mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 04.doc

بسم الله الرحمن الرحيم  

في لقاءاتنا السابقة تحدثنا عن التربية وعلم النفس في مفهوميهما الإسلامي والعلماني، وقارنا بين المفهومين وانتهينا إلى المفهوم الإسلامي الذي نعنى به بطبيعة الحال، وقد انتهينا من ذلك كله إلى التعريف إلى أن التربية تعني إنماء القوى المدعى للإنسان والتصاعد بها إلى النحو المطلوب، وانتهينا إلى أن التصور الإسلامي للتربية يتمثّل في محاولة تدريب الشخصية على تعلّم السلوك العبادي وبعد ذلك تحدثنا عن الطبيعة البشرية من حيث تركيبتها حيث قلنا أن الحديث عن الطبيعة البشرية وتركيبتها يجسّد ضرورة لا مناص منها لصلة التربية بهذا التركيب البشري، وانتهينا من كل ذلك إلى التصورين الإسلامي والأرضي أيضاً، وكانت النتيجة التي وصلنا إليها في هذا الميدان هو أن التصور الإسلامي يختلف تماماً عن التصور الأرضي في بعض خطوطه بطبيعة الحال من حيث النظر إلى التركيبة البشرية وصلة التربية بتلك التركيبة، والآن بعد أن انتهينا من الحديث عن ذلك كله نتقدم ونتحدث عن أول عنصر من العناصر التربوية والنفسية المهمة، ألا وهو العنصر المرتبط بكل من ظاهرتي الوراثة والبيئة، وهذا ما ندرجه ضمن العنوان الآتي (التربية وصلتها بعنصري الوراثة والبيئة)، إذاً لنتحدث عن هذين العنصرين بشيء من التفصيل.

إن أول سؤال يطرح في هذا الميدان هو لماذا نعنى بعنصري الوراثة والبيئة من حيث صلتهما بالعملية التربوية والنفسية؟ نعتقد أن الإجابة على هذا التساؤل تظل من الوضوح بمكان كبير بعد أن عرف الطالب عبر محاضراتنا السابقة بأن طبيعة التركيبة البشرية تفرض على الباحث أو المعني بالتربية وعلم النفس أن يعنى بعنصري الوراثة والبيئة لأن كلاً من هذين العنصرين يظل على صلة بطبيعة هذه التركيبة البشرية، فالتركيبة البشرية لا تنحصر في عملية نفسية أو في عملية فكرية، وإنما تتجاوز ذلك إلى مجموعة السمات التي تتبع الشخصية وهي سمات جسدية وعقلية ونفسية... الخ.

لذلك فإن معنى التربية يعني بطبيعة الحال أن يستثمر العنصر الوراثي الذي يتصل بالسمة الجسدية للإنسان أو بالسمة العقلية أو بالسمة النفسية بحيث يتعامل تربوياً مع طبيعة تلكم السمة الوراثية، والأمر نفسه بالنسبة إلى العنصر البيئي، فالبيئة أو عملية التنشئة التي يتوفر المربي عليها تظل من الأهمية بمكان كبير بعد أن أوضحنا في أول محاضرة تتصل بالتربية وعلم النفس، تحدثنا فيها عن الدراسة بنمطيها الحيوي والنفسي، أي الدوافع التي نعرفها فطرياً والدوافع التي نكتسبها من خلال البيئة كالدافع إلى التقدير الاجتماعي أو الانتماء الاجتماعي أو التملّك أو السيطرة أو أو.. الخ. حيث قلنا أن البيئة وليست الوراثة هي التي تحدد هذا الجانب من السلوك، على أية حال سنحدثكم عن عنصري الوراثة والبيئة وصلتهما بالتربية.

 

الوراثة والتربية

وهذا ما نبدأ به الآن فنقول:

الحديث عن عنصري الوراثة والبيئة يظل واحداً من الموضوعات التي طالما يتناولها علماء التربية وعلماء النفس وعلماء الاجتماع وسواهم ممن يعنون بالسلوك البشري، وارتباط هذا السلوك بكلٍّ من العنصرين المشار إليهما، والملاحظ أن الأبحاث الأرضية تتفاوت فيما بينها بالنسبة إلى ملاحظة هذين العنصرين، إن الاتجاهات الأرضية كما لاحظتم في سياقات تقدم الحديث عنها تظلّ دائماً متفاوتة في وجهات النظر وليس ثمة حقيقة مطلقة في البحث العلماني البتة بقدر ما نجد أن هذه البحوث تظلّ نسبية يتفاوت كلّ باحثٍ عن الآخر في تحديده لهذه الظاهرة أو تلك، والسبب كما كرّرنا ونكرّر ذلك الآن هو أن العقل البشرية بطبيعته قاصر عن إدراك الحقائق، ولذلك فإن المعيار الذي ينبغي أن نتكل إليه دائماً لأنه المعيار الإسلامي لأنه معيار صادر عن الله سبحانه وتعالى.

على أية حال إن الاتجاهات الأرضية تتفاوت في النظر إلى كلٍّ من هذين العنصرين، فثمّة اتجاه يركّز على عنصر الوراثة، ويرى أن الشخصية ترث مجموعة من الأصول الحيوية والنفسية والعقلية، وكلّ هذه الأصول أو غالبية هذه الأصول تظلّ مرتبطة بإرث فطري ترثه الشخصية حيث يكون تأثير البيئة في تعديل هذا السلوك منعدماً إلى حدٍّ كبير، وهناك من يقول العكس تماماً حيث يرى هذا الاتجاه أن الفاعلية دائماً تكون للبيئة وأن العنصر الوراثي يتحدد في نقاط محدودة تتصل بالسمات الجسمية أكثر مما تتصل بالسمات العقلية والنفسية والوجدانية وو.. الخ.

وهناك اتجاه ثالث يزاوج بين عنصري الوراثة والبيئة ويرى أن لكلٍّ منهما الأثر الملحوظ في تحديد السلوك، ولعلّ هذا الاتجاه الثالث هو الاتجاه الصائب حيث يتوافق مع الاتجاه الإسلامي الذاهب إلى أن لكل لهذين العنصرين الأثر الفاعل في تحديد سلوك الشخصية ولكن وفق تفصيلات قد نتحدث عنها في محاضرتنا الحالية.

طبيعياً قبل أن نحدثكم عن هذه الجوانب ينبغي أن نشير إلى أن سمات الشخصية أيضاً يتفاوت الباحثون في تحديد علاقة العنصر الوراثي أو البيئي بهذه السمة أو تلك، أو بكلمة أخرى إن للشخصية سمات متنوّعة منها السمات العقلية، ومنها السمات الجسمية، ومنها السمات المزاجية، ومنها السمات النفسية، ومنها السمات الاجتماعية .. الخ. وعلماء التربية والنفس والاجتماع يتفاوتون في تحديد نصيب كل سمة من هذه السمات من حيث علاقة ذلك بعنصري الوراثة أو البيئة، وبعامة يمكن أن نقول أن البحوث الأرضية يتجه بعضها إلى القول بوراثة الأصول النفسية ويتجه آخر إلى إنكارها ويتجه ثالث إلى التزاوج بينهما. مع ملاحظة أن بعض هذه السمات وخاصة السمة العقلية يكاد يتم اليقين بوراثتها إلا لدى نفرٍ قليل من علماء التربية والنفس والاجتماع، يلي ذلك السمة المتصلة بمزاج الشخصية، ثم السمة المتصلة بالأصول الأخلاقية وهكذا..

لذلك يمكن القول بأن الاصطراع بين الوراثة والمحيط يأخذ مستويات متنوعة لدى علماء التربية والنفس والاجتماع، ونحاول الآن الوقوف عند تلك المستويات ونبدأها أولاً بالحديث عن السمات العقلية.

إذاً نواجه الآن عنواناً جديداً يحمل اسم (السمات العقلية وصلة هذه السمات بكلٍّ من الوراثة أو البيئة)، والمقصود بالسمات العقلية هو المهارات العقلية المتمثلة في الجهاز الإدراكي للشخصية كالتفكير والخيال والنسيان والذاكرة والذكاء وو.. الخ. إن هذه المهارات العقلية تظلّ لدى غالبية علماء النفس والتربية والاجتماع موضع تسليم إلى حدٍّ ما من حيث صلتها بالعنصر الوراثي وخضوع ذلك للبعد المذكور، ولا نعتقد أننا بحاجة إلى أن نتوكأ على الدراسات والاختبارات والتجارب الأرضية المختلفة في هذا الميدان، بيد أن بعض الاتجاهات الأرضية تنفي هذا الطابع بنحوٍ بالغ المدى، أي ثمّة اتجاه يقف على التضاد تماماً من غالبية الاتجاهات العلمانية التي تقول بوراثة المهارات العقلية، هذا الاتجاه الذي يضاد الاتجاهات الأرضية الغالبة يمكن أن نطلق عليه مصطلح (الاتجاه الشرطي في علم النفس والتربية) أي مدرسة بافلوف والاتجاه النفسي بعامة في الاتحاد السوفيتي والمنظومة المرتبطة به.

وقد قدم رواد هذا الاتجاه دراسات مختلفة عن المهارات العقلية وأكدوا بأنها مهارات مكتسبة بيئياً تخضع لأنظمة الفعل المنعكس الشرطي في هذا الميدان، ويجدر بالطالب أن يقف ولو عابراً على خطوط هذا الاتجاه المسمّى بالاتجاه الشرطي، ونعتقد أن التبسّط في طرح المفاهيم الأساسية لهذا الاتجاه سوف يخدمنا في تحديد هذا الجانب.

ومن الأمثلة التي يقدمها عادةً علماء النفس والتربية في هذا المجال هو المثال القائل بأنه إذا مس يد أحدنا تيار كهربائي خفيف فإننا سنستجيب لهذا المنبه بسحب يدنا، وهذه الاستجابة (سحب اليد) من خلال مواجهة المحرك وهو (التيار الكهربائي) هذه الاستجابة هي فعل منعكس فطري في لغة هذا الاتجاه. أما إذا صاحب العملة المذكورة دق جرسٍ مثلاً فإننا سنسحب يدنا أيضاً في حالة تكرار المصاحبة بطبيعة الحال نظراً لوجود رابطة بين الجرس والتيار الكهربائي، وهذه الاستجابة هي فعل منعكس شرطي، أي أنه عملية نفسية اشرط من خلالها ما هو حسي وهو التيار الكهربائي بما هو نفسي ونعني به الجرس. ويسمّى هذا الإشراط بالنظام الإشاري الأول بصفة أن الجرس وهو خصيصة نفسية أصبح إشارة دالّة على خصيصة حسية.

وحينما نستخدم في مرحلة ثالثة الإشارة اللفظية أي عندما ننطق بكلمة جرس أو كتابة هذه الكلمة فإن الاستجابة المتمثلة في سحب اليد كما هو في الحالات السابقة، هذه الاستجابة ستتم بدورها بالمستوى ذاته أي ما دامت الكلمة المنطوقة أو المكتوب تشكل رمزاً لصوت الجرس، ويسمى هذا الاشتراط بالنظام الإشاري الثاني، بصفة أنه مشير إلى النظام الأول.

المهم في ضوء هذا التبسيط للمفهوم الأساسي للأفعال المنعكسة الشرطية يمكننا أن نتقدم لمعرفة التفسير الذي يقدمه هذا الاتجاه في زعمه أن المهارات العقلية تكتسب وليست وراثية، ففيما يتصل بالحس الوقائي على سبيل المثال عند الشخصية يزعم هذا الاتجاه أنه درّب الأطفال الذين فقدوا الحس الإيقاعي أو الذين ضئل لديهم هذا الحس درّبوا في عدة دورات أمكن بعدها أن يحصلوا على نتائج إيجابية في هذا الصدد. ويقول هؤلاء أن التجريب تعارض الحقيقة القائلة بأن الحس الإيقاعي إنما ينشأ من ارتباطات صوتية تمثل استجابات لمنبهات مركبة تكون فيها طبقة الصوت هي المنبه الأقوى.. الخ. نقول إن هذا الاتجاه يمكن أن يفسر هذه الظاهرة بأنها ترتكز أولاً وأخيراً على الفعل المنعكس الشرطي وهو طابع نفسي بيئي صرف.

لكن من الممكن أن نقول إن هذا الاتجاه قد يكون سائداً عندما يحدّد قيمة البيئة بالنسبة إلى الحس الإيقاعي، ولكن هذا لا يضاد القيمة الوراثية للظاهرة ذاتها، فثمّة تجارب قامت بها اتجاهات أخرى وقد واكبها الصواب أيضاً في تحديدها للطابع الوراثي وانسحاب هذا الطابع على الظاهر. حيث فشلت كل الذوات التجريبية التي حاولت أن تجعل من هؤلاء عديمي الحس للحس الإيقاعي أو الذين ضئلت لديهم هذا الحس لم تستطع هذه الدورات التجريبية أن تصنع شيئاً في هذا الصدد، ومنها ما قدمت على سبيل المثال دراسات انتهت إلى تماثل الحس الإيقاعي لدى التوائم من المتماثلين حينما أخضعوهم لبيئات مختلفة كل الاختلاف، وكانت النتيجة أن يتماثلوا في هذا الصدد مع أن البيئة تظل مختلف من واحد لآخر، ولكنهم في النتيجة كانوا يتماثلون في السمات الذهنية، بل تماثلوا أيضاً في السمات النفسية حيث كان الطبع الحاد والركود النفسي والقلق من السمات المتماثلة لدى التوائم بارزاً لديهم بالرغم من اختلاف البيئة أو المحيط.

إذن التجارب التي توفر الاتجاه المادي لديها قد جوبهت بتجارب مماثلة لدى عديمي الحس بالحس الإيقاعي وانتهت إلى نتيجة مضادة سجلت لصالح الوراثة.

إذن هاتان التجربة التي تضاد كل واحدة منهما الأخرى ماذا تعني؟!! تعني أن التجربة التي قدمها صاحب الاتجاه الشرطي وهي بالقياس إلى التجارب الأخرى تظل تجربة في الواقع مرتكنة إلى لعبٍ بالحقائق، كما سنوضح ذلك بعد قليل، التوضيح الذي نريد أن نقدمه في هذا الصدد هو أن ثمة حقيقة لا سبيل إلى إنكارها وهي أن المنبهات الصوتية لها إسهامها في تعديل الحس الإيقاعي أو تضخيمه مثلاً، ولكن هل تستطيع المنبهات الصوتية أن تتجاوز مسألة تعديل الحس أو تفخيمه إلى خلقه أساساً أو إيصاله إلى الدرجة التي يفرضها البعد الوراثي؟ كلا.. والغريب أن هذا الاتجاه يحاول أن يعمم الظاهرة حتى في مجالات ما يسمى بـ(الترابط الذاتي) أو (الإيحاء) لكي يتبادلا التأثير مع الأصول العضوية ويعكسان أيضاً أثرهما الواضح في هذا الميدان، من ذلك مثلاً ما قدمه هؤلاء بالنسبة إلى تجربة الماء الساخن في درجته الحرارية البالغة (110) حيث أشرط برميل الجبس وكانت الاستجابة حيال ذلك تتمثل في تمدد الأوعية. وعندما استبدل الماء بدرجة أعلى وهي (150) حيث تستجيب عادة يتقلص بدلاً أن يتمدد، ولكن النتيجة جاءت محكومة بنفس الاستجابة أي نفس الماء البالغ (110) أي كانت الاستجابة من خلال إشراط الجبس هي التمدد نفسه، ولكن ماذا يعني هذا؟ يعني أن التجربة المذكورة تتصل في الواقع بظاهرة الإيحاء أو الترابط الشرطي، أي إن المجرّب قد موّه عليه بأن الدرجة البالغة (150) هي درجة (110) فكانت الاستجابة له مماثلة للاستجابة السابقة أي ثمة إيحاء نفسي ترك أثره على هذا المجرّد.

ويمكننا أن نقدم أمثلة واضحة في هذا الميدان تتصل بطبيعة الظاهرة التي يراد تمريرها على الشخصية المريضة، فمثلاً إن تعاطي المريض بعض العقاقير المنوّمة لأيام معدودة واستبدال هذه العقاقير بدون وعي المريض بعقاقير محايدة يشكل في الواقع أحد نماذج أشكال الطب العقلي لدى هذا الاتجاه، ومن البيّن أن المريض عندما يتناول هذه الحبوب سوف يتعزّز نومه بنفس الحالة التي كان يتعزّز بها بالنسبة إلى الحبوب المنوّمة فعلاً، أي أن الحبوب المحايدة تترك نفس الأثر التي تتركه الحبوب المنوّمة وذلك لتأثير الإيحاء كما هو واضح.

وهكذا يمكن أن نستشهد بمثال آخر هو أن عملية النوم - مثلاً - لا تتميز عن عملية التمدّد أو التقلّص في الأوعية من حيث كونها أفعالاً منعكسة فطرية، ومجرّد خضوعها للمنعكسات الشرطية لا ينفي عنها سمة الثبات، إنها تماماً مثل سائر الاستجابات العضوية الصرف حيث يقرر الاتجاه الشرطي بوراثتها وهذا من نحو الأفعال الخاصة بالطعام، والأفعال الخاصة بالنوم والأفعال الخاصة بالجنس، حيث تشكل هذه استجابة فطرية صرفة، حيث أن التوتر العضلي للمعدة لا يزاح إلا بالطعام، ولكننا نستطيع في الواقع أن نزيح التوتر العضلي للمعدة من خلال ارتباطات شرطية غائبة عن وعي الجائع، على نحو الغياب الذي غلف المجرب عليه في الماء الساخن، ومن هنا فإن التجربة المذكورة - الماء الساخن - تسقط أساساً في حالة أن المجرد عليه وعى أن الماء قد استبدل بدرجة (150) وهكذا سيستجيب حتماً هذا الشخص بتقلص أوعيته بدلاً من التمدد، إذاً استثمار تجربة إيحائية أو شرطية على هذا النحو وتمرير هذه التجربة وانسحابها على السلوك البشري وجعلها قاعدة عامة لكي ننفي البعد الفطري للمهارات العقلية يظلّ هذا الأمر في الواقع أمراً قائماً على اللعب بالحقائق كما قلنا.

على أية حال إن الاتجاه الأرضي النافي للوراثة أو الاتجاه المضاد النافي للبيئة يظلان من حيث تجارب الأرض ذاتها منعزلين إذا قيسا بالاتجاه الثالث الذي قلنا أنه يميل غالبية البحث المعاصر إليه، أي نعني به الاتجاه الذاهب إلى تآزركل من البيئة والوراثة، والمهم الآن بعد أن لاحظنا بشكلٍ عام الاتجاهات الأرضية أو العلمانية في هذا الميدان، نتجه إلى التصوّر الإسلام للظاهرة وهذا هو هدفنا بطبيعة الحال وحينئذٍ سوف نجد أن التصور الإسلامي للظاهرة سوف يحسم الموقف بوضوح، حيث يؤكد التصور الإسلامي بأن المهارات العقلية بشكل عام تخضع لنمط ثابت من الوراثة، ولكنها أيضاً تخضع لوراثة طارئة ولكن في نطاق خاص مضافاً إلى ذلك أن البيئتين لها إسهامها في هذا الصدد أيضاً، ولكي تتضح معالم هذا التصور بشكل بيّن نتقدم إلى الطالب بتقريرٍ عيادي للإمام الصادق (عليه السلام) يتحدث فيه عن المهارة العقلية في جملة مستوياتها عبر المقابلة التي أجراها وإياه أحد الرواة حيث جاء في الرواية على لسان الراوي على النحو الآتي:

يقول الراوي: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): الرجل آتيه أكلّمه ببعض كلامي فيعرفه كله، ومنهم من آتيه فأكلّمه بالكلام فيستوفي كلامي كله ثم يردّه علي كما كلّمته، ومنهم من آتيه فأكلّمه فيقول أعد علي. قال الإمام (عليه السلام): أوما تدري لمَ هذا؟ قلت: لا. قال: الذي تكلمه ببعض كلامك فيعرف كل ذلك فذلك من عجنت نطفته بعقله. وأما الذي تكلمه فيستوفي كلامك ثم يجيبك على كلامك فذاك الذي ركّب عقله في بطن أمه. وأما الذي تكلّمه بالكلام فيقول: أعد علي، فذاك الذي ركّب عقله فيه بعدما كبر. انتهت المقابلة التي أجراها أحد الرواة مع الإمام الصادق (عليه السلام).

والحق إن هذا النص العيادي يفصح عن حقائق مهمة بالنسبة إلى كلٍّ من الوراثة والبيئة من حيث المهارة العقلية بطبيعة الحال، ولحسن الحظ أن غالبية الاتجاهات الأرضية قد انتهت لهذه الحقائق التي صيغت في الحوار أو المقابلة التي ذكرناها قبل قليل، ولكن المهم أننا نقف عند هذا النص لنجد جملة تحديدات نتحدث عنها على النحو الآتي:

أولاً: يشير هذا النص إلى وجود بعدٍ فطري عامٍ للنوع الإنساني كلّه، حيث يتم من خلال ما يسمّيه العلماء بالمورثات النقية.

ثانياً: يشير إلى وجود بعد قبل ولادي فيما يسمّي ببيئة الرحم.

ثالثاً: يشير النص إلى وجود بعد بيئي أي بعد ولادي وهو بيئة الأرض.

وحينما نقف مع التحديد الأول أي الموروثات النقية نخلص إلى حقيقة مؤداها هي: إن المهارة العقلية في نقاءها التام تطبع البشر جميعاً على النحو الذي تطبع به سائر الأصول العضوية والحيوية لهم، أي كما أن الإنسان يرث سمات جسمية متماثلة، كذلك يرث سمات عقلية متماثلة، وبكلمات أخرى إن النوع الإنساني كله يرث على حدٍّ سواء مهارات عقلية لا يشوبها خلل أو تخلّف أو تفاوت بين درجاتها وهو ما عبّر عنه النص بقوله (عليه السلام): (فذاك من عجنت نطفته بعقله) متمثلاً في ذلك الرجل الذي يفهم الكلام كله بمجرّد أن يستمع لبعضه.

ولكن متى يحصل الخلل في المهارة العقلية، أو متى يحصل التفاوت في درجاتها؟!!

إن الخلل أو التفاوت إنما يجيء في الواقع نتيجة لوراثة طارئة متمثلة في بيئة الرحم، أي أن بيئة الرحم تتدخل في الوراثة النقية التي يرثها النوع الإنساني كله، وحينئذٍ تحدد التفاوت في درجة المهارة العقلية التي تتبع هذا الشخص أو ذاك، ونحن نعرف جميعاً أن التغيرات المصاحبة لعملية الحمل تعكس أثرها على الجنين، فالصدمة مثلاً أو ارتفاع درجة الحرارة أو سوء التغذية وسوى ذلك تترك آثارها الواضحة على دماغ الجنين فينعكس ذلك في ضعفٍ أو خللٍ عقليين.

لذلك نجد المشرع الإسلامي - كما سنرى ذلك لاحقاً - يعنى ببيئة الرحم ويقدم لنا توصيات شتى في هذا الميدان بغية تحسين النسل، وتنقيته من كل الشوائب، المهم أن المشرّع الإسلامي قد أشار إلى بيئة الرحم أو ما يمكن تسمية ذلك بمكوّنات الوراثة الطارئة من أنها تتدخل في تكليف المهارات العقلية، ونقلها من صعيد الوراثة النقية الثابتة، إلى الوراثة الطارئة المشوبة ببيئة الرحم، وهذا ما عناه قول الإمام الصادق (عليه السلام): (فذاك الذي ركّب عقله في بطن أمه) متمثلاً في ذلك الرجل الذي يستوفي الكلام لا بعض الكلام ثم يرده كما هو، أي هذا الشخص يتمتع بمهارة عقلية متوسطة بالقياس بالمهارة الفائقة التي يتمتع بها صاحب الوراثة النقية.

هنا نجد أنفسنا أمام ملاحظة جديرة بالاعتبار نرجو الانتباه إليها، ألا وهي أن التركيبة العقلية للجنين في بطن أمه لا تعني بيئة الرحم فحسب بل من المضمون جداً أن الإمام الصادق (عليه السلام) كان يعني بذلك نمطين من الوراثة الطارئة، أحد هذين النمطين ما حدثناكم عنه الآن، وأما الآخر فهو وراثة النطفة، فخلال لحظات الانعقاد بصفة أن الوراثة النقية من الممكن أن يطرأ عليها التغير بسبب بيئي صرف وليس بسبب الرحم، فينسحب هذا بدوره على الجملة العصبية للشخصية وانسحابها على موراثتها أي الجينات، ثم انتقال الجينات إلى النطفة المنعقدة، ولعل أبسط مثال لذلك ما نعرفه جميعاً هو تناول الكحول، فتناول الكحول يسبب تلفاً في خلايا المخ، ويصبح هذا الخلل جزءاً من النظام العصبي للشخصية فينسحب على جيناتها التي تستقر نطفة في رحم الأم.

على أية حال يعنينا مما تقدم أن نشير إلى أن الإمام الصادق (عليه السلام) ألمح إلى الوراثة النقية التي تتبع النوع الإنسان كلّه، ثم ألمح في التحديد الثاني إلى الوراثة الطارئة أي ما قبل انعقاد النطفة وخلال انعقادها، ونعني بذلك بيئة الرحم، وتدخل ذلك عاملاً مهماً في تغيير السمات النفسية من الوراثة... أي يعني أن الاتجاهات الأرضية لا تكاد تختلف عن التصور الإسلامي فيما يتصل بالوراثة الطارئة أو الوراثة بالمحيط العامة، كما سنشير إلى ذلك في لحظات قادمة.

وأما التحليل الثالث للإمام (عليه السلام) فيتصل في الواقع بالمهارة العقلية التي تحددها البيئة، أي بيئة ما بعد الولادة فصاعداً، حيث أن هذه البيئة لها إسهامها في تعديل أو تضخيم المهارة العقلية أو العكس. وقد عبّر الإمام (عليه السلام) عن ذلك بقوله: (فذاك الذي ركّب فيه بعدما كبر) متمثلاً في الرجل الذي لا يستوعب كلام السائل، بحيث يطالب بإعادة الكلام وواضح أن هذا النمط من الإدراك يمثل انحطاطاً في الذكاء، أو انحطاطاً ملحوظاً في المهارة العقلية، ولسوف نرى لاحقاً أن الإمام علياً (عليه السلام) نفسه عندما يحدد مراحل النماء العقلي، يثير إلى أثر التجارب البيئية في العملية المذكورة، كما أن المعصومين (عليهم السلام) يشيرون إلى أهمية التعلّم في مراحل معينة من نموّ الشخصية، ويقدمون توصيات متنوّعة لمراحل ما قبل الولادة حيث كل أولئك عندما نضعه في الاعتبار يمكننا بعد ذلك أن ندرك دلالة قول الإمام الصادق (عليه السلام) عن تركيبة العقل وموقع ذلك من عنصر البيئة وخطورة ذلك أيضاً في ميدان المهارة العقلية.

مضافاً إلى ذلك فإن تجارب البحث كما قلنا عن التعلم المبكر وخطورته في المبدأ المذكور يظل أمراً لا نجد أننا بحاجة إلى التعقيب عليه.

أخيراً نقول أن الإمام الصادق (عليه السلام) في وثيقته العيادية المتقدمة قد حسم الموقف بوضوح في تحديده لكلٍّ من عنصري الوراثة والبيئة ومستويات كلٍّ منهما في ضوء المحددات العامة والخاصة للظاهرة، وقبال هذا التحديد تنتفي الأهمية لأي بحث علماني يتردّد أو يجنح لاتجاه لا يضع تلكم المحددات العامة والخاصة بعين الاعتبار. ولكن كما كررنا لحسن الحظ أن غالبية البحوث المعاصرة قد انتهت إلى ما يقرّره المشرع الإسلامي في هذا الميدان، بهذا ينتهي الحديث حول المهارة العقلية وصلة هذه المهارة بكل من عنصري الوراثة والبيئة، وبطبيعة الحال فإن ملاحظة هذه الجوانب من الزاوية التربوية سوف تعكس أثرها على تربية الشخصية في مختلف مراحل نموّها وفي مقدّمة ذلك المراحل المرتبطة ببيئة الرحم وبيئة الانعقاد قبل ذلك، والبيئة الطبيعية ما بعد الولادة، كما سنرى انسحاب ذلك على الوثائق أو الملاحظات العيادية التي يقدّمها المعصومون (عليهم السلام) في هذا الميدان.

والآن بعد أن انتهينا من الحديث عن المهارة العقلية نتيجة إلى الحديث عن المهارة النفسية أو عن السمات النفسية، والحق أن الوثيقة التي قدمها الإمام الصادق (عليه السلام) عن المهارات العقلية وصلتها بالوراثة الثابتة والطارئة، تظل مبدءاً عاماً للسمات النفسية بأكملها أيضاً، كيف ذلك؟

نقول إن البحث العلماني في بعض أشكاله أو غالبيته يحاول أن يصطنع فارقاً بين السمات العقلية والنفسية من حيث شمول الطابع الوراثي للمهارات العقلية وفق نسب مختلفة وضآلة أو انعدام الطابع الوراثي للسمات النفسية، وقد أشرنا إلى ذلك قبل قليل. لكن نقول إذا كان البحث الأرضي يلفه هذا الاصطناع بين ما هو عقلي ونفسي، فإن دراساته وتجاربه عن السمات العقلية وفّرت لديه مثل هذه القناعة، ولكن هذه الحقيقة التي تكاد لا تخلو من الملاحظة السائبة لا يمكن أن تأخذ صفة التعميم، بالطبع ينبغي أن نخضعها أيضاً للشروط الخاصة التي لاحظناها عند حديثنا عن المهارة العقلية بالنسبة للتصور الإسلامي لهذه الظاهرة.

ومن هنا فإن المشرع الإسلامي يخضع الظاهرة النفسية لمحددات عامة وخاصة تأخذ كلاً من الوراثة والمحيط بنظر الاعتبار وفقاً لشروط معينة تتحكم في الظاهرة، ويمكننا أن نلقي مزيداً من الإنارة على هذا الجانب حينما نقول:

إن وجهة النظر الإسلامية عن المحددات العامة والخاصة للسمات النفسية نجدها متمثلة في نمط الوراثة النقية والوراثة الطارئة، وأما الوراثة النقية فتتمثل في وجود ظاهرة استعداد أو قوة، حيث أشرنا في محاضرات سابقة إلى أن الطبيعة البشرية ترث استعداداً لممارسة هذه السمة النفسية أو تلك، حسب محددات البيئة التي تترجم الاستعداد أو القوة إلى فعلٍ يختاره الفرد بمحض إرادته، وليس على نحو الفرض. ولعلّ الاستشهاد بمثالٍ في هذا الصدد يلقي مزيداً من الإنارة حول هذا الموضوع، على سبيل المثال أن الإنسان يرث استعداداً لأن يمارس عملاً عدوانياً أو عملاً مسالماً، والبيئة هي التي سوف تسعفه في أن يحدّد هذه الممارسة أو تلك أي من الممكن أن تتدخّل البيئة فتجعل الاستعداد الموجود بالقوة لدى الشخصية بالنسبة إلى النزعة العدوانية مثلاً، سوف تسعف هذه الشخصية وتترجم تلك القوة إلى فعل عدواني كالاعتداء على الآخرين مثلاً.

والعكس هو الصحيح بطبيعة الحال، إنما نستهدف الإشارة إليه من هذا المثال هو أن ثمة فارق بين الوراثة الثابتة أو النقية التي تحدثنا عن خضوع المهارة العقلية لها، وبين خضوع القوة أو الاستعداد لذلك، فالمهارة العقلية تجسد في الواقع عنصراً إيجابياً هو الذكاء في درجته العليا، أما الاستعداد فهو عنصر محايد يجسده الكائن الآدمي في سلوك لاحق بالشخصية قد يكون إيجابياً أو سلبياً حسب نمط الفعل الذي يختاره بإرداته، ولكن الوراثة النقية تأخذ دلالاته المماثلة لما لاحظناه في المهارات العقلية حينما ننقل الحديث إلى صعيد فلسفي يتمثل في صياغة الطبيعة البشرية وفق التركيبة القائمة على معرفة السماء سلفاً لما ستسلكه الشخصية من سلوك وتكيّف الشخصية وفق المعرفة المشار إليها، المهم أن هذا الكلام لا نتحدث عنه الآن بقدر ما استهدفنا الاشارة إليه عابراً، ومن ثم ما يعنينا الآن هو أن نحدد وجهة النظر الإسلامية حيال السمات النفسية وموقع هذه السمات من الوراثة الثابتة والطارئة.

وهنا نجد أن المشرّع الإسلامي يؤكد من جديد نقاء الأصل النفسي أو نقاء السمة أو المهارة النفسية في النوع الإنساني كله، أي كما يرث مهارة إدراكية مطية خالية من أية شائبة كذلك يرث البشر مهارة أو سمة تتسم بالسلامة وبعدم وجود الخلل أو الاضطراب في الأصول النفسية لسلوكه. ولسوف نحدثكم في المحاضرات اللاحقة إنشاء الله عن المهارة أو السمات أو الأصول النفسية في هذا الميدان، ونكتفي الآن بما قدمناه من الكلام.

نستودعكم الله والسلام عليكم ورمة الله وبركاته..