المادة: أصول الفقه 2
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon asol 28.doc

وعلى هذا الرأي - وهو جواز التخصيص مطلقا - استقرّت كلمة المتأخّرين ومن بعدهم إلى المعاصرين من علمائنا الإماميّة، مستندين في ذلك إلى استقراء النصوص في الكتاب والسنّة الدالّة على وجود ذلك ووفرته، وتطبيقات الفقهاء في مجال الإستدلال منذ عصر الرسالة، وهي كاشفة عن رأيهم في ذلك.

يقول الآخوند الخراساني في (الكفاية)(1): الحقّ جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد المعتبر بالخصوص، كما جاز بالكتاب أو بالخبر المتواتر، أو المحفوف بالقرينة القطعيّة من خبر الواحد، بلا إرتياب، لما هو الواضح من سيرة الأصحاب على العمل بأخبار الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمّة(عليهم السلام).

 واحتمال أن يكون ذلك بواسطة القرينة واضح البطلان(2).

مع أنّه لولاه لزم إلغاء الخبر بالمرّة أو ما بحكمه (أي ما بحكم الإلغاء)، ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب، لو سلم وجود ما لم يكن كذلك.

وكون العامّ الكتابي قطعيّا صدورا، وخبر الواحد ظنّيا سندا لا يمنع عن التصرّف في دلالته غير القطعيّة قطعا، وإلا  لما جاز تخصيص المتواتر به أيضا، مع أنّه جائز جزما.

والسرّ: أنّ الدوران - في الحقيقة - بين أصالة العموم ودليل سند الخبر، مع أنّ الخبر بدلالته وسنده صالح للقرينيّة على التصرّف فيها، بخلافها فإنّها غير صالحة لرفع اليد عن دليل اعتباره.

واستقراء النصوص الذي ألمح إليه صاحب الكفاية بقوله: (مع أنّه لولاه) يعني التخصيص) لزم إلغاء الخبر بالمرّة أو ما بحكمه (يعني الإلغاء) ضرورة ندرة خبر لم يكن على خلافه عموم الكتاب) كافٍ ووافٍ علميّا بالإثبات.

ومن أمثلته:

قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين) الذين خصّص بقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب(3).

تخصيص القرآن بالإجماع:

قال المحقّق في (المعارج)(4): تخصيص الكتاب بالكتاب جائز... وكذلك تخصيص الكتاب بالسنّة... وبالإجماع.

ومثّل للتخصيص بالإجماع ب التسوية بين العبد والأمة في تنصيف الحدّ تخصيصا لآية الجلد.

وقال العلامة في (المبادي‏ء)(5): الثالث: تخصيصه (يعني القرآن) بالإجماع، وهو جائز، للإجماع على تخصيص العبد من آية الميراث ومن آية الجلد.

وفي هامشه: نقل محقّقه عن كتاب (العدّة)(6) قول الشيخ الطوسي: أمّا تخصيص الكتاب بالإجماع فيصحّ أيضا بمثل ما قدّمناه من الأدلّة.

وقد وقع أيضا في مواضع كثيرة:

- نحو اتّفاقهم على انّ العبد لا يرث فخصّ بذلك آية المواريث.

- ونحو إجماعهم على انّ العبد كالأمة في تنصيف الحدّ فخصّ به قوله تعالى: (الزانية والزاني...).

- وغير ذلك.

وقال القمّي في (القوانين): لا ريب في جواز تخصيص الكتاب بالكتاب، ولا بالإجماع، ولا بالخبر المتواتر، ووجهها ظاهر  وهو القطع بصدورها عن المعصوم من حيث السند، ولأنّها نصّ أو أظهر من حيث الدلالة.

ويرجع هذا إلى أنّ الإجماع عندنا - معاشر الإماميّة - كاشف عن رأي المعصوم، فيكون حسابه حساب السنّة القطعيّة.

وقال الآمدي في (الأحكام)(7): لا أعرف خلافا في تخصيص القرآن والسنّة بالإجماع.

ودليله المنقول والمعقول:

أمّا المنقول: فهو أنّ إجماع الاُمّة خصّص آية القذف بتنصيف الجلد في حقّ العبد كالأمة.

وأمّا المعقول: فهو أنّ الإجماع دليل قاطع، والعامّ غير قاطع في آحاد مسميّاته - كما سبق تعريفه.

فإذا رأينا أهل الإجماع قاضين بما يخالف العموم في بعض الصور، علمنا أنّهم ما قضوا به إلا  وقد اطّلعوا على دليل مخصّص له نفيا للخطأ عنهم.

يعني به مفاد حديث عدم إجتماع الاُمّة الإسلاميّة على خطأ، أو قل: عصمة الاُمّة الإسلامية - بما هي اُمّة - فيقطع بالصدور عن المعصوم.

هـُ - تخصيص القرآن بالعقل:

قال أبو الحسين البصري في (المعتمد)(8):إعلم أنّ الأدلّة المنفصلة هي أدلّة العقل وكتاب اللَّه سبحانه وسنّة رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) والإجماع.

فالعقل يخصّ به عموم الكتاب والسنّة، وذلك أنّا نخرج بالعقل الصبي والمجنون من أن يكونا مرادين بخطاب اللَّه سبحانه بالعبادات في الحال.

والعامّ الذي يشير إليه هو مثل قوله تعالى: (ياأيّها الناس اعبدوا ربّكم) فإنّ لفظ (الناس) شامل للصبي والبالغ والمجنون والعاقل، ولكن دليل العقل الذي اشترط البلوغ والوعي في صحّة التكليف أخرج الصبي والمجنون من هذا العموم.

يقول المحقّق في (المعارج)(9):العامّ يخصّ بالدليل العقلي لأنّا نخرج الصبي والمجنون من قوله تعالى: (ياأيّها الناس اعبدوا ربّكم..).

وفي (الأحكام للآمدي)(10): مذهب الجمهور من العلماء جواز تخصيص العموم بالدليل العقلي خلافا لطائفة شاذّة من المتكلّمين.

ومثّل له بقوله تعالى: (وللَّه على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا)،فإنّ الصبي والمجنون من (الناس) حقيقة، وهما غير مرادين من العموم، بدلالة نظر العقل على امتناع تكليف من لا يفهم.

وأهمّ ما استدلّ به المنكرون لقدرة دليل العقل على التخصيص هو قولهم: إنّ المخصّص يجب أن يكون مقارنا للعامّ غير متقدّم عليه، ودليل العقل متقدّم.

وردّهم صاحب المعتمد وصاحب المعارج بعدم اشتراك المقارنة وبجواز تقدّم المخصّص.

(السنّة):

أ- تخصيص السنّة بالسنّة:

 يقول أبو الحسين البصري في (المعتمد)(11): وأمّا تخصيص السنّة بالسنّة فأكثر من أن يحصى.

وهذا يعني انّه لا مجال لإنكار ذلك أو التوقّف فيه، ومع هذا  أبى قوم ذلك - كما يقول أبو الحسين البصري - معلّلين منعهم بأنّ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) نصب من قبل اللَّه تعالى مبيّنا، لقوله تعالى: (لتبيّن للناس ما نزل إليهم) والتخصيص بيان، ولم يجز أن تحتاج سنّته إلى بيان.

وأجاب البصري ب أنّ كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) مبيّنا لا يمنع من أن يبيّن سنّته.

وأشار المحقّق في (المعارج)(12) إلى هذا المنع ولم يتوقّف عنده، ولعلّه لوهنه، قال: وأمّا تخصيص السنّة بالسنّة فقد أنكره قوم، والأصحّ جوازه.

وفي رأيي لا يصحّ التوقّف في هذه المسألة لأنّ تخصيص السنّة بالسنّة في شريعتنا المقدّسة أكثر من أن يحصى - كما قال البصري - حتّى قيل (ما من عام إلا  وقد خصّ).

فالاستقراء والإحصاء لنصوص السنّة المخصّصة بالسنّة اللذان يوقفاننا على الوفرة الوافرة من ذلك أقوى ما يستدلّ به علميّا لإثبات الجواز والوقوع.

ويظهر من العلامة الحلّي في (المبادي‏ء)(13) التفصيل في المسألة بين السنّة المتواترة فإنّه لا يجوز تخصيصها إلا  بمثلها، وبين غير المتواترة التي يجوز تخصيصها مطلقا بالمتواترة وسواها.

معلّلا جواز التخصيص بأنّ العمل بالعامّ وترك الخاص، وكذلك ترك العمل بهما معا، باطل، بالإجماع، فيتعيّن حمل العامّ على الخاص ليصحّ الأخذ بهما معا.

ومثّلوا له من كتاب الزكاة بالتالي:

- قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): (فيما سقت السماء العشر) فإنّه عامّ يشمل النصاب وما دون النصاب، خصّص بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا زكاة فيما دون خمسة أوسق).

- قوله (عليه السلام): (في الخيل زكاة) فإنّه عام يشمل ذكور الخيل وإناثها، خصّص بقوله(عليه السلام): (ليس في الذكور من الخيل زكاة).

ب- تخصيص السنّة بالإجماع:

يقول الآمدي في (الأحكام)(14): لا أعرف خلافا في تخصيص القرآن والسنّة بالإجماع.

ومسألتنا هذه توأم مسألة تخصيص الكتاب بالإجماع، فما قيل هناك يقال هنا، وما ثبت هناك يثبت هنا، فلسنا بحاجة إلى أن نعيد فنطيل.

ج- تخصيص السنّة بالعقل:

أيضا ما قالوه في تخصيص الكتاب بالعقل قالوه هنا، وما مثّلوا به هناك من عدم شمول عمومات الكتاب في العبادات لمثل الصبي والمجنون لإخراجهما بالدليل العقلي، كذلك الشأن هنا حيث لا تشملهما عمومات السنّة في العبادات للدليل العقلي أيضا.

قال أبو الحسين البصري في (المعتمد)(15): فالعقل يخصّ به عموم الكتاب والسنّة، وذلك أنّا نخرج بالعقل الصبي والمجنون من أن يكونا مرادين بخطاب اللَّه سبحانه بالعبادات في الحال.

د- تخصيص السنّة القوليّة بالسنّة الفعليّة:

وعبّروا عنه بـ(تخصيص قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بفعله)، قال الشريف المرتضى في (الذريعة): فصل في تخصيص قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بفعله: إعلم انّ فعله(صلى الله عليه وآله وسلم) للشي‏ء يدلّ على أنّه مباح - لا محالة - منه، فإذا علمنا بالدليل أنّ حالنا كحاله في الشرائع (يعني في الأحكام الشرعيّة) علمنا أيضا أنّه مباح منّا.

وإن كان سبق منه(صلى الله عليه وآله وسلم) قول عامّ في تحريم ذلك الفعل على العموم فلابدّ من الحكم بتخصيصه.

ونفهم من هذا: انّه يشترط في صحّة تخصيص السنّة القوليّة بالسنّة الفعليّة أن يقوم الدليل على أنّنا مشاركون للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في حكم هذا الفعل، ولذا عقّب الشريف المرتضى قوله المذكور مشيرا إلى ما ذكرنا بقوله: وإنّما أوقع الشبهة في هذه المسألة الخلاف في هل حكمنا في الشرائع كحكمه، وهل الأصل ذلك أو غيره.

 

الهوامش:

(1)- 235-236.

(2)- يعني لو كان عملهم بأخبار الآحاد لأجل القرينة لبان ذلك، لكثرة موارد العمل بها في قبال عمومات الكتاب، مع عدم ظهور  قرينة واحدة في مورد واحد، وهذا ممّا يصحّ أن يقال فيه: عدم الوجدان دليل قطعي على عدم الوجود.

فالنتيجة: أنّ عملهم بتلك الأخبار ليس للقرينة، بل لحجيّة خبر الواحد  السيّد المروج في منتهى الدراية 3/630.

(3)- لمزيد الإطلاع يراجع إلى (خبر الواحد وتخصيص الكتاب له) رسالة بكالوريوس من إعداد الشيخ توفيق الحدّاد، وبإشراف أخينا العزيز الدكتور حميد النجدي، مقدّمة لكليّة الشريعة في الجامعة العالميّة للعلوم الإسلاميّة بلندن.

(4)- ص 95.

(5)- ص 142.

(6)-1/135.

(7)- 2/477-478.

(8)- 1/252.

(9)- ص 95.

(10)- 2/459.

(11)- 1/255.

(12)- ص 96.

(13)- ص 144-145.

(14)- 2/477.

(15)- 1/252.