المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 15.doc

المنصب الثاني  للفقيه الجامع للشرائط هو القضاء والحكم بين الناس، وهذا أيضاً من مناصبه ووظائفه الواجبة عليه كفايةً، وقد يكون واجباً عينياً في بعض الشروط، وقد فصّل الفقهاء أدلته في باب القضاء واتفقوا على أنه من مناصبه وربما يكفينا هنا الإشارة إليه بدليل العقل من جهة أن وقوع المنازعات والتخاصم بين الناس أمر مفروغ منه في الحياة البشرية، بل هو لازم لطبيعة الإنسان وطبيعة الحياة فلا مجال للتخلص من النزاع والاختلاف ولا مجال لإبقاء المنازعات والاختلافات على حالها، لأنها تستلزم الفساد والظلم والهرج والمرج، فلابد من حلها والفصل فيها، فيجب التصدي لفصل الخصومات والحكم بين الناس لجماعة من العلماء وجوباً كفائياً ولا يجوز للجاهل ذلك، بداهة أنه ينقض الغرض ويوقع في التناقض.

فأحق الناس بهذا المنصب وأولاهم به بل القدر المتيقن من بينهم هو الفقيه الجامع للشرائط العالم بأحكام الشريعة وشرائط القضاء والحقوق الواجبة كما لا يخفى فإنه الذي يرجى منه تحقيق هذا الأمر المهم لا غيره، وهذا هو المعروف بين الأصحاب بل حكي الإجماع عليه، وعلى أن يكون المتصدي له من المجتهدين الذين جمعوا الشرائط خلافاً للقليل من الفقهاء كصاحب الجواهر (رضوان الله عليه) حيث أجاز تصدي غير المجتهد وتحقيق الكلام في ذلك موكول إلى محله من باب القضاء.

لكن لا يخفى هنا لزوم التصريح بأنه حتى على القول بجواز التصدي لهذا المقام من قبل غير المجتهد أنه ليس معناه جوازه لكل أحد من المقلدين، بل اللازم العلم بجميع المسائل التي يتصدى للقضاء فيها من الحقوق والحدود وشرائطها وفروعها والعلم بجميع أحكام القضاء وآدابه، وهذا لا يحصل إلا لمقلدٍ يكون تالياً للمجتهد وقريباً منه، على تفصيل لا يسعنا بيانه هنا.

وكيف كان فإنه لا ينبغي الشك في أن القضاء من المناصب ولا يجوز التصدي له إلا بعد النصب له عموماً أو خصوصاً، ويدل عليه أمور:

-الأول: إنه كذلك بين جميع الأمم إذ قامت سيرة العقلاء بل سيرة أهل الأديان على ذلك، فهو جزء من ولاية الحاكم، وشأن من شؤونه ولا يزال ينصب القاضي من قبل رؤساء الحكومات وولاة الأمور، والسر  فيه هو أنهم متصدون لأمور البلاد الذي لا يتم إلا بحسن القضاء بين الناس، مضافاً إلى أن أحكام القضاة لا تنفذ إلا بقوة وهيبة قهرية تجبر الظالم على أداء حق المظلوم، وهذا لا يتحقق إلا إذا كان القاضي معتمداً على قوة السلطان لأن الناس لا يقومون بالقسط إلا بالحديد أحياناً، ولذا أنزله الله بعد إنزال الكتاب والميزان حيث قال سبحانه: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس).

- الثاني: ما وقع التصريح به في مقبولة عمر بن حنظلة في قوله (عليه السلام): (فإني قد جعلته حاكماً) وقوله (عليه السلام): (إني قد جعلته قاضياً) في رواية أبي خديجة فإنها ظاهرة صريحة في حاجة القضاء إلى الجعل وأنه من المناصب الإلهية التي أمرها بيد ولي الأمر لا بيد كل أحد.

هذا مضافاً إلى أن المسألة مجمع عليها بين الأصحاب، إذ أجمعوا على أنه يشترط في ولاية القضاء إذن الإمام (عليه السلام) أو من فوّض إليه الإمام (عليه السلام) وقد جعلوه لكل مجتهد عادل في عصر الغيبة، كما ذكره الفقهاء في باب القضاء. نعم في قاضي التحكيم لا يشترط التنصيب من قبل الإمام (عليه السلام) لقيام النص على أنه ما تراضى به الخصمان بالترافع إليه والحكم بينهما، وهذا هو المشهور بينهم بل ادعي الإجماع عليه.

هذا ويتفرع على ذلك جواز تصديه للأمور الحسبية والمراد بها الأمور التي لا ولي لها بالخصوص، كتولي الأوقاف العامة وتولي شؤون القصّر والغيّب بالنسبة إلى أموالهم وما يتعلق بهم كإجراء النفقة على زوجة المجنون وإجراء الحجر على السفيه والمفلّس وإجازة تجهيز الأموات الذين لا ولي لهم وتنصيب القيمين على الأوقاف كالمساجد والحسينيات والمدارس وما أشبه ذلك.. فإن هذه يجوز للفقيه التصدي لها والقيام بشؤونها وذلك لأمرين:

- لأول: أنه من باب المعروف الذي علم من الشارع إرادة وجوده في الخارج.

- الثاني: أن هذه الأمور من فروع القضاء المأذون به شرعاً للفقيه الجامع للشرائط.

كما نرى من رجوع هذه الأمور في مثل هذه الأزمنة وما قبلها إلى الحكام والقضاة، بل قد ادعي إطباق التواريخ على أنه كان كذلك في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأوصياء (عليهم السلام) فإن القاضي المنصوب من قبلهم كانت بيده هذه الأمور أيضاً كما أن الوالي كان بيده الأمور السياسية والإدارية، كما ستعرف توضيحه فيما يأتي إنشاء الله.

هذا مضافاً إلى شمول أدلة الولاية العامة لها، ويمكنكم مراجعة أبواب القضاء من الفقه لمعرفة المزيد من هذه التفاصيل.

المنصب الثالث:

 هو الولاية والحكومة وهو المقصود بقولهم ولاية الفقيه على التصرف بأنواع التصرفات، وهو في الجملة مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، وقد قامت الأدلة الأربعة عليه في الجملة، وإنما الكلام في حدود هذه الولاية وشروطها فقد ذكر المحقق النائيني (رضوان الله عليه) في كتابه (منية الطالب) أن للولاية مراتب ثلاثة:

- إحداها: وهي المرتبة العليا وهي مختصة بالنبي الأعظم وأوصيائه الطاهرين (عليهم السلام) وهي غير قابلة للتفويض إلى أحدٍ، واثنان منها قابلتان للتفوض.

أما غير القابلة فهي كونهم (عليهم السلام) أولى بالمؤمنين من أنفسهم، بمقتضى الآية الشريفة: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وهذه المرتبة غير قابلة للتفويض ولا يمكن أن يتقمصها من لا يليق بها من الظالمين والمستبدين وما أشبه، وأما القابلة للتفويض فقسم منها يرجع إلى الأمور السياسية التي يرجع إلى نظم البلاد وانتظام أمور العباد، وسد الثغور والجهاد مع الأعداء، والدفاع ونحو ذلك مما يرجع إلى وظيفة الولاة والأمراء. وقسم يرجع إلى الإفتاء والقضاء، إلى آخر كلامه..

وتبعه في هذا التقسيم أيضاً السيد الخونساري (رضوان الله عليه) في (جامع المدارك)، وقد عرفت مما تقدم حكم الإفتاء والقضاء، وحكم الولاية الأولى غير القابلة للتفويض، وأما الكلام في الولاية العامة فالظاهر إن لم يرد المحقق النائيني (رضوان الله عليه) التمثيل والتشبيه فالظاهر أنها أعم مما ذكر، لكونها تشمل الولاية على أخذ الأخماس والزكوات والأوقاف العامة وصرفها في مصارفها على ما ذكروها في باب الخمس والزكاة والوقف.

- الثاني: الولاية على إجراء الحدود الخارجة عن منصب القضاء.

- الثالث: الولاية على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يتوقف ذلك على ضرب أو جرح أو قتل أحياناً، فإنهم ذكروا في باب النهي عن المنكر أن له مراحل، فما لم يبلغ إلى هذا الحد كان من وظائف عموم المؤمنين، أما إذا توقف النهي عن المنكر على ضرب أو جرح أو ما أشبه فلم يجز ذلك إلا بإذن الفقيه الجامع للشرائط.

- الرابع: الولاية على الحكومة والسياسة من نظم البلاد وحفظ الثغور والدفاع في مقابل الأعداء، وكل ما يرتبط بنظام المجتمع والمصالح العامة التي يتوقف عليها، وسيأتي بيان ذلك تفصيلاً.

- الخامس: الولاية على الأموال والنفوس مطلقاً.

- السادس: الولاية على التشريع بأن يكون للفقيه حق وضع القوانين وتشريعها بحسب ما يراه من المصالح في ضمن إطار الأدلة الأربعة، كل ذلك مما لا بد من أن يبحث عن حالها والبحث في سعتها وضيقها، وآراء الأعلام فيها.

هذا وقد تعرض الأصحاب لهذه المسائل في أبواب مختلفة من الفقه، كما يظهر من مراجعة كتاب (البيع) وكتاب (القضاء) و(الزكاة والخمس) و(الحجر) و(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) و(الجهاد) و(الحدود والتعزيرات) و(إحياء الموات) وغيرها..

- المسألة الثانية: في الأقوال في المسألة، إذ اختلفت أقوال الفقهاء في ثبوتها من ناحية السعة والضيق إلى أقوال ثلاثة:

- القول الأول: يرى بأن ما للمعصوم من الولاية والسلطنة ثابتة للفقيه أيضاً، وهو اختيار المحقق النراقي (رضوان الله عليه) كما يظهر من كلماته في (عوائد الأيمان).

- القول الثاني: هو القول الوسط وهو المشهور بين الفقهاء، حيث يرى أن للفقيه مضافاً إلى منصب الإفتاء والقضاء، منصب الحكومة والتصدي لإقامتها، والجهاد كذلك وممارسة السياسة وما أشبه ذلك.

- القول الثالث: وهو الأضيق إذ يحصر مسؤولية الفقيه ومناصبه بالتصدي للأمور الحسبية والإفتاء والقضاء فقط. وهذا اختيار جمع من الفقهاء كما يظهر من المحدث البحراني (رضوان الله عليه) في (الحدائق) ولعله المستفاد من كلمات بعض ممن تبعه. ولعل توضيح الحال في المسألة يتطلب التعرض إلى بعض الأقوال فيها:

قال صاحب الجواهر (أعلى الله مقامه الشريف) في كتاب (البيع): عند البحث عن ولاية الحاكم وأمينه على القصّر والغيّب لا يمكن استقصاء أفراد ولاية الحاكم وأمينه، لأن التحقيق عمومها في كل ما احتيج فيه إلى ولاية في مال أو غيره إذ هو ولي من لا ولي له، وهذا الكلام بقرينة التعليل ناظر إلى الغيّب والقصّر وأمثالهم من الممتنع والعاجز، إلا أن الظاهر منه هو إرادة العموم، في كل ما احتيج فيه إلى الولاية لما ذكره في كلامه من أن الحاكم وأمينه يليان كل ممتنع أو عاجز عن عقد أو إيقاع أو تسليم حق من الحقوق الإلهية وما أشبه ذلك.

هذا مضافاً إلى ما صرّح به في غير موضع من (الجواهر) كما يظهر من كلماته في باب الخمس وغيره هو عموم الولاية في مختلف الشؤون.

وقال شيخنا الأعظم في مكاسبه بعد تقسيم الولاية إلى قسمين الولاية المستقلة وهي ما يتصرف الولي بنفسه فيها، وغير المستقلة وهي ما يكون تصرف غيره منوطاً بإذنه، قال ما ملخصه: إن القسم الأول ثابت للنبي والأئمة المعصومين من ذريته بالأدلة الأربعة، وكذا القسم الثاني ثابت لهم بمقتضى كونهم أولي الأمر فلا يجوز لغيرهم إجراء الحدود والتعزيرات وإلزام الناس بالخروج عن الحقوق وغير ذلك إلا بإذنهم، واستدلّ له أيضاً بروايات، ثم بعد ذلك بيّن ظابطة هذه الأمور التي يرجع فيها إليهم، وإنها الأمور التي يرجع فيها كل قوم إلى رئيسهم، هذا كله بالنسبة إلى الأئمة (عليهم السلام)، وأما الفقيه فإن المستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة كونه كسائر الحكام المنصوبين في زمان النبي والصحابة في إلزام الناس بإرجاع الأمور المذكورة إليه، والانتهاء فيها إلى نظره بل المتبادر عرفاً من نصب السلطان حاكماً وجوب الرجوع في الأمور العامة المطلوبة للسلطان إليه.

فالمتحصل من كلامه هو عموم ولاية الفقيه فيما يتصدى له السلطان والحاكم في الأمور العامة التي يرجع إليه فهو ثابت له، فالأمور التي لا يمكن إهمالها مثل إقامة النظم والعدل والأخذ بالحقوق وغير ذلك لابد وأن يرجع فيها إلى الفقيه، بل لو لم يكن هناك فقيه فلا يجوز إهمالها إذ لابد عندئذٍ من قيام عموم المؤمنين بها. وعليه فثبوتها للفقيه بشكل أولى.

وفي الجواهر أيضاً قال: فالمسألة من الواضحات التي لا تحتاج إلى أدلة، وأوضح من ذلك كله ما ذكره النراقي (رضوان الله عليه) في كتابه (العوائد) حيث قال في بعض كلماته في المسألة: أن كلية ما للفقيه العادل تولية، وله الولاية فيه أمران أحدهما كل ما كان للنبي والإمام الذين هم سلاطين الأنام وحصون الإسلام فيه الولاية وكان لهم فللفقيه أيضاً ذلك إلا ما أخرجه الدليل من الإجماع أو النص أو غيرهما.. ثانيهما أن كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم ولابد من الإتيان به ولا مفر منه إما عقلاً أو عادةً من جهة توقف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه، وإناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا أو شرعاً من جهة ورود أمر به أو إجماع أو نفي ضرر أو إضرار أو عسرٍ أو حرج أو فساد على المسلم أو دليل آخر أو ورد الإذن فيه من الشارع ولم يجعل وظيفة لعين واحد أو جماعة ولا لغير معين، أي واحد لا بعينه بل علم لابدية الإتيان به أو الإذن فيه ولم يعلم المأمور به ولا المأذون فيه فهو وظيفة الفقيه، وله التصرف فيه والإتيان به، ثم أخذ في الاستدلال على كل واحد منها.

ومن الأقوال أيضاً قول السيد البروجردي (رضوان الله عليه) كما يظهر من تقريراته المسماة بـ(البدر الظاهر) في صفحة 53 قال: وبالجملة كون الفقيه العادل منصوباً من قبل الأئمة (عليهم السلام) لمثل تلك الأمور العامة المهمة التي يبتلى بها العامة مما لا إشكال فيه إجمالاً بعدما بيناه ولا نحتاج في إثباته إلى مقبولة عمر بن حنظلة غاية الأمر كونها أيضاً من الشواهد.

ومنها قول الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (رضوان الله عليه) من أن الولاية على الشؤون العامة وما يحتاج إليه نظام الهيئة الاجتماعية يعود إلى الفقيه قال: وبالجملة فالعقل والنقل يدلان على ولاية الفقيه الجامع على هذه الشؤون فإنها للإمام المعصوم أولاً ثم للفقيه المجتهد ثانياً بالنيابة المجعولة بقوله (عليه السلام): (وهو حجتي عليكم وأنا حجة الله).

وفي (الحدائق) قال المحدث البحراني (رضوان الله عليه) بأن ولاية الفقيه الحاكم الشرعي من المسلمات بين الفقهاء المتفق عليها بينهم، وإن أشكل هو فيها. وأما المحقق النائيني (رضوان الله عليه) فبعد أن ناقش في كثير من أدلة ولاية الفقيه قال: نعم لا بأس بالتمسك بمقبولة عمر بن حنظلة، فإن صدرها ظاهر في ذلك حيث أن السائل جعل القاضي مقابلاً للسلطان والإمام قرره على ذلك، فإن الحكومة ظاهرة في الولاية العامة، فإن الحاكم هو الذي يحكم بين الناس بالسيف والسوط، وليس ذلك شأن القاضي ثم بعد ذلك أشكل في هذه السعة.

وفي الفقه قال السيد الشيرازي (قدس سره) بعد تعرضه لقولين في المسألة اختار القول الثاني وحاصله الولاية على الجهاد والحدود والسياسات ونحوها مما كانت بيد النبي (صلى الله عليه وآله) والخلفاء والولاة من قبلهم هذه الولاية وإن كثرت فيها الكلمات واختلفت فيها الأقوال لكن الأقوى في النظر جواز التصدي للفقيه لها، إلا ما خرج بالدليل الخاص وذلك للروايات المتواترة الدالة على المطلوب بضميمة إطلاق الآيات والروايات في مثل الجهاد وصلاة الجمعة والعقوبات ونحوها.

هذا ما ذكره السيد (قدس سره) في كتابه (الفقه الاجتهاد والتقليد) في صفحة 27.

هذا وقد جمع السيد السبزواري (رضوان الله عليه) بين الأقوال في قوله في كتابه (مهذب الأحكام) في الجزء السادس عشر صفحة 365 جمع بين الأقوال بما نصه: الظاهر أن هذا النزاع على طوله وتفصيله صغروي لا أن يكون كبروياً كما يظهر من أدلة الطرفين والنقض والإبرام الوارد منهم في البين، لأن المراد بالفقيه الذي يكون مورد البحث في المقام من استجمع ما ذكرناه من الصفات في كتاب (الجهاد) وما سنشير إلى بعضها في كتاب (القضاء) فإذا وجد من اتصف بتلك الصفات تنطبق عليه الولاية المطلقة قهراً، شاء أو لم يشأ، وبعبارة أخرى لو تحقق ما تقدم من الصفات في شخص يصير كأنه الإمام (عليه السلام) بعد استقرار إمامته الظاهرية، ولا يكفي تحقق ما سبق من الصفات لثبوت مثل هذه الولاية، فلمجموعها من الصفات من حيث المجموع دخل في تحققها.

نعم؛ مع وجود بعضها وتيسر الأسباب يجوز له التصدي فيما تيسر، بل قد يجب ذلك.

وبذلك يظهر اتفاق الكلمة بين الفقهاء على أن للفقيه الجامع للشرائط مناصب وسلطنة بمقدارٍ، والخلاف بينهم في سعة هذه السلطنة وضيقها فمن يرى ثبوت ولاية الفقيه يرى أن الفقيه له منصب الإفتاء والقضاء وإقامة الحكومة الإسلامية وتطبيق الأحكام الشرعية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية وما أشبه.

وأما من يرى ضيق ذلك فيخصصها في باب الإفتاء والقضاء والأمور الحسبية.

وهناك من يرى سعة هذه الولاية بحيث يكون ما للمعصوم للفقيه، وإن كان هذا القول شاذ ونادر بين الفقهاء.

نعم؛ لا ينبغي أن يخفى على أن القول بثبوت ولاية الفقيه لا يعني ذلك بأن الفقيه يتصدى لجميع الأمور بنفسه بالمباشرة، بل هو يفوّض الأمور إلى أهلها من الأشخاص أو المؤسسات مع رعاية القوة والتخصص والأمانة والخبرة ويكون هو المشرف عليهم والهادي والمراقب لهم بعيونه وأياديه، ومسؤولاً عن أعمالهم إذا تساهلوا أو قصّروا، كما ينبغي أن يشاور لكل شعبة من الحوادث والأمور الواقعة المهمة الخواص المطلعين فيها حيث أن الأمر لا يرتبط بشخص خاص حتى يكون الاشتباه فيه قابلاً للإغماض عنه بل يرتبط بشؤون الإسلام والمسلمين جميعاً، وبتطبيق العدل وإعطاء الحقوق وقد قال الله سبحانه: (وأمرهم شورى بينهم) فإذا كان عقل الكل وخاتم الرسل خوطب بقوله تعالى: (وشاورهم في الأمر) فتكليف غيره واضح وإن تفوق ونبغ في ذلك.

- المسألة الثالثة في ولاية الفقيه في تشكيل الحكومة وإقامة نظام الحكم.

عرفت مما تقدم أن المشهور المعروف بين الأصحاب هو ذلك، بل في عوائد النراقي دعوى الإجماع عليه، قال حيث نص به كثير من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلّمات، وهو الحق لأنه من جملة أحكام الإسلام بل والمهم منها أحكاماً جزائية وقضائية وسياسية واجتماعية كالقصاص والديات والحدود والجهاد والصلح والقضاء وقبول الجزية وإحياء الموات وغير ذلك.. ولا يمكن إجراء تلك الأحكام التي فيها كمال الدين وتمامه إلا بيد الحاكم على الأمة، وبعبارة أخرى إن الأحكام التي أتى بها نبينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنما هي قوانين كلية ومن البديهي أن القانون إن لم يكن له مجرٍ يصبح لغوياً فيعلم من ذلك أن النبي الذي جاء بتلك القوانين أراد تطبيقها ولم يرد فقط التشريع، وحينما ساعدته الظروف شكل الحكومة بنفسه، وكذلك مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث عين أشخاصاً لإجراء تلك الأحكام، فكذلك بالنسبة للمجتهد العادل الذي قال (صلى الله عليه وآله) في حقه: (إنه خليفتي ووارثي) وقال الإمام (عليه السلام): (هو الحجة عليكم) إلى غير ذلك من النصوص..

ولا يخفى عليك أنه لا أحد أعرف بمباني الإسلام وقوانينه من المجتهد العادل لذلك فهو المتعين لأن يكون قائماً بالحكومة وعلى رأسها.

وعليه فإنه لا ريب في أن وظيفة المجتهد في هذا العصر هو إجراء الأحكام وحفظ أمن البلاد الإسلامية والتحرّز من مكائد الاستعمار، وحفظ استقلال البلاد وحرية المواطنين، والدفاع عن حريم الإسلام وحفظ أبناء المسلمين من التيارات المعادية لعقائدهم ولأحكامهم ولأفكارهم مضافاً إلى عقد الذمّة والعقود والعهود وإجراء الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهل يمكن إجراء شيء من ذلك إلا من قبل الدولة والحكومة القوية العادلة، وتلك من مهمات الفقيه بلا إشكال، إذ لو أنكرنا ذلك للزم تعطيل الكثير من الأحكام الشرعية، وهذا ما يخالفه المرتكز من المتشرّع عن فهم الشريعة مضافاً إلى مخالفته لبديهة العقل وحكمة الأحكام الشرعية وأغراضها وكمالية الدين، وقد تقدم خبر الفضل عن الإمام الرضا (عليه السلام) المتضمن لقوله (عليه السلام): إننا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل باقوا وعاشوا إلا بقيّم ورئيس لما لابد لهم  منه في أمر الدين والدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق بما يعلم أنه لابد لهم منه، ولا قوام لهم إلا به فإنها هذا البرهان العقلي جار في زمان الغيبة أيضاً كما هو جار في زمان الحضور، ويشهد لذلك جملة من الأدلة العقلية والنقلية.

أما الأدلة العقلية فمضافاً إلى ما عرفته مما تقدم نذكر بعضاً منها:

- الأول: أن تنظيم تلك الأمور التي تكون مورد الولاية العامة والخلافة العظمى مطلوب لله تعالى إلى يوم القيامة أو لا، والثاني باطل لما ورد الأمر بها والترغيب والتحريض إليها. وعلى الأول إما أن يكون المتولي لها كل من استولى عليها ولو من قبل الظلمة وهو باطل بالضرورة، أو يكون هو شخص خاص ذات منصبي الإفتاء والقضاء وهذا هو المتعين وهو المطلوب، ولا مجال لاحتمال الجاهل هنا لما عرفت من أن العادل الجاهل لا يحقق الغرض.

- الدليل الثاني: وهو ما ذكره السيد السبزواري (رضوان الله عليه) في (مهذب الأحكام) وحاصله أن ما ثبت للإمام (عليه السلام) من الولاية إنما هو لأجل كونه ملجأ الخلق وملاذهم ومرجع شؤونهم الدينية، ولا موضوعية للعصمة من حيث هي في ذلك كله، وإنما هي بالنسبة إلى هذه الأمور طريقية للاطمئنان ووضع الأشياء في مواضعها، وإن كانت معتبرة من حيث الموضوعية في الإمامة فللعصمة حيثيتان: حيثية كونها من أعلى كمالات النفس الإنسانية، وحيثية كونها موجباً لتنظيم الأمور على طبق الوظيفة الشرعية وموجبة سكون النفس إليها والجهة الأخيرة هي مناط الولاية وهذه الحيثية موجودة في الفقيه العادل الجامع للشرائط المخالف لهواه، فيثبت له ما كان لهم من الولاية أيضاً.

- الثالث: ما ذكره أيضاً من أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أعطى مثل هذه الولاية لمحمد بن أبي بكر ومالك الأشتر، ولا ريب في أن الفقيه الجامع للشرائط أرفع منهما قدراً، وأجلّ شأناً فلابد من ثبوتها له بالفحوى، قال صاحب الجواهر في كتاب الزكاة ونعم ما قال على حد تعبير السيد السبزواري (رضوان الله عليه) إطلاق أدلة حكومته خصوصاً رواية النصب التي وردت عن صاحب الأمر (روحي له الفداء) يصيره من أولي الأمر الذين أوجب الله علينا طاعتهم.

نعم، من المعلوم اختصاصه بكل ما له في الشرع مدخلية حكماً أو موضوعاً ودعوى اختصاص ولايته بالأحكام الشرعية يدفعها معلومية كثير من الأمور التي لا ترجع إلى الأحكام كحفظه لمال الأطفال والمجانين والغائبين وغير ذلك مما هو محرر في محله، ويمكن تحصيل الإجماع عليه من الفقهاء فإنهم لا يزالون يذكرون ولايته في مقامات عديدة لا دليل عليها سوى الإطلاق الذي ذكرناه المؤيد بمسيس الحاجة إلى ذلك أشد من مسيسها في الأحكام الشرعية، وقال في كتاب الخمس أيضاً ما يقرب منه.

- الدليل الرابع: وهو مبتنٍ من منفصلة حقيقية وحاصلها أنه لابد للناس من ولاية وهي لا تخلو إما أن تكون ولاية ظلم أو ولاية عدل، والظلم يستحيل إثبات الولاية له شرعاً، لأنه قبيح فيتعين العدل، وولاية العدل أمرها يدور بين إثباتها للفقيه الجامع للشرائط أو لغيره، والثاني باطل لاستلزامه ترجيح المرجوح والتضييق على الناس، والإضرار بهم والأول ممنوع عقلاً والثاني ممنوع شرعاً لأن الشارع رفع العسر والحرج والضرر كما في متضافر الأدلة، وربما يعبد هذا الدليل أن عقيدة الإمامية أن الفقيه الجامع للشرائط يقوم مقام الإمام في كل ما له من المناصب والجهات إلا مختصات الامامة كالعصمة ونحوها.

وأما الأدلة النقلية فروايات منها مقبولة عمر بن حنظلة، قال سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة أيحل ذلك؟.

 قال: من تحاكم إليه في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت.

قلت: فكيف يصنعان؟.

قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخفّ بحكم الله وعلينا ردّه، والراد علينا كالراد على الله وهو على حد الشرك بالله.

والكلام فيها تارةً من حيث السند وأخرى من حيث الدلالة، أما الأول فالمعروف بأن الأصحاب تلقوها بالقبول حتى سميت في كلماتهم بالمقبولة، وأما نفس عمر بن حنظلة فالظاهر أنه لم يرد توثيق له في كتب الرجال، لكن في سندها صفوان بن يحيى وهو من أصحاب الإجماع، وقد ذهب جمع من الفقهاء ولعله المشهور من أن وجود بعض أصحاب الإجماع في سند الحديث يغني عن ملاحظة حال من بعده، هذا مضافاً إلى ما ذكره المحقق المامقاني (رضوان الله عليه) في (تنقيح المقال) بأن عمر بن حنظلة موثق وقد روى روايتين تدلان على توثيقه، واحدة منهم في باب أوقات الصلاة والثانية في باب القنوت في يوم الجمعة، كما وثقه الشهيد الثاني (رضوان الله عليه) في درايته وقال إنا حققنا توثيقه من محل آخر مضافاً إلى غير ذلك من الشواهد..

وأما من ناحية الدلالة فالمستفاد منها هو جعل المجتهد حاكماً كسائر الحكام المنصوبين في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) والصحابة ومن المعلوم أن الحاكم المنصوب في تلك الأزمنة كان يرجع إليه في جميع الأمور العامة التي يرجع فيها كل قوم إلى رئيسهم، فالمجتهد قد جعل حاكماً مطلقاً بهذا المعنى، وبعبارة أخرى الحاكم هو المنفذ للحكم وهو مجعول للفقيه في مثل هذه الرواية.

هذا وقد أشكلوا على الاستدلال بالضعف من جهة ظهور الرواية من الحاكم بالقاضي لأن مورد السؤال والتحاكم هو الترافع إلى القاضي، فقوله (عليه السلام) فإذا حكم بحكمنا أي المراد منه أي قضى، فهي تدل على جعل منصب القضاء للفقيه ولا تدل على جعل منصب الحكومة، لكن الظاهر إمكان المناقشة فيها من جهة أن المسلّم عند الأصحاب أن خصوص المورد لا يخصص عموم الوارد، مضافاً إلى أن تصدر الرواية بحرف التعليل يصلح أن يكون بياناً لكبرى كلية، ومن مصاديقها مسألة القضاء كما عرفته مما تقدم.

هذا مضافاً إلى إمكان إثبات الرجوع إلى الفقيه في شؤون الحكومة من مثل هذه الرواية بالأولوية من القضاء بداهة أن الإمام (عليه السلام) حكم ببطلان الرجوع إلى قاضي الجور والحاكم الطاغوت، فكيف بذلك في الأمور العامة والشؤون التي ترتبط بالنفوس والأموال والأعراض؟ فإذا كان قاضي الباطل وقاضي الجور في الأمور الشخصية لا يصح الرجوع إليه يستفاد منه أولوية ذلك أيضاً في شؤون الحكومة والدولة، إذ من البداهة أن الدولة لابد لها من أمير وحاكم، فإذا لم يكن هذا الأمير فقيها جامعا للشرائط كان غيره، وقد عرفت بطلان ذلك.

هذا مضافاً إلى أن المراد بالقاضي في الرواية الأعم من الوالي والقاضي بقرينة صدرها وهو قول الراوي عن الرجلين من أصحابنا يكون بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، فإن الإمام (عليه السلام) حيث ردع عن المراجعة إليهما وجعل مكانهما المراجعة إلى القاضي الشرعي، فما كانا يمضيانه جوراً أجاز إمضاء الشرع له حقاً، كما يمكن أن يكون الذيل ناظراً إلى مرجع الفتوى أو القضاء في الشبهات الحكمية فإن مراجعة القضاة لا يختص بالشبهات الموضوعية كما لا يخفى، لا سيما في تلك الأزمنة حيث كان المتعارف فيها وحدة القاضي والمفتي في كثير من الأحيان، ولذا استدلّ بها جمع كثير على قبول منصب القضاء للفقهاء منهم المحقق النراقي في عوائده حيث قال فلهم ولاية القضاء والمرافعات وعلى الرعية الترافع إليهم وقبول أحكامهم، ثم استدل لذلك بالمقبولة المذكورة.

وبذلك يظهر بأن إشكال جمع كالسيد الخونساري والسيد الحكيم والمحقق الإيرواني وغيرها بحصرها بباب القضاء الظاهر أنه لا خصوصية له.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.