mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 35.doc

شبهات:

هناك البعض أنحى باللائمة على الإمام الحسين (عليه السلام) كونه أحسن الظن بأهل الكوفة وأنه سارع بالرحيل إليهم بالرغم من تحذيرات ابن عباس وابن عمر وابن الحنفية وإصراره على رفض جميع نصائحهم.

وفيما يلي نأخذ بعض هذه الشبهات:

يقول ابن العربي: "ولكنهُ رضي الله عنه لم يقبل نصيحة أعلم أهل زمانه ابن عباس، وعدل عن رأي شيخ الصحابة ابن عمر، وطلب الابتداء في الإنتهاء(1).

ويقول الطنطاوي: "أحسن الحسين رضي الله عنه ظنه بمن التفوا حوله الذين ألحّوا في استفزازه لقيامه بطلبها، ولم تحسب لصرامة الأمويين وشدة شكيمتهم حساباً ولم يستعرض ما غرَّر به العراقيون أباه وأخاه فيما سبق(2).

ويقول عبد الوهاب النجار: "من الظُلم أن يُقال أن يزيد أشخص حُسيناً إلى العراق فإنّ حسيناً ذهب إلى العراق مختاراً مُغتراً بما جاءه من أهل العراق وبما يعتدّه لنجاحه من قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(3).

ويقول محب الدين الخطيب: "فلم يُفد شيء من هذه الجهود في تحويل الحسين عن هذا السفر الذي كان مشئوماً عليه، وعلى الإسلام وعلى الأمة الإسلامية إلى هذا اليوم وإلى قيام الساعة وكُلُّ هذا بجناية شيعته الذين حرّضوه بجهلٍ وغرور ورغبةٍ في الفتنة والفرقة والشر(4).

 

ردود:

في الرد على شبهة المنتقدين لثورة الإمام الحسين (عليه السلام) والذين ذكرنا بعضناً من أقوالهم نورد هذه النقاط:

 

أولاً: عزم الإمام الحسين (عليه السلام) على الخروج:

فالإمام كان عازماً على الخروج على حُكم يزيد حتى قبل أن تأتيه كُتب ورسائل أهل الكوفة، والدليل على ذلك حوادث وأقوال كثيرة منها:

1- ما جاء في الرسالة الجوابية التي بعثها الإمام الحسين (عليه السلام) إلى معاوية فقد جاء فيها، ما أردت حرباً ولا خلافاً، وإني لأخشى الله في ترك ذلك، منك ومن حزبك القاسطين المحلين، حزب الظالم وأعوان الشيطان الرجيم، ثم يقول: وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك فإن أفعل فإنه قربة إلى ربي وإن لم أفعل فاستغفر الله لديني وأسأله التوفيق لما يحبُّ ويرضى(5).

والرسالة واضحة في الردِّ على معاوية عندما وصلته أخبارٌ عن عزم الإمام على الخروج، فالإمام يُعلن في رسالته أنه لا ينوي الخروج لأنه يلتزم بالاتفاقية التي بينهما لكنهُ في الوقت نفسه يتأوّه ويتألم للقيد الذي فرضته عليه هذه الاتفاقية التي منعته من الخروج فالذي كان يُريد أن يقوله لمعاوية: إنّ خروجي عليك كان أمراً حتمياً نتيجة أفعالك لولا وجود هذه المعاهدة.

2- كان الإمام (عليه السلام) يأمرُ شيعته بالصبر وبانتظار موت معاوية لأنه طالما ظلّ معاوية حياً فلا يستطيع الخروج عليه فقد قال لسليمان بن صُرد عندما عرض عليه البيعة: ليكُن كل رجلٍ منكم حِلساً من أحلاس بيته، ما دام معاوية حياً، فإنها بيعة كنتُ والله لها كارهاً فإن هلك معاوية نظرنا ونظرتُم ورأينا ورأيتم(6).

فلم يكُن الإمام يُريد الإعلان عن الثورة في وقتٍ سابقٍ لأوانها، إذ كان في قرارة نفسه أن يُعلن الثورة على الحُكم الأموي بعد موت معاوية لكن لم يكُن بمقدوره أن يفصح عن ذلك للآخرين لأنه استباقٌ للأحداث قبل وقوعها.

3- عدم بيعة الإمام الحسين (عليه السلام) ليزيد بن معاوية كان يعني الثورة والخروج عليه، وما قاله الوليد والي يزيد على المدينة وبمحضرٍ من مروان بن الحكم هو بمثابة إعلان للثورة وليس مجرد رفض للبيعة.

قال الإمام الحسين (عليه السلام) عندما طلب منه الوليد البيعة: "أيها الأمير إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسقٌ فاجرٌ شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة مُعلنٌ بالفسق والفجور ومثلي لا يُبايع مثله(7).

وقد جرى هذا الموقف قبل أن تصل رسائل أهل الكوفة، وأكدّ الإمام الحسين (عليه السلام) موقفهُ أيضاً في وصيته التي كتبها لمحمد بن الحنفية وهو يُغادر المدينة المنورة، وجاء في هذه الوصية بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأنّ محمداً عبدهُ ورسوله، جاء بالحقِّ من عند الحقِّ وأنّ الجنة والنار حقٌ وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعثُ من في القبور وأني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مُفسداً ولا ظالماً وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المُنكر وأسير بسيرة جدِّي وأبي علي بن أبي طالب (عليه السلام) فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقِّ وهو خير الحاكمين، وهذه وصيتي يا أخي إليك وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلتُ وإليه أُنيب(8).

وهذه الوصية قد كتبها الإمام الحسين (عليه السلام) قبل أن يتوجّه إلى مكة أي قبل أن يصل الخبر إلى أهل الكوفة ومن ثم قبل أن تقبل كتبهم إليه..

أمّا أهل الكوفة فلم يكتبوا رسائلهم إلى الإمام إلاّ بعد أن عرفوا اقتناعه عن بيعة يزيد وخروجه من المدينة إلى مكة فكتبوا إليه طالبين منه المجيء إلى العراق فقد ذكر الشيخ المفيد: وبلغ أهل الكوفة هلاك معاوية، فأرجفوا بيزيد وعرفوا خير الحسين وامتناعه من بيعته؛ وما كان من أمر ابن الزبير في ذلك وخروجهما إلى مكة، فاجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صُرد الخزاعي ... الخ(9).

من هنا يتبين لنا أنه لا علاقة بين خروج الإمام الحسين على يزيد بن معاوية وبين رسائل أهل الكوفة، حتى ليست هناك أية علاقة بين هذه الرسائل وبين خروجه إلى العراق، فهو كان ينوي الذهاب إلى العراق منذُ أن خرج من المدينة أي قبل أن يجتمع أهل الكوفة ويقرروا دعوته إلى العراق.

 

ثانياً: علم الإمام (عليه السلام) بغدر أهل الكوفة:

فقد كان واضحاً وجلياً للإمام الحسين (عليه السلام) أنّ أهل الكوفة سيغدرون به كما غدروا بأبيه وأخيه، فهو قد خبر أهل الكوفة بصورة جيدة ويعرف حالة الازدواجية التي يتصف بها أهل الكوفة، فلم يكن بحاجة إلى تذكير ابن عباس أو ابن عمر، وقد أفصح الإمام الحسين (عليه السلام) عن غدر أهل الكوفة بصورة واضحة ويشكل تلويحي.

يقول يزيد الرشك: "حدثني من شافه الحسين قال: إني رأيتُ أخبية مضروبة بغلاة من الأرض فقلت: لمن هذه؟ قيل له هذه للحسين؟ فأتيته فإذا شيخ يقرأ القرآن؛ والدموع تسيل على خديه ولحيته قلتُ له: بأبي وأمي يابن رسول الله ما أنزلك هذه البلاد والغلاة التي ليس بها أحد؟ فقال: هذه كُتب أهل الكوفة إليّ، ولا أراهم إلاّ قاتلي، فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلاّ انتهكوها، فيسلّط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذلّ من خرم الأمة(10).

وقد أشار إلى هذه الحقيقة هو في طريقه نحو العراق وقبل أن تصله أنباء غدرهم بمسلم بن عقيل فإذا كان الإمام عارفاً بأنهم سيغدروا به فلماذا إذن ذهب إليهم؟

نجيب على هذا السؤال بأمرين اثنين:

1- لم يكُن هناك مكانٌ آخر يصلح للذهاب إليه أفضل من العراق، فقد كان بنو أمية يترصدون له ليقتلوه، فلم يكُن بقاءه في مكة بعد أن تواردت عليه الأخبار بإقدام يزيد على قتله حتى أنه قال لابن الزبير: "لئن أُقتل بمكان كذا وكذا أحبّ إليّ من أن تُستحل – يعني مكة –(11).

فكان يقينه يزداد يوماً بعد آخر أنه مقتول لا محالة سواء ذهب إلى العراق أو بقي في المدينة أو مكة.

روى جعفر بن سليمان الضبعي أنه (عليه السلام) قال: "والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة – وأشار إلى قلبه الشريف –  من جوفي فإذا فعلوا ذلك سلّط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذلُ من خرم الأمة(12).

وقال لأخيه محمد بن الحنفية: "قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت(13).

وروى معاوية بن مرة قال الحسين (عليه السلام): "والله ليعتدنّ علي كما اعتدى بنو إسرائيل في السبت(14).

فإذا كانت خطة اغتياله محبوكة سلفاً، وهو متيقن منها فلماذا يعطي ليزيد فرصة قتله في الحرم، فليقع هذا القتل في مكان آخر، وليكن وجهاً لوجه وليس غيلة بل بصورة يمكن أن تكون لشهادته أثراً في الأمة لذا وجدنا الإمام وهو يختار الكوفة مع علمه الكامل بأنّ أهل الكوفة سيغدرون به كما غدروا بأبيه.

2- لكي لا تكون لدى أهل الكوفة حجة على الإمام الحسين (عليه السلام) فلو كان قد قتل في مكة أو المدينة لكانوا قد قالوا أننا أرسلنا إليه الرسائل وطلبنا منه المجيء فلم يأتِ إلينا.

ولكي يطمئن الإمام بصورة أكثر ويختبر نياتهم بعث إليهم قبل أن يغادر مكة ابن عمه مسلم بن عقيل حتى يكتب إليه بتفاصيل الأوضاع وما يجري في الكوفة من تحولات، وعن موقف أهل الكوفة، وهل هم على موقفهم السابق أم لا.

من هنا فإن شبهات القائلين بأنّ أهل الكوفة خدعوا الإمام الحسين (عليه السلام) وكان على الإمام أن يسمع نصيحة من طلب منه بعدم الذهاب إلى العراق بدلاً من إذعانه لطلب أهل الكوفة، هذه الشبهات واهية متهافتة وأنّ أصحابها لم يتمعنوا ولم ينظروا في كلمات الإمام الحسين (عليه السلام) قبل رحيله ولم يدرسوا مواقفه دراسة مستفيضة ودقيقة، فلو فعلوا ذلك لكان قد عرفوا أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) لم ينهض بسبب رسائل أهل الكوفة، ولم يذهب إلى العراق بسبب هذه الرسائل أيضاً، بل كان قرار الإمام الحسين مُسبقاً لهذه الرسائل، وحتى ذهابه إلى العراق كان قراراً مسبقاً أيضاً.

 

ثالثاً: عزم الأمويين قتل الإمام الحسين (عليه السلام):

كان الإمام الحسين (عليه السلام) تحت المراقبة المشددة في زمن معاوية، وكان الموكلون بمراقبته يبعثون إلى معاوية أخبار تحركاته حتى أموره الخاصة المتعلقة بالزواج وما أشبه ذلك(15).

وعند مجيء يزيد إلى السُلطة باشر سلطاته بهذه الرسالة التي بعث بها إلى الوليد بن عتبة واليه على المدينة والتي جاء فيها:

"أما بعدُ فخذ حُسيناً وعبد الله بن عمر، وابن الزبير بالبيعة أخذاً ليس فيه رُخصة، حتى يُبايعوا والسلام(16).

وجاء في اللهوف: "كتب يزيد إلى الوليد يأمره بأخذ البيعة على أهلها (المدينة) وخاصة على الحسين (عليه السلام) ويقول: إن أبى عليك فاضرب عنُقه وابعث إليّ برأسه(17).

وليس هناك أدنى شك أن يزيد بن معاوية كان مصمماً على قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وقد جاء هذا التأكيد في الرسالة الجوابية الطويلة التي بعث بها ابن عباس إلى يزيد بن معاوية، ومما جاء في الرسالة: "فلستُ بناسٍ اطرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، وأشخصتهُ من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبوّأ بها مقاماًَ واستحلّ بها قتالاً، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحل حُرمة البيت وحُرمة رسول الله فأكبر من ذلك ما لم تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم(18).

فلماذا لا يلوم – أولئك الذين انتقدوا الإمام الحسين (عليه السلام) – يزيداً كونه هو السبب المباشر في ترك الإمام الحسين مدينة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم تكره بعد ذلك حتى لا يعطي الفرصة ليزيد وأعوانه من تنفيذ خطتهم باغتياله في تلك الأماكن المُقدسة، وقد نوهنا وذكرنا أقوال الإمام الحسين (عليه السلام) المؤشرة إلى هذا الأمر.

 

الهوامش:

1- ابن العربي: العواصم من القواصم، ص231.

2- مجلة رسالة الإسلام: السنة 11، رقم1، ص85.

3- هامش الكامل في التاريخ لابن الأثير: 3/318، طبع مصر، 1356هـ.

4- هامش العواصم من القواصم، ص231.

5- الإمامة والسياسة: 1/181.

6- المصدر نفسه: 1/165.

7- اللهوف: ص17.

8- بحار الأنوار: 44/330.

9- الإسناد، ص205.

10- الذهبي: تاريخ الإسلام، 2/345.

11- تاريخ ابن عساكر: 13/66.

12- المصدر نفسه: 13/73.

13- بحار الأنوار: 44/364.

14- تاريخ ابن عساكر: 13/73.

15- الكامل في التاريخ: 3/263.

16- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، 3/263.

17- اللهوف: ص17.

18- تاريخ اليعقوبي: 2/249.