الأصول، وأما التناقض فالظاهر أنه غير ثابت لعدم المانع في أن يجيز الشارع لكل مكلف ترك المستحب والمكروه فعلاً ولا يجيز لمجموع المكلفين تركهما لأن الأول مجعول شرعاً على نحو العموم الاستغراقي والثاني على نحو العموم المجموعي كما لا مانع من أن يجيز الشارع لمكلّفٍ ترك المستحب والمكروه في الفعل ولكن لا يجيز له ترك الحث على القيام بهما حكماً في المجتمع فإن الفعل يعود إلى العمل في الخارج وأما الحكم فيرجع إلى الأحكام، ومن الواضح وجوب الحث على الالتزام بالأحكام الإلهية الشامل للمستحبات والمكروهات في المجتمع العام بداهة أنه لا يجوز تركهما على الجميع وإن جاز تركهما على الأفراد، ولذا اتفقت كلمتهم على وجوب تعليم الأحكام الشرعية مطلقاً الشاملة للواجبات والمستحبات والمحرّمات والمكروهات بل والمباحات أيضاً على قول للجاهلين من الناس. هذا مضافاً إلى إمكان المناقشة في كلية ظهور اللعن في الحرمة فقد ورد التعبير باللعن في الكثير من الموارد مما لا مجال لحملها على الحرمة فيها كقولهم (عليهم السلام): (ملعون من نام وحده وملعون من أكل زاده وحده وملعون من ركب الطريق وحده..) وما أشبه ذلك، وقد حملها الفقهاء على الكراهة وليكن هذا منه أيضاً.

هذا من حيث أدلة المشهور، كما ربما يمكن المناقشة في أدلة غير المشهور من جهة عدم فهم الفقهاء وجوب الأمر بالمستحب والنهي عن المكروه من الأدلة ولذا يصرّحون بأن الأمر بالواجب واجب وبالمندوب مندوب، بضميمة أن فهم الفقهاء حجة لأنه كاشف عن ارتكازاتهم على الشرع، لأنهم من أجود الناس فهماً للأدلة وحدود انطباقها على مواردها، ولعل من هنا يمكن الجمع بين القولين بالقول بالتفصيل بين الموارد التي علمنا من سياق أدلة الشريعة أهمية ملاكها وخطورتها على دين الناس ودنياهم من قبيل حفظ العفة العامة ورعاية الآداب الاجتماعية والالتزام بالمظاهر الدينية ونحوها من الشؤون التي يقوم عليها الدين والنظام من المستحبات والمكروهات فضلاً عن الواجبات والمحرمات والأخرى التي لا تصل إلى تلك الدرجة فيحكم بوجوب الأول منهما للأدلة العقلية والنقلية المتضافرة على وجوب ذلك، وقد عرفت بعضها مما تقدم من المسائل وإن كانت من قبيل المستحبات والمكروهات دون الثانية.

وربما يمكن حمل كلام المشهور على ذلك أيضاً بداهة انصراف أدلة الاستحباب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما أشبه ذلك عن الموارد التي يقوم عليها حفظ الدين والنظام للنصوص الخاصة الدالة على وجوبها على أي تقدير، وقد عرفت من سياق الكلام المتقدم بعض ذلك.

هذه فصول ثلاثة تتعلق بآليات ممارسة السلطة، بقيت هناك مسائل وتفريعات ترتبط بالأجهزة الإدارية للدولة ومؤسساتها الحكومية نتعرّض إليها في الفصل الآتي.

 

- الفصل الرابع

في ممارسة السلطة بواسطة إدارات الدولة

ونتعرض إليه في مسائل:

- المسألة الأولى: في حدود شرعية السلطة الإدارية، قد عرفت مما تقدم أدلة مشروعية تكوين الدولة ونصب الحكومة ووجوب حفظ النظام ووجوب مقدمة الواجب، ووجوب التصدي للأمور الحسبية تقتضي أن تكون مشروعية سلطة الإدارة الحكومية على المجتمع بأي نحوٍ من أنحاء ممارسة السلطة تقتضي الاقتصار على القدر المتيقن من الأدلة المقيدة للأصول الأولية القاضية بتسلّط الإنسان على نفسه وشؤونها وتسلّطه على الطبيعة وشؤونها أيضاً، إذ لا مشروعية للتسلط الإداري الزائد على القدر المتيقن، فكل مورد يشكّ في شمول الأدلة المقيدة له يرجع فيه إلى الأصل القاضي بعدم مشروعية تسلّط الإدارة على الناس لأصالة عدم ولاية أحد على أحد، وعدم محدودية تسلط الناس على الطبيعة أيضاً، لأصالة الإباحة في الأشياء، ويترتب على ذلك عدم جواز فرض السلطة قرارها على الناس وعدم وجوب إطاعة الناس لقراراتها حينئذٍ للتلازم بين الوجوبين بداهة أن المرجع في موارد عدم انطباق دليل التقييد أو في موارد الشك في انطباقه هو الأصول الأولية.

أما في صورة عدم الانطباق فللخروج التخصصي عن حكم العام، وأما في صورة الشك في الانطباق فلا يصح أيضاً التمسك بالعام لأنه يكون من قبيل التمسك بالعام في الشبهات المصداقية والوجه فيما ذكرنا هو أن الأدلة المقيدة للأصول الأولية هي أدلة لبية ناشئة من الأحكام العقلية والعقلائية والسيرة العملية غالباً وليست للإطلاقات وعمومات الأدلة اللفظية، لذا فهي ليس فيها إطلاق أو عموم يمكن التمسّك به لاستيعاب جميع الأفراد حتى المشكوك منها إذا انعقد للمطلق أو العام ظهور فيها في موارد العموم والإطلاق.

وقد اتفقت كلمة الأصوليين في الأدلة اللبية على كونها حجة في خصوص القدر المتيقن منها وعدم جواز التعدي عنها إلى ما يشك في شمول الدليل له لأنه ليس حجة فيه لما عرفت من المحذور وأما بيان أن أغلب الأدلة لبية فلما عرفت من أن أبرز الأدلة على مشروعية إقامة الدولة ونصب الحكومة كان وجوب حفظ النظام وبسط العدل ودفع الفوضى والهرج والمرج والسيرة العقلائية ونحوها، وهذه كلها أدلة لبية وبالدلالة الالتزامية تثبت وجوب التصدي لها من باب المقدمية أو الأولولية ونحوها وهي الأخرى دلالة عقلية لبية ليس لها عموم ولا إطلاق.

وكذلك الحال في أدلة الأمور الحسبية والحاصل أن غاية ما تدل عليه هذه الأدلة هو القدر المتيقن مما يقتضيه حفظ نظام المجتمع في الحقوق والواجبات وكل ما زاد على ذلك من سلطات فيحتاج إلى دليل معتبر يدلّ على مشروعية تسلّط الدولة على الناس، بأي نحو من أنحاء التسلط وعلى مشروعية تحديد سلطة الناس على الطبيعة أيضاً، واللازم مما ذكرناه هو كون مشروعية السلطة وشرعية قراراتها والإجراءات الملزمة من قبل إدارات الدولة يجب أن تقتصر على الحد الأدنى من التدخل الحكومي الإداري في شؤون المجتمع العام والجماعات والأفراد سواء من حيث سلطة الإدارة عليهم أو من حيث سلطة الناس على الطبيعة فإن الأصل الأولي الأصيل هو سلطنة الناس على أنفسهم وأموالهم وما يرتبط بهم من طبيعة ومكوّناتها وهذا الأصل يؤسس لأصالة الحرية في الإنسان في مختلف تصرفاته وشؤونه وقد حدّد هذا الأصل لأجل ضرورة الدولة وحفظ النظام فيقتصر فيه على هذا القدر لا أكثر لأنه ضرورة وهي تقدر بقدرها.

وبهذا يظهر لك أمران:

- الأول: بطلان الأنظمة الاشتراكية والأخرى المستبدة والثالثة الشمولية التي تستولي على كل شيء في البلد بحجة المساواة وحفظ النظام وبسط الأمن وما أشبه ذلك.

- الثاني: بطلان التوسعة الهائلة في دوائر الدولة والتكثير من تفريعات الأنظمة الإدارية وأجهزة الحكومة بأنحائها المختلفة، هذا المرض الخطير الذي يصيب الإدارات الحكومية في الدولة الحديثة حيث يتضخّم جهاز الموظفين نتيجة لاستحداث قيود وسلطات لا ضرورة لها تزيد من تقييد حرية المواطنين وتتجاوز الضرورة وتزيد من ربط أعمالهم وأنشطتهم بجهاز الدولة فتشلّ جانباً كبيراً من قدرة الناس على الإبداع والمبادرة والتنافس والتنمية، وتصرف في نفس الوقت المسؤولين إلى الانشغال بهوامش الأمور الإجرائية دون عظائمها، وتجعل أعمالهم أكثر كلفة من جهة ما تستغرقه من زمن وجهد، ومن جهة ما تكلفه من أموال وهدر للطاقات والأوقات والثروات للشعب والدولة.

فتحصل مما تقدم أن شرعية السلطة الإدارية ليست مطلقة وإنما هي مقصورة على القدر المتيقن من الأدلة وهو ما يتوقّف عليه حفظ نظام المجتمع وتماسكه ونموّه وما زاد على ذلك فممارسة السلطة على الناس فيه أمر غير مشروع كما لا يجب على الناس الالتزام به بحسب العنوان الأولي.

- المسألة الثانية: في الإدارة المركزية واللامركزية.

ينبغي أن تكون السلطة الإدارية في الدولة لا مركزية وذلك لما عرفت في المسألة السابقة من أن مقتضى أدلة شرعية السلطة الإدارية هو محدوديتها بالحد الأدنى من التدخل في شؤون الأفراد والجماعات وهذا يقتضي أن تكون الإدارة في الدولة لامركزية بحيث تتوزع مراكز السلطة الإدارية فيها على مؤسسات وهيئات متعددة على نحوٍ يتمتع فيه كل مؤسسة وهيئة بالاستقلال عن السلطة المركزية في العاصمة. وعن سلطات الأقاليم والنواحي كما أنه مستقل عن سلطات المراكز الفرعية الأخرى بالمقدار الذي لا يخلّ بوحدة الدولة وتنظيم الإدارة ووجوب التعاون والتكامل بين المؤسسات المختلفة، وقد عرفت فيما تقدم أن فصل السلطات من أهم مظاهر التوازن والحرية في الدولة التي تجعل بين الأدلة والحقوق، وهذا الفصل لا ينبغي أن ينحصر في السلطات الثلاث المعروفة، بل يسري إلى مختلف شؤون السلطة وتفريعاتها كما عرفت أيضاً أن التعاون خير الفصل وكيف كان فإن مقتضى الجمع بين الأدلة يستدعي أن تكون الإدارة لا مركزية لأنها إذا كانت مركزية فإنها تقتضي بطبيعتها تجمّع سلطات كثيرة على أعداد كبيرة من السكان في يدٍ واحدة أو أيدٍ قليلة من الموظفين الإداريين وتحمّل المواطنين أعباء ثقيلة وكثيرة نتيجة لارتباط مصالحهم بمراكز قرارٍ بعيدة عن موطن مسكنهم وعملهم زائداً على تراكم العمل والحاجات والمراجعات في تلك الدائرة والجهة، مما يقتضي الاتصال بها بذل نفقات وجهود كبيرة وتتيح للإدارة المزيد من القدرة على التحكم في إدارة الناس ورغباتهم مما يحدّ من حريتهم وسلطاتهم وهذا يتنافى مع الأصل الأولي في سلطة الإنسان على نفسه وعمله وماله وعلى الطبيعة.

ولا يظهر من أدلة التقييد شمولها لهذا المقدار من السلطة فيكون محكوماً بعدم المشروعية حينئذٍ لاندراجه في مقتضى الأصول الأولية، والظاهر أن الحكومة الإسلامية للمعصوم سواء كانت في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) مركزية من حيث السلطة السياسية لكنها كانت لا مركزية من حيث السلطة الإدارية وقد كانت المناطق مستقلة إدارياً عن السلطة المركزية بل يمكن القول إنها كانت تتمتع بالاستقلال الذاتي وهذه حقيقة ربما يلاحظها المتتبع لشؤون الولايات والولاة الذين عيّنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجرى عليه المسلمون من بعده في العهود الأولى في تكوين الدولة وتشكيل سلطاتها الإدارية في المناطق المختلفة وهذا ما تعضده أيضاً تركيبة نظام الحكم في عهد الغيبة أيضاً لابتنائها على ولاية الفقهاء جامعي الشرائط سواء انحصرت الحكومة بفقيه أو توزعت في شورى للفقهاء فإن انفصال التقليد عن الشؤون العامة واختيار الناس من يريدونه للشأنين معاً وإمكان توزيع سلطات الفقيه إلى مؤسسات متعددة إلا ما توقف منها على الاجتهاد في صورة وجوده وتصديه أو توزيعها على الأمة في صورة عدمه أو عدم تصديه كما عرفته في الأمور الحسبية يكفي شاهداً على لزوم اتباع اللامركزية في الإدارة بل مع سعة هذه السلطات وحرية الناس في اختيار ما يرونه مناسباً يحكم العقل بلا بدية اتباع النهج اللامركزي وإلا تعذّر القيام بمهام الدولة ووظائفها وسبّب ذلك تضييعاً للحقوق.

وكيف كان فإن الظاهر أن ما يستحصله المتتبع من مجموع الأدلة هو وجوب قيام نظام الحكم في ممارسة السلطة على اللامركزية الإدارية وهذا ما قامت عليه الدولة الإسلامية في عهودها الأولى، ولكن الأمويين اتجهوا بالإدارة نحو المركزية حيث استحدثوا منصب الكاتب الذي تطور فيما بعد إلى الوزير والوزارة، ثم تعدد الكتاب فازداد تمركز الإدارة واشتدّ تمركزه في برهة من العهد العباسي، كما ذكره أكثر من مصدر تاريخي.

ولكن الذي يتتبع لأبواب الفقه المختلفة فيما يتعلق بشؤون الحكم والقضاء والمهام الأخرى من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود والتعزيرات وما أشبه، يجد أن الفقه قد أصل اللامركزية في مختلف الأبواب ابتداءً من مهام الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة وتوزيع السلطات وقيام المؤمنين أيضاً بتولي الشؤون الحسبية وما أشبه وإيكال القضية إلى الواجب الكفائي والتخييري في كثير من الأحيان يدلّنا على أن الأصل في الإدارة في الدولة الإسلامية هو اللامركزية وأما السلطات المركزية فهي غالباً ما تكون مؤسسة للاستبداد ومضيعة للكثير من الحقوق وهدر الطاقات والأموال وبهذه اللحاظ تكون من المحرمات الشرعية.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله علي سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.