المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 19.doc

بقي من البحث الماضي التنبيه الثاني وحاصله أن المستفاد من الأدلة المتقدمة ولو بالدلالة الالتزامية أنه يتوجب على الأمة القيام بتشكيل دولة في إطار الشريعة الإسلامية وأثبتت أن للشعب والأمة أيضاً وأنه لا يحق لأحد أن يحمل نفسه على كاهل الشعب ويفرض سيادته عليه دون رضاه ودون موافقته حتى وإن كان فقيهاً جامعاً للشرائط بداهة اختلاف الأحكام الشرعية بينما يرتبط بأعمال المكلفين وما يرتبط بشؤون الدولة فإنما يرتبط بأعمال المكلفين من الشؤون الخاصة كالعبادات والمعاملات وما أشبه ذلك يختار المكلف الرجوع إلى أي فقيه جامع للشرائط.

وأما الشؤون العامة من إقامة الدولة ونظام الحكم وتطبيق السياسات فإن هذا يرجع فيه إلى رأي الأمة والى انتخابها واختيارها.

ويدل على ذلك طائفة من الأدلة:

- الدليل الأول: العقل فإنه يدل على وجوب تشكيل الدولة من جانب الأمة وذلك لما في إقامة الدولة من حفظ النظام الإنساني ومن المعلوم أن حفظ النظام الإنساني من الواجبات العقلية التي يحتمها العقل على البشر فإنه يتوجب على البشر بحكم العقل أن يبذل غاية جهده في إقرار النظام وحفظه والدفاع عنه وصيانته إذ في ظل النظام يتمكن الإنسان أن يصل إلى سعادته وسلامه كما يضمن مصالحه ومستقبله ويؤيد ذلك أمران أحدها سيرة العقلاء حيث نجد أن الشعوب على اختلاف مذاهبها وأديانها تقرر أنظمة وقوانين لحفظ هذا النظام بل وتنتخب لنفسها رؤساء وقيمين لتطبيق الشريعة بغض النظر عن كونها إلهية أو كونها أرضية وهذا إنما يدل على أن موضوع إقامة النظام الاجتماعي مما يقر به الناس ويذعنون له عقلاً وبديهة قبل أن يأتي لهم في ذلك شرع أو دين ومن الواضح أن مجرد الاعتقاد بضرورة حفظ النظام الاجتماعي وبحجة انه يكفل سعادة الفرد والمجتمع من دون إقامة دولة لا يمنع من وقوع الاختلال في هذا النظام ولذلك فإن العقل نفسه يحتم على البشر أن يقيموا جهازاً يعهد إليه حفظ النظام ولأجل ذلك لن يثبت ما قلنا أي مجتمع بشري من دولة أو دويلة وزعيم كبير أو صغير يتكفل إقرار النظام الاجتماعي المطلوب حتى في البيئات الصغيرة في الصحارى والقفار وهذا خير دليل على أن للشعوب بل عليها أن تقوم بتشكيل السلطات.

الثاني سيرة المسلمين بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  فإن الصحابة بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  أحسوا بضرورة إقامة دولة وتشكيل جهاز حكومي يخلف القيادة النبوية يلم شعثهم ويحفظ اجتماعهم ويقيم أحكامهم فأقدموا على انتخاب رئيس من بينهم لزعامة الأمة وقيادة البلاد وإن كان يتضمن دوافع كثيرة في العقائد وفي التاريخ لا مجال لذكرها هنا، لكن النتيجة تشترك في إفادة ما ذكرنا فإن الصحابة وإن تناسوا وجود إمام منصوص عليه من قبل الله والرسول حيث عين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) إماماً للمسلمين من بعده وأخذ البيعة له منهم كما تدل الأخبار القطعية والأحاديث المتواترة بين الفريقين إلا أن فعلهم كان يدل بحد نفسه على أن الطريق الطبيعي لتأسيس الحكومة وإقامتها وانتخاب الأمة للحاكم والقائد لولا النص الخاص في المعصوم وأما في زمن الغيبة والنص العام الذي لم يعين شخصاً بخصوصه فإن الاختيار عقلاً موكول إلى الأمة وإلا مانص عليه المعصوم (عليه الصلاة والسلام).

- الدليل الثاني: الشرع وذلك لنحو قاعدة السلطنة التي مفادها الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم فإن من أبرز مسلمات الفقه الإسلامي هو هذه القاعدة التي وردت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  الناس مسلطون على أموالهم.

وهي تفيدنا سيادة الأمة من جهتين:

- الأولى: الأولوية فإنه إذا كان الناس مسلطين على أموالهم بحيث لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها إلا بإذن أصحابها فهم بطريق أولى مسلطون على أنفسهم فلا يجوز لأحد أن يحدد حرياتهم ويحمل نفسه عليهم أو يتصرف في مقدراتهم وشؤونهم دون إذنهم ورضاهم.

- الثانية: مقضتى الجمع بين حكومة العقل بلزوم إقرار النظام وبين هذه القاعدة فإن إقرار النظام يستلزم بالضرورة تصرفاً في أموال الناس ونفوسهم وتحديداً لبعض حرياتهم المشروعة بالذات فإن الجمع بين هذين الأمرين أي سلطة الناس على أموالهم وأنفسهم واستلزام إقرار النظام التصرف في تلك الأموال والنفوس هو أن تكون الدولة التي تقيم النظام وتطبق العدالة نابعة من انتخاب الأمة أو في أقل التقادير تكون موضع رضاها وبعبارة أخرى فإن سيادة أي نظام على الناس لا تخلو من السلطة على أموالهم وأرواحهم والتصرف فيها بالضرورة لأن من النظام أخذ الحقوق المالية وتنظيم الصادرات والواردات وتحديدها وتنظيم الحريات والعلاقات وإرسال الجيوش إلى ميادين القتال دفاعاً عن الوطن والأهل والعرض والدين وكذلك التصرف في شؤونهم الإعلامية والتربوية والتعليمية وما شابه ذلك مما يكون به حفظ النظام وصيانته وإقراره ولما كان حفظ النظام واجباً مفروضاً عقلاً وشرعاً وكان مما لا يتحقق إلا بإقامة دولة قوية ذات سلطة واقتدار يتراءى في بادئ النظر أنه يصطدم مع ما أقره الإسلام للإنسان من سلطة وسلطان على أمواله ونفسه فكان الحل حينئذ هو أن تكون الدولة المتصرفة واقعة موقع رضاهم حتى يكون التصرف بإذنهم ورضاهم حفظاً للقاعدة المسلمة الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم ورعاية للنظام فمقتضى الجمع بين الدليلين هو ذلك.

ولا يقال إذا كانت إرادة الأمة منبعاً للسلطة في الحكومة الإسلامية وهي بنفسها مصدر للسلطة في الديمقراطية الوضعية فما الفرق بين الحكومتين إذاً الجواب أن المراد بكون الأمة ذات سيادة وحق في الحكومة الإسلامية يختلف عن السيادة الشعبية التي تنادي بها الأنظمة الديمقراطية لأن الأمة في ظل الإسلام يجب أن تختار حاكماً في ضمن إطار الأوصاف والشروط التي اعتبرها الشارع من الفقه والعدل والدراية السياسية والمقدرة الإدارية وغيرها من الشروط والمواصفات بينما يختلف الأمر عما هو عليه في الديمقراطية إذ في ظل هذا النظام يحق للشعب أن يختار ما يريد سواء كان صالحاً أم لا وسواء أكان متحلياً بالمؤهلات والشروط المذكورة أم لا هذا أولاً .

- وثانياً: أن على الحاكم الإسلامي الأعلى أن يمشي ويسير وفق النظام الإسلام فهو مطبق ومنفذ للقانون وليس له أن يحيد عن ذلك قيد شعرة بينما الأمر في النظام الديمقراطي على غير هذا النحو حيث يجب على الحاكم المنتخب أن يسير وفق ما يريده الشعب ويرتضيه ويرتأيه صالحاً كان أو فاسداً حقاً كان أو باطلاً موافقاً لرأي الشريعة أو مخالفاً وعليه فسيادة الأمة في الدولة الإسلامية مشروطة بخلافها في الديمقراطية ولهذا شقت الديمقراطية في الكثير من ممارساتها ونقضت الغرض من سلطتها في الكثير من سياساتها وبذلك يظهر أنه لا جامعة ولا تشابه بين النظامين حتى يرد على الأسلوب الإسلامي في انتخاب الحاكم من جانب الشعب ما يرد على الديمقراطية هذا وللحديث عن سيادة الأمة مجال آخر سنتعرض عليه إن شاء الله في المستقبل.

وهنا مسائل وتفريعات:

- المسألة الأولى: لا يخفى أن التشريع له بعدان بعد تشريعي وبعد تطبيقي والمقصود من الأول هو تشريع القوانين وتأسيس الأحكام بحسب ما يراه الفقيه من المصالح ومقتضيات الضرورات.

وأما الثاني فالمقصود منه إرجاع الفروع إلى كلياتها وتطبيق الأحكام العامة على مصاديقها وإدخال الموضوعات المستجدة والحوادث الواقعة تحت كبرياتها الكلية التي أسستها الشريعة وقامت عليها الأدلة الأربعة وفروعها.

وولاية الفقيه لا تشمل الأول بل تختص بالثاني فالفقيه الجامع للشرائط مطبق للكليات على مصاديقها ومجري للأحكام على مواردها الخارجية مثل تطبيق الأحكام في شؤون مرور السيارات أو أنظمة الطائرات والقطارات وكيفية السفر والإقامة وأنظمة الإعلام وتشكيل الأحزاب والتجمعات وأنظمة الجامعات وشؤون الشباب والأطفال والرياضة وهكذا فإن الفقيه في تدبير أمور الدولة والمجتمع في مثل هذه الشؤون وغيرها في مختلف مجالات الحياة لا يأسس لها أحكاماً وإنما يرجع موضوعاتها إلى الأحكام الكلية التي أسستها الشريعة فليس للفقيه ولاية على التشريع وجعل الأحكام بحسب رأيه واجتهاده الخاص سواء كانت الواقعة فيها نص خاص أو عام بداهة حرمة الاجتهاد في مقابل النص وبطلان ما ينشأ منه لأنه تشريع محرم بالأدلة الأربعة كما حقق في الأصول وعليه فليس للفقيه إلا الاجتهاد في تطبيق الأحكام لا تشريعها في مختلف الموارد والمجالات كما أجمعت عليه الطائفة الإمامية خلافاً للعامة حيث أخذوا فيها بالقياس والاستحسان والاجتهاد بمعناه الخاص ووضعوا فيها أحكاماً بآرائهم زعماً منهم أن ما لا نص فيه لا حكم فيه في الواقع فلا مناص إلا عن تشريع حكم فيها إما بقياسها على غيرها من أحكام الشرع وإما بالبحث والفحص عن المصالح والمفاسد فحكموا فيها بالمصالح المرسلة والإستحسانات فما ظنوا فيها المصلحة أوجبوه وما ظنوا فيه المفسدة حرموه مع أن النصوص القرآنية نهت عن العمل بالظن صريحاً كما في قوله سبحانه وتعالى: )ولا تقفوا ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً) ومن الواضح أن الظن مما ليس لك به علم.

وكذا قوله سبحانه وتعالى: (اجتنبوا كثيراً من الظن إن الظن لا يغني من الحق شيئاً) إلى غير ذلك من الأدلة التي تحرم العمل بالظنون والاستحسانات والقياسات والمصالح المرسلة التي تعطي للفقيه حق التشريع في مقابل تشريعات الباري عز وجل.

وأما أصحابنا الإمامية (رضوان الله تعالى عليهم) فقد قالوا بأنه ليس هناك واقعة لا نص فيها ولا يوجد أمر خال عن حكم شرعي فإن الدين قد كمل بأصوله وفروعه بحيث لم يبقى محل لتشريع أحد أبداً نعم هذه الأحكام التي شرعتها الشريعة وردت بعضها في نصوص خاصة كحرمة الخمر والزنا والسرقة والقمار والشطرنج ووجوب العمل لأجل حفظ الحياة والإنفاق وحفظ الكرامة وأخرى في ضمن أحكام كلية وقواعد عامة كقوله سبحانه وتعالى: (أحل الله البيع) الشامل لكل أنواع البيوع إلا ما أخرجه الدليل وكقوله سبحانه وتعالى: (أوفوا بالعقود) و(لا ضرر ولا ضرار( و)ما جعل عليكم في الدين من حرج) إلى غير ذلك من القواعد العامة الكلية المحفوظة عند الأئمة (عليهم السلام) ووصلت أكثرها إلينا من طريق الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل والموارد التي لم يصل إلينا فيها حكم لا يعني خلو الواقعة من الحكم بل لها حكم في الواقع ولكن لم يصل إلينا الدليل عليه بسبب الموانع أو قصور الأفهام عن الوصول إليه ولذا على المجتهد الجد والجهد في الوصول إليه وإن يأس عن الوصول إلى بعضها أحياناً فإنما يأخذ بما هو وظيفة الشاك من الأصول العملية التي وضعها الكتاب والسنة أو استقل بحكمها العقل الممضى من قبل الشرع وهذه الأصول جامعة وشاملة لجميع الموارد المشكوكة بما لا تبقي مورداً من الموارد الواقعة بالفعل أو الحادثة في المستقبل إلا وتشملها الأصول العملية والمقصود من الأصول العملية هي الاستصحاب والاحتياط والتخيير والبراءة.

ولتوضيح ذلك نقول من باب المثال لو أرادت الدولة عقد معاهدة مع بعض الدول لبيع النفط مثلاً أو المعادن أو أرادت أن تضع خطة خمسية أو عشرية للتنمية وهكذا فهذه الموارد قد يكون لها حكم سابق معلوم والآن أصبح مشكوك البقاء فنجري فيه الاستصحاب للحالة السابقة من الحكم وذلك لأن الشريعة منعت الناس من أن ينقضوا الأحكام المتيقنة بالشكوك والأوهام فنمتثل الحكم الشرعي لعلمنا بطريقة امتثاله أيضاً وتارة نعلم بوجود الحكم الشرعي ولكن لا نعلم بطريقة امتثاله فعلينا في هذه الصورة أن نعمل بما يوجب لنا العلم بامتثال التكليف وهو مجرى الاحتياط كما لو كان الدخول في بعض العقود التجارية فيه ضرر على استقلال البلد كشراء الأغذية والأسلحة مثلاً ولكن لا نعلم هل أن شراء الأغذية هو الذي يسبب ذلك أو الأسلحة هو الذي يسبب ذلك أو نعلم بأن التعامل مع إحدى الدولتين يسبب ذلك ولكن لا نعلم هل هذه الدولة هي التي تسبب لنا ذلك أو تلك الدولة فمقتضى الاحتياط في هذه الصورة هو اجتناب كلا العقدين واجتناب التعامل مع كلا الدولتين لأنه الطريق الوحيد لاجتناب الوقوع في الحرمة والضرر.

وأما لو كنا نعلم بوجوب الحكم والتكليف لكن دار بين احتمالين:

- أحدهما: في الوجوب كالدخول في عقد لشراء الأدوية لإنقاذ حياة المرضى والمحتاجين من المواطنين.

- والثاني: الحرمة لجهة احتمال استلزامه التبعية وفقدان الاستقلال وهنا فإننا إن لم يحرز أحد الطرفين الأكثر أهمية أو أكثر ضرراً أو لم نتمكن من الجمع بينهما بالشراء من دولة ثالثة لا يوجد فيها احتمال الضرر.

فالتخيير بينهما هو الحل لحكم العقل بأصالة التخيير في مثل هذه الصورة بلا بدية الإقدام على أحدهما وإلا أخذنا بالأهم أو بالتعاقد مع الدولة الثالثة وهذا ما يؤمن لنا المصلحة ويدفع عنا الضرر.

وأما لو كان أصل وجود الحكم الشرعي غير معلوم ولا طريقة للعمل به فنعمل بأًصالة البراءة والحل لتنصيص الشارع المقدس لنا بجواز العمل بذلك ما دمنا لا نعلم بوجود التكليف فعلى هذا لا يوجد فراغ قانوني في مدرسة أهل البيت عليه السلام) بل كلما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة سواء في حياتهم الفردية أو الاجتماعية السياسية أو الاقتصادية المادية أو المعنوية فقد ورد فيها حكم إلهي وتشريع إسلامي فلا فراغ ولا خلأ أصلاً وبذلك لا يبقى محل للفراغ في التشريع حتى يزعم بأن الشريعة قد نقصت من هذه الجهة أو هناك فراغات في الأحكام الشرعية يمكن أن يمليها الفقهاء وعليه فالذي ثبت بحسب مقتضى الأدلة للفقهاء دامت شوكتهم أمران:

- الأول: الجهد والاجتهاد في كشف هذه الأحكام عن أدلتها التفصيلية.

- الثاني: تطبيق هذه الأحكام الكلية على مصاديقها وتنفيذها بما هو حقها والأول هو الإفتاء والثاني من شؤون الولاية والحكومة ويدل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

أما الكتاب فآيات منها قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) والآية صريحة في كمال الدين وعدم خلو وقائعه من الأحكام اللازمة وقد ورد في تفسير الآية الشريفة عن مولانا الرضا (عليه السلام) ما لفظه وما ترك شيئاً يحتاج إليه الأمة إلا بينه فمن زعم أن الله عز وجل لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله ومن رد كتاب الله فهو كافر فكما أنه لم يجعل أمر الإمامة بأيدي الناس وهي من أصول الدين وإلا لو كان يجعلها بيد الناس لم يكن الدين كاملاً فكذا أمر الأحكام والتشريعات في الفروع وكمال الدين يشمل كماله في الأصول كما يشمل الفروع أيضاً ومنها قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) والآية ظاهرة في أن الأشياء التي لها صلة بالحياة الإنسانية في مختلف جوانبها مذكورة في كتاب الله في عمومه أو خصوصه وقد ورد في تفسير الآية أحاديث كثيرة تؤكد هذا المعنى أيضاً إلى غير ذلك من الآيات بما لا يسعنا المجال التعرض إليه.

وأما السنة فأحاديث كثيرة دالة على أن كل ما يحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة مبينة في الشريعة المقدسة حتى ارش الخدش وقد عقد لها المرحوم الكليني (رضوان الله عليه) في كتابه الكافي باباً مستقلاً أورد فيه عشر روايات في هذا المجال منها ما رواه عمر بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سمعته يقول: إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً يحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه، وبينه لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)  ومنها ما رواه حماد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة ولعل من أوضح ما ورد في هذا المجال ما ورد في نهج البلاغة في ذم اختلاف العلماء في الفتيا وذم أهل الرأي والقياس القائلين بخلو الوقائع عن الأحكام الشرعية ورجوعهم في ذلك إلى الظنون الخاصة ما نصه ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آرائهم جميعاً وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد فأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم عنه فعصوه أم أنزل الله ديناً ناقصاً فاستعان بهم على إتمامه أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى أم أنزل الله ديناً تاماً فقصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)  عن تبليغه وأدائه والله سبحانه يقول: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وفيه تبيان لكل شيء ودلالة الجميع على المطلوب واضحة بما يغنينا عن البيان هذا والروايات في هذا المجال متضافرة أيضاً ولعل مما يعبده ما رواه في البسائط عن جعفر بن بشر عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام) قال ما ترك علي (عليه السلام) شيئاً إلا كتبه حتى ارش الخدش وأيضاً ما رواه في الكافي عن الصيرفي قال: سمعت أبي عبد الله عليه السلام) يقول: إن عندنا ما يحتاج معه الناس وإن الناس ليحتاجون إلينا وإن عندنا كتاباً إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)  وخط علي (عليه السلام) صحيفة فيها كل حلال وحرام إلى غير ذلك مما ورد في هذا المعنى.

وأما الإجماع فواضح وأما العقل فلأنه القول بالفراغ التشريعي يستلزم التصويب وقد أجمع الأصحاب على بطلان التصويب لما فيه من خلو الواقعة عن الحكم المشترك بين العالم والجاهل وقد نطقت الآثار الواردة من أهل البيت (عليهم السلام) بأن لله في كل واقعة حكماً يشترك فيه العالم والجاهل فالقول بالتصويب يستلزم التناقض لاختلاف الواقعة الواحدة في أحكام متعددة كما يستلزم الهرج والمرج واختلال النظام لإمكان اختلاف الفقهاء في الرأي الواحد والواقعة الواحدة هذا وقد أجمع أصحابنا على أن المجتهد إن أصاب الحكم الواقعي فهو مصيب وإن لم يصبها فقد أخطأ ولكنه معذور لاعتماده على الدليل والحجة فإذا اختلفت الأقوال كان الصحيح من بينها قول واحد وهو ما وافق حكم الله الواقعي وأما الباقي فخطأ خلافاً لأهل الخلاف حيث قالوا بإصابة الجميع للواقع إذا كان ذلك في ما لا نص فيه وكان حكم كل واحد منهم على وفق اجتهاده أي الاجتهاد بالمعنى الخاص الناشئ من الاستحسان والقياس والمصالح المرسلة نظراً إلى اعتقادهم بإمكان خلو الواقعة في هذه الموارد من الحكم وهذا ينادي بأعلى صوته بأن الفراغ التشريعي غير صحيح وإن أحكام الشرع وقوانينه كافلة بجميع الأمور التي تقع محلاً لحاجة الإنسان في مختلف مجالات الحياة وعليه فإن ولاية الفقيه ليست من قبيل تشريع الأحكام بل من قبيل حكم الحاكم الراجع إلى تطبيق العناوين الأولية أو الثانوية على مصاديقها ثم الحكم على وفقها لتنفيذ هذه الأحكام في مواردها حسب الضرورات والأدلة الثانوية التي هي الأخرى أحكام كلية أسسها الشارع لمراعاة المصالح والأهم والمهم والتسهيل على العباد ودفع الأضرار وغير ذلك وهذا غير الاجتهاد في مقابل النص كما هو واضح.

وقد تحصل مما تقدم أمور:

- الأول: أنه لا معنى للتشريع وجعل القانون فيما ورد فيه الناس في الشريعة المقدسة لأنه اجتهاد في مقابل النص.

- الثاني: التشريع فيما لا نص فيه مختص بمذاهب العامة وأما أصحابنا الإمامية فهم معتقدون بعدم وجود الفراغ في التشريع حتى يمكن أن يتصدى له الفقيه ويملأه بل جميع ما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة مبينة في الأحكام الجزئية أو القواعد الكلية والأصول الواردة في الكتاب والسنة ووظيفة الفقيه هو بذل الجهد واستنباط هذه الأحكام عن أدلتها فإن وصل إلى الحكم الواقعي كان هو المطلوب وهو المنجز وإن لم يصل إلى الحكم الواقعي فيعمل بمقتضى الأحكام الظاهرية المقررة للجاهل ولولا ذلك كانت الشريعة ناقصة ومحتاجة في تكميلها في عقول الرجال وهذا ما نص الكتاب بعدمه.

- الثالث: أن التقنين والتشريع مختص بالباري عز وجل كما قال سبحانه وتعالى: (إن الحكم إلا لله) وقال تبارك وتعالى: (ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي) وهو بديهي لكون تشريع الأحكام لا يليق إلا بالله سبحانه وتعالى لكون التشريع مطابق للتكوين وهو الذي خلق التكوين وهندس فروعه فهو العالم بالمصالح والمفاسد وما يحتاج إليه خلقه في الحال والمستقبل وأما الفقهاء فلا علم لهم بذلك ولا يصلون إلى درك الملاكات والمصالح الواقعية نعم التقنين بمعنى تطبيق الأحكام على مصاديقها وإرجاع الفروع إلى الكليات فهذا مما لا بأس به هذا ما هو المستفاد من الأدلة السابقة النقلية والعقلية.

- المسألة الثانية: للفقيه الجامع للشرائط الولاية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ لا شك في وجوبهما في الجملة بل وجوبهما في الجملة من ضروريات الدين وقد ورد التصريح بذلك في الكتاب والسنة المتواترة وقد ذكر الفقهاء أن للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب ثلاث:

- المرتبة الأولى: بالقلب والثاني باللسان والثالثة باليد وقد صرح بعضهم بأن وجوب إنكار الأول منكر غير مشروط بشيء ومعناه أن وجوب الآخرين مشروط بالشروط الأربع التي ذكروها وهو العلم بالمنكر والمعروف واحتمال التأثير وقول الفاعل مصراً على الاستمرار والأمن من الضرر وكل ذلك موكول إلى باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفقه وإنما الكلام في أن الإنكار باليد أيضاً له مراتب:

- المرتبة الأولى: العمل بالمعروف وترك المنكر بحيث يكون سبباً لدعوة غيره إلى ذلك وهو ما تشمله أدلة القدوة والدعوة بغير الألسنة وهذا هو الأصل الذي ينبغي أن يراعى أولاً من فعل المعروف ودفع المنكر.

- الثانية: الضرب من دون جرح.

- الثالثة: الضرب مع الجرح إذا لم يكن الضرر مقصوداً بأن يكون شبه المدافعة والممانعة التي يتولد قد منهما الضرر.

- الرابعة: الضرب مع الجرح وإن كان الضرر مقصوداً.

- الخامسة: الإنكار باليد ولو بالقتل إذا عرفت ذلك أن الكلام فيها تارة يكون في أصل وجوب هذه المراتب وأخرى في ترتبها الطولي ووجوب الاقتصار على الأيسر فالأيسر مهما أمكن الثالثة على اشتراط إذن الإمام (عليه السلام) في المراتب الأربعة الأخيرة دون الأولى أي العمل بأحكام الله لكونه فرضاً على الجميع مطلقاً من دون حاجة إلى الاستئذان قال صاحب الجواهر (رضوان الله عليه) في المجلد الحادي والعشرين في الصفحة 382 من أعظم أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعلاها وأتقنها وأشدها تأثيراً خصوصاً بالنسبة إلى رؤساء الدين أن يلبس رداء المعروف واجبه ومندوبه وينزع رداء المنكر محرمه ومكروهه ويستكمل نفسه بالأخلاق الكريمة وينزهها عن الأخلاق الذميمة فإن ذلك منه سبب تام لفعل الناس المعروف ونزعهم المنكر خصوصاً إذا أكمل ذلك بالمواعظ الحسنة المرغبة والمرهبة فإن لكل مقام مقالاً ولكل داء دواء وطب النفوس والعقول أشد من طب الأبدان بمراتب كثيرة وحينئذ يكون فد جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف نسأل الله التوفيق لهذه المراتب انتهى كلامه رفع مقامه.

- المرتبة الرابعة: التي يمكن التعرض إليها هي أننا بالغيبة وهو الفقيه الجامع للشرائط هل يقوم في مقام الإمام (عليه السلام) في جواز الاستئذان منه في المراتب الأربع.

وقبل بيان الحال في ذلك لا بأس بذكر بعض الروايات في هذا الباب منها ما رواه جابر عن الباقر (عليه السلام) في حديث قال: فانكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم. ومحل الشاهد بقوله (عليه السلام) صكوا بها جباههم الذي هو كناية عن الضرب.

ومنها ما رواه الطبري مرسلاً في تاريخه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي (عليه السلام) قال: إني سمعت علياً (عليه السلام) يقول يوم لقينا أهل الشام أي في واقعة صفين أيها المؤمنون إنه من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرأ ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى وقام على الطريق ونور في قلبه اليقين ومنها ما عن أبي حجيفة عن علي (عليه السلام) يقول: إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد، الجهاد بأيديكم ثم بألسنتكم ثم بقلوبكم فمن لم يعرف بقلبه معروفاً ولم ينكر منكراً قلب فجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه بناءً على عدم انصراف الحرب إلى الجهاد باليد أو بالسيف من الروايتان هذا وضعف إسناد هذه الروايات بالإرسال والجهالة غير مضر بعد تضافرها وعمل الأصحاب بها بل ويمكن الاستدلال على مضمونها في الجملة بدليل العقل أيضاً مما يعضد مضمونها مضافاً إلى الروايات الأخرى التي من مجموعها قد يثق الفقيه بالصدور خصوصاً على رأي المتأخرين من أنه ملاك الحجية والاعتبار هذا وقد ذهب الشيخ (رضوان الله عليه) والعلامة والشهيدان وغيرهم إلى استقلال العقل بوجوبهما خلافاً للمحقق الثاني وفخر المحققين بل نسب إلى جمهور المتكلمين والفقهاء حيث ذهبوا إلى عدم استقلاله به وإنما يجبان بحكم الشرع فقط قال الشهيد في اللمعة وهما واجبان عقلاً في أصح القولين ونقلاً إجماعاً وقال في المختلف بعد نفي الخلاف عن وجوبهما إنما الخلاف في مقامين الأول هل هما واجبان عقلاً أو سمعاً فقال السيد المرتضى وأبو الصلاح والأكثر بالثاني وقواه الشيخ في كتاب الاقتصاد ثم عدل إلى اختياره الأول والأقرب ما اختاره الشيخ أي وجوبهما عقلاً والظاهر أن وجوبهما في الجملة بحكم العقل مما لا سبيل إلى إنكاره وقد أرشدنا الإمام الباقر (عليه السلام) إلى دليله العقلي فيما روي عنه أن الأمر بالمعروف سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب وتحل المكاسب وترد المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر.

والمستفاد منها أن تركهما يؤدي إلى فساد المجتمع كله وإشاعة الفحشاء والمنكر فيجبان أيضاً من باب المقدمة للواجب التي هي من الملاكات العقلية إن قلت ما الفائدة في ترك المنكر بالإجبار والقهر والضرب وكذا فعل المعروف كذلك ووجود الإجبار في بعض المراتب المذكورة مما لا يكاد ينكر أوليس المقصود من تشريع الشرائع تتميم النفوس ودعوتها إلى فعل المعروف وترك المنكر اختياراً وقيام الناس بالقسط والعدل إذاً فما فائدة الدعوة للمعروف والنهي عن المنكر في القهر والإجبار والضرب يمكن أن يقال فيه بأن العمل بهذه الوظيفة وإن أدى إلى الإجبار في جملة من الموارد بالنسبة إلى بعض الناس إلا أنه ضروري لكون ذلك مقتضى الالتزام دفعاً للفوضى والهرج والمرج فإن من التزم بشيء التزم بلوازمه كما هو مقتضى سيرة العقلاء وإلا هل يقال لمن قبل تولي الوظيفة الحكومية أن لا يلتزم بضوابطها وقوانينها وكذا من التزم بالمواطنة في بلد أن يلتزم بقوانينها وإلا لزم اختلال النظام والفوضى هذا أولاً.

وثانياً إن ذلك مقتضى التقويم وأداء المسؤولية في حفظ الحقوق من النفوس والعقول والأعراض والأموال والدين فمثل فاعل المنكر مثل الذي يرش سماً في المجتمع أو ينشر بينهم المرض والوباء والفرق بينهما أن هذا في الماديات وذاك في المعنويات فهل يقال لمن يفعل ذلك أنه حر وما فائدة منعه أو حصره في المستشفى جبراً وقهراً.

وثالثاً إن ما يفعله فاعل المنكر نوع عدوان وتجاوز على الآخرين ولا إشكال في لزوم الدفاع وشد العدوان ومن الواضح أنه ينبغي أن يكون الدفاع رادعاً وإلا كان لغواً فإن أمكن بالإقناع فهو المقدم كما عرفت وهو مقتضى الجمع بين أدلة الحرية وأدلة الدفاع ورفع المنكر وإلا كان بواسطة القوة بأنحائها وأصنافها ومراتبها.

والحمد لله رب العالمين صلى الله على سيدنا محمد وعلا أهل بيته الطيبين الطاهرين..