المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 12.doc

- الفصل الأول: في السلطة الذاتية أو الولاية الذاتية

 ونتعرض إليه من جهتين: الجهة الأولى في المفهوم والمصطلح، الجهة الثانية في الولي الذاتي وأدلة هذه الولاية.

- أما الجهة الأولى: فقبل معرفة المفهوم لا بد وأن نعرف بأن الإسلام لا يؤمن بوجود سلطة دينية منفصلة عن السلطة الزمنية، بل هناك سلطة واحدة تختارها الأمة بمحض إرادتها كما أن الإسلام ينشأ دولة على قواعد راسخة فالدولة الإسلامية هي دولة القانون الشرعي، وكل فرد في هذه الدولة خاضع لهذا القانون سواء كان حاكماً أو كان مواطناً.

وتجربة الحكم الإسلامي تعرض لنا نماذج رائعة عن الحريات الإسلامية والحقوق، حيث كان الحاكم لا يمتاز عن أبسط مواطن يعيش في الدولة الإسلامية، كما  يتعرض هو إلى المحاكمة ويتعرض الحاكم أيضاً مثله مثل أي مواطن آخر في هذه الدولة.

هذا من جانب، ومن جانب آخر ينبغي أن نعرف أنه ليس في الإسلام طبقة كهنوتية لها الحق في التصرف كما تشاء دون قيد أو حدود، وبالتالي فالإسلام لا يؤمن بالفصل بين الدين والدولة بل هما شيء واحد ورئيس الدولة يمكن أن يكون هو الإمام الذي يقتدي به المسلمون ويأخذون منه ومن غيره علوم الدين والشريعة، والجميع يطبِّق قوانين الشريعة سواء في بُعد السياسة والحكم أو في بُعد المجتمع والشؤون الإنسانية.

كما أن الإسلام يؤمن بالشورى ويتخذ منها منهاجاً للحكم وإدارة شؤون الناس، فلا مجال للاستبداد في دولة الإسلام ولا احتكار للسلطة، وللأمة كامل الحق في مراقبة الحاكم، بل يجب عليها مراقبة الحاكم حفظاً لحقوقها ورعاية للعدالة وتتبّعاً لسياسة الحاكم في تطبيقه للقوانين الشرعية ومن حقها أيضاً عزل الحاكم عند انحرافه وعظمة الإسلام تتجلّى في قدرته الفائقة في الجمع بين الدين والدولة في نسيجٍ رائعٍ أوجد حالة من التوازن في نظام الحكم خصوصاً يظهر ذلك في الفترة التي كان فيها الإسلام حاكماً على ربوع الكرة الأرضية، وليس أدلّ على ما نقول ما اعترف به مفكرو الغرب الذين أذعنوا لحقيقة الإسلام، يقول دكتور شافت أن الإسلام يعني أكثر من دين، إنه يمثل نظريات قانونية وسياسية.

ويقول نالينو لقد أسس محمد (صلى الله عليه وآله) في وقت واحد ديناً ودولة، ويقول سيفتي أرنولد كان النبي في الوقت نفسه رئيساً للدين ورئيساً للدولة، بل الدين جمع النبوّة والدولة فالنبي هو الحاكم كما أن الإمام المعصوم هو الحاكم، ومن بعدهم الفقهاء الذين جمعوا شرائط الفتيا والحكم.

لكن من ناحية السيادة انقسم الاسلاميون في مبدئها إلى اتجاهات ثلاثة: فبعضهم يرى أن السيادة لله فقط سبحانه وتعالى، وهذه النظرية فيها بعض الإجمال، لإمكان أن يسأل سائل بأنه المقصود من أن السيادة لله سبحانه وتعالى، إذا كان المراد منها بأنّ السلطة والسيادة إليه عز وجل بالأصالة ثم عز وجل يفوض هذه السلطة إلى من يطبّقها ويمارسها فهذا صحيح على ما ستعرفه، وأما إذا ما عنى ذلك وإنما قصد السيادة لله عز وجل ثم بعد ذلك لم يفوّضها إلى أحد للممارسة والتطبيق، وهذا إذا عني به ذلك فهي باطلة عقلاً وشرعاً، أما عقلاً فللزوم نقض الغرض واللغوية لوضوح أن الكلام في سيادة الدولة وحق ممارسة سلطتها على الناس وإنما تمتلك الدولة هذا الحق لغرض التطبيق والتنفيذ للأحكام الشرعية والوصول إلى الأهداف العليا، فلولا أن يفوض الله عز وجل السلطة لبشر يمارسها يكون قد نقض الغرض ولزم منه اللغوية أيضاً. وأما شرعاً فللملازمة العقلية بين الحكم والشرع سلسلة العلل مضافاً إلى استلزام وقوع الظلم والتعدي في صورة عدم التفويض، ولذا أجاب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) على دعوى الخوارج بأن لا حكم الا لله بأنها كلمة حق يراد بها باطل، إذ لا شك في أنه لا حكم الا لله بالأصالة ولكن لابد للناس من أمير برٍّ أو فاجر بالتبع فتأمن به السبل وتقام به الحدود وتحفظ به الحقوق، ونحو ذلك كما عرفته من النصوص المتقدمة.

وبذلك يظهر وجه النظر في كلمات بعض الأعلام من العامة والخاصة حيث أطلقوا على الحكم الإسلامي بالثيوقراطي كما يظهر من كتاب (دراسات في ولاية الفقيه) وغيره.. وبعضهم ذهب إلى أن السيادة للأمة فقط وقد استدلّوا لذلك بدليلين:

- أحدهما: دليل الشورى الذي يوصل إلى أن الأمة وحدها هي مصدر السلطة والسيادة، والدليل الثاني الحديث المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لا تجتمع أمتي على خطأ).

إلا أن الظاهر للمناقشة في الدليلين مجال واسع؛ أما أدلة الشورى فلا تثبت أن السيادة منحصرة بالأمة كما هو واضح، للزوم أخذ الأمة بالشورى في إطار القوانين الشرعية لا أكثر، وأما الحديث النبوي المروي فقد أجاب عنه جمع من الأعلام من أن الاستدلال به على عصمة الأمة لا ينفع فيما نحن فيه وذلك لأن الرواية لا تنفي الخطأ عن اجتماع الأمة بل تنفي الاجتماع على خطأ وبينهما فرق واضح لبداهة أن في الثاني إذا اجتمعت الأمة فإن وجود الإمام المعصوم بين الأمة هو الذي ينفي اجتماعها على خطأ وهذا غير احتمال صدور الخطأ عن الأمة، فلو سلمنا فإنه خارج عما نحن فيه بداهة أن الصواب لا يمكن أن يكون مصدراً للسيادة ومعطياً للأمة حق التصرف مطلقة حتى فيما يرتبط بولاية الله وشؤونه التكوينية والتشريعية، وبالتالي فإن الدليل أخص لكون الصواب نتيجة والبحث في مصدر السلطة لا في نتيجة السلطة، ولذا لا يمكن الاستدلال بهذا الحديث على أن السيادة للأمة استناداً  إلى فكرة عصمة الأمة فإن ذلك لا يقوى كدليل على أن الأمة هي صاحبة السلطة المطلقة التي تشرّع وتقضي وتحكم، وليست هناك سلطة أعلى منها.

والظاهر أن جمعاً من القائلين بهذا قد وقعوا تحت تأثير الفكر الغربي الذي تولد من الثورة الفرنسية حيث انتقل مفهوم السيادة من الملك إلى الأمة لمنع الاستبداد والذي شجعهم على ذلك القول هو تأثرهم بعبارة بعض الساسة الغربيين كما في مقدمة كتاب (السياسة) لأرسطو الذي كتبها وزير الخارجية الفرنسي بارتملي سيرت هيلبر حيث يقول إن لمن دواعي فخر العرب على الأمم أجمع أن كان لهم منذ الربع الأول من القرن السابع الميلادي دستور للأمة يعترف لها بالسيادة ولأنها مصدر السلطات بينما كان ظهور هذه الفكرة قد تأخر في أوروبا للقرن الثامن عشر، وعد ذلك ضرب من الجسارة والخيال، ومن الواضح أن لا مجال للالتزام بهذا الرأي لكونه مخالف صريح للأدلة النقلية والعقلية القائمة على أن السلطة والسيادة ترجع إلى الله عز وجل أولاً كما في متظافر الآيات والأخبار حيث يقول سبحانه: (إن الحكم الا لله) ويقول عز وجل: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) ويقول عز وجل: (قل الله أذن لكم أم على الله تفترون) حيث تنفي هذه الآيات أن يكون لأحد  في قبال الله عز وجل حكم أو سلطة أو سيادة.

فعليه بأن القول بأن السيادة للأمة حصراً هذا مخالف لدليل النقل، بل هو مخالف لدليل العقل أيضاً لأن فاقد الشيء لا يعطيه كما هو واضح، إن قلت الا أن سيادة الأمة ترجع إلى سيادة الأفراد وسيادة الأفراد على أنفسهم ذاتية بداهة تسلط كل إنسان على نفسه فإنه يقال حتى سيادة الإنسان على نفسه فإنها ترجع إلى مقدار ما أعطاه الله عز وجل من السلطنة والسيادة لتبعية ما بالعرض إلى ما بالذات، والنسبة تكون للأصل لا للفرع هذا مضافاً إلى الإشكال فيها من وجوه:

- الوجه الأول: أن مفهوم السيادة لا يمكن إطلاقه على الأمة أصلاً لأن الأمة التي لها سيادة لا تخضع للقانون كما هو المستفاد من مؤدى السيادة، بل هي التي تضع القانون، وهذا يتناقض مع شريعة الإسلام حيث قام الإسلام على مبدأ أن الله عز وجل هو المشرع وليس لأحد الحق في التشريع في غير ما جاء به الله عز وجل، كما يقول تبارك وتعالى في القرآن الكريم: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام)، ويقول عز وجل: (ويقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله).

مضافاً إلى ما عرفته مما تقدم وعلى هذا الأساس فإن القرآن الكريم يرفض النظام الديمقراطي لأنه قائم على مبدأ سيادة الأمة، إذ كيف يمكن الجمع بين كون السيادة للأمة وبين إذعان الأمة للقرآ ن والسنة، وهذا تناقض صريح.

وبعضهم ذهب إلى أن السيادة هي للاثنين معاً فمن حيث الأصالة تكون السيادة لله سبحانه تكويناً وتشريعاً ومن حيث التطبيق والتنفيذ تكون للأمة السيادة فلها أن تختار حاكمها وشكل نظام الحكم ولكن لا يجوز لها ذلك إلا بعد توفر الشروط الشرعية، فسيادة الأمة في إطار قوانين الشرع إذاً مشروطة لا مطلقة، كما أن سيادة الإنسان على نفسه كذلك، فله السلطنة على التصرف بنفسه وماله وحقوقه ونحو ذلك ولكن لا يجوز له مخالفة الشرع بالربا بالمال أو قتل نفسه مثلاً أو هدر حقوقه فيما إذا انطبق عليه عنوان الإسراف أو الإهانة أو نحو ذلك، أو التصرف في حقوقه بما يضر بالآخرين فكذلك في سيادة الأمة.

فإذاً السيادة أولاً وبالذات في التكوين والتشريع لله عز وجل، وثانياً وبالعرض في التطبيق للأمة على ما ستعرفه إن شاء الله تبارك وتعالى.

ومن هنا كان الأولى التعبير عن مبدأ السيادة في الاصطلاح بالولاية لا بالسيادة، لأنه الوارد في الأدلة النقلية وفي كلمات الفقهاء والفرق واسع بين مفهوم الولاية ومفهوم السيادة، ويظهر الفرق من جهات عدّة:

- الأول: أن مضمون الولاية يشتمل على جانبين مهمين هما التكوين والتشريع، لكون الولاية تعني تولي الأمر والتصرّف والتدبير ويشتق منه لفظ الوالي بمعنى الحاكم والأمير.

وعليه فإنها تعني التصرف في تكوين الكون والحياة والبشر وتحديد خط السير لكل ذرة تائهة في هذا الوجود الواسع فصاحب الولاية الأصلي هو الله الذي يخلق الأشياء ويحدد مسارها وكل شيء يسير في خط تكاملي بين التكوين والتشريع فالذي خلق الإنسان شرع له بمقتضى تكوينه ومن هنا جاء التوازن بين خلق الإنسان وقانونه في الحياة، ومتى ما تكاملت هاتان الحلقتان؛ أي حلقة التكوين والتشريع بمعنى تطابق العالمين تحقق التوازن في الحياة، ومن ثمار هذا التوازن هو تحقق العدالة في كل جانب من الحياة.

هذا ما يستفاد من كلمة الولاية، وأما كلمة السيادة فالمنصرف منها هو الفصل بين التكوين والتشريع لأن السيادة لا تفيد أي أهمية لمسألة التكوين لكونها بالتشريع وتغض الطرف عن المكون للوجود والإنسان ودوره في الخلق والحياة كما هو المتبادر منها عرفاً، فهي تفترض وجود إرادتين إرادة الخالق وإرادة المشرّع فتهمل الأول وتأخذ بالثاني، وربما تناقضت الإرادتان عندما يقرر المشرّع أمراً خلافاً لإرادة الخالق عز وجل ويكون حصيلة هذا التناقض هو الدمار والخراب وانهيار الدول والمجتمعات لخروج التشريع عن خط نظام التكوين، ولعلّ قوله سبحانه وتعالى: (وكأي من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حساباً شديداً وعذبناها عذاباً نكرا فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا) يشير إلى ذلك.

- الثاني: تتفرع الولاية الأصلية التي هي لله عز وجل إلى ولايات أخرى بحسب تفاوت المراتب، فتتفرع إلى ولاية الرسول وإلى ولاية أولي الأمر من الأئمة (عليهم السلام) ثم ولاية الفقهاء العدول ثم ولاية كل مؤمن، حيث قال سبحانه: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا)، ويقول عز وجل: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، وعليه فإن الولاية تتفرع لتشمل مساحة واسعة من المجتمع الإسلامي، لكنها تبقى في الأصل لله سبحانه وتعالى، وهي في شموليتها للمجتمع الإسلامي تحيط هذا المجتمع بسحابة من الرحمة الإلهية، وتضمن كل وسائل التقدم في المجتمع لأنها تدفع بالجميع لتحمل أعباء المسؤولية، بينما السيادة صرّح فقهاؤها بعدم إمكانية تفويضها والتصرف بها بل تبقى حكراً على شخص أو فئة فتبعث بالجمود والتضييق في المجتمع.

- الثالث: الولاية عندما تكون للبشر فهي ليست بذاتية فهي مستمدة من ولاية الله سبحانه فيصبح من له ولاية من البشر محدود التصرّف مقيّد بأوامر الله ونواهيه، بينما السيادة في مفهومها الأصلي ذاتية للجميع وتعطي حرية التصرف المطلق لمن يمتلك هذا الحق.

- الرابع: الولاية مطلقة عندما تكون من مختصات الخالق سبحانه وتعالى وتكون ذات مراتب من حيث النفوذ عندما تتفرع إلى غيره، وقد حصر الفقهاء مرتبة الولاية الكاملة في الله سبحانه وتعالى في التكوين وفي التشريع، ومنه تتفرع ولاية الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) ومن بعدها تأتي مراتب ولاية الفقهاء وولاية الآباء والأجداد، وما أشبه ذلك.. حتى تصل إلى عدول المؤمنين.

وتختلف كل مرتبة عن الأخريات بالسعة والضيق والشدة والضعف، بخلاف السيادة في منطق القانون الدستوري فإنها ليس لها إلا مرتبة واحدة، وهي أن تكون مطلقة وهي من اختصاص جهة واحدة يعطى لها الحق في التشريع، وفي ممارسة السلطة.

ونستنتج من ذلك أن المجتمع الذي يبنى على الولاية مجتمع متفاعل الأجزاء قائم على المحبة والنصرة والتقارب بين الناس والعدالة كما يفيده معنى الولاية وينمو فيه الإحساس بالأبوة، بينما المجتمع الناشئ على السيادة فهو مجتمع قائم على الاحتكار والاستئثار والطغيان والاستعلاء، لأن السلطة فيه مطلقة، وهي حكر على نفر محدود ونظرة واحدة إلى المجتمعات الغربية التي أقامت بنائها على مفهوم السيادة توضح لنا بشكل جلي نتائج تطبيق هذا المفهوم على المجتمعات البشرية، ولذلك نشبت من هذا المفهوم مبادئ الاستبداد والدكتاتورية وانتهاك حقوق الإنسان والاستعمار والاستغلال والابتزاز وما أشبه ذلك من آثار سلبية عكستها السياسة الغربية في العالم بسبب قيامها على هذا المبدأ، بينما يكشف لنا تاريخ الحكم الإسلام في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن صورة المجتمع السياسي القائم على قاعدة الولاية حيث أوجدت هذه القاعدة مجتمعاً متراصاً كل عضو فيه يؤدي مسؤوليته فالحاكم يدير شؤون الحكم بما له ولاية على الناس، وهو أب رحيم لهم والمعلم والمرشد والمهذب والمؤدب والأمة تحاسبه على كل صغيرة وكبيرة لأن لها ولاية على الحاكم أيضاً، لأن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، ومن ناحية أخرى نجد أن الأمة هي التي تختار الحاكم بممارسة حقها في السلطة وينشأ من هذا الاختيار حق الحاكم في ولاية الأمر.

ومن هنا اصطلح الفقهاء قديماً وحديثاً على منشأ السلطات بالولاية والممارس له بالولي على ما ستعرف تفاصيله إن شاء الله تبارك وتعالى هذا ما يتعلق بالجهة الأولى من البحث.

- وأما الجهة الثانية: فهي في الولي الذاتي وأدلة ولايته إذ إشكال في أن الولاية كلها لله سبحانه وتعالى وهي تتعلق تارة بالخلق والتكوين فيقال لها ولاية تكوينية وتارة بالتشريع والتقنين وما يتعلق بهما.

أما الولاية التكوينية فقد قامت ضرورة العقول على ثبوتها لله سبحانه وتعالى لكونه الخالق المكون والمدبر لشؤون الكون بداهة استحالة وجود المصنوع من دون صانع من حيث الكبرى وأن هذا الصانع هو الله عز وجل لا غير من حيث الصغرى فإنه عز وجل هو الخالق البارئ المصور المكون لهذا العالم وقد قامت ضرورة العقل وبديهة الفطرة والوجدان على أن العلة لها ولاية تامة على شؤون المعلول في كل أنحاء وجوده الأصيلة والتابعة ولولا ذلك لبطلت العلية أو لزم أقوائية المعلول من العلة أو كان للمعلول ولاية على العلة أو كان قانون العلية والمعلولية باطلاً وكلها باطلة عقلاً لاستلزامها الخلف والدور والتسلسل على ما قرره علماء الحكمة ويرجع هذه المحالة جميعاً إلى التناقض.

وأما دلالة الكتاب والسنة على هذه الولاية فهي غنية عن الذكر بعد تواتر الآيات والروايات فيها كما انها مؤكدة لحكم العقل والفطرة والضرورة وأما الإجماع فلا إشكال في اتفاق جميع الأنبياء والمرسلين والفقهاء والحكماء المتألهين والعرفاء الشامخين بل جميع المليين من الناس أجمعين وإجماعهم على أن الولاية مختصة بالقيوم المطلق عز وجل على كل شيء وهو الله جل جلاله وقد أثبت ذلك جميع علماء الملل والأديان السماوية بأدلة عقلية ونقلية ولا معنى للقيوم الذي هو أم الأسماء الإلهية الا هذا على ما فصله علماء الكلام في مظانه وبذلك يظهر أن الولاية الحقيقية هي ولاية الله سبحانه الخالق البارئ المصور للأشياء والمخرج لها من ظلمة العدم إلى نور الوجود إذ لا مؤثر في الوجود سواه ولا خالق غيره تبارك وتعالى وله تدبير أمور الكون في الايجاد والبسط والإعدام والبسط والقبض وسائر التصرفات الكونية الأخرى. فقد قال سبحانه وتعالى: (إن الله يفعل ما يريد) وقال عز وجل: (الله خالق كل شيء) وقال جل من قال: (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) وكيف كان.

فالولاية التي هي لله سبحانه وتعالى على أربعة أقسام:

- القسم الأول: ولاية الخلق بمعنى انه هو الخالق لكل شيء كما هو المسلم عند جميع أهل العقول قال سبحانه وتعالى: (ذلكم الله ربكم خالق كل شيء) ونسبة الخلق إليه تبارك وتعالى حقيقية ونسبة الخلق إلى غيره مجازية كما في قوله: (إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير) على ما فسره المفسرون وعلماء الكلام.

- القسم الثاني: ولاية الإبقاء لأن بقاء الأشياء برعاية الله سبحانه وقيمومته على كل شيء فبمجرد أن ينقطع عنها لطفه وإبقاءه تفنى الأشياء وتضمحل وربما يمثل له بالصور التي يوجدها الإنسان في ذهنه فإنها توجد بإرادته ذلك وتنعدم بمجرد صرف إرادته عنها.

- القسم الثالث: ولاية الإنماء إذ هو عز وجل رب العالمين وهو القاهر فوق عباده فكل شيء ينمو بإرادته ورعايته ومن الواضح أن الإنماء غير الإيجاد والإبقاء لأن الإنماء فيه نوع من التحويل من حال إلى حال سواء كان التحويل من الأسوأ إلى الأفضل أو من الأفضل إلى الأسوأ أو من الأفضل إلى الأفضل أيضاً أو من المساوي في الفاسدية أو في الأفضلية.

- القسم الرابع: ولاية الجزاء والحساب في الدنيا والآخرة ثواباً أو عقاباً كما قامت عليه الضرورة فضلاً عن أدلة العقل والنقل هذا ولعل التعبير الجامع الذي ورد في القرآن الكريم الشامل للولاية الإلهية على الكون بأبعادها الأربعة هو التدبير فإن التدبير في اللغة هو التفكير في دبر الأمور كما قال تبارك وتعالى: (فالمدبرات أمراً) ويعني في ضمن ما يعنيه الملائكة الموكلة بتدبير أمور الكون ويقال دبر الأمر أي ساسه ونظر في عواقبه كما في المعجم الوسيط ويقال أيضاً التدبير في الأمر أن تنظر إلى ما يؤول عليه عاقبته كما في لسان العرب وفي مجمع البيان يدبر الأمر يقدره وينفذه على وجهه ويرتبه على مراتبه على إحكام عواقبه وحيث إن التفكير والنظر في الامور لا  يصح إطلاقهما على الله سبحانه وتعالى لذا ينبغي أن نحملهما على ما يليق بشأنه عز وجل بحسب القاعدة الكلامية التي تقول خذ الغايات واترك المبادئ ولذا ينبغي أن نحمل التدبير بتدبيره على إظهار أثر التفكير والنظر في الأشياء وهو بمعنى العمل بمقتضى مصلحة الأشياء ونظامها الذي يقومها ويحقق أغراضها فإنه سبحانه وتعالى يدبر الأمر من السماء إلى الأرض بمعنى أنه يأتي بالشيء عقيب الشيء وينظمه بوضع كل شيء بموضعه الخاص به بحيث يحقق كل منها ما يقصده من الغرض والفائدة وتدبير أمر العالم تنظيم أجزائه تنظيماً جيداً ومتقناً بحيث يتوجه كل شيء إلى غايته المقصودة منه وتدبير الكل أي إجراء النظام الكوني العام بحسب المقتضى والمصلحة والحكمة بحيث يلغي العبثية ويوصل كل شيء إلى غايته الخاصة به ويحقق الغرض الكلي العام الذي يقتضيه نظام الخلق والإيجاد ومن هذا ربما يظهر أن التدبير هو معنى جامع الذي يتضمن أنحاء التصرفات الإلهية في الكون إيجاداً وإبقاءاً وإنماءاً وحساباً قال سبحانه ثم استوى على العرش يدبر الأمر وقال عز وجل ومن يدبر الأمر ولعل مما يشير إلى ذلك أيضاً كونه سبحانه رباً للعالم أجمع والرب هو المالك الذي يدبر أمر مملوكه كما في كتب اللغة وعليه فهو سبحانه وتعالى رب العالمين الذي يملك تدبيرهم في أصل الوجود وفي شؤون الوجود كمالاً ونقصاً وتبديلاً وإنشاءاً وإبداعاً لأن الملك الحقيقي لا ينفك عن التدبير والتدبير يستلزم ثبوت الولاية الذاتية الحاكمة في الأشياء طراً وكل ما سوى ذلك فهو بالعرض ومقتبس منه قوته وقدرته وهذا وقد فصلنا ذلك في كتاب مستقل يستوعب كل أنحاء هذا البحث وفصوله وبذلك يثبت أن كل قدرة في الوجود تنتهي إليه سبحانه وتعالى سواء تجسدت في المادة والماديات أو في المعنى والمعنويات أو تجلى في العلم والمعرفة أو في المال والأموال أم في الخلق والتكوين أم في السلطة السياسية أو القضائية وغيرها لأنه عز وجل الخالق المطلق فهو المتصرف المطلق والحاكم المطلق على كل شيء فهو منشأ السيادة بالذات والأصالة وولايته وسيادته وسلطته على الأشياء لا تقبل الضعف أو الزوال أو البطلان وكل سيادة أو ولاية فهي مكتسبة وعرضية فهي قابلة للضعف والزوال والبطلان وكل سيادة عرضية لا تنتمي إلى سيادته عز وجل وسلطته على الأشياء ولا تتفرع منه فهي باطلة عقلاً وشرعاً وأما الولاية التشريعية فهي بمعنى مالكية القدرة على التصرف في شؤون التشريع وجعل الأحكام والقوانين والأنظمة وكذا ما يرتبط بتهذيب الإنسان وتعليمه وهدايته وهي أولاً وبالذات مختصة بالله سبحانه لا غير كما قامت عليه بداهة العقول والفطرة وتواتر الآيات والروايات فضلاً عن إجماع جميع أهل الملل والنحل فلا ينازعه فيها أحد ولا يشاركه فيها أحد كالولاية التكوينية الذاتية فللباري تعالى حق جعل الأحكام ووضع القوانين وإنزال الكتب وإرسال الرسل وجعل الشرائع والأديان وهذا الحق اولاً وبالذات حقه عز وجل وشأنه كما قال تبارك وتعالى إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه وقال عز من قائل (إن الحكم إلا لله) يقصد الحق وهو خير الفاصلين ويقول عز وجل ألا لله الدين الخالص ومن الثابت أن ضرورة التكوين تقتضي وجود نظام التشريع أيضاً وذلك لأن الله سبحانه وتعالى حكيم والحكيم له غرض في أفعاله وإلا كان فعله عبثاً ينتهي إلى نقضه وهو خلاف الوجوب والحكمة وعليه فإن التشريع مكمل للتكوين كما أن ضرورة التكوين تقتضي وجود التشريع وبما أن الله سبحانه وتعالى هو المالك الحقيقي للكون تكويناً بما أنه خالق ومدبر فلا مجال ولا قدرة لأحد في أن ينازعه في ملكه وملكوته فكذلك الأمر تشريعاً فلا يحق لغيره عز وجل أن يحكم مستقلاً أو تابعاً بغير إذنه ورضاه كما لا يحق لأحد أن ينازعه في أحكامه وذلك في أن من امتلك أمر التكوين امتلك أمر التشريع أيضاً لأن عالم التشريع صب مطابق لعالم التكوين لضرورة تطابق العالمين لأن التشريع بمعنى جعل القوانين والأنظمة الحكيمة للتعامل مع عالم التكوين ومن هنا نجد أن القرآن الكريم يحصر حق الحكم لله سبحانه وليس لأحد من خلقه أن يبادر إلى تشريع حكم أو تولي حكومة أو قضاء إلا بإذنه أو رضاه قال تعالى: (إن الحكم إلا لله) وقد ذكرت بعض الآيات فلسفة ذلك منها قوله عز وجل: (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله الذي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) إذ تشير الآية إلى كون الحكم لله سبحانه لأنه مطابق للخلقة ومنسجم مع الفطرة ومكمل لنظام الكون والوجود ومنه يعرف أن الله عز وجل لم يخلق الخلق عبثاً دون غرض وغاية حيث قال سبحانه: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً) وإنما خلق الخلق لأغراض وغايات كمالية يسيرون إليها بحسب جبلتهم وفطرتهم بعد أن منحهم الوسائل والأسباب بالعقول والفطر ومهد لهم الطرق بالكتب والأحكام وهداهم إليها بالأنبياء والرسل كما قال سبحانه أعطى كل شيء خلقه ثم هداه وقال عز وجل: (ثم السبيل يسره) وبهذا يتضح أن الدين الحق أو دين الله والحكم حكمه سبحانه فلا حكم إلا له أو بالواسطة وما وراء ذلك فهو حكم باطل لا يسوق الإنسان إلى رشد وكمال بل وينتهي به إلى الشقاء والتعاسة إذ هما ضدان لا يفصلهما ضد ثالث ممكن أن يكون له أثر مغاير لآثارهما كما يتضح أيضاً أن السلطة الحقيقية في الوجود ناشئة من الولاية الحقيقية الذاتية على شؤون التكوين والتشريع وهذه الولاية الذاتية لا يملكها إلا الله عز وجل فهو مبدأ السلطة والولاية وهو مصدرها وكل سلطة أو سيادة أو ولاية فينبغي أن تتفرع منه وتنشأ من رضاه عز وجل والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.