mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 12.doc

انتهينا في محاضرتنا السابقة من الحديث عن المراحل التربوية وكنا قد بدأنا الحديث عن التربية وعلم النفس من خلال تمهيد أوضحنا فيه الفارق بين علم النفس والتربية، وانتهينا إلى أن كلاً من التربية وعلم النفس يهدف إلى نشاط ونتيجة مماثلة للشخصية ألا وهي إنماء القوى المودعة لدى الشخصية للوصول بها إلى حد الكمال الإنساني، وقلنا إن مصطلح الكمال الإنساني يظل مصطلحاً نسبياً يتفاوت تحديده من ثقافة إلى أخرى، ولكننا انتهينا إلى أن التصور الإسلامي أيضاً له تحديده لهذا الجانب متمثلاً في السلوك العبادي تبعاً لقوله تعالى: (ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) حيث أن هذه الآية الكريمة تشير بوضوح إلى أن هدف الخلائق أساساً هو ممارسة العبادة، وقلنا إن العبادة هي مطلق سلوك الإنسان ولكن وفق المبادئ التي رسمها الله سبحانه وتعالى.

إذاً هدف التربية هو إنماء القوى المودعة لدى الإنسان حتى يصل إلى مرحلة الكمال العبادي، وقد قدمنا تعريفاً تبعاً لها الفهم يتناسب مع مفهوم التربية وقلنا أن التربية هي عملية تنشئة أو عملية تدريب لتعلم السلوك العبادي، هذا فيما يتصل بالتربية، أما فيما يتصل بعلم النفس فقد قلنا أن علم النفس يعنى بنشاط الكائن الإنساني من زاوية خاصة هي الطريقة التي يستجيب بها نحو المحركات التي يواجهها في حياته؛ وقلنا إن الهدف من دراسة هذه الاستجابة هي تعديلها بحيث تتناسب والسلوك السوي الذي يستهدفه علم النفس أساساً، وقلنا أيضاً المقصود بالسلوك السوي هو السلوك الصائب الصادر عن الشخصية بنحوٍ صحي خالٍ من أية اضطرابات أو انحرافات نفسية، وبكلمة أخرى يهدف علم النفس إلى تعديل السلوك البشري بنحوٍ يتسم بالسلامة النفسية والخلوّ من الأمراض النفسية وما إلى ذلك..

وأما إسلامياً فقد قلنا أن علم النفس الإسلامي يهدف إلى نفس النتيجة المشار إليها ولكن بإضافة شيء جديد ألا وهو المبادئ الإسلامية التي ينبغي أن تلتزم الشخصية بها حتى تستكمل سويتها وإلا فإن الشخصية السوية في التصور الأرضي إذا كانت غير ملتزمة إسلامياً فإنها تفقد هذا الطابع حسب التصور الإسلامي.

كل هذا حدثناكم عنه ولكن بنحوٍ إجمالي، أما الآن فنريد أن نحدثكم عن هذه الجوانب بشكل تفصيلي، أي النظر إلى السلوك البشري من خلال زاوية التصور الإسلامي وما يهدف إليه هذا التصور من نتائج ترتبط بالسلوك.

من هنا تحدثنا أولاً عن التركيبة البشرية حتى نستبين من خلال ذلك الطرائق التربوية التي ينبغي أن تسلك بما يتناسب وهذه التركيبة البشرية حتى نصل من ذلك إلى السلوك العبادي المطلوب، ثم تحدثنا عن مراحل التربية وبدأنا الحديث عن المراحل التمهيدية المتمثلة في الانتقاء الزوجي ومرحلة انعقاد النطفة ومرحلة الحمل ومرحلة النفاس ومرحلة الرضاعة.. وبعد ذلك حدثناكم عن المراحل الرئيسة متمثلة في مرحلة الطفولة الأولى والثانية وفي مرحلة الرشد وبخاصة المرحلة الابتدائية منها وهي المراهقة إلى آخر حياة الإنسان..

أما الآن فنتابع حديثنا عن هذه الجوانب ولكن نبدأ فنحدثكم أولاً عن الخطوط العامة المطلوبة في السلوك حتى تستطيع العمليات التربوية أن تسلك هذه الخطوط بنحوٍ تصل من خلالها إلى تحقيق الهدف الأساس ألا وهو تعلّم السلوك العبادي المطلوب أو إلى هدف تعلم السلوك السوي المطلوب، حيث أن تعلم السلوك السوي كما قلنا يهدف إليه كل من علم النفس والتربية الأرضية، ويهدف إليه أيضاً علم النفس والتربية الإسلامية، إذاً يتعين علينا الآن كتمهيد أن نتحدث عن الخطوط العامة للسلوك المفضي إلى تحقيق ما هو السوي من السلوك نفسياً وعبادياً في الآن ذاته.

نبدأ ذلك فنتحدث عن تصنيف السلوك وهذا ما ندرجه ضمن عنوان جديد هو: (الطرائق التربوية وصلتها بتصنيف السلوك): وفي هذا المجال نقول:

سبق أن قلنا أن علم النفس والتربية يعنيان بسلوك الكائن الآدمي من خلال العملية النفسية الآتية وهي الاستجابة حيال مثير معين، وفي ضوء هذه العملية يتقدم علماء النفس والتربية بتصنيف السلوك إلى أنماط الاستجابة لدى الكائن الآدمي، وتحديد هذه الأنماط ومحاولة تفسيرها ورسم الطرائق التي تتكفّل بالإشباع السليم لحاجات الكائن الإنساني، فمثلاً من حيث الدوافع أو الأصول الحيوية أو البيولوجية بالنسبة إلى الكائن الآدمي نجد أن الكائن المذكور يتحسس على سبيل المثال بالحاجة إلى الجنس، وأمامه طريقان لا ثالث لهما:

1- الإشباع المطلق؛ أي الإشباع غير المقيد بالمبادئ والضوابط المقررة.

2- الإشباع المقيد بالضوابط أو المبادئ.

ومثاله من الدوافع أو الأصول النفسية، أمامنا مثير هو النقود أو الأرض أو أية ممتلكات أخرى ونحن حيال الممتلكات المذكورة نواجه استجابتين لا ثالث لهما:

1- أن نتقدم إلى حيازة هذه الممتلكات.

2- أن نحجم عنها.

إذن ثمة طريقان لا ثالث لهما في إشباع أية حاجة من حاجاتنا سواء أكانت هذه الحاجات بيولوجية كالجنس والطعام، أو نفسية كالتملك والتفوق، وسواء أكنا نحس بالحاجة النفسية للتملك أو لا نحس.. الخ. فنحن في حالة البحث عن الجنس أو الطعام نواجه أسلوبين من الإشباع:

1- الأسلوب الشاذ، وهو الإشباع المطلق حيث لا يأخذ فيه الفرد أية قيم اجتماعية ينتسب إليها.

2- الأسلوب السوي أو الصائب أو الصحيح ونعني به الإشباع المقيد بقيم الفرد والجماعة التي يتنسب إليها.

وكذلك في حالة التملك نواجه أسلوبين: هما الشذوذ والسوية، فلو تملكنا الأرض والنقود بطرق غير مشروعة فإن الإشباع يتسم بكونه شاذاً وفي حالة العكس فإن الإشباع يتخذ سمة السوية، وكذلك في حالة عدم إحساسنا أساساً بالحاجة إلى التملك، فإننا أيضاً نواجه أسلوبين من الاستجابة؛ إحداهما الاستجابة الشاذة والأخرى الاستجابة السوية، فالاستجابة تكون سوية حينما نفلسف الحياة بأنها متاع عابر، وأن حيازة الممتلكات تشكل وسيلة إلى غاية معينة، وأما الاستجابة الشاذة فتتكون من خلال رفضنا أن نتملك على نحوٍ اعتباطي دون الاستناد لأية قيم موضوعية أو حينما نحس بالحاجة فعلاً إلى النقود أو الأرض ثم نرفض تملكهما بدون أي مسوغ يعتد به كما هو حالة البلهاء مثلاً.

إذن في الحالات جميعاً نواجه نمطين من الاستجابة: أحدهما الاستجابة الشاذة والثانية الاستجابة السوية، وحيال هذا التحديد لا نجد نمطاً ثالثاً من العمليات النفسية لدى الكائن الآدمي، وهذا يعني أن علماء النفس والتربية حينما يحاولون تصنيف العمليات النفسية فإنهم يحددون ذلك بالضرورة في نمطين من السلوك:

أولاً: السلوك الشاذ.

ثانياً: السلوك السوي.

وإذا كان الأمر كذلك فإن تحديد ما هو سوي أو شاذ وتقديم الطرائق التربوية الصائبة للوصول إلى ما هو سوي يظل محور الدراسات لدى الباحثين في هذا الميدان.

والآن نتقدم ونتساءل قائلين: ما هو التصور الأرضي للسلوك الشاذ وللسلوك السوي، وبالمقابل ما هو التصور الإسلامي لهما؟!.

إذن سينصب حديثنا على نمطين من السلوك؛ السلوك السوي والسلوك الشاذ، وخلال حديثنا عن تحديد ما هو شاذ وما هو سوي نحدثكم عن كل من هذين التصورين حيث نقول سلفاً: يتفق التصوران الإسلامي والأرضي على تحديد ما هو سوي من السلوك في نطاق ما هو نفسي ولكنهما يفترقان في نطاق ما هو فكري، أي أن السلوك السوي في التصور الإسلامي يشمل السلوك السوي الذي يهدف إليه الأرض بالإضافة إلى المبادئ الإسلامية التي يلتزم بها الشخص وفي حالة التزامه بهذه المبادئ من نحو المطلوب حينئذٍ يتسم سلوكه بالسوية وإلا فإنه ينتسب إلى السلوك الشاذ، وكل هذا ما سنوضحه في محاضراتنا اللاحقة إنشاء الله..

أما الآن فنبدأ ونعيد تكرار السؤال القائل: ما هو التصور الأرضي للسلوك الشاذ والسلوك السوي، وبالمقابل ما هو التصور الإسلامي لهما؟  وسنجيب عن هذا السؤال الآن بادئين ذلك بالحديث أولاً عن التصور الأرضي للسلوك الشاذ والسوي فنقول:

يصنف علماء الأرض أو علماء البحث الأرضي في ميدان التربية وعلم النفس السلوك إلى شاذ وسوي، أما الشاذ فيطلقون عليه طابع المرض النفسي أو العقلي أو العصبي وهو بعامة قسمان:

أولاً: العصاب.

ثانياً: الذهان أو الجنون.

والأول منهما أي العصاب يمثل مرضاً نفسياً، وأما الثاني أي الذهان أو الجنون فمثل مرضاً عقلياً، والعصاب عادةً يجسد نوعاً من الاضطراب لدى الشخصية مصحوباً بمقدار من التوتر ولكن مع احتفال الشخصية بوعيها للواقع، أي أنها تميز ما تشاهده أو ما تواجهه من الظواهر وتفرز ما هو واقعي منها وما هو خيالي أو وهمي من الظواهر المذكورة، ومثال ذلك الخوف من عبور النهر مثلاً، مع معرفة الشخصية بسخف مثل هذا الخوف ولكنها مضطرة لأسباب نشرحها فيما بعد إلى أن تستجيب هذه الشخصية استجابة خائفة حيال المثير، ألا وهو النهر بحيث لا تستطيع عبوره على سبيل المثال. وهناك أنماط متنوعة من السلوك العصابي تمثل الاستجابة العصابية للظواهر كالحقد والزهو والكذب والخيانة والتعصّب والغيبة والطمع والحسد وو.. الخ. حيث أن البعض منها مصحوب بوعي الشخصية بشذوذها والبعض الآخر غير مصحوب بالوعي المذكور بل تحياها الشخصية بشكل لا شعوري، أي غير واع. ومثال ذلك التكبر، فالمتكبر مثلاً وهو الشخصية التي تتعالى على الآخرين وتحس بأنها متفوقة عليهم، مثل هذه الشخصية قد لا تعي مصدر سلوكها الشاذ وهو متمثل في الواقع في أنها تحس أساساً بالذلّ داخل نفسها فيما تعوض عن ذلك الإحساس بالذنب بعملية التكبّر على الآخرين، تغطيةً للذل الذي تتحسسه.

أما الكذب مثلاً فإن الشخصية تعي شذوذه وتقر بأنه مفارقة أو ذنب إلا أنها تمارسه عمداً لتحقيق إشباع عابر لنزواتها، والمهم أن الأنماط المذكورة من السلوك تجسد استجابة عصابية يستوي في ذلك أن تكون الشخصية على وعيٍ بمصادر هذا السلوك، أو على جهلٍ به، كما يستوي في ذلك أن تكون الشخصية على وعي بشذوذ السلوك ذاته أو على جهلٍ به، كما يستوي في ذلك ثالثاً أن تكون الشخصية على وعي بالتوتر الذي يصاحب سلوكها أو على جهلٍ به. فالشخصية المتكبرة مثلاً قد يصاحب سلوكها مقدار من التوتر الداخلي تتحسسه فعلاً، ولكن هذا التوتر يتضخم حجمه عند الشخصية الحاسدة أو الطامعة أو الغاضبة، بحيث تتحسسه بوضوح في حين أن الشخصية الكاذبة أو المفترية مثلاً قد لا تتحسس بالتوتر بل على العكس قد يخيل إليها أنها تتحسس مقداراً من اللذة أو مقداراً من إزاحة التوترات التي تحياها، ولكنها في الواقع على جهل بالتوتر الذي يصاحب أعماقها.

على أية حال إن العصاب بعامة يمثل اضطراباً في الشخصية مع احتفاظ الشخصية بسلامة قواها العقلية، أما الذهان أو الجنون فهو اضطراب خطير يصيب الشخصية بحيث يغيب معه وعي الشخصية بواقعها المريض ويختلط لديها عالم الحقائق والأوهام، أي أنها لا تحتفظ بسلامة القوى العقلية ومثاله الجنون بكل أشكاله.

وهناك من الباحثين من يفرض أمراضاً يطلق عليها بأمراض التخلف العقلي كالبلاهة والعته ونحوهما نمطاً ثالثاً من الشذوذ، كما أنه من يفرض ما يطلق عليه اسم أمراض الشخصية نمطاً رابعاً من الشذوذ وهذا النمط يتمثل فيما يصطلح عليه بالشخصية السيكوتافية حيث تتميز بالانحراف الملحوظ في مشاعرها وميولها وأخلاقها، وهي شخصية يطبعها عدم الإحساس بالمسؤولية وعدم الاستبصار بنتائج الأمور، وعدم التأثر بالثواب والعقاب.. الخ. مع ملاحظة أنها تظل محتفظة بقواها العقلية بنحو عام.

وأياً كان الأمر فإن التصنيف للسلوك الشاذ يمكننا أن نشطره انسياقاً مع غالبية الاتجاه الأرضي إلى عصاب وذهان، مع ملاحظة أن الاحتفاظ بالقوى العقلية هو المميز للعصاب دون الآخر. ومع ذلك لا يفوتنا أن نشير إلى أن بعض الباحثين يرى أن الفارق بين العصاب والذهان منحصر في الدرجة لا في النوع، أي أن الذهان بعامة تضخيم لأعراض العصاب، والحق أن معيار التمييز بين الظواهر، أي بين الحقيقة وبين الوهم يظل هو المتحكم في فرز الذهان عن العصاب، ونحن يعنينا بذلك أن نؤكد أن اهتمامنا منصب بنحوٍ عام على السلوك العصابي بطبيعة الحال، أما الذهان فلا نعرض له إلا في نطاق البحث المتصل بالتنشئة ومساهمتها في تعديل السلوك، وقد عرفنا أن البحث الأرضي يعرّف العصاب والذهان، أو بالأحرى يعرف الشذوذ بما قدمناه الآن بعد ذلك نتجه لنرى التصور الإسلامي للظاهرة وهذا ما يتمثل في ذهابنا إلى أن التصور الإسلامي في الواقع بدوره يشطر العمليات النفسية إلى ما هو شاذ وإلى ما هو سوي من الاستجابة. ما دام المشرع الإسلامي أساساً قد رسم الكائن الآدمي وفقاً لتركيب ثنائي هو الشهوة أو العقل أو الذات أو الموضوع بالنحو الذي حدثناكم عنه في بداية محاضراتنا، حينئذٍ فكل استجابة باحثة عن اللذة هادفة إلى الإشباع المطلق تعد سلوكاً شاذاً وبالمقابل كل استجابة تبحث عن اللذة تهدف إلى الإشباع المقيد تعد سلوكاً سوياً.

وفي الواقع إن ما يهمنا من التصنيف الثنائي للسلوك أن نتجه إلى تحديد دلالاته ومدى توافق أو افتراق الدلالة الأرضية عن الإسلامية ثم تصنيف مفرداته المتنوعة وتمييز مستوياتها يستوي في ذلك أن يتسم السلوك بسمات أخلاقية كالكذب أو الصدق أو نفسية كالحب أو الحقد أو مزاجية كالانطواء والانبساط، كما يستوي في ذلك أن يتسم السلوك بسلامة الجهاز الوظيفي كالأمثلة المتقدمة، أو باضطرابه كحالات الوسوسة والتطير والخوف، كما يستوي في ذلك أن يتسم السلوك بحالات وجدانية كالأمثلة المتقدمة أو حالات إدراكية كالغباء والنسيان ونحوهما، كما يستوي في ذلك أن يكون السلوك مألوفاً لدى بحوث الأرض كالأمثلة المتقدمة، أو غير مألوف وهو ما يدخل في نطاق الأحكام من حرمة ووجوب من حيث تحديد أشكال السلوك الشاذ والسوي وتحديد درجة الشذوذ أو السوية من السلوك.

فبالنسبة إلى التحديد مع أننا ذكرنا قبل قليل بأن تحديد السلوك الشاذ عن السوي يتمثل في معيارٍ هو التمييز بين الحقيقة والوهم، حيث أن القدرة على التمييز تمثل درجة العصاب وعدم القدرة تمثل درجة الذهان، ولكن هذا التحديد في الواقع مع أنه يتسم بشيء من الصحة ولكن المسألة ليست بهذه البساطة، بل إنها تنطوي على منحنيات دقيقة ينبغي أن نقف عندها، وفي الواقع أن الصعوبة تكمن في جملة أسباب، منها:

أولاً: التخوم الفاصلة بين الذهان والعصاب تشكل فارقاً في الدرجة لا في النوع، فإننا كلنا بحسب تصور هؤلاء الباحثين الأرضيين نعاني مقداراً من الصراع أو التوتر نتيجةً للإحباطات المختلفة التي نواجهها. كل ما في الأمر أن درجات التوتر أو الصراع تتضخم أو تتضاءل من فردٍ إلى آخر، وإذا كان العصاب يعني تضخم الصراع أو التوتر والسوية تعني تضائله حينئذٍ يبقى الفارق منحصراً في الدرجة لا في النوع حسب تصور هؤلاء الأرضيين، ولكننا لا نعتقد بصواب هذه الملاحظة أو هذا التحديد لمفهوم العصاب والسوية من خلال فارقية الدرجة لا النوع، لأنه تحديد يفتقر إلى شيء من التماسك في فهم دلالة العصاب والسوية. فأولاً نعرف جميعاً أن ثمة نماذج في الواقع لا تحيا الصراع بمعناها الأرضي إلا في نطاق المواجهة المبدئية، وسرعان ما تقضي على منابعه في الوهلة الأولى من تأملها ودراسة النتائج السلبية له، وهذا ما يستتبع أن مثل هذه الشخصية لا تحيا أو لا تعاني أي توتر ناجم منه، ومثال ذلك مثلاً الحاجة إلى التفوق أو التملك أو الانتماء الاجتماعي، فمن السهولة بمكان أن ينعدم لدى فردٍ ما أي دافع إلى التفوق من خلال نبذه للذات وحبه للآخرين وأن يرفض التملك ويختار الزهد في متاع الحياة وأن ينهد إلى العزلة مؤثراً هدوئها والتوجه إلى انتماءات روحية لا تنحصر إلى انتماءات إلى أشخاص، بل انتماءات إلى قيم وأفكار، والدراسات التي أجراها علماء الأقوام تفصح بوضوح عن هذه النماذج التي لا تحس بالحاجة إلى إشباع الدوافع المذكورة، مما يستتبع معها عدم الصراع والتوتر ولعل الشخصية المسلمة الملتزمة الواعية نموذج حي لهذا النمط من الاستجابة السوية. ثانياً: إن الفارقية في الدرجة ينبغي أن لا نهملها في هذا الصدد، ما دمنا نلحظ أشكالاً شتى  من التعامل نحكم عليها بالسلب أو الإيجاب من خلال الدرجة التي نستجيب لها في التعامل، مثلاً استجابة الغضب فأنت قد تغضب وتوجه للمسيء عبارات مهذبة وقد توجه إليه عبارات قاسية، بل قد تفقد السيطرة على نفسك فتهذي بكلام غير متناسق، ومما لا شك فيه أن الرد بالعبارة المهذبة يعني قدرتك على السيطرة وهي عامل يفرج الشخصية المتماسكة عن الشخصية غير المتماسكة حيث تفقد هذه الأخيرة سيطرتها ويختل توازنها الداخلي من خلال هذيانها بالكلام غير المتناسق.

إذن الفارقية في الدرجة لا تعفي الباحث من اتخاذها معياراً للفصل بين السلوك العصابي والسوي، هذا فضلاً عن أن استجابة الغضب قد تنعدم أساساً لدى نماذج لا تحيا الصراع والتوتر كما قلنا.

ثانياً: هناك من الباحثين من يجد أن صعوبة الفرز بين العصاب وبين السوية تكمن في نسبية الثقافات؛ أي أن المجتمعات البشرية تختلف في أجهزتها القيمية من حيث النظم والأعراف والعادات الاجتماعية، فالدعابة مثلاً تعتبر في بعض الثقافات دليلاً على انبساط الشخصية وخلوها من التوتر والصراع والمرض .. الخ. بينما تعتبرها ثقافات أخرى فضولاً أو سوء أدب وهكذا.. ومع وجود مثل هذه النسبية في الثقافات حينئذٍ من المتعذر فرز السلوك السوي من السلوك العصابي، لكن هذه الوجهة من النظر لا يمكن التسليم بها أيضاً فلو عدنا إلى ظاهرة الدعابة ذاتها، للحظنا أن التصور الإسلامي يفرز نمطين من المزاح، أحدهما يسجد العصاب وهو المزاح الناجم من نزعة عدوانية، والآخر يجسد السوية وهو المزاح الناجم عن مشاعر الحب. وهذا ما سنحدثكم عنه في محاضرات لاحقة.

أما الآن فقد استهدفنا مجرد الإشارة إلى أن هذه النسبية في الثقافات كما يقال تظل بالنسبة إلى التصور الإسلامي محلولة في الواقع من خلال فرزنا لنمطين من المزاح نستطيع من خلالهما أن نميز ما هو سوي وما هو غير سوي، دون النظر إلى الاختلاف الذي نجده عند الثقافات الأرضية، وإذاً حتى ما يعده البحث الأرضي محكوماً بالنسبية كالمثال المتقدم يمكننا في الواقع فرز مصادره للتعرف على جذره المرضي أو الصحي مما لا يبقى معها لمفهوم النسبية أثر ذو بال.

ثالثاً: من الباحثين من يضع معيار التوافق الاجتماعي دليلاً على السوية وعدم التوافق دليلاً على العصاب، هذا المعيار بدوره لا يمكن أن نسلم به بنحو مطلق لأن التوافق قد يتحتم في حالات خاصة وقد يتحتم عدمه في حالات أخرى، ومن الأمثلة على ذلك أننا حينما نتعامل مع الآخرين من خلال لغة الحب مثلاً، أو من خلال ما يسمى بالمجاملة، فإن هذه المجاملة أو هذا التعامل يعد إفصاحاً عن التوافق الاجتماعي، وهو أمر يقرره المشرع الإسلامي كما سنرى لاحقاً، لكن التعامل مع الآخرين في حالات المساومة على حساب القيم مثلاً كالصمت حيال الخيانة للوطن، هذا النمط من التعامل لا يمكن أن نعده سلوكاً سوياً تحت ستار التوافق مع الآخرين، بل إن السوية تفرض عدم التوافق في هذا المجال. وإذاً المعيار التوافق الاجتماعي لا يمكننا أن نعده دليلاً على السوية ونعد عدمه دليلاً على العصاب.

رابعاً: تتجه الغالبية من الباحثين إلى وضع معيار وظيفية بدلاً من المعيار الشكلي للسلوك في فرز السوية عن العصاب، ويرى هؤلاء الباحثون أن الذي يحدد الفارق بينهما هو وظيفة السلوك لا شكله، أي في تحديد نوع الاستجابة، فإذا كانت الاستجابة أياً كان الموضوع قائمة على الهروب من المشاكل بدلاً من مواجهتها مثلاً فحينئذٍ يعد هذا السلوك عصاباً وفي المواجهة يعد سوياً، والحق أن هذا المعيار هو أشد المعايير التي تقدم الحديث عنها صواباً، ولكنه مع ذلك لا يحسم المشكلة، هذا إذا وضعنا في الاعتبار أن مواجهة الواقع لا يمكن أن تعطي ثمارها ما لم ترتكز الشخصية إلى جهاز قيمي يتناسب مع طبيعة التركيب البشري ودلالة وجوده في الكون، أي الجهاز العبادي لدى الشخصية، مثال ذلك إذا واجهت الشخصية شدائد وضغوطاً حادة لا تتحمّل عادة كالفقد الشديد وموت القريب والخنق التام للحرية والنبذ الاجتماعي المهين للشخصية، قبالة هذه الضغوط الحادة من الصعب في الواقع أن تحتفظ الشخصية بأية تماسك، بخاصة في مجتمعات عصابية متقدمة حضارياً تتعامل من خلال السيطرة والتملك والتعالي.. الخ. دون أن ترفدها نظم أو معايير تستجر مبدأ الثواب والعقاب الاجتماعيين في مثل هذه المجتمعات من المتعذر أن نطالب الشخصية بمواجهة الاحتباطات بصدر رحب وبتقبل رصين لها، لأنها مطالبة مثالية لا ترفدها قيم خاصة نابعة من خارج هذه الثقافة الاجتماعية التي يتنسب إليها الفرد العلماني، نعم ثمة قيم نابعة من خارج هذه النظم والتقاليد تسهم بنحو فعال في تغيير استجابة الفرد وتحويلها إلى استجابة لا مبالية حيال الظروف المذكورة، وفاعلية هذه القيم تتمثل في كونها تتساوق مع طبيعة التركيب البشري من حيث صياغة هذا التركيب وفقاً لمبدأ خلافة الإنسان في الأرض أو المبدأ العبادي كما قلنا.

خارجاً عن المبدأ الإسلامي المذكور فإن المعيار الوظيفي الذي تصوغه الأرض فارقاً بين العصاب والسوية يظل حلاً مثالياً وليس حسماً لمشكلة واقعية. وهذا ما يفسر لنا بالضبط إقرار غالبية باحثي الأرض بأن الصراع والتوتر لا سبيل إلى الخلاص منهما في عالم مقرون بالإحباط وبالضغوط وبالشدائد المختلفة، مع غيمومة القيم التي تحسم موقف الشخصية في مواجهتها للإحباط المذكور.

على أية حال يعنينا الآن أن نشير إلى أن مفهوم كلاً من العصاب والسوية في التصور الأرضي أمر عرضنا له بشكل سريع، وأما الحلول الحاسمة لمحو العصاب أو تحقيق السوية فإن لها موضعاً آخر من محاضراتنا.

والآن نتقدم لنتحدث عن التصور الإسلامي لمفهوم العصاب والسوية وموقفه حيال المفهومات الأرضية التي سبق عرضها ومناقشتها، والحديث عن التصور الإسلامي لمفهومي العصاب والسوية يتطلب شيئاً من التمهيد فنقول:

أولاً إن التصور المشار إليه يتحدث في مستويين سبقت الإشارة إليهما أيضاً:

المستوى الأول هو يتمثل في المفهوم الأرضي لهما والآخر يتجاوزه إلى مفهوم أشد سعة وشمولاً، وهنا نود أن نشير إلى أن المشرع الإسلامي في الواقع يتقدم دائماً بتوصياته المختلفة إلى الناس وفق نمطين، مرة يتجه بتوصياته إلى مطلق البشر مؤمنين أو منحرفين، كإشاراته على سبيل المثال في الطب العقلي والنفسي والجسمي حيث يضع لنا معايير أو بالأحرى يرسم لنا توصيات متنوعة تتصل بالحالة الصحية لظاهرة جسمية أو نفسية أو عقلية، ومقابل ذلك يوجه خطابه أيضاً إلى الخاص ونعني به الشخصية المسلمة الملتزمة، وفي هذا الصدد من الممكن أن نقدم أمثلة أخرى بالنسبة لتحديد هذا النمط من التوصيات الإسلامية.

التكبر على سبيل المثال وقد سبقت الإشارة إليه حيث يعد التكبر أو التعالي أو الزهو في المفهوم الأرضي سلوكاً عصابياً وهذا السلوك يتناوله المشرع الإسلامي من زاويتين، الزاوية الأولى يتناول من خلالها ظاهرة التكبر بصفتها عصاباً، أي مرضاً نفسياً بغض النظر عن الموقف الفلسفي الذي يصدر المتكبر عنه، أي بغض النظر عن كون المتكبر مسلماً أو منحرفاً، فقد يكون المتكبر مسلماً أو كافراً ولكنه في الحالتين يصدر عن سلوك مرضي هو العصاب الذي أشار البحث الأرضي إليه، فالمتكبر لدى علماء النفس الأرضيين يعد تعبيراً عن الإحساس بالنقص، كذلك المشرع الإسلامي يشير بوضوح إلى العرض المرضي المذكور حينما يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في تقدير عيادي له: (ما من رجل تكبر أو تجبر إلا لذلة يجدها في نفسه). فالإمام الصادق (عليه السلام) يوضح لنا الجذر المرضي لظاهرة التكبر مبيناً أن التكبر ناجم من الإحساس بالذل والضعة والدونية، ومثل هذا التناول للظاهرة المذكورة لا تخص نفراً من الآدميين دون آخر، بل يمكن أن يصدر عن مسلم ينقصه الوعي أو كافر لا علاقة له بمبادئ الإسلام، والطب النفسي الإسلامي في هذا الحقل يشبه تماماً الطب الجسمي الإسلامي فمبادئ الصحة الجسدية التي يقدمها المشرع الإسلامي لا تأخذ بنظر الاعتبار هوية الفرد بل تقدم توصياتها لمطلق الآدميين، حتى يستثمروها في تحقيق الصحة الجسمية، والأمر ذاته فيما يتصل بمبادئ الصحة النفسية، لكن المشرع الإسلامي في الآن ذاته يترب عملية العقاب والثواب على عملية التكبر أو التواضع ناظراً إلى الممارسة المذكورة من خلال الموقف الإسلامي.

وما نود أن نشدد عليه الآن هو أن التكبر بغض النظر عن ترتيب آثار العقاب عليه يظل ظاهرة نفسية ذات طابع مرضي، سواء أترتبت عليه آثار العقاب أم لا، لكنه في الحالتين سلوك عصابي يحذرنا المشرع الإسلامي منه مشيراً إلى ما يصاحبه من الصراع والتوتر على نحو ما نجده في البحث الأرضي أيضاً.

من هنا نجد أن المشرع الإسلامي يتناول مستويات المرض النفسي الذي لا تترتب عليه آثار العقاب كعصاب الوسواس مثلاً مشيراً إلى طابعه المرضي مقدماً توصياته العلاجية في التغلب عليه بنفس التوصيات التي قدمها إلى المتكبرين مثلاً، والأمر نفسه حينما يقدم توصياته الطبية في معالجة الذهان والتخلف العقلي؛ إنه في الحالات جميعاً يحدد لنا دلالة العصاب أو الذهان مقدماً توصياته في علاج الأمراض المذكورة، مع ملاحظة أن بعض هذه الأعراض مصحوبة بترتيب آثار العقاب عليها كالأعراض المتصلة بأمراض الشخصية المنحرفة التي تتناول مثلاً الكحول وبعضها لا يصاحبها العقاب كالشخصية الموسوسة مثلاً.

على أية حال المشرع يتناول مفهومي العصاب من زاوية نفسية خالصة حيناً وفي الآن ذاته يقدم مفهوماً أكثر سعة وشمولاً بحيث يسع مفاهيم الأرض ويتجاوزها إلى مفاهيم أشد سعة وشمولاً، هذا المفهوم يتجسد في عمليات الالتزام بمبادئ السماء أو عدم الالتزام بها، السوية والعصاب يتسع مفهومها ليشمل الجانب الفلسفي من الكون بالإضافة إلى الجانب النفسي الصرف، الكافر على سبيل المثال هو شخصية عصابية، والمتمرد من المسلمين على مبادئ السماء أيضاً شخصية عصابية،والموسوس أيضاً سواء كان مسلماً أو كافراً يعد شخصية عصابية.

إذن من خلال هذا المفهوم تتسع دلالة السوية والعصاب لتشمل كل استجابة لا تلتزم بمبادئ السماء، سواء أكانت هذه الاستجابة متصلة بالجانب الفكري العقائدي، أو بالجانب النفسي الصرف، وهذا ما سنشرحه مفصلاً عندما نتحدث في الحقل الخاص بهذا الجانب. لكننا نشير عابراً هنا إلى أن التصور الإسلامي للعصاب والسوية مكررين ذلك يشمل الجانب الفكري من السلوك ويشمل الجانب النفسي ويمكننا إدراك هذه الحقيقة، أي وحدة العصاب النفسي والفكري، حينما نلاحظ من خلال أمثلة أخرى ما ورد مثلاً من مصطلح المرض على ظاهرتين إحداهما فكرية والأخرى نفسية، حيث ورد هذا المصطلح في النصوص القرآنية الكريمة، مثلاً بالنسبة إلى الظاهرة الفكرية وهي النفاق نجد أن الآية الكريمة تقول عن سلوك المنافقين راصدة بعض سماتهم: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) فالآية تطلق اسم المرض على المنافق بصفته يصدر عن موقف فكري مناهض لرسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد أن هذا النمط الفكري يفصح عن نمطين من المرض؛ أحدهما طبيعة الموقف الرافض للرسالة الإسلامية، والآخر طبيعة التذبذب أو التكلم بلسانين يخاطب أحدهما الآخر، وهو سلوك المنافق، والأول موقف فكري صرف بينما الثاني هو موقف نفسي تجمع الأبحاث الأرضي على طابعه المرضي.

والآن إذا اتجهنا إلى آية كريمة أخرى تتحدث الاستجابة الجنسية المنحرفة عبر مخاطبتها نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والتحذير من بعض العصابيين نجد هذه الآية الكريمة تطلق المرض كمصطلح على سمة نفسية وتقول الآية الكريمة في هذا المجال: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض) ويهمنا من هذه الآية أن نشير إلى أن مصطلح المرض الذي أطلقته على المنحرفين جنسياً هو مصطلح نفسي صرف بصفة أن الاستجابة الجنسية المذكورة لا تخص نفراً دون آخر، فقد تصدر عن المسلم غير الملتزم وقد تصدر عن الكافر، إنها سمة نفسية كالتكبر أو الحقد أو الحسد.. الخ.

وإذن إطلاق مصطلح المرض على نمطين من السلوك الفكري والنفسي في الآيتين المتقدمتين يدلنا على أن التصور الإسلامي لمفهوم العصاب تتسع دائرته لتشمل المفهوم الأرضي وتتجاوزه إلى مفهوم يوحد بين العصاب النفسي والعصاب الفكري وهذا ما نبدأ بإلقاء الإنارة عليه مفصلاً في محاضرة لاحقة إنشاء الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..