المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 02.doc

- التمهيد الرابع: في تاريخ الدولة في الحضارة الإنسانية، الظاهر أن الدولة لا توجد إلا بوجود النظام الذي يحيط بنشاطات الأفراد من أجل الوصول إلى هدف مشترك تعمل من أجله المجموعة البشرية هذا النوع من النظم هو أرقى أنواع المجتمعات والذي يعبر عنه بالمجتمع السياسي والذي تديره وتدبره الدولة ولا بد من تكاتف أفراد المجتمع حول مثل أعلى مشترك يوحد بينهم غير أن هذا المجتمع لا يمكنه العيش ولا أن يصبح حقيقة تاريخية إلا إذا كانت هناك قوة دافعة تحرك وتراقب التحركات التي بموجبها يتم تنظيم الجهاز الاجتماعي هذه القوة هي ما يعبر عنها بالسلطة السياسية التي تعمل على تنظيم الوظائف وتوزيعها في المجتمع ولا سيما فيما يختص بالتفريق بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة فالسلطة والمجتمع يلدان معاً إذ لا يمكن أن نقيم الخلاف بينهما كأحد مظاهر التناقض بين الحرية والسلطة فإن السلطة هي شرط للنظام والحرية لا توجد إلا في النظام فالسلطة إذاً هي الفكرة الاجتماعية المثلى لأنه من جهة لا يمكن تخيل السلطة خارج المجتمع ومن جهة أخرى فإن المجتمع بدون السلطة هو جسم ضعيف لا يتمكن من إنجاز شيء أو تحقيق غاية أو الوصول إلى هدف أو الضمان للحقوق وعليه تظهر الدولة على أنها الشكل الأهم والأكمل للحياة الجماعية وهي من صنع إرادة الإنسان وعقله فالمجتمع يركز جهوده وأفكاره وطاقاته في معضلة التنظيم السياسي وينجح في تأمين ديمومة هذا وهي مؤسسة المؤسسات حسب تعبير بعضهم وعليه فإن الدولة حسب الرأي المشهور هي مجموع الأفراد المنتظمة في وسط اجتماعي تسيطر عليه سلطة سياسية منبثقة عن هذا المجتمع تتميز بقدرة إصدار القوانين واتخاذ القرارات التي من شأنها تنظيم حياة الجميع وتنظيم القواعد القانونية واحترامها وحتى يومنا هذا كانت الدولة ظاهرة إنسانية محصورة جغرافياً فالخريطة السياسية لم تنطبق مطلقاً على الخريطة المادية للعالم ومما لا شك فيه أنه كانت هناك أنظمة سياسية قائمة حيث كانت المجتمعات البشرية لعدم إنفكاك السلطة عن المجتمع وتصنيف هذه المجتمعات يختلف باختلاف درجة التطور السياسي والاجتماعي الذي وصل إليه المجتمع فبعض الحدود الأرضية كانت تشكل عوائق طبيعية على انفتاح الدولة مضافاً إلى ذلك فإن الجغرافية البشرية ترينا أنه كان من الصعب نشوء الدولة في بعض المناطق واستمرارها في المناطق الأخرى وفي مناطق التي يمكن وصف بعضها بالمناطق السياسية العاملة لتفريقها عن المناطق السياسية الخاملة كانت تجهد عملية تكوين الدولة الحقيقية أو عملية تطورها التام فهذا التقسيم للمناطق كانت متنوعاً ففي العصور القديمة لم يكن هناك سوى القليل من الدول نظراً لبدائية المجتمعات القديمة أما الجماعات البشرية الأخرى فكانت تنتظم في العشيرة وفي القبيلة ونحو ذلك التي لم يكن لها طابع محدد ودائم ولا أرض معينة غير أنه كان يوجد بين هذه الجماعات البشرية نوعاً من التضامن تجمعها الروح الواحدة أو العيش المشترك أو المصالح المشتركة أو الأضرار المشتركة.

إن ضرورة قيام الدولة ووجودها في الحياة البشرية ليست أمراً تقتضيه وتؤكده الحياة المعاصرة التي اشتدت فيه الحاجة إلى الحكومة فحسب بل كانت موضع تأكيد كبار الفلاسفة والمفكرين في التاريخ القديم أيضاً وفي الحضارات القديمة، فأرسطو كبير الفلاسفة القدامى وزعيمهم يقول: إن الدولة من عمل الطبع وإن الإنسان بالطبع كائن اجتماعي وإن الذي يبقى متوحشاً بحكم النظام لا بحكم المصادفة هو على التحقيق إنسان ساقط أو إنسان أسمى من النوع الإنساني كما ورد ذلك في السياسة في الصفحة 96 فإذاً تعتبر الدولة بحسب رأي أرسطو حاجة طبيعية تقتضيها الفطرة الإنسانية بحيث يعد الخارج على الدولة ونظامها وتدبيرها إما متوحشاً ساقطاً أو موجوداً يفوق النوع الإنساني ويخلو عن الطبيعة البشرية حتى يستغني عن الحاجة إلى الدولة، وأفلاطون يرى أن أفضل حياة للفرد لا يمكن الحصول عليها إلا بوجود الدولة لأن طبيعة الإنسان مآلها إلى الحياة السياسية فإذاً فهي من الأمور الطبيعية التي لا غنى للناس عنها كما ورد ذلك في جمهورية أفلاطون ببعض التلخيص وابن خلدون يستدل على ضرورة وجود الدولة والحكومة لضرورة الاجتماع الانساني، التي يعبر عنها في اصطلاح الحكماء  بعبارة أن الإنسان مدني بالطبع، ثم يستدل على ذلك حتى ينتهي إلى إثبات ضرورة إيجاد الحكومة والدولة كما ورد ذلك في مقدمته في الصفحة 41 - 42.

وأما من المفكرين المعاصرين فيكتب بعضهم كما في النظم السياسية في الصفحة 1 - 7 يقول إن أول مقومات النظام السياسي هو وجود الدولة بل إن كل تنظيم سياسي للجماعة يفترض وجود الدولة حتى أن البعض يربط بين مدلول السياسة وفكرة الدولة ولا يعترف بصفة الجماعة السياسية بغير الدولة هذا وما جاء في الإسلام وورد من نصوص وسيرة أكثر دلالة وأقوى برهنة على لزوم إيجاد الدولة في الحياة البشرية من أي دليل آخر.

وقد استدل السيد المرتضى علم الهدى رضوان الله عليه على لزوم الحكومة ببيان لطيف، حاصله أن بقاء الخلق يتوقف على أمور منها الأمر والنهي قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) وفسر ما يحيي الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولقوله سبحانه: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) فصار الأمر بالمعروف هنا المتمثل في الاقتصاص من القاتل مبدأ للحياة فإذا كان الأمر والنهي كما توحي هذه الآيات الشريفة مبدأ للحياة وجب أن يكون للناس إمام يقوم بأمرهم ونهيهم ويقيم فيهم الحدود ويجاهد فيهم العدو ويقسم الغنائم ويفرض الفرائض أبواب ما فيه صلاحهم ويحذرهم عما فيه مضارهم، ولهذا كان الأمر بالمعروف أحد أسباب بقاء  الخلق فوجبتا وإلا سقطت الرغبة والرهبة ولم يرتدع أحد ولفسد التدبير وكان ذلك سبباً لهلاك العباد إلى غير ذلك مما أورده في كتابه المحكم والمتشابه في الصفحة 50.

كما استدل السيد الشيرازي (قدس سره الشريف) على ضرورة قيام الدولة والحكومة بحكم العقل بلزوم الإدارة لبسط العدل ففي الفقه السياسة في الصفحة 15 قال إن الإنسان لما اختلفت مواهبه وأهوائه واستجاباته فيقع في أفراده وجماعاته التقدم والتأخر والظلم والاستغلال.

يقع الاحتكاك والثورات والحروب وكلها تحتاج إلى ضوابط وقوانين لإدارة دفة العدل ولإعطاء كل ذي حق حقه بحيث لا تظلمون ولا تظلمون والإدارة لا تكون إلا بسبب الحكومة ولذا احتاج البشر إلى القوانين أولاً وإلى الحكومة المديرة لها في الاجتماع ثانياً ومن الواضح أنه كلما اتسع المجتمع اتسعت مؤسسات الحكومة وكثرت وارتقت أيضاً بارتقاء المجتمع وتعقدت بكثرة المجتمع وكثرة احتياجاته فالمؤسسات الحكومية إنما توجد في الجماعات الكبيرة وكلما كانت الجماعة أكبر تكون الحكومة أوسع وأكثر دائرة وأعمق وتكون صعوبتها أكثر أيضاً.

كما أنه كلما تقدم العلم والصناعة تكون صعوبات الحكومة ودوائرها أكثر وعليه فإن المجتمعات البدائية تقل حاجتها إلى الحكومة إلا بصورة بدائية أحياناً كذلك تكون في الجماعات الكبيرة والأمم المتمددة بعكس ذلك فالجماعة الكبيرة والأملاك الخصوصية وفيرة والجرائم تزداد بقدر سعة الجماعة والآداب والرسوم والسنن والمراكز التي يكون فيها التجمع كالمساجد والمدارس والحدائق والحمامات والمصحات وما أشبه تكثر عند الجماعة الكبيرة مما تحتاج كلها إلى الضوابط والموازين وهي بدورها تحتاج إلى الحكومة فلا غنى للمجتمع عن الحكومة كما لا غنى للحكومة عن الدولة التي بها تدبر أمور الناس وتبسط العدل بينهم وتوصل الحقوق إلى أهلها، ويكفي النظر إلى حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى سيرته الشريفة للوقوف على هذه الحقيقة فمن تتبع تلك السيرة الشريفة وجد كيف أن الرسول الأعظم (صلىالله عليه وآله وسلم) بمجرد نزوله في المدينة المنورة أقدم على تأسيس الدولة بكل ما لهذه الكلمة من معنى وكيف مارس كل ما هو من شأن الحاكم السياسي من تشكيل جيش منظم وعقد المعاهدات والمواثيق مع الطوائف الأخرى وتنظيم الشؤون الاقتصادية وإقامة العلاقات الاجتماعية مما يتطلبه أي مجتمع منظم ذا طابع قانوني وصفة رسمية وصيغة سياسية واتخاذ مركزاً للقضاء والإدارة وكان في ذلك الوقت هو المسجد ووضع رواتب وتعيين مسؤوليات إدارية أيضاً وتوجيه رسائل إلى الملوك والأمراء في الجزيرة العربية وخارجها وتسيير الجيوش والسرايا وبذلك يكون الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أول مؤسس للدولة الإسلامية التي استمرت من بعده واتسعت وتطورت وتبلورت واتخذت  صوراً  أكثر تكاملاً في التشكيلات والمؤسسات و كانت الأسس متكاملة في زمن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن من يراجع تاريخ النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يلاحظ بوضوح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان منذ بداية بعثته الشريفة وحياته الرسالية بصدد تأسيس الحكومة وإقامة الدولة وقد تم ذلك في مرحلتين كانت المرحلة الأولى في مكة والأخرى في المدينة ، ففي مكة يوم لم يكن مأموراً بالظهور والإعلان عن دعوته الشريفة قام في إعداد وبناء الأفراد الصالحين وتوفير الكوادر المؤمنة عن طريق الاتصالات الخاصة واللقاءات السرية والتربية والتهذيب، أو الإعلان بين الأهل والعشيرة كما جاء في سيرته الشريفة حديث الدار الذي رواه الطبري في تاريخه بسنده عن ابن عباس ورواه غيره أيضاً في السنة الثالثة من مبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين نزل قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين ( أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علياً أن يصنع طعاماً ويجمع بني عبد المطلب في حديث طويل جاء فيه ثم تكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم فقال علي بن أبي طالب فأحجم القوم جميعاً وقلت إني لأحدثهم سناً وأرنصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه فأخذ برقبتي ثم قال إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا وثمة نصوص أخرى في السيرة في العهد المكي تشير إلى هذه فإن هذه الروايات تدل على أن مسألة الدولة والسلطة السياسية والحكومة والخلافة بعد رسول الله كانت أموراً يتضمنها الإسلام في مرحلته المكية ولم يعبر عنها بصراحة لأن تلك المرحلة لم تكن مرحلة مناسبة لذلك لأن شروط تكوين المجتمع السياسي والسلطة السياسية لم تكن قد توفرت لدى المسلمين في ذلك الحين ولذا اكتفى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتلميح والإشارة تمهيداً للعقول وللنفوس وللأجواء لحين ما تحل الفترة العلنية وإقامة الدولة ومن هنا نرى أنه بعد أن أمر بإعلان رسالته كما نزل عليه قوله سبحانه: (فاصدع بما تأمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين) راح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يلتقي بقادة القبائل ورؤساء الوفود الآتية إلى مكة يدعوهم إلى دينه والانضمام إلى جماعته وكان من أبرز ما فعله على صعيد التهيئة العامة لإقامة الحكومة المرتقبة عقد البيعة مع بعض الوفود القادمة من أنحاء الجزيرة إلى مكة وأخذ العهد منهم على نصرته ودعم ما ينشد إقامته في ظرفه المناسب كما تم ذلك في بيعتي العقبة الأولى والثانية على ما رواه في السيرة النبوية الجزء الأول في الصفحة 431 و467 وكذا جاء في أعلام الورى.

وعندما هاجر إلى المدينة وسنح له الظرف باشر بتأسيس أول حكومة إسلامية وبذل في ذلك أكبر مجهود بعد أن مهد لها بعهد ميثاق الأخوة بين الأصحاب والأنصار والمهاجرين وأقام مسجداً جعله مركزاً لتجمع المسلمين وموضعاً لعملياته ونشاطاته والاجتماعية والسياسية والتربوية وقد تجلى العلم السياسي الذي قام بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي يدل على أنه كان أول من أقام حكومة إسلامية وبنى قواعدها أنه كان يباشر أموراً تعد من صميم العمل السياسي والنشاط الإداري الحكومي ومن ذلك على سيبل المثال لا الحصر أمور:

 

- الأول: أنه عقد بين أصحابه وبين الطوائف والقبائل الأخرى المتواجدة في المدينة كاليهود وغيرهم اتفاقية وميثاقاً يعتبر في الحقيقة أول دستور للحكومة الإسلامية كما ذكروا بنوده ولعلنا نتعرض إليه في المستقبل إن شاء الله.

 

- الثاني: أنه جهز الجيوش وبعث البعثات العسكرية والسرايا إلى مختلف المناطق في الجزيرة وقاتل المشركين وقاتل الروم وقام بمناورات عسكرية دفاعاً عن الإسلام والمسلمين وقد ذكر المؤرخون انه (صلى الله عليه وآله وسلم) خاض خلال عشرة أعوام من حياته في المدنية خمسة وثمانين حرباً من الحروب الدفاعية نصرة للإسلام وإنقاذاً للمستضعفين.

 

- الثالث: بعد أن استتب له الأمر في المدينة وما حولها وأمن جانب المشركين في مكة وطرد اليهود من المدينة وما حولها لأسباب معروفة في التاريخ وقلع جذورهم منها وقضى على مؤامراتهم توجه باهتمامه إلى خارج الجزيرة وإلى المناطق التي لم تصل إليها دعوته ودولته من مناطق الجزيرة فراح يراسل الملوك والأمراء يدعوهم إلى الانضواء تحت راية الإسلام والدخول تحت ظل دولته والقبول بحكومته الإلهية فراسل قيصر ملك الروم وكسرى ملك إيران وإمبراطورها والمقوقس عظيم القبط في مصر والنجاشي ملك الحبشة وكبار قادة الشام واليمن وغيرهم من الأمراء والملوك ورؤساء القبائل الكبيرة وربما وقع مع بعضهم المعاهدات وأقام بعض التحالفات العسكرية والسياسية والمعاهدات والاقتصادية على ما رواه جملة من المؤرخين كما في تاريخ اليعقوبي وغيره وقد جمعت أكثر هذه الرسائل والمواثيق في كتب خاصة أمثال الوثائق السياسية تأليف البروفيسور محمد حميد الله الأستاذ بجامعة باريس ومكاتيب الرسول ومن هذه النماذج للرسائل والمكاتيب السياسية نورد كتابه إلى ملك عمان والأسد جيفر وعبد ابني الجلندي ورد في هذا الكتاب يقول فيه:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمد بن عبد الله سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوكم بدعاية الإسلام أسلما تسلما إني رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين إنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما وإن أبيتما أن تقرا بالإسلام فإن ملككما زائل عنكما وخيلي تحل بساحتكما وتظهر نبوتي على ملككما كما ورد ذلك في جملة من المصادر وأيضاً من رسالته إلى أسقف نجران ورد فيها:

بسم اله إبراهيم واسحق ويعقوب من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران أسلم أي أنتم سالمون إذا أسلمتم فإني أحمد الله إليكم اله إبراهيم واسحق ويعقوب أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله عن عبادة العباد وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد فإن أبيتم فالجزية وإن أبيتم آذنتكم بحرب والسلام.

إلى غير ذلك من الرسائل التي تدل على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمارس السياسية ويمارس في سيرته ما يتعلق بشؤون صاحب دولة وحكم ونظام .

 

- الأمر الرابع: أنه بعث السفراء والمندوبين السياسيين إلى الملوك والزعماء كما قال بعضهم في السفارات النبوية كانت هذه السفارات والكتب النبوية عملاً بديعاً من أعمال الدبلوماسية بل كانت أول عملاً قام به الإسلام في هذا الميدان إن هذه الدبلوماسية الفطنة التي لجأ إليها النبي في مخاطبة الملوك في عصره لم تذهب كلها عبثاً كما رأينا .

 

- الأمر الخامس: أنه نصب القضاة وعين الولاة وأعطاهم برامج للإدارة والسياسة فأوصاهم فيما أوصاهم بتعليم أحكام الإسلام ونشر الأحكام والآداب التي جاء بها الإسلام وتعليم القرآن وجباية الضرائب الإسلامية كالزكاة وإنفاقها على الفقراء والمعوزين وما شابه ذلك من المصالح العامة، وفصل الخصومات بين الناس وحل مشاكلهم والقضاء على الظلم والطغيان وغير ذلك من المهام والصلاحيات والمسؤوليات الإدارية والاجتماعية وبالتالي لقد كان النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يعمل كل ما يعمله الساسة وأصحاب السلطات اليوم من الناحية الإدارية ولكن يفعل كل ذلك وفق منهج السماء فكان يقوم بالعزل والنصب والمراسلة وعقد الأحلاف وتوقيع الوثائق السياسية والعسكرية والاقتصادية حسب ما تقتضيها المصلحة الإسلامية والاجتماعية في عصره وضمن تشكيلات معينة هذا مضافاً إلى أن من طالع سورة الأنفال والتوبة ومحمد يلاحظ كيف يرسم القرآن الخطوط العريضة لسياسة الحكومة الإسلامية وبرامجها ووظائفها فمجموع هذه السور تشير إلى مقومات الحكومة الإسلامية المالية وأسس التعامل مع الجماعات غير الإسلامية كالمنافقين والكفار ومبادئ الجهاد والدفاع وبرامجها وتعاليم في الوحدة الإسلامية التي تعتبر أقوى دعامة للحكومة الإسلامية وكذا غيرها من السور والآيات القرآنية فهي مشحونة بالتعاليم والبرامج اللازمة للحكومة والدولة كما ستعرفه من خلال المباحث الآتية وهذا يكشف عن  أن النبي  الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أول مؤسس للحكومة الإسلامية وأن أول حكومة إسلامية هي التي أقامها وأوجدها النبي في المدينة المنورة بعد أن مهد لها في مكة على أن هذه الحكومة وإن لم تكن من حيث التشكيلات والتنظيمات الإدارية على النحو المعقد والمتعارف عليه الآن إلا أنها كانت على كل حال تمثل حكومة كاملة الأركان ودولة كاملة السمات والملامح لأننا ذكرنا لكم بأن سعة الحكومة وعمق الحكومة يرجع إلى سعة المجتمع وعمقه أيضاً.

وهذا يعني أنه لابد أن تكون للحكومة الإسلامية أركان ومؤسسات وتشكيلات للقيام بمثل ما كان يقوم به النبي حسب ما تقتضيه طبيعة عصرنا الحاضر ومجتمعنا المعاصر كل هذا يتضح من مطالعة مثل السيرة النبوية من كتب تاريخية على أيدي مؤرخين من القدماء مثل سيرة ابن هشام وتاريخ الطبري وتاريخ الكامل للجزري والإرشاد للمفيد وكشف الغمة للأربلي ومن المتأخرين مثل كتاب تاريخ الإسلام السياسي وغير ذلك من المؤلفات التاريخية المختصرة والمفصلة، هذا ويمكن أن يستدل أيضاً على أن الحكومة ضرورة اجتماعية وحيوية بالبداهة الإنسانية بداهة أن الضرورة تقضي بقيام دولة تصون الحريات الفردية إلى جانب المصالح الاجتماعية وتسعى الى تنظيم الطاقات وتنمية المواهب وتوقف أبناء المجتمع على واجباتهم وتجري القوانين الإلهية أوالبشرية ولأجل هذا اعتبر جماعة من الفلاسفة والعلماء الكبار كأفلاطون وأرسطو وابن خلدون وغيرهم وجود الدولة ضرورة حيوية لا بد منها ولم يشذ عن ذلك إلا مثل ماركس الذي اعتبر وجود الدولة أمراً ضرورياً ما دام هناك وجود صراع ضد الطبقي أما مع انتشار الشيوعية واستقرار النظام الشيوعي في العالم كله فلا حاجة إليها وقد أبطلت نظريته هذه التجارب البشرية وواقع الحياة الإنسانية فضلاً عن بديهة الفطرة والعقل بل فشل النظرية الشيوعية في العالم كافة في إبطال مزاعم ماركس وذلك لأن سبب النزاع والاختلاف بين أفراد البشر لا ينحصر في الصراع الطبقي فقط الذي جعله للحاجة إلى الدولة فإذا زال زالت الحاجة وأصبحت الأرض جنة عدن بل هناك الغرائز البشرية كغريزة حب الجاه وحب الذات والسلطة وغيرها من الغرائز غير المهذبة هي أيضاً منشأ الصراع والاختلاف بين البشر إلى جانب الصراع الطبقي ثم على فرض أن لا يكون هناك صراع طبقي فضرورة وجود الحكومة لأجل إدارة المجتمع من زاوية للقيام بحوائجها الاجتماعية أمر لا مناص منه فالمجتمع الذي زال فيه الصراع الطبقي لا يشذ عن سائر المجتمعات في احتياجه إلى من يدير أموره من تأمين سكنه وصحته وتعليمه وتربيته ومواصلاته والفاصل في خصوماته فيما لا يرجع إلى الأمور الطبقية إلى غير ذلك من الشؤون الاجتماعية الإنسانية التي لا مناص منها لإقامة المجتمع مما يحتاج إلى المؤسسات وإدارة شؤونها فلا بد من مؤسسات تقوم كل واحدة منها بناحية من هذه الأمور وتنظيمها أيضاً وهذا ما يستلزم الحكومة وعلى أي حال فلا بد من دولة توقف الناس على وظائفهم القانونية وتعاقب المخالفين المتجاوزين وتعيد الحقوق المهضومة إلى ذويها وتصون النظام والانضباط الاجتماعي الذي يمثل قاعدة السعادة ورمز بقاء المدنية وأساس استمرار الحضارة وسبب تقدم البشرية في المجالات المادية والمعنوية وحاصل الكلام إن حفظ النظام الاجتماعي والحضارة الإنسانية وتعريف أفراد المجتمع بوجباتهم ما لهم وما عليه من الحقوق ورفع أي نزاع وتصارع في حياة الجماعة أمور تحتاج إلى مرجع قوي يقوم بهذه المهام الضخمة وهذا الواجب الإنساني الشريف يحفظ بالتالي أساس الحضارة الذي هو حفظ النظام الاجتماعي وصيانته من التقهقهر والانحطاط ومن الواضح أن حقيقة الإسلام ليست إلا سلسلة من الأصول والفروع التي شرعها الباري عز وجل للبشر والتي كلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدعوة الناس إليها وتطبيقها على الحياة في الظروف المناسبة ولكن حيث أن تطبيق طائفة من الأحكام التي تكفل استقرارا للنظام في المجتمع لم يكن ممكناً دون تشكيل حكومة وقيام دولة لذلك أقدم النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بحكم العقل والشرع وبحكم ما كان له من الولاية المعطاة له من قبل الله وبحكم أن الدين الكامل عند الله هو الإسلام على تشكيل دولة إذ لولاها لكان الدين ناقصاً والرسالة قاصرة عن إيصال البشرية إلى كمالها وسعادتها المادية والمعنوية وهو نقض للغرض في أكثر من مجال على أن الحكومة ليست بذاتها هدف الإسلام بل الهدف هو تنفيذ الأحكام والقوانين وضمان الأهداف الإسلامية العليا في نشر التوحيد وبسط العدل ونشر الفضيلة وحيث أن هذه الأمور لا تتحقق دون أجهزة سياسية وسلطات حكومية لذلك قام النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه بمهمة تشكيل مثل هذه الدولة وتأسيس مثل هذه الحكومة تشريعاً وتطبيقاً وتعليماً وتوجيهاً وقدوة وأسوة ثم أوصى بها من بعده أيضاً وعين الخليفة من بعده أيضاً.

 

 والخلاصة: أن إجراء حد السرقة والزنا على السارق والزاني وتنفيذ سائر الحدود والعقوبات ومعالجة مشاكل المسلمين وتسوية نزاعاتهم في الأمور المالية والحقوقية ومنع الاحتكار والغلاء وجمع الحقوق المالية وتوسيع رقعة انتشار الإسلام ورفع الاحتياجات الأخرى في المجتمع الإسلامي وغيرها لا يمكن أن تتحقق دون وجود إمام جامع وزعيم حازم وبدون حكومة وزعامة مقبولة لدى الأمة.

وقد وردت ضرورة تشكيل الحكومة بل وضرورة وجود حاكم في كلمة موجزة لمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) جمع فيها منطلقات الدولة الإسلامية وأهدافها ومهماتها في حفظ النظام الاقتصادي والأمن والدفاع وأخذ حقوق المستضعفين من الأقوياء المستكبرين ورد فيها قوله أنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر يعمل في أمرتهم مؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ الله فيها الأجل ويجمع الفيء ويقاتل به العدو وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي.

وفي رواية أخرى ورد عنه (عليه السلام) أما الإمرة البرة فيعمل فيها التقي وأما الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي إلى  أن تنقطع مدته وتدركه منيته وعلى هذا البيان يكون وجود الدولة ضرورة اجتماعية لا مناص منها أضف إلى ذلك أن النبي  الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بعد رجوعه من حجة الوداع في غدير خم بأن ينصب علياً صلوات الله وسلامه عليه خليفة من بعده لإمرة المسلمين من جانب الله سبحانه وتعالى وكان الأمر الإلهي مبتدأا بقوله تعالى: ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) وقد ساوت الآية بين التنصيب للخلافة وتبليغ الرسالة وجعلت المهمتين في عدل بعضهما ثم يجسد الله سبحانه وتعالى أهمية هذا الموضوع وخطورته القصوى بأن جعل عدم إبلاغ ما أوحى إليه في أمر الخلافة يساوي عدم إبلاغ الشريعة رأساً إذ قال: (فإن لم تفعل فما بلغت رسالته) وهذه الآية كما تدل على مقام الإمام وعظم مكانته وعصمته تكشف كذلك عن أهمية مكانة الإمام وخطورة قيادة المجتمع لأنه بسبب الإمام القائد تشرق أشعة العدالة على المجتمع البشري ولا تغيب وهو الذي بسببه تبقى التعاليم الإلهية حية مصانة من كل تحريف وبسببه تصل البشرية إلى كمالاتها المادية والمعنوية وانطلاقاً من الأهمية التي تكمن في تأثير الحكومة في إصلاح الناس آجلاً أو عاجلاً قال مولانا الصادق (عليه السلام) في حديث مقتضب له: لا يستغني أهل كل بلد من ثلاثة يفزع إليه في أمر دنياهم وآخرتهم فإن عدموا كانوا همجاً فقيه عالم ورع وأمير خير مطاع وطبيب بصير ثقة كما صرح مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذه الفريضة الدينية في إحدى خطبه إذ قال والواجب في حكم الله والإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل ضالاً كان أو مهتدياً مظلوماً كان أو ظالماً حلال الدم أو حرام الدم أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً ولا يبدءوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً يجمع أمرهم عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة ويجمع أمرهم ويحكم بينهم ويأخذ للمظلوم من الظالم يحفظ أطرافهم ويجني فيئهم ويقيم حجتهم ويجبي صدقاتهم ومن هذه النصوص الشريفة يتجلى بوضوح أهمية الحكومة الإسلامية وشرعية الدولة التي ينبغي أن يقيمها المؤمنون لأجل بسط العدل ورفع الجور والظلم ومنع الاعتداء وإيجاد الأمن والسلام بين الناس وإيصال البشرية إلى الهداية الحقيقية والى السعادة الأبدية المادية والمعنوية والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.