mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 21.doc

طبائع الاستبداد عند معاوية ومناقب الرسالة عند الإمام علي

الصراع الذي دار رحاه بين الامام علي(عليه السلام) ومعاوية لا يختلف في الجوهر عن صراع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) مع أبي سفيان، فلو كان قدر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون في قباله أبو سفيان النموذج المناقض للنبوة. فإن قدر الامام علي (عليه السلام) أن يكون في قباله معاوية النموذج المناقض للامامة.

ويحلو لبعض الكتاب المعاصرين وصف هذا الصراع التاريخي وكأنه قام بين فخذين من قريش متنافرين متنافسين على السلطة هما بنو أمية وبنو هاشم. وهذه هي محاولة جادة لتشويه حقيقة هذا الصراع الذي اساسه التناقض بين حالتين.

الحالة الرسالية التي تريد أن تسود العالم بالايمان والأخلاق والحالة الجاهلية التي تريد أن تسمو بالثروة والحيلة والدسيسة. فكان الصراع بين هاتين الحالتين هو أمر حتمي إذ ان الجاهلية متوثبة دائما لمواجهة الرسالية لأنها تشعر بأنها مهددة دائما. وقد انفرز من هاتين الحالتين نمطين من السلوك..

فبينما نجد علياً(عليه السلام) يحافظ على أموال الناس، لا ينفقها الا في مكانها ولا يبح لنفسه أن يأخذ شيئا منها لنفسه أو لأهله، وكان لا يخرج من بيت المال الا بعد أن ينفقه بأجمعه، ثم يأمر قنبرأن ينظف المكان وبعدها يصلي ركعتان شكراً لله حيث ادى الأمانة، وكان يقول أثناء العمل في بيت المال ياصفراء، ياحمراء غري غيري..

وفي قبال هذه الصورة نجد معاوية يبيح لنفسه التصرف في بيت المال والانفاق منه ما يشاء بغيرحساب أوكتاب.

ولنا في حكاية عقيل ابن ابي طالب عند ما قدم الى أخيه يطلب منه مالاً فأرجعه الى عطائه ليأخذ منه حاجته، خير شاهد على التناقض الكبير بين علي ومعاوية. فعندما جاء الى معاوية أعطاه من بيت المال ثلاثمائة ألف دينار(1).

وكان يطمح في الحصول على نصف كلمة من عقيل يقولها ضد أخيه، لكن دون جدوى.

لقد جسد معاوية في حكمة المكيافيلية أفضل تجسيد.

فهو مكيافيلي قبل أن يولد مكيافيلي. كان يضع السم في العسل، كما فعل بالإمام الحسن بن علي.

كان يقلب الحقائق كي لا تعرف حقيقته. وهو يدري انه كاذب. وهذا أخس أنواع الكذب.

اتاه يوماً أحد المتزلفين اليه وهو عبدالله بن أبي محجن قائلاً: يا أمير المؤمنين إني أتيتك من الغبي الجبان البخيل ابن ابي طالب، فقال معاوية لله أنت؟ أتدري ما فلت؟ أما قولك الغبي، فوالله لو أن ألسن الناس جمعت فجعلت لساناً واحداً لكفاها لسان علي، وأما قولك إنه جبان، فثكلتك امك، هل رأيت أحداً قط بارزه إلا قتله؟ وأما قولك انه بخيل فوالله لو كان له بيتان أحدهما من تبر والآخر من تبن لأنفذ تبره قبل تبنه(2).

لنقارن بين اعترافات معاوية في علي في هذا الموقف وبين شتائمه وسبابه في مواقف أخرى، ومن حق الثقفي ان يتعجب من أجوبة معاوية الصريحة. وربما خدعته الدعاية الأموية.

وإذا كان علي هكذا فلم هذا القتال؟.

بادره بالسؤال: فعلام تقاتله إذاً؟.

أخذ معاوية يجيبه بكل صراحة لأنه كان موطن ثقته قال له: على هذا الخاتم الذي من جعله في يده جازت طينته وأطعم عياله، وادخر لأهله. فضحك الثقفي مسايراً له، وبعد ذلك لحق بالامام علي(عليه السلام) لأنه عرف الحقيقة.

هذه الحادثة التأريخية تضعنا أمام صورة من الميكيافيلية متكاملة الأبعاد، تحريف للحقائق تبرير الوسيلة بالغاية. الحفاظ على السلطة مهما كان الثمن، الأخلاق في خدمة السياسة وليس العكس وهذه هي الأضلاع الأربعة للسياسة التي انتهجها معاوية بن أبي سفيان.

كان معاوية على أعلا درجات الاستبداد لكنه لا يتظاهر بأنه مستبد. بل يظهر نفسه إنه ديمقراطي وهكذا كل المستبدين في التاريخ كان يلتقي بالخصوم ويتحاور معهم طمعاً فيهم، وليس من طبعه المحاورة الصادقة لانه لا يمتلك المنطق ولا الدليل المقنع إلا عندما يكون أمام همج رعاع.. كتب اليه الامام علي(عليه السلام) رسالة مفصلة ذكرها ابن قتيبة في كتابه احتج فيها على معاوية بحجج بالغة، لم يجد معاوية ما يرد عليها، فاحتار بما يجيب علياً إذ كان لزاماً عليه بعث الجواب فاكتفى كما ذكر ابن قتيبة بعبارة.

بسم الله الرحمن الرحيم. وقد فهم الامام من عبارة (بسم الله) إن معاوية لاجواب له الا الحرب.

وكان معاوية مغروراً بنفسه، وبأبيه، والغرور هو من طبائع المستبدين لأنه لا يستبد إلا المغرور بنفسه، فالاستبداد والغرور صنوان أحدهما يؤدي الى الثاني. 

فهذا جواب معاوية لعدي بن حاتم الطائي عندما جاءه يريد الاصلاح ويحذر من مغبة التمادي في الغي.. فأجابه معاوية قائلاً: هيهات ياعدي فلا والله إني لابن حرب لا يقعقع بالشئان(3) وهذا كتاب معاوية التي أرسلها الى زعماء العشائر والولاة وهو الآخر يشم منه رائحة الغرور وانه كان يعتقد في شخصه أموراً غير موجودة فيه(4).

وكان من سياسة معاوية انتهاج السبل الملتوية لأنه كان يخشى الصراط المستقيم لأنه صراط الحق، والحكام المستبدين يخافون الحق، فيختارون الطرق المظلمة والأساليب الملتوية فكل مواقفه كانت تقوم على الحيلة.

حاول أن يحرك ابن عمر ضد الامام علي مدعياً انه أحق بالخلافة وانه على استعداد لمبايعته مع انه كان يريد الخلافة لنفسه.

حمل شعار المطالبة بدم عثمان مع انه أحد المساهمين في قتل عثمان. وكانت حجته دائما ان قتلة عثمان موجودون في جيش الامام، وانه ولي الدم ومتى ما سلم الامام القتلة فانه يصبح كأحد المسلمين.

فها هو معاوية يحاول خداع أبي هريرة وأبي الدرداء عندما أرادا الاصلاح وإيقاف الدماء في صفين. قال لهما معاوية: لست أزعم أني أولى بهذا الأمر من علي. ولكني اقاتله حتى يدفع الي قتلة عثمان، فقالا إذا دفعهم اليك ماذا يكون؟.

قال أكون رجلاً من المسلمين فاتيا علياً فإن دفع اليكما قتلة عثمان جعلتها شورى(5) وهو ادعاء واهي، فمعاوية لم يكن يريد سوى الحفاظ على الكرسي. بدليل انه بعد شهادة أمير المؤمنين(عليه السلام) وشهادة الحسن(عليه السلام) كانت الفرصة قد حانت لأن يجعلها شورى لكن وبدل أن يجعلها شورى جعلها ملكاً وراثياً الى ولده يزيد، وهذا هو دأب الإستبداد الذي يحاول أن يتمسك دائما بورقة ليمرر من خلالها سياسته وليبرر عبرها مشروعية بقائه في السلطة. ولعل أكبرمكر قام به معاوية هو رفعه للمصحف يوم أحس بالهزيمة المنكرة.

يذكر الطبري: لما رأى عمرو بن العاص أن أمر أهل العراق اشتد، وخاف في ذلك الهلاك، قال لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لايزيدنا الا اجتماعاً ولا يزيدهم إلا فرقة قال نعم، قال: نرفع المصاحف ثم نقول: ما فيها حكم بيننا وبينكم(6) وانطلت هذه الخدعة على الكثيرمن البسطاء والسذج من أصحاب علي (عليه السلام).

ومن طبائع معاوية الجبن لأن المستبد جبان وليس بشجاع فهو يخشى الهلاك لأنه يبحث عن الدنيا ولا يريد السلطة الا للدنيا، فمن غير المعقول أن يرمى بنفسه في المواقف الحرجة.

فهذا الذي كان يقول عن نفسه كلا والله إني لابن حرب لايقعقع له بالشنان، وكان يؤلب الناس للحرب، دعاه يوماً علي بن أبي طالب، منادياً بأعلى صوته، يامعاوية، علام يقتل الناس بينا! هلم أحاكمك الى الله، فاينا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فقال له عمرو: أنصفك الرجل، فقال معاوية: ما أنصف، وانك لتعلم أنه لم يبارزه رجل قط الا قتله، قال له عمرو: وما يجمل بك الا مبارزته بارزته، فقال معاوية: طمعت فيها بعدى(7) وهكذا كل المستبدين في التاريخ القديم والحديث فعند العربدة يصبحون شجعانا والويل لمن ينازلهم وأما في الميدان فهم أجبن خلق الله يخافون من الموت بقدر ما يحبون الحياة.

ومن طبائع معاوية اللؤم وهو أشد من البخل، فقد كان يريد لأصحاب أمير المؤمنين(عليه السلام) أن يموتوا عطشاً عندما استولى على شريعة الفرات ووضع قوة بقيادة الأعور السلمي لمنع ورودهم الماء. وهذه طبيعة المستبدين الذين لا يتورعون في استخدام أية وسيلة لقهر اعدائهم حتى لو استوجب الأمر القضاء عليهم عطشاً.

ومن طبائع معاوية هو أن يلصق كل جريمة بغيره أو اشراك غيره بالجريمة حتى لا تتوجه أصابع الاتهام اليه وحده فعندما جاءه صعصعة بن صوحان يطلب منه الماء قال معاوية لأصحابه ما ترون؟ فاشاروا عليه بالمنع.

لكنه لم يعطه الجواب القاطع كما هو دأب المستبدين الذين يتهيبون الصراحة بل قال لصعصعة سيأتيكم رأيي، فسرب الخيل الى أبي الأعور(8).

وقامت سياسة معاوية كما جاء في رسالته الى المغيرة بن شعبة:

لا تترك شتم عليّ وذمه والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب لأصحاب علي والاقصاء لهم والاطراء بشيعة عثمان والإدناء لهم(9).

وظل الشتم والكلمة البذيئة هي مرتكز الحكم الأموي حتى عهد عمر بن عبد العزيز. وهو الطريق الذي اختاره الحكم للتعبئة الشعبية.

ومن طبائع معاوية الاستبدادية، قطع الأرزاق عمن يخالفه في الرأي فقد أوعز الى واليه المغيرة بن شعبة أن يقطع أرزاق أهل الكوفة لانهم لايوالون النظام ولا يشتمون علياً. فقام اليه حجر بن عدي، فصاح صيحة بالمغيرة سمعها كل من بمسجد الكوفة. وقال له مر لنا أيها الانسان بأرزاقنا، فقد حبستها عنا وليس ذلك لك وقد أصبحت مولعأ بذم أمير المؤمنين. فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون صدق حجر وبر مُر لنا بأرزاقنا(10).

وهذه عادة متأصلة في الحكومات المستبدة الظالمة فهي تستخدم سياسة التجويع ضد من يعارضها من ابناء الأمة.

ومن طبائع الاستبداد الأموي متمثلاً بمعاوية الإرهاب، فخط الإرهاب الذي مارسه معاوية ومارسه ولاته باذن منه لانظير له إلأ في العهود الغابرة. كان يأخذ الناس على التهمة ويقتلهم على كلمة واحدة إن قالوها عادت لهم حياتهم والا فالقتل، والكلمة هي البراءة من علي (عليه السلام).

وهذا نموذج من إرهاب معاوية:

محمد بن أبي حذيفة أحد أنصار الامام علي (عليه السلام) وهو في الوقت نفسه ابن خال معاوية بن ابي سفيان لأن ابي حذيفة هوأخ لهند بنت عتبة أم معاوية بعد استشهاد أمير المؤمنين ألقى معاوية القبض على محمد بن أبي حذيفة وأودعه السجن(11) ثم قال معاوية ذات يوم الا نرسل الى هذا السفيه محمد بن ابي حذيفة فنبكته (نوبخه) ونخبره بضلاله ونأمره أن يقوم فيسب علياً؟ قالوا نعم، فبعث اليه معاوية، فأخرجه من السجن، فقال له معاوية: يامحمد بن أبي حذيفة، الم يأن لك أن تبصر ما كنت عليه من الضلالة بنصرتك علي بن أبي طالب الكذاب، الم تعلم ان عثمان قتل مظلوماً وان عائشة وطلحة والزبيرخرجوا يطلبون بدمه، وان علياً هو الذي دس في قتله ونحن اليوم نطلب بدمه، قال محمد بن أبي حذيفة انك لتعلم أني امس القوم بك رحماً وأعرفهم بك، قال أجل، قال فوالله الذي لا إله الا غيره ما أعلم أحدا اشترك في دم عثمان والب عليه غيرك لما استعملك ومن كان مثلك، فسأله المهاجرون والأنصار أن يعزلك فأبى، ففعلوا به ما بلغك ووالله ما أحد اشترك في قتله بدئياً وأخيراً الا طلحة والزبير وعايشة. منهم الذين شهدوا عليه بالعظيمة والبوا عليه الناس وشركهم في ذلك عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وعمار والأنصار جميعاً.

قال: قد كان ذاك، قال: والله اني لأشهد انك منذ عرفتك في الجاهلية والاسلام لعلى خلق واحد ما زاد الاسلام فيك قليلاً ولا كثيراً وإن علامة ذلك فيك لبينة تلومني على حبي علياً خرج مع كل صوام قوام مهاجري وانصاري، وخرج معك ابناء المنافقين والطلقاء والعتقاء خدعتهم عن دينهم وخدعوك عن دنياك والله يامعاوية ما خفي عليك ما صنعت وما خفي عليهم ما صنعوا اذ أحلوا أنفسهم بسخط الله في طاعتك، والله لا أزال أحب عليا لله وابغضك في الله وفي رسوله ابداً ما بقيت.

قال معاوية واني اراك على ضلالك بعد، ردوه، فردوه وهو يقرأ (رب السجن أحب الي مما يدعونني اليه) فمات في السجن(12).

هذه الحادثة تبين لنا الأساليب الارهابية التي كان يمارسها معاوية وهي شبيهة بما يمارسه اليوم المستبدون في داخل السجون بحق المعارضين لحكمهم.

ومارس ولاة معاوية سياسة الارهاب أيضاً لأنها كانت وسيلتهم للحكم والسيطرة.

فهذا بسر بن ابي ارطاة والي معاوية على اليمن، أخذ ابنين لعبيد الله بن عباس صغيرين هما عبد الرحمن وقثم فقتلهما. وكانا عند رجل من كنانة بالبادية فلما اراد قتلهما، قال له الكناني: لم تقتل هذين ولا ذنب لهما؟ فان كنت قاتلهما فاقتلني معهما فقتله وقتلهما بعده.

وانتشر خبر هذا الحادث المروع فخرجن نسوة من بني كنانة. فقالت امرأة منهن ياهذا قتلت الرجال، فعلام تقتل هذين؟ والله ما كانوا يقتلون في الجاهلية والاسلام والله يا ابن أبي أرطاة ان سلطاناً لا يقوم الا بقتل الصبي الصغير والشيخ الكبير ونزع الرحمة وعقوق الأرحام لسلطان سوء.

وهذا هو دأب الاستبداد فهو يستخدم القسوة ليظهر القوة، لكنه يبقى ضعيفاً فالضعف يدفع الى الأرهاب دائما.

أما القوي فلا يحتاج الى قتل الأطفال وترويع النساء وأخذ الأبرياء بالتهمة والظنة.

هذا هو معاوية بن ابي سفيان ونحن نتركه لمحكمة التأريخ فقد قال فيه التأريخ كلمة الفصل.. فقد علم طغاة بني أمية أسلوب الإرهاب وطريقة التعتيم فكان مدرسة لكل المستبدين في التاريخ القديم والحديث.

وذاك هو علي بن أبي طالب الذي أوجد في حكمه مدرسة لكل الحكام الخيربن على مدى التاريخ القريب والبعيد وبالرغم من أن وضع علي الى جانب معاوية حتى في الاتجاه المعاكس هو منهج غير مستساغ إذ ان مجرد اقتران الاسمين معاً هو أمر غير مقبول. لكن عندما يكون طرح الاسمين أمام محكمة التاريخ فهو أمر جائز. فكما وافق الامام علي(عليه السلام) أن يجلس الى جانب اليهودي في محكمة شريح فاننا نسوغ وضع علي في الجانب الآخر من محكمة التاريخ ليقول كلمته في علي بن ابي طالب(عليه السلام) كما قال كلمته في معاوية.

علي على العكس تماماً من معاوية.

فسياسته في حقيقتها هي الاسلام- فهو قد تشرب الرسالة فاصبحت كل خلية في كيانه ناطقة بالاسلام والرسالة.

فقد وقف الامام أمام ربه، وليسمعه العالم باسره ليعلن أمام الملأ عن أهدافه في الصراع، اللهم إنك تعلم انه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك، ويظهر الاصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطلة من حدودك- اللهم إني أول من أناب وسمع وأجاب لم يسبقني الا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة.

إذاً هناك أهداف حقيقية لصراع علي مع الظالمين وليس الهدف هو الكرسي. لنرد المعالم من دينك.

ونظهر الإصلاح في بلادك.

وتقام المعطلة من حدودك.

فكانت سيرته وسياسته مطابقة لهذه الدعوة الخيرة فهو السباق دائما الى عمل الخير وترك أعمال الشر.

ايها الناس إني والله ما احثكم على طاعة الا وأسبقكم اليها ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها.

وعن زهده يقول هو نفسه ليقتدي به ولاته.

الا وان إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بفرصية الا وإنكم لا تقدرون على ذلك. ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم تبراً ولا ادخرت من غنائمها وفراً.

وكان يحرص الامام(عليه السلام) على تأمين الطعام والرزق للرعية، فلا يستقر له بال عندما يصل مسامعه أنين انسان في اليمن أو الحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع.

قدم اليه عقيل فلما حضر العشاء، فاذا هو خبز وملح فقال عقيل ليس الا ما أرى؟ فقال أو ليس هذا من نعمة الله وله الحمد كثيراً. فقال أعطني ما أقضي به ديني وعجل سراحي حتى أرحل عنك قال فكم دينك يا أبا يزيد؟.

قال: مائة ألف درهم، قال: لا والله ما هي عندي ولا أملكها، ولكن أصبر حتى يخرج عطائي فأواسيكه ولو انه لابد للعيال من شيء لأعطيتك كله(13).

وكان حريصاً على أموال الناس أميناً عليها.

جاءه عمرو بن العاص في احدى الليالي وهو في بيت المال فأطفأ السراج وجلس في ضوء القمر ولم يستحل لنفسه أن يجلس في الضوء بغيراستحقاق(14).

قدم اليه قنبرجامات من ذهب وفضة وهو في الرحبة، وقال: انك لا تترك شيئاً الا قسمته، فخبأت لك هذا فسل سيفه وقال: ويحك لقد أحببت أن تدخل بيتي ناراً(15).

فكان مبدأه الغاية لا تبرر الواسطة. وكان علي من بين القلائل من قادة التاريخ من احترم هذا المبدأ.

جاءته طائفة من أصحابه عند تفرق الناس عنه وفرار كثيرمنهم الى معاوية طلباً لما في يديه من الدنيا، فقالوا يا أمير المؤمنين: أعط هذه الأموال وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ومن نخاف عيه من الناس فراره الى معاوية فقال لهم أمير المؤمنين أتأمروني أن أطلب النصر بالجور(16).

أما عن تواضعه وزهده ومساواته بالعبيد والفقراء.

عن أبي جعفر انه قال:

والله ان كان في ليأكل أكل العبد ويجلس جلسة العبد وإن كان ليشتري القميصين السنبلانيين فيخير غلامه خيرهما ثم يلبس الآخر، فاذا جاز أصابعه قطعه وإذا جاز كعبه حذفه، ولقد ولي خمس سنين، ما وضع آجرة على آجرة ولا لبنة على لبنة ولا أقطع قطيعاً ولا أورث بيضاء ولا حمراء وإن كان ليطعم الناس خبز البر واللحم وينصرف الى منزله ويأكل خبز الشعير والزيت والخل وما ورد عليه أمران كلاهما لله رضى الا أخذ بأشدهما على بدنه، ولقد أعتق الف مملوك من كديده تربت فيه يداه وعرف فيه وجهه وما أطاق عمله أحد من الناس وان كان ليصلي في اليوم والليلة ألف ركعة وان كان أقرب الناس شبهاً به علي بن الحسين (عليه السلام)، وما أطاق عمله أحد من الناس بعده(17).

وكان ينظر الى الجميع نظرة مساوية بل كان يفضل الآخرين على ابنائه عندما يكون الحق لهم كسى علي (عليه السلام) الناس بالكوفة وكان في الكسوة برنس خز فساله إياه الحسن فأبى أن يعطيه اياه واسهم عليه بين المسلمين فصار لفتى من همدان فانقلب به الهمداني فقيل له إن حسنا كان ساله إياه فارسل به الهمداني الى الحسن (عليه السلام) فقبله(18).

أما سيرته الذاتية فكانت بسيطة للغاية.

ففي البيت دولته الصغيرة كان نموذجاً رائعاً للزوج والأب، كان يستقي، ويحطب ويكنس وكانت فاطمة عليها السلام تطحن وتعجن وتخبز وترقع(19).

أما عن طعامه فروى النضر بن المنصور عقبة بن علقمة قال: دخلت على علي (عليه السلام) فاذا بين يديه لبن حامض آذاني حموضته، وكسر يابسة فقلت: يا أمير المؤمنين أتأكل مثل هذا؟ فقال لي: يا أبا الجنوب كان رسول الله يأكل أيبس من هذا ويلبس أخشن من هذا وأشار الى ثيابه. فإن أنا لم آخذ به خفت أن لا ألحق به(20).

أما عن ملبسه يقول أبو مطر، قال كنت بالكوفة فمر في فقال: هذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه قال: فتبعته فوقف على خياط فاشترى منه قميصاً بثلاثة دراهم فلبسه(21).

وكان يقف بين أهل الكوفة ليقول لهم (برواية بكر بن عيسى).

يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فلان، فأنا خائن، وكانت نفقته تأتيه من غلته بالمدينة بينبع وكان يطعم الناس الخبز واللحم ويأكل هو الثريد بالزيت(22).

وكان طريق الحق مكشوفاً واضحاً أمامه، وطريق الباطل مكشوفاً واضحاً فيقذف بنفسه في طريق الحق ولا يبالي بالتبعات لأنه مطمئن من الدرب الذي سلكه فلا يستوحش من طريق الحق عندما يقل السالكين فيه.

عن فضيل بن الجعد قال: آكد الأسباب كان في تقاعد العرب عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أمر المال فانه لم يفضل شريفاً على مشروف ولا عربياً على عجمي ولا يصانع الرؤساء وامراء القبائل كما يصنع الملوك، ولا يستميل أحداً الى نفسه، وكان معاوية بخلاف ذلك فترك الناس علياً والتحق بمعاوية(23).

وإذا ما صمم حاكم من الحكام ان لايبالي بالناس إن كانوا معه أم لم يكونوا طالما كان هو على الحق، فان في هذا القرار كل الخير.

اما إذا قرر الحاكم العكس. قرر أن يشتري ولاءات الناس بالمال. فإن هذا القرار سيكون بداية الانهيار والتراجع في الدولة فلنتابع آثار هذه الفضيلة.

 

الهوامش:

1- ابن قتيبة الإمامة والسياسة ص 82.

2- ابن قتيبة الإمامة والسياسة ص 114.

3- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 289.

4- أنظر رسالة معاوية الى قيس في الكامل في التاريخ 3/ 270.

5- ابن قتيبة الإمامة والسياسة ص 108.

6- الطبري 5/ 48.

7- الطبري 5/ 42 الأمامة والسياسة ص 106.

8- الطبري 4/ 572 الكامل في التاريخ 3/ 284.

9- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 472.

10- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 473.

11- الطبري 5/106.

12- الطوسي/ رجال الكشي ص 71- 72 ومحمد بن ابي خذيفة كان أمير المؤمنين(عليه السلام) يقول: ان المحامدة تأبى أن يعصى الله عزوجل- قلت ومن المحامدة؟ قال محمد بن جعفر، محمد بن ابي بكر، ومحمد بن ابي حذيفة، ومحمد بن أمير المؤمنين(عليه السلام) أما محمد بن ابي حذيفة هو ابن عتبة بن ربيعة وهو ابن خال معاوية: تربى في أحضان الخليفة عثمان بعد شهادة والده أبي حذيفة اتصل به الإمام علي(عليه السلام) عبرمحمد بن ايى بكر فانتظم في صفوف أصحابه أرسله الى مصر برفقة محمد بن ابي بكر عارض حكم عثمان وألب عليه في مصر كان له دور مشرف في نصرة الإمام علي (عليه السلام).

13- المجلسي بحار الأنوار 41/ 113.

14- المجلسي بحار الأنوار 41/ 116.

15- المجلسي بحار الأنوار 41/ 117.

16- امالي المفيد104- أمالي الطوسي 121 بحار الأنوار41/ 128.

17- امالي الصدوق 169.

18- المجلسي بحار الأنوار 41/104.

19- المجلسي بحار الأنوار 41/131.

20- المجلسي بحار الأنوار 41/131.

21- المجلسي بحار الأنوار 41/131.

22- المجلسي بحار الأنوار 41/134.

23- المجلسي بحار الأنوار 41/134.