2009/06/18

تحت عنوان ( النهج الاقتصادي للامام علي (ع) أقامت مؤسسة الفردوس في دمشق مؤتمر اً  حضره جمع غفير من العلماء وأساتذة الجامعات في سورية  وقد أفتتح المؤتمر بكلمة الدكتور  أكرم الحوراني أستلذ علم الاقتصاد في جامعة دمشق  ثم كلمة الدكتورة رئيفة أبو راس ثم كانت هناك مشاركة من الدكتور محسن القزويني مؤسس جامعة أهل البيت واليكم الكلمة التي ألقاها: 

 

الأزمة الاقتصادية العالمية

معالجات من نهج البلاغة

 المقدمة

   يتضمن كتاب نهج البلاغة المشتمل على خطب و كلمات و رسائل أمير المؤمنين (عليه السلام) التي ألقاها في مناسبات مختلفة يتضمن مبادئ في الاقتصاد الإسلامي فضلاً عن ممارسات و معالجات لأزمات عانى منها المجتمع الإسلامي و يمكن أن يتعرض إليها في كل زمن. وتشكل هذهِ الكلمات بمجموعها منظومة في الاقتصاد يمكن اعتمادها كمدخل لمعالجة الأزمات التي تنتاب المجتمعات البشرية.

   فعندما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما مُتع به غني.

   و أيضاً: مَن وجد ماءً و تراباً ثم افتقر فأبعده الله.

   و أيضاً: من أحيا أرضاً من المسلمين فليعمرها.

   و أيضاً و أيضاً كلمات بالمئات بل بالآلاف وهي تمدنا برؤية صائبة عما يجري من كوارث اقتصادية و عما يجب عمله و منها الأزمة العالمية الراهنة التي نحاول أن نعرضها ثم نستنطق نهج البلاغة لعلنا نجد الدواء عند الإمام علي (عليه السلام).

 

 عرض للأزمة الاقتصادية العالمية

تعاني البشرية من شرور الأنظمة التي لم ينزل الله بها من سلطان على رغم ألوانها البراقة الخادعة ذلك أنها تكتنز في داخلها بذور الشر، وقد شهد العالم بالأمس نهاية النظام الاشتراكي الذي حوّل ربع البشرية إلى فقراء معدمين و اليوم يعاني مِن شرور النظام الرأسمالي الذي بلغ أوج كبريائه و طغيانه في العقدين الأخيرين وهو يغطي مفاسد فلسفته بغطاء من العولمة، وفي كل يوم تنتاب هذه الأنظمة أزمة جديدة تسحق الفقراء و المستضعفين، و آخرها وليس أخيرها أزمة العقارات في الولايات المتحدة، التي كشفت لنا الطبيعة الهشة للنظام الرأسمالي قائم على قواعد رخوة فبمجرد ما يهتز طرف من أجزاء هذا النظام يتزلزل الكيان بكامله.

     ولم تكن أزمة 2008 هي الأولى في الاقتصاد الرأسمالي بل عصفت بها أزمة كبرى عام 1929 سميت بأزمة الكساد العالمي وفي الأسبوع الأخير من تشرين الأول عام 1997 عصفت أيضاً أزمة في الاقتصاد الرأسمالي تسببت في هبوط حاد في أسعار الأسهم في الأسواق المالية الكبرى بدأت في هونغ كونغ وانتقلت إلى اليابان فأمريكا مروراً بتايلند و ماليزيا و اندنوسيا ثم امتدت كالوباء إلى كوريا الجنوبية و تايوان في شمال آسيا.

    وعلى الرغم من فداحة الأزمات السابقة إلاّ أنها لم تكن بقوة الأزمة الراهنة التي نشبت بسبب الرهن العقاري الذي امتد ليشمل الكثير من ذوي الدخل المحدود الذين استفادوا من القروض لشراء المنازل و توسعت البنوك في القروض فعجز المقترضون عن السداد مما أدى إلى إفلاس كبرى البنوك و المؤسسات المالية في أمريكا.

    إذ بدأت الأزمة عندما نشطت سوق العقار في أمريكا،فتسارعت البنوك الدولية والأسواق المالية للاستثمار في هذا المجال تحت وطأة الدعاية بالإرباح الوفيرة المتوقعة فارتفعت نتيجة ذلك أسعار الفائدة في البنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي منذ عام 2004 الأمر الذي شكل زيادة في أعباء القروض العقارية من حيث خدمتها وسداد أقساطها فبلغت تلك القروض نحو 1.3 تريليون دولار في مارس 2007[1] مما أضطر قسماً كبيراً من المقترضين إلى التوقف عن السداد للأقساط المالية المستحقة عليهم فانعكس سلباً على أكبر مؤسستين للرهن العقاري وهما (فاني ماي) و (فريدي ماك) إلى خسائر فادحة حيث تتعاملان بمبلغ ستة تريليونات دولار.

    من هذه الأزمة تتجلى أمامنا ظاهرة الربا  كسبب مباشر في إيجادها و تناميها حتى أصبحت أزمة عالمية عصفت باقتصاديات دول العالم بلا استثناء و الظاهرة الثانية التي شكلت سبباً آخر لتفجّر الأزمة هي بيع الديون من خلال شركات التسويق و التي قامت بتحويل الديون العقارية إلى سندات و تسويقها من خلال الأسواق المالية العالمية، وقد نتج عن عمليات التوريق هذه زيادة في التزامات هذه الشركات مع عجزها بالوفاء للديون، الأمر الذي أدى إلى انخفاض قيمة هذهِ السندات مسببة المزيد من الأزمة الاقتصادية.

     مما تقدم تظهر لنا الأزمة بعنوانين رئيسين هما الربا و البيع غير المعقول (بيع الديون).

     وكما هو واضح أن الاقتصاد الرأسمالي يقوم بالدرجة الأولى على النظام الربوي وعلى القروض الربوية التي باتت تشكل مشكلة أساسية في هذا الاقتصاد نفسه حيث أن خدمة الدين وهي الزيادة المضاعفة في الفائدة دفعت بالأفراد و المؤسسات إلى العجز عن تسديد القروض ما أدى إلى تباطؤ في عملية الاقتصاد.

     أما عمليات البيع و الشراء غير المنطقية التي حصلت بسبب مضاربات السوق (وهي إحدى آليات الاقتصاد الرأسمالي) جعلت عملية البيع و الشراء تتم عبر أسعار وهمية فهناك أسهم شركات بيعت بمليارات الدولارات مع أنها لا تساوي مليون دولار الأمر الذي جعل هذه السندات في مهب الريح، تتقاذفها أمواج المضاربات و تعصف بها رياح الأزمات الاقتصادية.

  والآن لنرَ كيف ينظر الإسلام لهذه المشكلة:-

   أولاً: نظرته إلى المعاملات القائمة على الربا أنها باطلة سواء كان مقدار الربا قليلاً أم كثير أو كان ربا نسيئة، أم فضل، فمال الربا مال حرام ولا حق لأحد في امتلاكه وقد قال تعالى عن الربا (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)

   كما و أن الإسلام أمر أن يكون البيع بيعاً سمحاً لا قائماً على الأوهام وعلى وسائل النصب و الاحتيال كما هي الرأسمالية فحرم الإسلام بيع السلع قبل أن يحوز عليها المشتري فحرم بيع ما لا يملكه الإنسان، و حرم تداول الأوراق المالية و السندات و الأسهم القائمة على عقود باطلة.

وعلى غرار هذا المنهج ورد في نهج البلاغة في كلام علي (عليه السلام) ما يدل على ذلك فقد طالب أمير المؤمنين التجار أن يتفقهوا في أحكام السوق حتى لا ينزلقوا في المحرمات قائلاً "من اتجر بغير فقهٍ فقد ارتطم في الربا)[2]

    أما عن البيع فيقول الإمام (عليه السلام) "و ليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل و أسعار لا تُجحف بالفرقين من البائع و المبتاع فلابد للأسعار أن تخضع للموازين العادلة و أن تكسب رضى الطرفين)[3].

أزمة نظام

   ما شهده الاقتصاد الرأسمالي من انهيار في سوق العقار و سوق السندات المالية ليس أزمة اقتصادية محدودة بل هو مؤشر لأزمة في النظام الرأسمالي الذي يقوم على الحوافز الفردية و حث الفرد على كسب المال و جمعه من مختلف الطرق مشروعة و غير مشروعة. وهذه الحالة هي التي خلقت الأزمة في العقود السابقة. و ليس من العجب أن نسمع من أحد قادة المجتمع الرأسمالي و هو الرئيس الفرنسي (ساركوزي) أن يهتف و يقول: لقد حان الوقت لجعل الرأسمالية أخلاقية بتوجيهها إلى وظيفتها الصحيحة، وهي خدمة قوى التنمية الاقتصادية و قوى الإنتاج و الابتعاد تماماً عن قوى المضاربة[4] وهذا ما يؤكد لنا مجدداً أن جذور الأزمة في النظام الرأسمالي هو في الجانب الأخلاقي و إذا لم تواجه هذه المشكلة و يوضع لها حلول جذرية لا يمكن حل هذه المعضلة بتاتاً.

عالجات الحكومة الأمريكية

   خلافاً لقواعد و أصول الاقتصاد الحر التي تقوم عليها الرأسمالية العالمية، وجدنا الحكومة الأمريكية تسرع الخطى للتدخل في حل الأزمة الاقتصادية و ذلك بدفع أموال طائلة لتعزيز موقف بنوك العقارات، و يعد هذا الموقف خرقاً لما تعارفت عليه الرأسمالية الاقتصادية، وقد اضطر وزير الخزانة الأمريكية (هنري بولسون) للقول بأن التدخل غير المسبوق و الشامل للحكومة يعتبر الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون انهيار الاقتصاد الأمريكي بشكل أكبر. و أكد على ذلك رئيس مجلس الاحتياطي الأمريكي (بين بير نانك) على ذلك أيضاً: أنها ضرورية لضمان أن لا تؤدي الديون المعدومة إلى انهيار النظام المالي و الاقتصاد.

    و أوّلى الرئيس الأمريكي جورج بوش بدلوه أيضاً في هذا المجال حين صرح قائلاً في خطاب له في البيت الأبيض بأن الوقت الراهن حاسم لمواجهة الأزمة المالية[5].

   و بناءً على خطة المعالجة المحكومة قررت وزارة الخزانة الأمريكية برنامجاً حكومياً قدرت بين 50-80 مليار دولار تشطب الأصول الفاسدة المرتبطة بالقروض العقارية في سجلات الشركات المالية الأمريكية، كما أن الكونغرس الأمريكي أقر تخفيضاً ضريبياً بلغت قيمته مائة مليار دولار أمريكي من أجل تحفيز الإنفاق الاستهلاكي[6].

   وعلى رغم تأثير ذلك في الحد من مزيد من الانهيار إلاّ إن المشكلة ظلت قائمة إذ شهد الاقتصاد الأمريكي انحداراً شديداً نحو الركود بين بلغت السياسة النقدية إلى أقصى حدود الارتخاء، و أصيبت التحولات المالية بالعجز و الوهن مؤكدة أن جميع المعالجات التي طرحتها الإدارة الأمريكية لم تكن سوى علاجات ترقيعية، إذ ظلت جذور المشكلة قائمة في النظام الرأسمالي تتحكم بمفاصل الاقتصاد الأمريكي.

العلاج الإسلامي

   إن بقاء الأزمة حتى بعد أعوام عديدة من اندلاعها يؤكد لنا عجز الاقتصاد الرأسمالي عن مواجهة المشكلات الاقتصادية العالمية، وهذه ليست هي المرة الأولى التي أظهرت عن عجزها في مواجهة هذه التحديات. وكما عرفنا تكرر هذا العجز لمرات ومرات مؤكدة للعالم العربي بالدرجة الأولى ضرورة التفكير بالبديل.

    وهنا بدأ بعضهم التفكير بأطروحة أخرى تستطيع مواجهة هذه المعضلة الاقتصادية و الخطوات المتسارعة التي تسير عليها الإدارة الأمريكية في معالجتها للأزمة تبين لنا معالم هذا البديل.

   فماذا فعلت الإدارة الأمريكية لمواجهة الأزمة:

  1- قامت بالتدخل المباشر.

  2- قامت بتخفيض الفائدة إلى أقل ما يمكن و هو 1% أي قريب الصفر.

  3- قامت بتقديم الدعم المالي إلى أصحاب البنوك بلغت المليارات من الدولارات.

 و كأن الإدارة الأمريكية. الخطوات الثلاثة هذه تقوم بعملية انسلاخ عن النظام الرأسمالي الذي يقوم على مبدأ عدم تدخل الدولة على الفائدة المتصاعدة وعلى اقتصاديات السوق.

   وقد حاول البعض أن يصوّر هذه الإجراءات بالاقتراب شيئاً فشيئاً إلى الاقتصاد الإسلامي.

   وهذا التصور خاطئ لأن الاقتصاد الإسلامي منظومة متكاملة من المبادئ و الآليات لا يمكن فصلها عن الإبعاد الأخرى للنظام الإسلامي الشيء الوحيد الذي يمكن أن تطرحه هذه الإجراءات هو صحة ما ذهب إليه الاقتصاد الإسلامي في تدبيره لأمور المجتمع ولو كان الاقتصاد السائد في الولايات المتحدة هو الاقتصاد الإسلامي لما ظهرت هذه الأزمة و لتسارعت وتائر الاقتصاد الأمريكي بشكل أفضل مما عليه الآن كيف ذلك؟.

   يقوم الاقتصاد الإسلامي على المبادئ الآتية:

    أولاً: مبدأ تدخل الدولة.

    ثانياً: مبدأ تطبيق الضمان و التكافل الاجتماعيين.

    ثالثاً: مبدأ تحريم الربا و مكافحة أي شكل من أشكال تكدس المال.

   رابعاً: مبدأ تحفيز الإنتاج بالتقليل من الضرائب.

   خامساً: مبدأ رعاية ذوي الحاجات.

 أولاً: مبدأ تدخل الدولة

   يتجلى تدخل الدولة في الاقتصاد الإسلامي في ثلاثة أمور:

توجيه آليات الاقتصاد نحو بناء مجتمع يتصف بالغنى و السعادة.

الرقابة على الفعاليات و الأنشطة الاقتصادية المحرمة.

حماية المساهمين في العجلة الاقتصادية من تجار و صنّاع و مزارعين.

و خير نص يرسم لنا صورة عن حدود تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي هو وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى واليه على مصر مالك الاشتر. ففي هذه الرسالة يطلب الإمام من واليه بأن يوازن بين الضرائب التي يجبيها و بين الإنتاج و يأمره بأن يهتم بالإنتاج أولاً لأنه هو السبيل إلى زيادة الخراج.

  أما في جانب الإنتاج فيربط بينه و بين أصناف المجتمع كالتجار و ذوي الصناعات والزراع وهم الأساس في دائرة الإنتاج فيأمره أن يرعي شؤونهم و يدعم مواقفهم و يحل مشكلاتهم و يأمره أيضاً أن يمنعهم من الاحتكار و التلاعب بالأسعار لرفع الضرر عن العامة.

   ثم يأمره أن يتولى تدبير شؤون المحتاجين بأن يخصص جزاءاً من المال لهؤلاء الفقراء، ثم يأمره بأن يرفق بأهل الخراج عند أخذ الضريبة منهم، ثم يأمره بإقامة الأمن و يحثه على طلب الصلح حتى مع أعدائه.

   و تالياً فإن هذا النص هو وثيقة اقتصادية في تحديد وظائف الدولة في الجانب الاقتصادي وهي:

القيام بتنفيذ خطط التنمية الاقتصادية.

جمع الضرائب.

مكافحة الفقر و العوز.

دعم التجارة بنوعيها الخارجية و الداخلية.

تشجيع ذوي الصناعات على القيام بأعمالهم الحرفية.

دعم الإنتاج و إعطائه الأولوية حتى لو اقتضى ذلك الامتناع عن أخذ الخراج.

حفظ الأمن و النظام.

توكيد الاستقرار الاقتصادي.

اخضاع التسعيرة لقاعدة التراضي.

منع ما يمكن أن يسبب في تكدس الأموال مثل الاحتكار وما شابه ذلك[7].

 ثانياً: مبدأ الضمان و التكافل الاجتماعيين

  من تجليات الجانب الإنساني في الاقتصاد الإسلامي إقراره لهذا المبدأ، فالدولة ضامنةُ لأي فرد في المجتمع – الدخل الذي يستطيع أن يعيش من خلاله، فإذا كان قادراً على العمل تضمن له مجالات العمل المناسب. وإذا لم يكن قادراً على العمل تضمن له ما يستطيع أن يعيش به هو و عياله) و في مجال التكافل الاجتماعي هناك مسؤولية يلقيها الإسلام على افراد المجتمع هو التكافل فيما بينهم فالغني يسعف الفقير و ارباب العمل يوفرون العمل للعاطلين، و هكذا يصبح كل فرد في احضان هذا المجتمع يمده بالمال اذا افتقر، يفرضه اذا احتاج اليه ، و يسدد ديونه إذا عجز عن الدفع. يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) "إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلا بما متع به غني و الله تعالى سائلهم عن ذلك"[8].

   وقد بارك أمير المؤمنين لأولئك الأغنياء الذين يتحملون مسؤولية إغاثة و إعانة الفقراء والمحتاجين.

   (انعم الناس عيشاً من عاش في عيشه غيره)[9].

  ولنا شاهدُ عمليٌ على ذلك إذ مر الإمام علي (عليه السلام) بشيخ مكفوف يسأل الناس فقال أمير المؤمنين: "ما هذا؟" فقيل له: يا أمير المؤمنين أنه نصراني. فقال أمير المؤمنين: "استعملتموه حتى إذا كبر و عجز منعتموه أنفقوا عليه من بيت المال"[10]. و ما كاد هذا ليتحقق إذا لم يكن المجتمع قائماً على مجموعة الفضائل كالورع و التواضع و أداء الأمانة و إتقان العمل و هي صفات مؤثرة في الاقتصاد إذ أنها الحاضنة الأولى للاقتصاد الإسلامي القائم على مبدأي الضمان و التكافل حتى لغير المسلم.

ثالثاً: مبدأ تحريم الربا و مكافحة الأنشطة المحرمة وما يتسبب في تكديس المال

   ذكرنا موقف الإسلام من الربا و خطورته على المجتمع، بقي أن نبين موقف الإسلام من البخل الذي اعتبره آفة لا تقل عن آفة الربا و قال فيه أمير المؤمنين (عليه السلام): "البخل جامع لمساوئ العيوب و هو زمام يقاد به إلى كل سوء"[11].

   و يرجع إليه انهيار المجتمع (و إذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه)[12]، و يقارن الإمام علي (عليه السلام) بين الشحيح و الفقير قائلاً: "الشحُّ اضرَّ على الإنسان من الفقر، لأن الفقير إذا وجد اتسع و الشحيح لا يتسع و إن وجد"[13]، ذلك لأن البخيل جَمَّد جزءاً من أموال المجتمع حيث يجب عليه أن يساهم بهذه الأموال في عجلة الاقتصاد يقول الإمام علي (عليه السلام): "اجتماع المال عند البخلاء احد الجدبين"[14] وعلى العكس من ذلك دعى الإسلام إلى الإنفاق و الإقراض.

   يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "طوبى لمن ذل في نفسه وطاب كسبه و صلحت سريرته و حسنت خليقته و أنفق الفضل من ماله"[15] و الفضل هو الزيادة أي الإنفاق عما يزيد عن الكفاية.

   و يقول أيضاً: "و المال تَنقصه النفقة"[16] فلا يكتمل المال إلا بالإنفاق.

   و بهذه الكلمات يمهد الإمام (عليه السلام) الطريق أمام الاستثمار و يقول عن هؤلاء الذين يستثمرون أموالهم "و بعضهم يحب تثمير المال و يكره انثلام الحال"[17] أي أنهم يحبون إنماء المال بالأرباح و يكرهون تناقصه، و هذا النص يؤكد لنا أن عملية الاستثمار كانت موجودة في العهد الإسلامي كنوع من الأنشطة، و كانت تلقى تشجيعاً كبيراً من لدن الحاكم الإسلامي.

 رابعاً: مبدأ تحفيز الإنتاج

    ويبني الإسلام مجتمعاً منتجاً فلا مجال للكسل و الترهل، فالجد في طلب الرزق الحلال و الاكتساب بالعمل هو ما قامت عليه اقتصاديات المجتمع الإسلامي يقول الإمام علي (عليه السلام): "لا يُدرك الحق إلا بالجد"[18] و يقول أيضاً: "و الحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور"[19] و يقول أيضاً: "من وجد ماءاً و تراباً ثم افتقر فأبعده الله"[20]

  و يأمر واليه على نص "وليكن نظرك في عمارة ارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج"[21] فالأولوية يجب أن تعطى للإنتاج، و تقوم موارد الدولة على مصادر الإنتاج قبل الضرائب التي تضعها على المنتجين لأنه من طلب الخراج بغير عمارة خرب البلاد و أهلك العباد و لم يستقم إلا قليلاً و هذا ما عناه أمير المؤمنين (عليه السلام) لواليه على مصر.

   و ليس ادعى إلى الإنتاج من هذا النص الذي قاله أمير المؤمنين (عليه السلام): "من أحيا أرضاً ميتةًً من المسلمين فليعمرها، و ليؤدِ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي، و له ما أكل منها، فإن تركها و اضر بها، فأخذها رجل من المسلمين من بعده فعمرها و أحياها فهو أحق بها من الذي تركها فليؤدِ خراجها إلى الإمام"[22] فليس هناك من نص اقتصادي أروع من هذا الذي يرغب كل أبناء المجتمع إلى إحياء الأرض من خلال النشاط الزراعي أو الصناعي بوعد قاطع أن الأرض ستكون ملكاً له بمجرد الإحياء، وعلى هذا المبدأ استطاع الإسلام أن يحوِّل الصحار القاحلة إلى روضات و جنات.

 خامساً: رعاية ذوي الحاجات

   اقتصاد أي مجتمع عرضة للاهتزاز، و التدهور و الانحطاط، و ينجم عن كل هزة شركات و بنوك بالآلاف تعلن إفلاسها، و مصانع بالمئات تعلن توقفها، أضف إلى مئات الآلاف من الفقراء و ذوي الحاجة، و هنا يأتي دور الحكومة لرعاية كل هؤلاء بمدهم بما يحتاجون إليه من قروض و أموال و التخفيف من مديونيتهم و حتى تقديم الإعانات لهم.

   لنقرأ ما يقوله أمير المؤمنين إلى واليه مالك الأشتر، يوصيه أن يبذل الأموال للتجار و الصناع إذا تعرضوا إلى أزمة: "و أفسح له في البذل ما يُزيل علته و تقل معه حاجته إلى الناس"[23].

   و أما المزارعون و أصحاب الحقول الذين يتعرضون للكوارث الطبيعية: "فإن شكوا ثقلاً أو علةً أو انقطاع شرب أو بالة (إي المطر) أو إحالة أرضٍ اغتمرها غرقٌ أو أجحف بها عطشٌ خففت عنهم، بما ترجو أن يصلح به أمرهم، و لا يثقلن عليك شيء خففت به المؤنة عنهم فأنه ذخرٌ يعودون به عليك في عمارة بلادك و تزيين ولايتك"[24]

الخاتمة

     من خلال هذا الاستعراض لسير الأزمة الاقتصادية العالمية عبر الرؤية الاقتصادية في نهج البلاغة تبين لنا أن في نهج البلاغة رؤية متكاملة و واضحة عما يمكن أن نسميه بالأزمة الاقتصادية العالمية. كما نجد في النهج الحلول الناجعة لهذه الأزمة من خلال حث النهج على:

  أولاً: التمسك بالمناقبيات التي تجتث حالات الأثرة و الطمع و الاستغلال و الاحتكار.

  ثانياً: إعطاء الدولة الدور الأكبر في التوجيه و الرقابة و الرعاية.

  ثالثاُ: دعوة الأغنياء إلى تكفل الفقراء بما يفضل من مالهم.

 رابعاً: دعوة الفقراء إلى العمل و الجد لبلوغ مراتب الغنى المالي بعد غنى النفس.

  خامساً: استئصال أي مظهر من مظاهر تكدس المال و جموده من خلال العمليات الربوية و الاحتكار و الدعوة إلى البذل و إشاعة ثقافة الاقتراض في المجتمع الإسلامي.

  وهذه هي مؤشرات الحل التي أخذت تتحرك في أفقها المحافل الاقتصادية أو في الأقل دعت إلى الأخذ بها كمعالم للنظام الاقتصادي البديل الذي بدأ الكلام حوله منذ اندلاع الأزمة.

 

مراجع البحث

  الكتب:

    1- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار التراث العربي، بيروت.

   2- الموسوي، محسن: الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة، دار الهادي، عام 2002، بيروت.

  ملفات الانترنت:

   1- الأزمة المالية العالمية 2008 موقع إسلام أون لاين نت.

   2- الأزمة الاقتصادية العالمية.. الطريق الأول هو الحل: اشرف محمد دوابه، موقع إسلام أون لاين نت.

   3- الأزمة الاقتصادية العالمية: أسباب و حلول، عاهد ناصر الدين، موقع إسلام أون لاين نت.

   4- الاقتصاد الإسلامي طوق نجاة من الأزمة المالية، الصادي عبد الحافظ، موقع إسلام أون لاين نت.

   5- الاقتصاد الأمريكي مقامر لا مغامر، فريد مان توماس، موقع إسلام أون لاين نت.

   6- تسمو نامي الرهن العقاري، أسباب و تداعيات و حلول عبد الحميد حسين أحمد، موقع إسلام أون لاين نت.
 

[1] الأزمة الاقتصادية العالمية .. الطريق الأول هو الحل، أشراف محمد دوابه، موقع إسلام أون لأين

[2] قصار الكلمات رقم 247.

[3] نهج البلاغة رقم 53.

[4] الأزمة الاقتصادية العالمية أسباب و حلول موقع الإسلام أون لاين.

[5] المصدر نفسه.

[6] المصدر نفسه

[7] الفكر الاقتصادي في نهج البلاغة ص97.

[8] قصار الكلمات 328.

[9] ابن أبي الحديد 20/300 رقم 432.

[10] وسائل الشيعة 11/49.

[11] قصار الكلمات 378.

[12] قصار الكلمات 372.

[13] ابن أبي الحديد 20/335 رقم 344.

[14] ابن أبي الحديد 20/335 رقم 839.

[15] قصار الكلمات رقم 123.

[16] قصار الكلمات 147.

[17] قصار الكلمات 23.

[18] خطبة 29.

[19] رسائل 31.

[20] وسائل الشيعة: الحر العاملي 17/41

[21] رسائل 53.

[22] وسائل الشيعة 2/100 43

[23] رسائل 53.

[24] رسائل 53.

العام الدراسي: 2009-2008