المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 13.doc

- الفصل الثاني في الولاية العرضية الامتدادية

 ونعني بها ولاية المعصوم الشاملة للنبي والإمام (عليهم الصلاة والسلام) المتفرعة عن ولاية الله حيث أعطاهم الله سبحانه وتعالى السلطنة للتصرف في شؤون التكوين والتشريع والبحث فيها من جهتين:

- الجهة الأولى في الولاية التكوينية.

- الجهة الثانية في الولاية التشريعية.

أما الولاية التكوينية فقد أثبتنا سابقاً بأنه لا مؤثر في الوجود سوى الله تبارك وتعالى فهو العلة الحقيقية والقدرة الذاتية المطلقة التي ينتهي إليها كل تأثير وخلق وإيجاد وإعدام وتغيير وتبديل ولكن اقتضت حكمته سبحانه بحسب مقتضيات وحكم أن يجعل لبعض الأسباب تأثيرها ولبعض العلل عليتها كما اقتضت حكمته عز وجل أن يجعل الوسائط بينه وبين خلقه فجعل في طول إرادته وقدرته قدرات أخر تستمد من فيضه وقدرته فتؤثر في الأشياء تكويناً بنحو التوليد أو الإعداد أو التوافي أو الواسطية في الفيض أو المظهرية للقدرة والإرادة الإلهية على الخلاف ولا مانعة عقلية أو شرعية من ذلك لأن الله سبحانه هو الذي سبب الأسباب وأعطاها قدرتها على التأثير ولا يمنع عقل أو شرع بأن يجعل الله سبحانه قانوناً أو سبباً في طول إرادته وبمسببيته يؤثر في الأشياء كما أعطى هذه القدرة للنار على الحرارة والإحراق وللمطر على الإنبات وللهواء على نقل اللقاح وللجاذبية على التحكم بالأشياء وهكذا.

فكذلك أعطى الباري عز وجل ولاية تكوينية للتصرف في شؤون الكون لأوليائه المعصومين بل وأعطاها لغير المعصوم أيضاً في بعض مراتبها كما جعل الإنسان ولياً وقادراً على التصرف في شؤونه الخاصة من القيام والقعود والحركة والسكون وما أشبه ذلك فإن هذه ولاية تكوينية يتسلط بها الإنسان على شؤونه الخاصة وكما أعطى الباري عز وجل مرتبة من هذه الولاية لجملة من الشؤون الخلقية فكذلك أعطاها لأنبيائه وأوليائه لكن بمرتبة أوسع وأشمل وعليه فالمراد بالولاية التكوينية الثابتة للمعصومين (عليهم السلام) هو أن زمام العالم بأيديهم فلهم ولاء التصرف التكويني بمعنى أن زمام العالم بأيديهم ولهم السلطنة التامة على جميع الأمور بالتصرف فيها كيفما شاءوا إعداماً وإيجاداً وكون عالم الطبيعة منقاداً لهم لكن لا بنحو الاستقلال بل في طول قدرة الله تعالى وسلطنته واختياره ومشيئته بمعنى أن الله عز وجل أقدرهم وملكهم كما أقدرنا على الأفعال الاختيارية وكل زمان سلب عنهم القدرة بل لم يفضها عليهم انعدمت قدرتهم وسلطنتهم لكونهم من أنفسهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً وإنما ما نثبته لهم فهو بمقدار ما أعطاه الله عز وجل لهم وفوضه إليهم كما فوض جملة من التصرف والتدبير في شؤون الكون إلى ملائكته المقربين ونحوهم ففوض الإماتة إلى عزرائيل مثلاً وجعل ملائكة للمطر وملائكة للريح وملائكة للرزق وملائكة للشفاء وهكذا كما قامت عليه الأدلة المتواترة.

ومن الواضح أن قلوبهم (عليهم السلام) أوعية مشيئة الله سبحانه فكما أقدر الله سبحانه الإنسان على الأفعال الاختيارية أقدرهم (عليهم السلام) على التصرف في الكون.

وقد دل القرآن العظيم على ثبوت الولاية التكوينية لعدة من الأنبياء (عليهم السلام) وغيرهم.

كما في قضية آصف وعرش بلقيس وسليمان والريح والشياطين وغيرهم وقصة الجبال والطير مع داوود وقصة عيسى وتكلمه في المهد وإبرائه الأكمه والأبرص وإحياءه الموتى وخلقه الطير إلى غير ذلك مما ورد في القرآن الكريم ومتواتر السنة المطهرة وعليه فإن معجزات الأنبياء والأولياء التي دل عليها الكتاب الكريم هي بعض من الولاية التكوينية التي جعلها الله سبحانه وتعالى لأوليائه وأنبيائه ومن الواضح أن ما يثبت للأنبياء والأولياء من الفضائل والمقامات والقدرات والسلطنات يثبت لرسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) بشكل أولى لأفضليتهم وعلو مراتبهم وكيف كان فلعل مما يدل على ما ذكرناه جملة من الآيات منها قوله عز وجل: (وقال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد به طرفك) ومن الواضح أن المراد من العلم بالكتاب هنا هو الكتاب التكويني ومنها قوله عز وجل: (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد) ومنها قوله عز وجل: (إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فإنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموت بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) ومنها قوله عز وجل: خطاباً للخليل (عليه السلام) (فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعياً واعلم أن الله عزيز حكيم) ومنها قوله عز وجل حكاية عن موسى (عليه السلام): (فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ومن الواضح أن الآيات تنسب الفعل هنا مباشرة إلى الأنبياء والأولياء ولا ضير في ذلك بعد أن يكون قد أعطاهم الله سبحانه وتعالى هذه القدرة.

وعليه فإنه إذا ثبت ذلك لهؤلاء فثبوته للرسول الأعظم والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) لا يحتاج إلى بيان لثبوته بالأولوية وعليه فالروايات المتواترة المتضمنة للمعجزات والكرامات الصادرة عن المعصومين (عليهم الصلاة والسلام) أيضاً تؤيد ذلك وتعضده ومنها ما ورد في نهج البلاغة في آخر خطبة القاصعة أن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) أمر الشجرة أن تنقلع بعروقها وتأتي رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) وتقف بين يديه فانقلعت بعروقها وجاءت وله دوي شديد وقصف كقصف أجنحة الطير إلى غير ذلك من المعجزات وخوارق العادات التي قام عليها التواتر في النقل.

كيف ونرى أنهم (عليهم السلام) بعد موتهم تصدر عنهم كرامات من إبراء المريض الذي عجز الأطباء عن إبرائه وحل معضلات الأمور وما شاكل ذلك وليس ذلك إلا لما ذكرناه مما أعطاهم الله عز وجل من الولاية التكوينية على شؤون الكون.

وبالجملة فثبوت الولاية بهذا المعنى للنبي والأئمة المعصومين (عليهم السلام) الذين يثبت لهم جميع ما يثبت للنبي (صلىالله عليه وآله وسلم) لتواتر الروايات في ذلك مما لا ينبغي الشك فيه وأما شبهة استلزام ذلك للشرك فهي مدفوعة بأنا لا ندعي ثبوت ذلك لهم بالاستقلال بل إن الله تعالى ملكهم وأقدرهم كما ملكنا وأقدرنا على أفعالنا الاختيارية في حركاتنا وسكناتنا وبه يظهر أنه لا ينافي ما ذكرناه قوله تعالى قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً فإن المراد هنا أنه لا يملك من ناحية الاستقلال ولكنه يملك من ناحية التبع والإعطاء الإلهي والإقدار له على ذلك هذا مضافاً إلى أن النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) خلاصة العالم وثمرته في قوس الصعود وعلته الغائية ومن الواضح أن العلة الغائية إحدى العلل فمثل عالم الطبيعة بمراحله كمثل أشجار مثمرة غرسها غارسها وسقاها ورباها لتثمر له أثماراً جيدة فالثمرة العائية غاية وجود الشجرة ومن عللها فالنبي الأكرم والأئمة المعصومون (عليهم السلام) ثمرة العالم في قوس الصعود وغايته وإن كان غاية الغايات هو الله تعالى بذاته المقدسة كما حققه العلماء في كتب الكلام.

وقد ورد لولاك ما خلقت الأفلاك وفي الزيارة الجامعة الكبيرة التي يشهد ارتفاع مضمونها باعتبارها السندي خطاباً للأئمة (عليهم السلام) بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزل الغيث وبكم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه وبكم ينفس الهم ويكشف الضر والباء للسببية كما هو معروف في كتب اللغة هذا مضافاً إلى أن ولايتهم على المخلوق يظهر من الأخبار لكونهم واسطة في الإيجاد وبهم الوجود وهم السبب في الخلق إذ لولاهم لما خلق الله الناس وإنما خلقوا لأجلهم وبهم وجودهم وهم الواسطة في الإفاضة بل لهم الولاية التكوينية لما دون الخالق فهذه الولاية نحو ولاية الله تعالى نحو الخلق ولاية إيجادية وإن كانت هي ضعيفة بالنسبة إلى ولاية الله تعالى على الخلق لكونها تابعة وامتداد وبالعرض وليست بالاستقلال والذات ومن الواضح أن هذه الولاية على شؤون الكون تعطي سلطنة وولاية للتصرف في شؤونهم كما عرفته مما تقدم في الفصل الأول.

وعليه فإن السيادة والسلطنة على الكون تبتدئ من الباري عز وجل ثم تتفرع إلى الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) وهذا البحث يرتبط كثيراً بعلم الكلام ولذا لا نطيل التفصيل فيه.

وأما البحث في ولايتهم التشريعية ولا يخفى عليكم بأن الولاية التشريعية تشمل جهات أربعة:

- الجهة الأولى: في وجوب الإطاعة وقبول قول الولي في الأحكام الشرعية.

- الثانية: في الحكومة والرئاسة الدنيوية في إدارة شؤون الأمة.

- الثالثة: في الولاية الشرعية أي ولاية التصرف في الأموال والأنفس.

- الرابعة: في وجوب الإطاعة في الأوامر الشخصية والعرفية.

وقد دلت الأدلة الأربعة على أن الله عز وجل قد فوض إلى النبي والإمام المعصوم (عليهم الصلاة  والسلام) هذه المراتب الأربعة من الولاية التشريعية أيضاً.

أما وجوب إطاعتهم وقبول قولهم في الأحكام الشرعية والوظائف المجعولة الإلهية وأن قولهم وفعلهم حجة على الناس فلا شبهة في ثبوته لهم بنصوص الكتاب العزيز منها قوله تعالى: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وهي ظاهرة في جعل الولاية له في ذلك من قبل الله سبحانه وتعالى فولايته هنا ولاية امتدادية عن حكم العقل بلزوم إطاعة الباري عز وجل ومنها قوله سبحانه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) ومنها قوله عز وجل: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن قول الرسول وعمله حجة على الناس بل قد دل الحديث الشريف المتواتر بين الفريقين عن رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم فإن هذا الحديث دال على ثبوت هذا المقام للأئمة المعصومين أضف إلى ذلك ما دل على ثبوت مال النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) من المناصب للأئمة الهداة (عليهم السلام).

وأما في ثبوت منصب الحكومة والرئاسة الدنيوية بإدارة شؤون الأمة للنبي والأئمة (عليهم السلام) فهو أيضاً مما لا ينبغي الشك والكلام في ثبوته لهم وأنه عز وجل قد فوضه إليهم فهو منصب إلهي لا من قبل الناس والشاهد لثبوته لهم أمور أحدها الآيات الشريفة ومنها قوله عز وجل: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويأتون الزكاة وهم راكعون) فإن الآية الكريمة تدل على ثبوت منصب الزعامة والرئاسة بعد رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) لطائفة خاصة من المؤمنين فإذا انضم إلى ذلك ما اتفق عليه المفسرون من نزول الآية في شأن أمير المؤمنين في قضية التصدق بالخاتم وما دل على ثبوت منصب كل امام لإمام بعده كخبر المعلى ونحوه فيثبت هذا المنصب للأئمة الهداة أيضاً ومنها قوله عز وجل (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) فإن الآية الشريفة تدل على لزوم العمل بكل أمر وحكم صادر من الله تعالى ورسوله وأولي الأمر ومقتضى إطلاق الآية يشمل حتى ما يرجع إلى شؤون الأمة وإدارة الحكومة الإسلامية وليس معنى الحكومة من قبل الله تعالى إلا ذلك بل في بعض النصوص ورد  عن الإمام (عليه السلام) بأن الإطاعة المأمور بها في الآية أريد بها  الإطاعة في الأوامر الصادرة عن المعصومين فيما يرجع إلى إدارة شؤون الأمة ومنها خبر عيسى ابن السري قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) حدثني عما بنيت عليه دعائم الإسلام إذا أنا أخذت بها زكى عملي ولم يضرني جهل ما جهلت بعده فقال (عليه السلام) شهادة أن لا إله الا الله وأن محمداً رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) والإقرار بما جاء به من عند الله وحق في الأموال من الزكاة والولاية التي أمر الله بها ولاية آل محمد إلى أن قال: قال الله عز وجل (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) فكان علي ثم صار من بعده حسن ثم من بعده حسين ثم من بعده علي بن الحسين ثم من بعده محمد بن علي ثم هكذا يكون الأمر وأن الأرض لا تصلح إلا بإمام كما روى الرواية الكليني (رضوان الله عليه) في أصول الكافي وأيضاً من الأخبار صحيحة بريد العجلي أو بريد عن أبي جعفر (عليه السلام) في وقول الله عز وجل: (فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً) جعل منهم الرسل والأنبياء والأئمة فكيف يقرون في آل إبراهيم وينكرونه في آل محمد (صلىالله عليه وآله وسلم) قال قلت وآتيناهم ملكاً عظيماً قال الملك العظيم أن جعل فيهم أئمة من أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصى الله فهو الملك العظيم.

ومن الواضح أن جعل الأئمة من جهة الأمر بإطاعتهم وجعلها قرين إطاعة الله صاحب الملك العظيم عبارة أخرى عن الحكومة المطلقة كما هو واضح وأما أولوا الأمر فقد اتفقت النصوص الشريفة التي منها ما تقدم من أن المراد بهم الأئمة الاثنا عشر (عليهم السلام).

والظاهر أن المقصود بالأمر في الآية هو الحكومة وإدارة شؤون الأمة وسميت به لقوامها بالأمر من طرف والإطاعة من طرف آخر ولعل هذا ما ورد في الروايات الشريفة ففي كتاب الإمام المجتبى (عليه السلام) إلى معاوية فإنك تعلم إني أحق بهذا الأمر منك وفي خطاب السبط الشهيد (عليه السلام) لأصحاب الحر" ونحن أهل بيت محمد وأولى بولاية هذا الأمر عليكم "إلى غير ذلك من موارد استعمال لفظ الأمر في شؤون الإمارة والحكومة بشعبها المختلفة ولعل هذا المعنى أيضاً هو المتبادر من قوله تعالى: (وشاورهم في الامر) وقوله عز وجل: (وأمرهم شورى بينهم) وعلى هذا فيكون معنى الأمر الذين تصدوا لأمر الحكومة وإدارة الشؤون العامة بشعبها المختلفة وفي رأسهم النبي الأعظم (صلىالله عليه وآله وسلم) والإمام المعصوم (عليه السلام) ويدل على ذلك الروايات الدالة على أن الأئمة ولاة أمر الله وأولي الأمر أيضاً فمنها خبر عبد الرحمن سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: نحن ولاة أمر الله والظاهر من هذا العنوان عرفاً من يجب الرجوع إليه في الأمور العامة ومنها ما عن سيد الشهداء (صلوات الله عليه) فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائم بدين الحق الحابس نفسه على ذات الله ومن أعلى مصاديقه هو النبي والإمام المعصوم (عليه السلام) ومنها خبر سليمان بن خالد عنه (عليه السلام) اتقوا الحكومة فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين كنبي أو وصي نبي ومنها بعض الأخبار الواردة في صفات الأئمة كخبر عبد العزيز بن مسلم عن مولانا الرضا (عليه السلام) في حديث طويل يقول إن الإمام زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين إن الإمام أس الإسلام النامي وفرعه السامي بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف إلى غير ذلك من الأخبار وظهور ذلك في أن الحكومة للإمام (عليه السلام) أولاً واضح بل هو كالصريح في ذلك ونظير ذلك ما عن العلل بسنده عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) في علة حاجة الناس إلى الإمام ورد فيه منها أنا لا نجد فرقة من الفرق وملة من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيم ورئيس لما لا بد لهم في أمر الدين والدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق بما يعلم أنه لا بد لهم منه ولا قوام لهم إلا به إلى غير ذلك من النصوص المتواترة الدالة على ذلك بألسنة مختلفة وبعبارات شتى وحاصلها وهو الجامع المشترك بل المتواتر معنى من مجموع  الروايات أن الولاية التشريعية بعد الله عز وجل ثابتة للنبي والإمام سواء في أمور الطاعة أو في أمور الحكومة والتصرف في شؤون الناس.

- الدليل الثالث: الارتكاز الثابت ببناء العقلاء حيث جرى بنائهم في كل أمر راجع إلى المعادي والمعاش على رجوع الجاهل إلى العالم من جهة كونه أهل خبرة والاطلاع ولم يردع الشارع المقدس عن ذلك ومن الواضح أن الإمام (عليه السلام) أعلم الناس وأفضلهم وأبصر بالأمور سواء أكان الأمر مربوطا  بالمعاش أو بالمعاد فيتعين جعله المرجع والحاكم ومتابعته حتى في الأمور الراجعة على إدارة شؤون الأمة.

- الدليل الرابع: حكم العقل إذ لم نجد فرقة من الفرق ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلا بقيم ورئيس لما لا بد لهم في أمر الدين والدنيا ومن الممتنع في حكمة الحكيم عقلاً أن يترك الخلق بما يعلم أنه لا بد لهم منه ولا قوام لهم إلا به وعليه فحينئذ إما أن يعين الأبصر بالأمور السياسية وتنظيم البلاد وتدبير شؤونهم أو يعين من هو جاهل بذلك أو لا يعين أصلاً أما في صورة عدم التعيين فالبطلان فيه واضح كما عرفته مما تقدم وأما في تعيين الفاسد فهو باطل قطعاً لاستلزامه ترجيح المرجوح بل ونقض الغرض وهو قبيح ومن الحكيم محال فيتعين الأول وبهذا البيان يظهر قطعاً بأن الله تعالى عين الإمام (عليه السلام) لذلك.

- الخامس: من الأدلة أن جملة من الأحكام الشرعية جزائية وقضائية وسياسية واجتماعية كالقصاص والحدود والقضاء وقبول الجزية والجهاد والنكاح والبيع وما أشبه ولا يمكن إجراء تلك الأحكام إلا بيد الحاكم على الأمة وقد صرحت في ذلك جملة من الأخبار بأنها لإمام المسلمين وقد عرفت بعضها مما تقدم ولذا نرى أن النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) حينما ساعدته الظروف أسس حكومة إسلامية عادلة وكذلك مولانا أمير المؤمنين أسس الحكومة وحارب من خالفه بذلك وكذا مولانا الحسن (عليه السلام) وسيقيم دولة الله العادلة مولانا صاحب العصر والزمان (عج) ومن مجموع ما ذكرنا يظهر بأن ولاية الإمام (عليه السلام) هي فرع عن ولاية الله وهي ثابتة له بعد الله عز وجل.

وأما ولاية التصرف في الأموال والأنفس وهي ما يعبر عنها بالولاية التشريعية أحياناً بمعنى نفوذ كل تصرف منهم في أموال الناس وأنفسهم.

واستدل لهذه المرتبة من الولاية بطائفة من الأدلة منها قوله سبحانه وتعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وقد أضافت الآية الشريفة إلى مقام النبوة أولوية التصرف أيضاً ويحتمل في المراد من أولوية التصرف وجوه:

- الوجه الأول: أولوية النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) وتقدمه على النفس في جميع الأمور بمعنى أن كل ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ والمحبة وإنفاذ الإرادة فالنبي أولى بجميع ذلك من نفسه وعليه أن يرجح جانب النبي على جانب نفسه في جميع المراحل فلو توجه شيء من المخاطر إلى نفس النبي مثلاً فعلى المؤمن أن يقيه بنفسه وأن يكون أحب إليه من نفسه وأكرم كما أن النبي الأعظم (صلىالله عليه وآله وسلم) إذا دعاه إلى شيء ودعته نفسه إلى خلافه فعليه أن يقدم ما يريده النبي ويترك ما يهواه بنفسه لكون النبي أولى بالمؤمن من نفسه في الأمور الشخصية والاجتماعية والدنيوية والأخروية التكوينية والاعتبارية.

- الاحتمال الثاني: أولوية النبي وتقدمه في كل ما يشخصه من المصلحة للمؤمنين لجهة أنه أعلم بمصالحهم وأحق بتدبير هم فيكون حكمه وإرادته أنفذ عليهم من إرادة أنفسهم ويجب عليهم أن يطيعوه في كل ما أمر به من الأمور الاجتماعية والفردية.

- الثالث: أولويته بالنسبة إلى خصوص الأمور العامة الاجتماعية بمعنى أنه (صلىالله عليه وآله وسلم) أحق وأولى بالنسبة إلى الأمور العامة المطلوبة للشارع غير الموكلة إلى شخص خاص سوى الحاكم والإمام وعليه فإن المصالح الاجتماعية التي يرجع فيها كل قوم إلى رئيسهم ويرونها من وظائف قيم المجتمع كإقامة الحدود والتصرف في أموال الغيب والقصر وحفظ النظام الاجتماعي وجمع الحقوق الشرعية وصرفها في المصالح العامة وعقد المواثيق مع الدول والملل ونحو ذلك في هذه الأمور الاجتماعية المرتبطة بالولاة يقول النبي (صلىالله عليه وآله وسلم) مبسوط اليد فيها وهو أولى من غيره في التصرف فيها ولا يجوز لأحد التخلف عن أوامره أو مزاحمته أو اتخاذ القرار بخلافه لأن النظام لا يستحكم إلا بكون الرئيس في الأعمال المرتبطة به مطاعاً ومسموع الكلمة.

- الاحتمال الرابع: تقدم ولاية النبي على سائر الولايات الموجودة في المجتمع وحينئذ يصبح معنى الآية أن ولايته أقوى وأشد من سائر الولايات وأن حكمه أنفذ من حكم بعضهم على بعض ففي الموارد التي ينفذ حكم أحد في حق غيره بنحو من أنحاء الولاية يكون حكم النبي فيه أنفذ وأشد وأقوى من سائر الأولياء.

وربما يشهد لهذا الاحتمال كلمة أولى التي هي للتفضيل فإنه من تفضيل الولاية فيراد به تفضيل ولاية النبي على سائر الولايات هذه وجوه أربعة محتملة من الآية ولا يخفى أن الاحتمال الأول أعم وأشمل من الثاني والثالث والرابع وهو الظاهر من الإطلاق في الآية كما لا يخفى بل ولعله الوارد في الروايات أيضاً التي منها مكاتبة ابن الريان إلى الإمام العسكري (عليه السلام) قال كتبت إليه روي لنا أن ليس لرسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) من الدنيا إلا الخمس فجاء الجواب أن الدنيا وما عليها لرسول الله ومنها مرسل أحمد بن محمد بن عبد الله الدنيا وما فيها لله تبارك وتعالى ولرسوله ولنا فمن غلب على شيء منها فليتق الله ومنها خبر أبي بصير عن مولانا الصادق (عليه السلام) قلت له: أما على الإمام زكاة فقال: يا أبا محمد أما علمت أن الدنيا والآخرة للإمام (عليه السلام) يضعها حيث يشاء ويدفعها إلى من يشاء ونحو ذلك من الأخبار.

هذا وقد دلت الأخبار أيضاً على أن هذه الأولوية التي ثبتت لرسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) بنص الكتاب العزيز هي ثابتة للأئمة (عليهم السلام) كما في خبر زيد بن أرقم عنه (صلىالله عليه وآله وسلم) في قضية الغدير أيها الناس إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي ثم قال: أتعلمون إني أولى بالمؤمنين من أنفسهم ثلاث مرات قالوا: نعم فقال رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم): من كنت مولاه فعلي مولاه وقد روي هذا المضمون متواتراً بطرقنا وطرق العامة أيضاً وفي الدر المنثور للسيوطي وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي عن بريدة قال: غزوت مع علي اليمن فرأيت منه جفوة فلما قدمت على رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) ذكرت علياً فتنقصته فرأيت وجه رسول الله (صلىالله عليه وآله وسلم) تغير وقال: يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم قلت بلى يا رسول الله قلت من كنت مولاه فعلي مولاه وقد ذكر هذا الخبر الحاكم أيضاً في المستدرك ويظهر من خبر بريدة أن هذا المضمون قد صدر عن رسول الله في غير قصة الغدير أيضاً كما أن خبر الثقلين أيضاً صدر عنه غير مرة تثبيتاً للكتاب والعترة لإلا تنساه الأمة.

ويستفاد من إشارته إلى الآية الشريفة وبيان أولوية نفسه أن المراد بالمولى والأولى واحد وأنه (صلىالله عليه وآله وسلم) أراد أن يثبت لعلي (عليه السلام) مثل ما أثبته الله له (صلىالله عليه وآله وسلم) من الولاية والأولوية في التصرف وإلا لم يكن لذكر أولويته بالمؤمنين وجه بل كان لغواً وهو منزه عنه ولا يخفى عليك أن قوله (صلىالله عليه وآله وسلم): من كنت مولاه فعلي مولاه يحتمل فيه بالنظر البدوي الإخبار والإنشاء فعلى الأول يريد الإخبار بأن الله تعالى جعل علياً مولى المؤمنين وأولى بهم وعلى الثاني يريد أنه (صلىالله عليه وآله وسلم) بنفسه جعل المولوية لعلي (عليه السلام) والأول رجحه بعض الأعلام في دراسات في ولاية الفقيه وقال بأنه الأوفق بمذهبنا وظاهر آية التبليغ الواردة في هذه القصة إلا أن الظاهر لا مانع من الجمع بناءً على الطولية بمعنى أن الرسول (صلىالله عليه وآله وسلم) جعله كذلك لأنه وعاء مشيئة الله ومظهر قدرته على ما عرفته مما تقدم.

ويدل على الأولوية في التصرف مضافاً إلى الآيات والأخبار الإجماع من جميع المسلمين كما يدل عليه أيضاً العقل لكونه (صلىالله عليه وآله وسلم) أعلم الناس بمصالحهم ومفاسدهم شخصياً ونوعياً ولا يرضى لهم إلا بما فيه صلاحهم ونجاحهم بخلاف نفس الإنسان حيث إنه قد يرد نفسه في مهالك عظيمة في الدنيا والآخرة والظاهر أنه لا اختصاص لهذه الأولوية بنبينا الأعظم (صلىالله عليه وآله وسلم) بل كل نبي هو أولى بأمته من أنفسهم بل يجري ذلك في العالم الرباني الداعي إلى الله والحاكي قولاً وعملاً عنه تعالى فهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم فضلاً عن النبي المعصوم والإمام المعصوم المؤيد بالتأييدات السماوية كما هو معروف في سيرة العقلاء في تدبير أمورهم الدنيوية.

وأما في ولايتهم ووجوب إطاعتهم في الشؤون الشخصية العرفية الراجعة مصلحتها إليهم فيمكن أن يستدل ذلك بوجهين أحدهما الآيات والنصوص المتواترة الدالة على افتراض طاعتهم وأن معصيتهم كمعصية الله عز وجل منها قوله عز وجل: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) ومنها قوله تعالى: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) ومنها قوله عز وجل: (من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً) ومنها صحيح زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن تبارك وتعالى الطاعة للإمامة بعد معرفته ثم قال إن الله تبارك وتعالى يقول من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك إليهم حفيظاً ومنها خبر الحسين بن أبي العلاء قال ذكرت لأبي عبد الله (عليه السلام) قولنا في الأوصياء أن طاعتهم مفترضة فقال نعم هم الذين قال الله تعالى:(أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) وهم الذين قال الله عز وجل: )إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) وخبر معمر بن خلاد قال سأل رجل فارسي أبا الحسن (عليه السلام) فقال طاعتك مفترضة فقال (عليه السلام) نعم قال مثل طاعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال نعم إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة.

وتحصل مما تقدم أن ولايتهم واستقلالهم في التصرف على أموال الناس وأنفسهم مما لا شبهة فيه وما توهمه بعضهم من كون السيرة على خلاف ذلك بلحاظ أن الأئمة (عليهم السلام) لم يأخذوا اموال الناس بغير المعاملات المتعارفة بينهم فلا يجوز ذلك هذا التوهم غير تام وذلك من جهة أن غير مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن متمكناً من العمل بقوانين الإمامة بل كانوا تحت أستار التقية بل حتى مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) في كثير من الموارد كان أيضاً يمارس بعض النوع من التقية رعاية للمجتمع ولعقوله وكان في غير موارد التقية أيضاً لم يفعل ذلك لأجل المصلحة وعدم الاحتياج إلى مال الناس وإلا فلا يكشف عدم الفعل على عدم الولاية كما هو واضح وقد ثبت مما تقدم إذاً بأن الأدلة الأربعة قد قامت على ثبوت الولاية التكوينية بأنحائها والتشريعية أيضاً بأنحائها للنبي الأعظم (صلىالله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) وولايتهم امتداد لولاية الله سبحانه ومفاضة من قبله لهم وبإذنه ومشيئته ولكن الفرق بين الولايتين هو أن ولاية الله سبحانه وتعالى حقيقية بينما ولايتهم اعتبارية كما أن ولايته عز وجل ذاتية وولايتهم عرضية كما أن ولاية الله عز وجل مستقلة وولايتهم تابعة ومتفرعة وبذلك تبطل الشكوك والشبهات التي قد تورد على أنها قد تستلزم الشرك ونحوه وكيف كان فإنه يتحصل مما تقدم بأن السلطنة والسيادة ترجع ثانياً وبالعرض بعد الله سبحانه وتعالى إلى النبي وأهل بيته (عليهم السلام) فكل ولاية أخرى تزاحمهما أو تعارضهما فهي باطلة شرعاً وعقلاً إلا الولاية المتفرعة عنهما والمجعولة من قبلهما.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.