المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 31.doc

جمال الخاص:

تقدّم منّا تعريف اللفظ المبيَّن وتعريف اللفظ المجمل فلا نحتاج هنا إلى توضيح معنى الإجمال بأكثر من أن نقول: يراد به الإبهام الناشئ من عدم وضوح مراد المتكلّم من اللفظ.

يقول السيّد السبزواري في (التهذيب)(1) -: العامّ والخاص:

إمّا مبيّنان من كلّ جهة.

- أو مجملان كذلك.

- أو يكون العامّ مجملا والخاص مبيّنا.

- أو بالعكس.

ولا إشكال في تماميّة الحجّة في الأوّل.

كما لا ريب في عدمها في الثاني لفرض الإجمال فيهما، ولا حجيّة في المجمل.

وكذلك الثالث، لأنّ الخاص كالقرينة للعامّ والمتمّم لفائدته، ومع إجمال ذي القرينة لا أثر لكون القرينة واضحة ومبيّنة.

فموضوع البحث في المسألة هو ما إذا كان الخاص مجملا والعامّ مبيّنا.

وتتركّز نقطة البحث في الإجابة عن السؤال التالي: هل يسري إجمال الخاص لأنّه قرينة على المراد من العامّ، إلى العامّ فيجمله، ومن ثمّ لا نستطيع الأخذ به لإجماله، أو أنّه لا يسري إليه فيصحّ التمسّك به عند الشكّ في شموله للفرد المشكوك لإدخاله في حكمه؟

ويبدو - تاريخيّا - أنّ المسألة لم تعط كبير اهتمام من الاُصوليين من أهل السنّة، ولا من الإماميين قبل الشيخ الأنصاري المتوفّى سنة 1281هـُ، فقد كانوا يذكرونها عرضا ومن غير تفصيل فيها.

ففي (المحصول)(2) مرّ عليها الفخر الرازي مرور العابرين حيث أشار إليها وهو في معرض عرض الآراء في موضوع التمسّك بالعامّ المخصوص، فقال: المسألة السابعة: يجوز التمسّك بالعامّ المخصوص، وهو قول الفقهاء.

وقال عيسى بن أبان وأبو ثور: لا يجوز مطلقا.

ومنهم من فصّل: فذكر الكرخي: أنّ المخصوص بدليل متّصل يجوز التمسّك به، والمخصوص بدليل منفصل لا يجوز التمسّك به.

والمختار: أنّه لو خصّ تخصيصا مجملا لا يجوز التمسّك به، وإلا جاز.

مثال التخصيص المجمل، كما إذا قال اللَّه تعالى: (اقتلوا المشركين) ثم قال: (لم أرد بعضهم)...

وفي (إرشاد الفحول)(3) يقول الشوكاني: المسألة السابعة والعشرون: اختلفوا في العامّ بعد تخصيصه: هل يكون حجّة أم لا؟ ومحلّ الخلاف فيما إذا خصّ بمبيّن.

أمّا إذا خصّ بمبهم كما لو قال تعالى: (اقتلوا المشركين إلا بعضهم) فلا يحتجّ به على شي‏ء من الأفراد بلا خلاف، إذ ما من فرد    إلا ويجوز أن يكون هو المخرج، وأيضا إخراج المجهول من المعلوم يصيّره مجهولا، وقد نقل الإجماع على هذا جماعة، منهم القاضي أبو بكر، وابن السمعاني، والاصفهاني، قال الزركشي في (البحر): وما نقلوه من الاتّفاق فليس بصحيح، وقد حكى ابن برهان في (الوجيز) الخلاف في هذه الحالة، وبالغ فصحّح العمل به مع الإبهام، واعتلّ بأن إذا نظرنا إلى فرد شككنا فيه: هل هو من المخرج، والأصل عدمه، فيبقى على الأصل، ونعمل به إلى أن نعلم بالقرينة بأنّ الدليل المخصّص معارض للفظ العامّ، وإنّما يكون معارضا عند العلم به... قال الزركشي: وهو صريح في الاضراب عن المخصّص والعمل بالعام في جميع أفراده، وهو بعيد، وقد ردّ الهندي هذا البحث بأنّ المسألة مفروضة في الاحتجاج به في الكلّ المخصوص وغيره ولا قائل به (انتهى).

وقال بعض الشافعيّة بإحالة هذا، محتجّا بأنّ البيان لا يتأخّر وهذا يؤدّي إلى تأخّره.

وأمّا إذا كان التخصيص بمبيّن فقد اختلفوا في ذلك على أقوال....

وفي (القوانين) يقول القمّي: العامّ المخصّص بمجمل ليس بحجّة اتّفاقا، فإن كان مجملا من جميع الوجوه ففي الجميع مثل قوله تعالى: (اُحلّت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يُتلى عليكم)، ومثل (اقتلوا المشركين إلا بعضهم).

وإن كان إجماله في الجملة ففي قدر الإجمال، مثل: (إلا بعض اليهود) فلا إجمال في غير اليهود.

وكما رأيت فإنّ المسألة لم تكن موضع بحث مستقلّ، وإنّما ذكرت عرضا من خلال بحثهم لمشروعيّة العمل بالعام المخصوص بالخاص المبيّن.

ومنذ عهد الشيخ الأنصاري مطوّر البحث الاُصولي منهجا ومادةً، أخذت المسألة طريقها لأن تستقل وتفصّل.

ونشأ من خلال هذا أكثر من مصطلح اُصولي في المسألة عند الإماميّة، أمثال: الشبهة المفهوميّة، الشبهة المصداقيّة، الدوران بين الأقل والأكثر، الدوران بين المتباينين، المخصّص اللّبي.

(محلّ الإجمال):

ومحلّ الإجمال في لفظ الخاص:

- إمّا في المفهوم.

- وإمّا في المصداق.

وعبّروا عن الإجمال في المفهوم بالشبهة المفهوميّة، وعنه في المصداق بالشبهة المصداقيّة، وأوضحوا المقصود منهما بالتالي:

(الشبهة المفهوميّة):

يراد بالشبهة: الإلتباس أو الشكّ في مراد المتكلّم من اللفظ.

وبالمفهوم: المصطلح المنطقي الذي يعني  نفس المعنى بما هو، أي نفس الصورة الذهنيّة المنتزعة من حقائق الأشياء(4).

وعليه: يكون مفهوم الشبهة في المفهوم الشكّ في المعنى الذي أراده المتكلّم من اللفظ.

أو قل: هو إجمال دلالة لفظ الخاص.

ومثّل له شيخنا المظفّر بقوله(عليه السلام): (كلّ ماء طاهر إلا ما تغيّر طعمه أو لونه أو ريحه): الذي يشكّ فيه أنّ المراد من التغيّر خصوص التغيّر الحسّي أو ما يشمل التغيّر التقديري.

(الشبهة المصداقيّة):

يراد بالمصداق المصطلح المنطقي، وهو ما ينطبق عليه المفهوم، أو حقيقة الشي‏ء الذي تنتزع منه الصورة الذهنيّة (المفهوم)..(5).

وبالشبهة المصداقيّة: الشكّ في دخول فرد من أفراد العامّ فشي الخاص مع وضوح مفهوم الخاص، بأن كان (الخاص من حيث المفهوم) مبيّنا لا إجمال فيه.

كما إذا شكّ في مثال الماء السابق أنّ ماءا معيّنا: أتغيّر بالنجاسة فدخل في حكم الخاص أم لم يتغيّر فهو لا يزال باقيا على طهارته.

فدلالة اللفظ من حيث المفهوم مفهومة واضحة ولا إجمال فيها، وإنّما وقع الشكّ في إنطباق المعنى على بعض مصاديقه وأفراده، ومن هنا عبّروا عنها بالشبهة في المصداق، لأنّ الإلتباس هو في إنطباق المفهوم على المصداق المعيّن.

(سبب الإجمال):

حصر الاُصوليون سبب ومنشأ إجمال لفظ الخاص في واحد من العاملين التاليين:

1- الدوران بين الأقل والأكثر:

بمعنى أنّ الشكّ يدور بين أنّ مراد المتكلّم من لفظ الخاص:

- هل هو كلّ ما يدلّ عليه اللفظ؟

أو هو بعض ما يدلّ عليه؟

ففي المثال: (كلّ ماء طاهر إلا ما تغيّر طعمه أو لونه أو ريحه):

- الخاص هو (التغيّر)، والتغيّر حسّي وتقديري.

- والأكثر هو (الحسّي والتقديري).

- والأقل هو واحد منها وهو - هنا – (الحسّي) لأنّ القدر المتيقّن.

- ودوران الأمر بين الأقل والأكثر هو أن يحصل شكّ في أنّ المتكلّم - وهو المشرِّع المقدّس -: هل أراد الأقل وهو التغيّر الحسّي فقط لأنّه القدر المتيقّن.

فمنشأ وسبب الشكّ هو التردّد في أنّ المتكلّم أراد من مفهوم التغيّر المعنى الشامل للحسّي والتقديري، أو خصوص الحسّي فقط.

فالدوران بين الأقل والأكثر: هو أن يكون للمعنى أكثر من مفردة ويشكّ في أنّ المتكلّم أراد جميع مفرداته أو بعضها.

وفي هذا الدوران أو التردّد نحرز أنّ في البين قدرا متيقنا أراده المتكلّم وهو الأقل، وذلك أنّ المتكلّم إن أراده بذاته فهو مراد، وإن أراد الأكثر فهو مراد ضمن الأكثر، فعلى كلتا الحالتين هو مراد.

2- الدوران بين المتباينين:

المراد بالمتباين - المصطلح المنطقي المقابل للمترادف - وهو اللفظ الموضوع لمعنى مختص به.

ومثّل له شيخنا المظفّر ب نحو قولنا: (أحسن الظنّ إلا بخالد) الذي يشكّ فيه أنّ المراد من خالد هو خالد بن بكر أو خالد بن سعد مثلا. وبيّن المتباينين - على العكس ممّا هو بين الأقل والأكثر - لا يوجد قدر متيقن نحرز إرادة المتكلّم له.

(موارد الإجمال):

بعد أن عرفنا أنّ الإجمال يكون في المفهوم وفي المصداق.

وأنّ تردّده إمّا بين الأقل والأكثر، وإمّا بين المتباينين.

والخاص المجمل متّصل ومنفصل، تكون موارد الإجمال على هذا ثمانية، وتجدول موضوعا وحكما بالجدول التالي:

الموضوع                                                                                          الحكم

1- إجمال الخاص المتّصل مفهوما لدورانه بين الأقل والأكثر.                       يسري إلى العام

2- إجمال الخاص المتّصل مفهوما لدورانه بين المتباينين.                           يسري إلى العام

3- إجمال الخاص المنفصل مفهوما لدورانه بين الأقل والأكثر.                     لايسري إلى العام والأكثر

4- إجمال الخاص المنفصل مفهوما لدورانه بين المتباينين.                          يسري إلى العام

5- إجمال الخاص المتّصل مصداقا لدورانه بين الأقل والأكثر.                       يسري إلى العالم

6- إجمال الخاص المتّصل مصداقا لدورانه بين المتباينين.                          يسري إلى العام

7- إجمال الخاص المنفصل مصداقا لدورانه بين الأقل والأكثر.                     خلاف

8- إجمال الخاص المنفصل مصداقا لدورانه بين المتباينين.                         يسري إلى العام

 

الهوامش:

(1)- 1/126.

(2)- 3/17.

(3)- ص 236.

(4)- المنطق للمظفر 1/54 ط2.

(5)- م. ن.