mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 32.doc

الثاني عشر: استخدام الأقلية النصرانية في ضرب المسلمين.

وهو جزء من سياسة فرق تسد التي كان يمارسها النظام المستبد، والتي انتهجها معاوية بن أبي سفيان، وقد لاحظنا مما سبق هناك بعدٌ مسيحي للحكم الأموي فرضته ظروف البيئة التي كانت في السابق مسيحية، ولأنّ الحُكم الأموي لا يُفرق بين مسلم ومسيحي فقد مال نحو المسيحيين لأنهم يشكلون أقلية، والأقلية في أغلب الأوقات على استعداد لتنفيذ الأوامر، ولأنه يجد في المسيحيين اطمئناناً أكثر لأنهم لا يرون تناقضاً بين سياسته ودينهم على عكس المسلمين الذين يرون هذا التناقض، يقول اليعقوبي: "فقد استعمل معاوية ابن أثال النصراني على خراج حمص، ولم يستعمل النصارى أحد من الخلفاء قبله، فاعترضه خالد بن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد بالسيف فقتله، فحبسه معاوية أياماً، ثم أغرم ديته، ولم يُقده منه. وكان ابن أُثال قتل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، دسّ إليه شربة سمّ فعيّره ابن المنذر بن الزبير بن العوام، وقال: تتكلم، وابن أثال بحمص يأمر وينهي؟ فلما قتله، قال خالد بن عبد الرحمن: أما أنا فقد قتلت ابن أثال(1).

الثالث عشر: شراء أملاك المعارضين.

وهو جزء من عملية هدفها إفقار المعارضة، وجعلها محتاجة إلى الدولة، فقد كان معاوية مُغرماً بشراء أراضي المعارضين، وبالأخص تلك الأراضي التي يمتلكونها في المدينة المنورة، فكان ينتهز فرصة ظهور الضائقة المالية على أصحاب الأراضي من معارضيه حتى يسرع في إغرائهم بالعروض المالية، فقد انتهز معاوية الضائقة المالية عند الإمام الحسين (عليه السلام) فعرض عليه شراء ضيعته (عين أبي نيزر) مقابل مائتي ألف دينار، ولكن الإمام الحسين رفض بيعها(2).

وكان الأمويون يشترون الأراضي الواسعة بأثمان بخسة، وقد نقل لنا ابن قتيبة صورة عن ممارسة هذه السياسة: "ثم قدم المدينة فأقبل ابن ميثاء بسراج له من الحرة، يريدُ الأموال التي كانت لمعاوية، فمُنع منها، وأزاحهُ أهل المدينة عنها، وكانت أموالاً اكتسبها معاوية، ونخيلاً يجدّ منها مئة ألف وسق وستين ألفاً، ودخل نفرٌ من قريش والأنصار على عثمان، فكلموه فيها، فقالوا: قد علمت أنّ هذه الأموال كلها لنا، وأن معاوية آثر علينا في عطائنا، ولم يعطنا قط درهماً فما فوقه حتى مضنّا الزمان، ونالتنا المجاعة، فاشتراها منا بجزء من فئة من ثمنها، فأغلظ لهم عثمان في القول، وأغلظوا له، فقال لهم: لأكتبنّ إلى أمير المؤمنين بسوء رأيكم وما أنتم عليه من كون الأضغان القديمة، والأحقاد التي لم تزل في صدوركم، فافترقوا على موجدة، ثم اجتمع رأيهم على منع ابن ميثاء القيّم عليها، فكفّ عثمان بن محمد عنهم، وكتب بأمرهم إلى يزيد بن معاوية(3).

وكان لمعاوية مائة ألف وسق وخمسين وسق، يحصد مائة ألف وسق من حنطة(4).

وكانت عملية البيع والشراء تتم بصورة خاصة وبظروف غير طبيعية بحيث يمكن إطلاق عبارة المصادرة على تلك الأراضي، واعتبر اليعقوبي سبب الأحداث التي وقعت في المدينة المنورة والتي انتهت إلى تلك المذبحة إلى الاستغلال الأموي البشع لتلك الأراضي، يقول في ذلك: "إنه أراد حمل ما كان يحمله في كل سنة من تلك الصوافي من الحنطة والتمر وأنّ أهل المدينة منعوه من ذلك، فأرسل عثمان إلى جماعة منهم، فكلّمهم بكلام غليظ، فوثبوا به وبمن كان معه بالمدينة من بني أمية، وأخرجوهم من المدينة واتبعوهم يرجمونهم بالحجارة، فلما انتهى الخبر إلى يزيد بن معاوية وجه إلى مسلم بن عقبة(5).

وكانت تلك الحادثة هي بداية وقوع حادثة الحرّة الفجيعة.

ولم يكتف معاوية بشراء أراضي المعارضة، بل حتى الأراضي العائدة لأعوانه، لكي يبقوا في حاجة دائمة له، فكان لعبد الله بن العاص (وهط) وهو بستان له في الطائف، وكان معاوية قد ساوَمَ به وأعطاه به مالاً كثيراً فأبى أن يبيعه بشيء(6) ومعاوية لا يحتاج لهذا البستان، فقد كان لبني أمية أراضي وسيعة في الطائف قبل الإسلام، فكان لهم وادٍ يُسمى شريق، هذا من جانب ومن جانب آخر، ما هي فائدة بستان يقع على مساحة بعيدة من الشام لشخص كمعاوية يمتلك في الشام كل وسائل الترف والراحة. من هنا فالغاية لم تكُن الأرض بل كان وراء شراء الأرض مخططاً سياسياً يستهدف إفقار أصحاب هذه الأراضي وجعلهم في حاجة مستمرة إلى معاوية ليكون هو وحده مصدر الثروة والمال، بينما الآخرون يتسكعون على مائدته.

الرابع عشر: الدعاية المضلة.

النظام الذي لا يقوم على المنطق يضطر أن يتوسل بالدعاية الكاذبة بأساليب التضليل ليستطيع من خلالها خداع الرأي العام، وهذا ما فعله الأمويون طيلة حكمهم، وبالأخص معاوية الذي كان لا يتوان في إطلاق الدعايات المضللة حتى لو كان كذباً صراحاً.

فعندما أراد أن يأخذ البيعة من أهل الكوفة جمع رؤساء المدينة فبعضهم بايع كُرهاً والبعض الآخر لم يبايع، وممن لم يبايع قيس بن سعد، لكن معاوية أراد أن يظهر للناس أن قيساً قد بايع فجثا على ركبيته ثم أخذ بيده وقال: أقسمتُ عليك! ثم صفّق على كفّه، فاعتقد الناس أنه يبايع فنادوا: بايع قيس!، لكن قيس فوّت هذه الفرصة على معاوية سريعاً قائلاً: كذبتم والله ما بايعت(7).

وكان معاوية يدس إلى عسكر الحسن من يتحدث: "أنّ قيس بن سعد قد صالح معاوية وصار معه ويوجّه إلى عسكر قيس من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية وأجابه(8).

وعندما استشهد عمار بن ياسر في غزوة صفين أحدث استشهاده أزمة في الوسط الأموي لأن المسلمين قد سمعوا من الرسول الأكرم: "تقتل عماراً الفئة الباغية" فأطلق معاوية شكلين من الدعاية للتضليل على شهادة عمار، فقد ذكر لمعترض على قتله: قبحك الله من شيخ! فما تزال تنزلت في قولك، أو نحن قتلناه؟! إنما قتله الذين جاءوا به، والشكل الآخر من الدعاية التي أطلقها معاوية لأهل الشام: إنما نحن الفئة الباغية؟ التي تبغي دم عثمان(9) وهذا أبشع أنواع التضليل والخداع.

وطالما كان الهدف من الدعاية هو التضليل فإنّ من يستخدم هذه الوسيلة يحاول في كل مرة أن يطلق قولاً مختلفاً يتناسب مع ظرف وعقلية المخاطب، لأنّ الهدف ليس إيصال الحقيقة بل هو إقناعه بخلاف الحقيقة، وكان الحُكم المهترئ يتوسل بالدعاية كلما دعت الحاجة إليها فعندما تجمّع أهل الكوفة حول قصر ابن زياد بقيادة مسلم بن عقيل وظلوا محاصرين للقصر من الصباح حتى المساء فلم يجد ابن زياد سلاحاً أمضى من سلاح الدعاية لتفتييت الجموع  وتمزيق جبهتهم، جمع ابن زياد أصحابه وقال لهم: أشرفوا على الناس فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوِّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوق، وأعلموهم وصول الجنود من الشام إليهم، فوقف أحدهم ليقول للناس: أيها الناس ألحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر ولا تعرضّوا أنفسكم للقتل فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت(10). ولم يكُن هذا القول سوى الدعاية التي أريد بها تخويف الناس ودفعهم لترك محاصرة القصر.

الخامس عشر: تحميل الآخرين مسؤولية جرائمهم.

فالأنظمة المستبدة أنظمة إجرامية بطبيعتها، لأنها لا تملك سوى منطق الجريمة، فلما لم يكُن هناك وسيلة لتثبيت الحُكم سوى الإجرام فإنها تقترف كل جريمة يحلو لها، وكأنها تتصرف  بحرية مطلقة في دماء الناس وأموالهم، وعندما تقع الجريمة ويكون لها صدىً واسعاً وانعكاساً مؤثراً فإن الحكم المستبد يتسارع من أجل إلصاق جريمته بغيره.

فلما قتل معاوية حجراً هاجت البلاد الإسلامية عليه، وعاتبه القريب والبعيد، فلم يكن يحر بجواب سوى التملّص من جريمته وإلصاقها بغيره، فمرة ألصقها بابن زياد في جوابه على رسالة عبد الرحمن بن حارث بن هشام عندما سأله: "أين غاب عنكم حلم أبي سفيان قال: غاب غني حين غاب عني مثلك من حلىء قومي وحملني ابنُ سمية فاحتملتُ(11).

ومرةً ثانية يوجِّه الاتهام نحو مجهول في جوابه على سؤال عائشة عندما ذهب إليها في المدينة المنورة، فاعترضت عليه قتل حجر بن عدي قائلة له: "يا معاوية أما خشيت الله في قتل حجر وأصحابه، قال: لستُ أنا قتلتهم إنما قتلهم من شهد عليهم(12).

على غرار ذلك تملّص ابنه يزيد عن قتل الإمام الحسين (عليه السلام)، وألصق تلك الجريمة بعُبيد الله بن زياد.

ففي جوابه لزوجته هند بنت عبد الله بن عامر بن كُريز عندما دخلت عليه قائلة له: "يا أمير المؤمنين أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله؟ قال: نعم فأعولى عليه وحُدّي على ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصريخه قريش عجّل عليه ابن زياد فقتله قتله الله".(13)هكذا وبهذه السهولة فكلما وجد الطغاة حرجاً في تنفيذ جرائمهم سارعوا في إلصاقها بغيرهم، ولكن هل يمكن أن تغير هذه الأساليب شيئاً من الحقيقة، يقول طه حسين في هذا المجال: والرواة يزعمون أن يزيد تبرأ من قتل الحسين على هذا النحو، وألقى عبء هذا الإثم على ابن مرجانة عبيد الله بن زياد، ولكنا لا نراه لامَ ابن زياد ولا عاقبه ولا عزله عن عمله كله أو بعضه، ومن قبل قتل معاوية حُجْر بن عدي وأصحابه ثم ألقى عبء قتلهم على زياد وقال: حمّلني ابن سمية فاحتملت(14).

 

السادس عشر: سياسة الإلهاء.

دأبت الحكومات المستبدة على إلهاء شعبها حتى لا يعي ما يحدث من حوله، لأن وعي الشعب سيشكِّل خطراً عليها، ولما كان الحكُم الأموي حكماً قائماً بالسيف ولا يمتُّ بالشعب بأي صلة شعبية أو جماهيرية فقد عمل جاهداً من أجل إلهاء الناس، خلافاً لعمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام)، فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخليفته أمير المؤمنين (عليه السلام) يحثون الناس على طلب العلم ويهيئان الأمكنة المناسبة لتلقي العلم نجد على عكس ذلك، ما ذهب إليه معاوية وولده يزيد، فالأمويون لم يشجعوا على طلب العلم ولم ينشأوا مدرسة واحدة في حياتهم(15).

وكان بنو أمية يحاربون كلُّ من يجدون في بيته كتاباً، لأن الكتاب كان يُعتبر جريمة لا تُغتفر.

ذكر عن هشام بن عروة بن الزبير قال: "أحرق أبي يوم الحرَّة كتب فقه كانت له، قال: فكان يقول بعد ذلك لأن تكون عندي أصبّ إليّ من أن يكون لي مثل أهلي ومالي(16).

يظهر أن إحراق هذه الكُتب كان بسبب خوفه من وقوعها في أيدي جلاوزة يزيد بن معاوية وفي مقابل سياسة الحجر على العلم دفعوا المجتمع إلى الرذيلة، والإلتهاء بمختلف وسائل اللهو، وفيما يلي نذكر بعض وسائل اللهو التي راجت في عهد معاوية ويزيد:

 

1- القصص:

وكان لكل بلد قصّاص، فقصاص مصر هو سليمان بن عِتَر التجيبيّ، وذلك في سنة 38 للهجرة، وقد جُمع له القضاء إلى جانب القصص، ثم عُزل عن القضاء وأفرد بالقصص(17).

وهذا لا يناقض الرواية التي تذكر عن الحسن البصري أنه سُئل: متى أحدث القصص؟ قال: في خلافة عثمان، فسُئل: مَن أول مَن قصّ؟ قال: تميم الداري(18).

ويرى المقريزي: "إنما كان القصص في زمن معاوية(19).

ويقول أيضاً: "إن علياً قنت فدعا على قوم من أهل حربه، فبلغ ذلك معاوية فأمر رجلاً بعد الصبح وبعد المغرب يدعو له ولأهل الشام قال يزيد: وكان ذلك أول القصص(20).

فأبتداء ظهور القصة كان فعلاً على عهد عثمان بن عفان لأنه أجاز لتميم الداري بأنّ يقصّ في مسجد الرسول بعد أن منعه عمر بن الخطاب في أوائل عهده، لكن ظهور القصة كعمل رسمي كان في عهد معاوية، وهذا ما يتفق ورأي المقريزي.

وتميم الداري هو أول قاصٍ في الإسلام، وهو نصراني من نصارى اليمن أسلم في سنة تسع من الهجرة.

واستعان معاوية بوهب بن منبه وكعب الأحبار وهما من أهل الكتاب وأدخلا في الإسلام الكثير من الإسرائيليات والنصرانيات، وقد بذل معاوية الكثير من الأموال الطائلة للترويج لهذه القصص والحكايات، وكان يستعين بها كما يقول أحمد أمين على ترويج حزبه والدعوة له(21)، ثم يقول أحمد أمين: "إن هذه القصص هي التي أدخلت على المسلمين كثيراً من أساطير الأمم الأخرى كاليهودية والنصرانية، كما كانت باباً دخل منها على الحديث كذبٌ كثير، وأفسد التاريخ بما تسرب منها من حكاية وقائع وحوادث مزيفة أتعبت الناقد وأضاعت معالم الحق(22).

وكان لمعاوية قصاصاً خاصاً يقصُّ عليه القصص يعمل عمل النديم فقد ذكر المسعودي: "كان إذا صلّى الفجر جلس للقاصِّ حتى يفرغ من قصصه(23) وعلى العكس ذلك كان أمير المؤمنين يمنع القصاصين من سرد قصصهم(24) لأن فيها نتائج وخيمة على أخلاقية الأمة.

أما لماذا وقع الاختيار على القصة كأسلوب للهو ونشر الأكاذيب، ذلك لأن القصة أسرع في الانتشار من كل شيء لأنها تتفق وميول الناس، وقد كافحها العلماء، منهم الغزالي في إحياء علوم الدين حيث اعتبرها مُنكراً من المنكرات.

2- الغناء:

انتشر الغناء في العصر الأموي، وأصبح لشاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة شأناً كبيراً في الدولة الأموية، وهو أموي مُقرّب من البلاط الأموي، وكان معاوية ومروان بن عبد الملك والوليد وسليمان وهشام لا يظهرون للندماء والمغنين، بل كان بينهم حجاب حتى لا يطلع الندماء على ما يفعله الخليفة إذا طرب، فقد تأخذه نشوة الطرب فيقوم بحركات لا يطلع عليها إلاّ خواص جواريه، وإذا ارتفع من خلف الستارة صوت أو حركة غريبة صاح صاحب الستارة: "حسبك يا جارية! كفى، انتهى! اقصري" موهماً الندماء أن الفاعل لتلك الحركات هو بعض الجواري، وانتشر الغناء في العهد الأموي حتى وصل مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاشتهر طويس بالغناء وكان يثير بعض الضغائن ما بين الأوس والخزرج عبر غنائه.

واتسعت وسائل اللهو في عهد يزيد بن معاوية، ودخل فيها الحرام بعد أن كان اللهو محصوراً بالمباحات، وكان يزيد نفسُه على رأس اللاهين العابثين، يقول المسعودي: "وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمه على الشراب، وجلس ذات يوم على شرابه، وعن يمينه ابن زياد، وذلك بعد قتل الإمام الحسين، فأقبل على ساقيه فقال:

اسقيني شربةً تُروِّي مشاشـي                        ثم مِلْ فأسقِ مثلها ابن زياد

صاحب السرّ والأمانة عِندْي              ولــــتسديد مغنمي وجهــــاد

ثم أمر المغنين فغنوا (به)(25).

وغلب على أصحاب يزيد وعماله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب، وكان له قردٌ يُكنى بأبي قيس يُحضره مجلس منادمته، ويطرح له متكأ، وكان قرداً خبيثاً وكان يحمله على أتان وحشية قد ريضت وذُللت لذلك بسرج ولجام ويسابق الخيل يوم الحلبة، فجاء في بعض الأيام سابقاً، فتناول القصبة ودخل الحجرة قبل الخيل وعلى أبي قيس قباء من الحرير الأحمر والأصفر مشمر، وعلى رأسه قلنسوة من الحرير ذات ألوان بشقائق، وعلى الأتان سرج من الحرير الأحمر منقوش ملمع بأنواع من الألوان، فقال له في ذلك بعض شعراء الشام في ذلك اليوم:

تمســـك أبــــــا قيس بفضل عنــانها      فليس عليها إن سقطت ضمانُ

ألا مَنْ رأى القرد الذي سبقت به           جيـــــاد أمـــــير المؤمــــنين أتـــان

السابع عشر: إطلاق الشعارات الفارغة.

الأنظمة الخاوية تتوسل بالشعارات أكثر مما تتوسل بالحقائق، فهي تستخدم الشعارات البراقة ذات الظاهر الجميل لكنها فارغة المحتوى، وتجعل من هذه الشعارات وسيلتها إلى تثبيت دعائم الحُكم وتمرير سياستها، ومن طبيعة الشعارات أنها تستهوي العوام من الناس وتحرك البسطاء منهم، وقد برع معاوية في استخدام الشعارات البراقة الفارغة من الحقيقة، ومن الشعارات التي استخدمها معاوية نذكر:

1- قميص عثمان:

وهو شعار استخدمه معاوية ضد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ولتحريض أهل الشام ضد أهل العراق، يقول جُرجي زيدان: "واتخذ الأمويون قتله ذريعة للقبض على الخلافة(26).

ويقول نبيه عاقل في هذا المجال: "واتخذ معاوية من قضبة تهاون علي في قصاص قتلة عثمان حجة للخروج عليه وأدعى أنه وليه وأنه إنما يعمل بقوله تعالى: [وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ]، وأن أهل الشام مجمعون على الأخذ بثأر الخليفة المقتول وأنه إنما ينفذ رغبتهم ورغبة قومه من بني أمية الذين أغضبهم مقتل قريبهم، وقد جرت بين علي ومعاوية مراسلات طويلة في شأن الخلافة، والمصادر تحفظ لنا الكثير  من هذه المراسلات وما دار فيها من نقاش بين الرجلين، وأحقية كل منهما في قيادة الجماعة الإسلامية، والواقع أنه ليس هناك ما يدلُّ أن معاوية كان عثمانياً مخلصاً في عثمانيته لا يهمهُ إلاّ الوصول لقتلة عثمان وإنزال العقاب بهم، ثم ترك أمر الخلافة لشورى الأمة تختار من تريد فينزل هو عند إرادتها، فهذا ما لم يكُن بحال من الأحوال في فكر معاوية(27).

 

2- رفع المصاحف:

وهو شعار رفعه معاوية في معركة صفين عندما تحقق من هزيمته في الحرب فأراد بهذا الشعار أن يستثير البسطاء والسذّج من أصحاب أمير المؤمنين الذين يتأثرون بالشعارات البراقة.

يحكي لنا اليعقوبي صفة رفع المصاحف هكذا: "وزحف أصحاب عليّ وظهروا على أصحاب معاوية ظهوراً شديداً، حتى لصقوا به، فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه، فقال له عمرو بن العاص: إلى أين؟ قال: قد نزل ما ترى، فما عندك! قال: لم يبق إلاّ حيلة واحدة، أن ترفع المصاحف فتدعوهم إلى ما فيها، فتستكفّهم وتكسر من حدّهم، وتفّت في أعضادهم، قال معاوية: شأنك! فرفعوا المصاحف(28).

ومثلما أثّر شعار المطالبة بدم عثمان في أهل الشام أثّر شعار رفع المصاحف في بعض أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، نلاحظ في اختلاف الشعارين عامل المؤثرات النفسية، فالعوامل المؤثرة في المجتمع الشامي تختلف عن العوامل المؤثرة في المجتمع العراقي، فأهل الشام لا يعرفون الكثير عن عثمان فمعلوماتهم عنه محصورة في كونه خليفة قُتل عطشاناً وهو يقرأ القرآن، واستطاع معاوية أن يستغل جهل أهل الشام بحال عثمان وسياسته فأطلق شعار المطالبة بدمه بينما الأمر في العراق يختلف تماماً فالذي يحرّك الشعب العراقي هو الأصول الإسلامية، وقد استطاع معاوية وعبر طابوره الخامس بقيادة الأشعث بن قيس أن يُثيروا البلبلة في صفوف أهل العراق، وأن يستغل تدين البسطاء ودفعهم إلى التحكيم دون إرادة منهم.

أما شعار يزيد بن معاوية في حرب الإمام الحسين (عليه السلام) فهو المروق عن الدين ومخالفة الإمام. فكان قادة الجيش الذي جاء لحرب الإمام الحسين (عليه السلام) يطلق هذا الشعار أو هو قريب من هذا المعنى، يذكر الطبري إن عمرو بن الحجاج خطب في جيش يزيد بن معاوية قائلاً: يا أهل الكوفة ألزموا طاعتكم وجماعتكم ولا ترتابوا في قتل مَن مرق من الدين وخالف الإمام(29).

وجاءت هذه العبارة على لسان يزيد بن معاوية في حواره مع العقيلة زينب قائلاً لها: إنما خرج من الدين أبوك وأخوك، فقالت العقيلة: بدين الله ودين أبي ودين أمي وجدي اهتديت أنت وأبوك وجدك.

وتكشف هذه الشعارات الجوفاء عن واقع الأزمة النفسية والفكرية والأخلاقية التي ألمّت بالحكم الأموي بعد استسلام زمام الأمور، وقد استطاع هذا الإعلام على رغم هزالته أن يسيطر على عقول المجتمع الشامي الذي كان يعيش بمعزل تام عن قضايا العالم الإسلامي ويخضع لحصار إعلامي حديدي من قبل معاوية، ولولا وجود الأسرى من آل البيت وتحطيمهم لهذا الحاجز الحديدي لاستطاع الحكم الأموي أن يواصل سيطرته على وعي أهل الشام.

من هنا جاءت محاولات يزيد السريعة في التجميل برحيل هؤلاء الأسرى من الشام بعد أن كان قد قرّر إبقائهم ليتمكن من مراقبتهم وإحصاء أنفاسهم.

هذه في الواقع أهم الأساليب والطرق التي اتبعها النظام الأموي والتي بمجموعها تشكل إطاراً عاماً لسياسات الحكم الأموي، سياسته الإعلامية والداخلية والخارجية..

 

الهوامش:

1- تاريخ اليعقوبي: 2/223.

2- المبرد: الكامل في اللغة والأدب، 2/154.

3- الإمامة والسياسة: 1/206.

4- الكتاني: التراتيب الإدارية، 2/50.

5- تاريخ اليعقوبي: 2/250.

6- الطبري: 4/291.

7- تاريخ اليعقوبي: 2/207.

8- المصدر نفسه: 2/214.

9- الإمامة والسياسة: 2/126.

10- الطبري: 4/277.

11-12- المصدر نفسه: 4/208.

13- الطبري: 4/356.

14- علي وبنوه: ص242.

15- فجر الإسلام: ص166.

16- طبقات ابن سعد: 5/32.

17- الكندي: كتاب القضاء، ترجمة (سليمان بن عتر)، ص55.

18- فجر الإسلام: ص158.

19-20- المقريزي: الخطط، 2/253.

21-22- فجر الإسلام: ص160.

23- المسعودي: مروج الذهب، 339.

24- وديعة طه النجم: القصص والقصاص، ص34.

25- مروج الذهب: 3/77.

26- جُرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، 3/332.

27- تاريخ خلافة بني أمية: ص22.

28- تاريخ اليعقوبي: 2/188.

29- الطبري: 4/331.