تصنیف البحث: تاريخ
من صفحة: 77
إلى صفحة: 85
النص الكامل للبحث: PDF icon 170702-113929.pdf
البحث:

المقدمة

يتناول بحثنا هذا موضوعاً يتعلق بفلسفة التاريخ فسلطنا الضوء على جانب من جوانب الذات لدى الإنسان في العربية و الإسلامية و رغم إن موضوعاً كهذا لابد أن يكون موضوعاً شائكاً و معقداً للغاية.. إذ لا يمكن انتزاع الذات و تجريدها عن بيئتها التي تحيى بها كي تكون موضوعاً صالحاً للدراسة النظرية... غير إننا فعلنا ما بوسعنا لتذليل هذه الصعوبات و دراسة الموضوع من بعض جوانبه المباينة لعين الناظر، فقسمنا البحث وفقاً لفصول ثلاث، تناولنا في الفصل الأول معضلة التغيير في ذات العربي – كونه لابد أن تخضع لنواميس التبدل الاجتماعي و تعرضنا في الفصل الثاني، إلى مشكلة أخرى تتعلق بسلفية الذات العربية و انطوائها على نواة تقليدية تقاوم منطق التجدد، و بحثنا في الفصل الثالث موضوعاً يتعلق بقوانين التبّدل الاجتماعي و التاريخ في محاولة لاستخلاص قانون عام من خلاله يمكن تعريف بما هو ثابت وما هو متغير وفقاً لهذا القانون نرجو أن نكون أسهمنا ولو بدلوٍ شحيح في موضعٍ يجدب ماءه.

الفصل الأول: الذات – التغيير

الشعبُ نهرٌ متدفق فمن العسير فصل أبعاده الثلاثة الينبوع و المجرى المصب، ولأنه واحداً لا يتجزأ فلماذا تنكر لماضيه، و نجرده قصرياً عن بيئته و موروثه؟ و يقيناً نعتقد إن الذات عند العربي لم تتشكل أطواراً انتقالية متدرجة قبل أن يداهمها الإسلام، بل عاشت عزلتها الرتيبة تحف بها أوتادُّ الصحراء و فيافي الوهاد. ولأنها ليست تطورية تخضع لنواميس التبدل الاجتماعي، أصبحت دون بديلٍ آخر، ذاتاً انفجارية.كعواصف الصحراء تتشكل وفق قوانين الطفرة و التمرّد. إن عنصر المباغتة سمة جوهرية في بُنية هذه الذات و إن كان كامناً تحت أعراض تراكمية من رمالِ النمطية و التقليد. هذه الذات لا تبدأ من حيث انتهى الآخرون، لكنها تبدأ بتدمير ما انتهى لدى غيرها ((كلما دخلت أمةً لعنت أختها)) ([1]) بتعبير قرآني أغنى. و العربي هو سليل الأرامي لغةً و كتابةً و دماً بل لعل لفظة (الإعرابي) ذاتها مدلول للفظة (الأرامي). بعد أستبدال الألف عيناً، و الميم باءاً كما هو شائع في لهجات القبائل العربية، كأن نقول في أسمائيل:  إسماعيل، وفي مكة: بكّة و اللغة الأرامية ((تقترب جداً من اللغة العربية في نقاط عديدة))([2]). و كذلك فإن الخط العربي ((مشتقٌ من أحد أنماط الخط الأرامي))([3]). ولا يغيب عن بال المؤرخين إن اللهجة العربية الحجازية أو العدنانية إن صح التعبير قد كُتبت ((بالحرف الأرامي المربع و أستعملها ورقة بن نوفل))([4]).

 ولو أردنا المضي في هذا الاتجاه، فإن اثبات هذه الحقائق ينطوي على شواهد و وثائق يضيق عن ذكرها المكان هاهنا و المناسبة. وعلى ذلك نذكر مثالاً لا للحصر، فإنَّ ((قاموس اللهجة الأرامية يحتوي على 75% من الكلمات التي نجدها في معجم لسان العرب لأبن منظور، و (11%) من الكلمات التي نجدها في لهجتنا العربية))([5]).

  فهل يراود أحَدنا الشك إن هذا العربي كانَ أرامياً صريحاً، و ورث من بيئته الخيمة و الفصاحة و عشقه الأبدي للشمس و التجوال؟. كانت الرمال فراشه الوفير، و السماء المنجدة بالحرية خيمته. وفي توحده الفريد مع الفضاء أدرك في استبيان مبطن و أحدية الحقيقة. و الذات العربية حين نضعها في مواجهة الأبدية حين تكون أمام المطلق، و تتيه في مرامي اللانهائي، فإنها تنبثق عن ينابيع و عيون تقطع رتابة الصحراء، فليس الوحي المحمدي – الإسلامي وقد سبقه الوحي المسيحي – الإنجيلي، و الوحي التوراتي اليهودي إلا انبثاقات اندفعت تحت رماد الوثنية و الإشراك، و أزعجت سبات الصحراء فجأةً، و أحدثت أثراً انقلابياً في مجمل حياة الأعرابي الراكدة، بيد إنّ وحي هذه الذات متقطع ومتلاشي كسيول الصحراء و وديانها، سرعان ما تمتصها الرمال، و تستغورها الحجارة والنجاد. وفي الحقيقة كان اتساع جغرافية الأعرابي في صحرائه لا يوازيها إلاّ ترامي تاريخه الموغل في رحم التاريخ. و تجذره في طبقات الدهور، و لعل أحد مكنونات الشدّ و التوتر في هذه الذات يمكن تتبعها في ملاحظة اندفاع إبراهيم الخليل* و الذي انفجر بثورة أساسها الرفض والتمرد لقيم الحضارة العراقية القديمة، بعد أن ضاق ذرعاً بآلهة الأنهار العذبة، و أوثان المدن المطلية بالذهب، و عاد ببيت الله في واديٍ غير ذي زرع ((رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)) ([6]).

فلم يجد في كل أرض الرافدين المترامية بقعة تصلح للذات الآلهية التي آمن بها. لقد أدرك إبراهيم إن الله قيمةٌ مطلقة و فريدة، أزلية دون صفة أو عرض. فما أدركه عن الله إنما هو نزع افردته طبيعة الصحراء المحايثة للاوعي إبراهيم الأرامي، لذا فقد واجه آلهة سومر و أكد المؤطرة بالزخارف بالرفض و التمرد و حين فشل في إزاحة قيم هذه الحضارة الوثنية، أو طرد آلهة الذهب، فإنه قد تقهقر إلى الصحراء مبشراً هناك بآله لا تشوبه عجمة المدن الكبيرة.

وبعد قرون ستة قاد موسى العبراني ثورة توحيدية أخرى ضد حكم رمسيس الثاني فروع مصر(1290-1224م) ([7])  ، ومن المعين ذاته الذي نبع منه وحي إبراهيم الخليل من قبل، فالقرآن يخبرنا إن موسى قد لبث حوالي عشر سنين في مدين ((فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى )) ([8]). ومدين جزء لا يتجزء من الثقافة السامية – الجزرية، ذات المنحى التوحيدي وقد انتهى موسى بثورة تقهقرية، ضد ثقافة مصر الوثنية، حمل بها قومه بني إسرائيل متراجعاً عبر الصحراء التي إلِفها من قبل. و نجد إنّ كلا الوحيين – الإبراهيمي و الموسوي قد انبثقا في بلادٍ متمدنة كثيرة الإعمار راسخة التشريعات، فما كان بوسعهما أن يستجيبا لتشريع توحيدي يتعارض مع تعددٍ وثني راسخ.

 و تمثل هاتان الثورتان بؤرتا صِدام ثقافي بين ذات صحراوية – أرامية المنشأ و النزوع و بين حضارات ضفاف الأنهار الزاهرة. وعلى حد تعبير (بياركلاستر و مارسل غوشيه) (( الدولةُ مدعوه لإزاحة الله بسبب البنية التي تمنحها ضرورتها))([9]).

في حين نجد إن الوحي الإسلامي قد تجاوز المرحلة الفاصلة بين عام (1850ق.م) و القرن السابع الميلادي وهي برزخ تاريخي قِومه (1250) سنة خلت قبل أن يعلن محمد بن عبد الله (صلى الله عليه و آله و سلم) نفض غبار المنسي من عقيدة إبراهيم، ونسف وثنية الأحجار التي طمست معالم بيت الله العتيق. و لكنه بدلاً من أن يقود ثروة تراجعية إلى عمق الصحراء، اندفع بثورة مضادة من المركز الصحراوي إلى المحيط الوثني ليشيد بيوت الله على ضفاف الأنهار وفي قلب حضارات البلاد العتيدة و الذي يبدو عليه الأمر إن الذات العربية تتردد في حركة نابضية بين مركز توحيدي شديد التجرد، و بين محيط وثني متعدد. ففي كل مرة يندفع الوحي الأرامي إندفاعاً بركانياً متفجراً ليزيح عن مراكز التوحيد أثقال المادة و زخارف الوثنية و التصنيم، بيد إنه لا يلبث طويلاً حتى يختنق تارةً أخرى تحت طبقات متكاثفة من المذهبية و التقليد، لذا فإن (( التجربة المحمدية أو مدينة الله لم تستمر أكثر من جيل واحد و إنها سرعان م اندثرت)) ([10])، لصالح هيمنة الدولة و قبضة المُلك العضوض.

الفصل الثاني: سلفية الذات العربية

  لا يمكن لأي كيان سياسي أو اجتماعي أو ديني أنْ يكون أحادي التكوين، أنفرادي و منعزل بل يشترط لتعافيه أن يكون كثيفاً و متغايراً([11]). على أن تلبث بعيداً عن سطح المتغايرات نواة فاعلة للجذب و الشّد، تمثل التجمع المركزي للشعور بالانتماء إلى وعي محدد ضد عالم مغاير يقع عند أطراف و حافات البنية الذهنية لهذه الذات.

  من الناحية التاريخية تحتل مكة المكرمة- العاصمة الروحية لأمة مترامية الأجزاء- حيزاً غنياً لنواة مقدسة و فاعلة تنطق عن كتاب توحيدي يشكّل وعي الجماعة بذاتها و انتمائها لشعور موحد.

 وقد احتفظت المؤسسة الدينية الإسلامية بمركز التوحيد بعيداً عن ميادين التجاذب و الصراع و زحزحت النصّ المقدس لكتاب الله عن تشطيره إلى أناجيل أو تغديده إلى أسفار و ذلك عن طريق مناهج التأويل و مقاصد التفسير، في حين احتفظت بالنصوص المقدسة على ذمة التحنيط.

  جوهرياً يعد تجذّر الإرادة الدينية لمؤسسة رجال الدين المتمذهبين في صميم الذات العربية الإسلامية أمراً مستحيلاً دون تغيب كامل للوعي، و اقصاءاً للعقل، ذلك أن المؤمن الحق من وجهة نظر هذه المؤسسة لا يجوز له ((أن ينحني أمام العقل، و أنْ ليس ثمة حاجة للعقل في معرفة العقيدة الدينية لأنها متضمنة في القرآن و السنة)) ([12]).

وهذا الهدف الأساسي للمؤسسة المذهبية يتحقق بوسائل فاعلة، لعل أبرزها، تضخيم الماضي و تعظيم رجال السلف الصالح و تأكيد أخلاصهم للطاعة و الصبر و الولاء الشديد ولا يخفى إنّ غرز هذه العناصر في نفوس رعاياهم له جدوى تدرّ على أولوا الأمر طاعة و ولاء راسخين، كما إنّ توجيه وعي الجماهير إلى الماضي هو تغييب للوعي بالحاضر فضلاً عن الشك بقيمه، باعتباره حاضر سقيم و معتل. و هذا المعنى الذي تدركه المؤسسة المذهبية جيداً، يتضمن نسفاً للذات عند الإنسان و تحجيماً له و تأكيداً لدونيته مراراً و تكراراً أمام الماضي، و خلق بديهيات و مسلمات تضمن تبعية الحاضر للماضي الرمز بل و تخلق منطقاً مغايراً للمنطق الطبيعي، إذ يمسي الحاضر ميتاً عقيماً مجدباً و يصبح الماضي حيّاً حاضراً منتجاً.

  وهذه الرؤية المقلوبة للأشياء و العالم الذي كرسته السلطة المذهبية واقعاً لنا و فرصته كمسلمات إيمانية لا تعد فيه أفراحنا و أفكارنا و حاجياتنا اليومية، إلا أشياءً ثانوية هامشية. فالماضي هو كل شيء ينبغي تأكيد واقعيته و حضوره في كل مناسبة، فأفراح الماضي هي أفراح مبدئية و أحزان الماضي هي أحزان مقدّسة، تفرض ليلها الطويل حتى على الزهور في حديقة ريفية نائية و إذا كانت أحاديثنا و أفكارنا هرطقةً و تأثراً بالغريب فإن أحاديث الماضي و أفكاره هي أقوال محكمة و آيات تواترت عن أئمة الحديث.. و وفقاً لهذا المنهج المذهبي تحتل المؤسسة الدينية وسطاً بين الماضي الشرعي و الحي، و بين الحاضر المجدب و اللاشرعي، وفي رسالتها إضفاء الشرعية على الحاضر و بعث الروح فيه... وهي إذ تستقصي قراءة الماضي، فإنها تتحصن وراء أنماط سكونية متمذهبة، تعبر عن نفسها خلال الدروع البشرية المنومّة عقائدياً، و التي تتحرك بالإرادة الملغّمة للمؤسسة الدينية المتمذهبة ذات الأساليب الإيحائية. فهي جاهدة لتكريس هيمنتها المذهبية و استقطاب الهوس الجماهيري بما هو عقديٌ و مكثف([13]).

  و بهذا أكملت المؤسسة المذهبية مسؤوليتها في تعطيل إدراك الجماهير تحت قراءات سلفية متعددة، و تحنيط النّص المقّدس في قوالب فقهيه جامدة و متعالية على الفرد و الجماعة، قوالب متجهمة و مخيفة، خالية من الحياة. بذلك انتهت من تحويل الوحي الرسالي الحي إلى دين تاريخي متخشب ((لا يمكن أن يهرب من روابطه الاجتماعية و الموضوعية)) ([14]). بل يصبح عبداً للسلطات الدينية المتمذهبة و قنّاً لها.

إن الطابع الاستبدادي (الكنسي) بدء بالفعل يتحول إلى سلطة مرجعية تمارس فعلها الشمولي على الذات العربية كسلطة عليا مقدسة تمتلك حق الأقصاء و المصادرة بل و التكفير، و تعلن عداءها السافر للعقل و تتخذ من النّص الشرعي للعقيدة قناعاً تتحصن خلفه و توظفه لإقرار ايدلوجيا مذهبية و فئوية صريحة. فما أن حل القرن العاشر الهجري حتى تم بناء وثنية المؤسسة المذهبية و زحفت طبقات متكاثفة من الأصولية و الترحيفية تغلق المتنفس الأخير لنوافذ النجاة. إن هذا النظام السكوني لم يُفرض من الخارج قسرياً بل تم تفاعله داخلياً ضمن تفاعلات الكيان العربي في أطوار تشكله الأولى، و لكنه لم يكن في أطواره الولى متصلباً و وثنياً، بل كان حيّاً متدفقاً، عنيفا و انفجارياً، أعلن عن نفسه بالثورة و التمرد في المدينة المنورة و تجّلى بالفرقة و الانقسام في صفين، ثم تدنى فكان أدنى من توثين الطائفة و تهميش العقل و الانغلاق على النّص. و بالفعل عبّرت المؤسسة الكنسيّة الظاهرة عن استياءها من تفشي ظاهرية عن استياءها من تفشي ظاهرة المباحث الفلسفية و المنطقية في العالم الإسلامي و تخوفها من انبثاق الرأي الحر، فأصدر ابن الصلاح (ت عام 643هـ) فتوى جاء فيها (تحريم المنطق و الفلسفة تعليماً و تعلماً لما يؤديان إليه من الزندقة و الضلال) ([15]) و بنفس المنهج التحريمي يقرر المقريزي (ت 845هـ): ((إن الفلسفة جرت على الإسلام ما لا يوصف من البلاء)) ([16]). و كذلك ينتهي الإمام الذهبي (القرن الثامن الهجري) إلى تقرير ((إن الفلسفة الإلهية في شق وما جاءت به الرسل في شق)) ([17]). كما ذهب طاش كبري زاده (ت 964هـ) إلى وصف حكماء الإسلام بإنهم: ((أعداء الله و رسله)) ([18]). كما و يجدر بالملاحظة أن نذكر الحملة التي شنها الإمام الغزالي (ت111م) على حريّة الفكر. و قصد بها الفلسفة، تكفيراً للفلاسفة أو تخطئةً لهم. وقد حاول الدكتور توفيق الطويل تبرئة ساحة الأصولية المتمذهبة عن مسؤوليتها المباشرة عن انحسار الفكر الحّر و مباحث العقل إزاء هيمنة الجمود الديني و التعصب في العالم الإسلامي بقوله ((ليس صحيحاً إن حملة الغزالي هي التي أدّت إلى ركود الفكر الفلسفي في العالم الإسلامي فالمسؤول الأول عن هذا الركود هو الغزو التركي و السلجوقي الذي جاءَ يحمل في ركابه البداوة و التخلف و الجهالة)) ([19]). و طبعاَ هذا المنهج التبريري الذي أعتدنا أن نسمعه في عالمنا العربي و الذي يلقي باللوم و المسؤولية على عاتق المحتل الأجنبي، و يفسر أخطر الأشياء في حياة الأمة بمنطق المؤامرة أو الخيانة، لم يعد جديراً أن ننظر إليه. إن قراءة موضوعية للتاريخ ستبين لنا، لماذا تم الإجهاز على البحث الفلسفي في وعي الأمة، كما يعطي تفسيراً محكماً، عن لماذا اختفت المذاهب التي تبنت العقل منهجاً لها، و حرية الفكر عقيدةً كالمعتزلة عن ساحة الصراع، في حين واصلت المذاهب الأخرى طريقها إلينا فعلى الرغم من كون الفكر المعتزلي استمر ((فترة طويلة من الزمان يحّرك المشاعر و يثير العقول، بما دار بين المعتزلة أنفسهم من خلافات، و بما أثار من قضايا العلم و الفلسفة)) ([20]). بيد إن المؤسسة الدينية المتمدنة لم تستطع أن تتعايش مع الفكر الاعتزالي الذي كان يتناول مسائلاً ((كمسائل الله و الإنسان و العالم بالنظر العقلي الخالص)) ([21]). و علاوةً على ذلك نجدهم قد ((قللوا من تفسير القرآن الكريم بالمأثور والمنقول، لأنهم أقاموا تفسيرهم على أساس من العقل و المنطق و حرية الإرادة، مما أوقعهم في خصومة مع أنصار مدرسة الحديث)) ([22]).

 ولما بلغ الفكر الاعتزالي درجة حرجة من أحداث انقلاب فكري في حياة المجتمع و أشاع منطق العقل، أدركت السلطة السياسية و بمعيتها المؤسسة الدينية خطر الفكر الحر على مستقبل و جودهم ككل، وهنا نلاحظ إن المتوكل العباسي (قتل عام 248هـ) قد أوعز إلى الفقهاء و المحدثين ((فقّسمت بينهم الجوائز و أجريت عليهم الأرزاق، و أمرهم الموكل أن يجلسوا الناس و أن يحدّثوا بالأحاديث التي فيها الرد على المعتزلة)) ([23]). وفي الحق كانت الفرق التي تستخدم العقل غاية لها و تسعى لتكرسيه منهجاً تختلف جذرياً عن تلك الفرق و المذاهب التي تستخدم العقل وسيلة أو سلاحاً لتمرير عقائد المذهبية و ترويج مبادئها فضلاً تلك المؤسسات التي تتنكر له جملة و تفصيلاً. فليس من اليسير إذن على الفرق التي تؤمن بحرية الفكر و مطلق العقل إن تمسك الأرض طويلاً كما فعل الآخرون.

فالمعتزلة وهم بحق ممثلي النزعة العقلية فقد ((حاربوا الجمود الذي قيّد أهل السلف ممن وقفوا عند ظاهرة النص، و جعلوا العقل الحكم الذي يفصل في الآيات المتشابهات، و ما ساير العقل من الأحاديث سامّوا به و إلا أنكروه... و إذا كان العقل إلى عهدهم يكاد يكون مبعداً عن الحياة الدينية فأدخلوه فيها و حرروه من قيوده و مكنوه من السيطرة عليها، و جاهر شيوخهم بأن الشطر الأول للمعرفة هو الشك و إن خمسين شكّاً خيرٌ من يقين)) ([24]). أدركنا عندئذ كيف يستقيم مثل هذا التوجه مع مسعى المؤسسات المذهبية لأحكام السيطرة على المجتمع، و احتكار النّص المقدس قرآناً كريماً أو سنة نبوية مطهرة.

الفصل الثالث: قوانين التغيّر

يرى فرانك كونجود إن ((الذي لا يتغير لن تكون له حتى بداية الحياة بل ينحدر إلى هوّة الأسطورة)). ولعل في التاريخ ما يؤكد إن كثير من الأمم التي ابتنت الحضارات و شيّدت الإمبراطوريات قد تلاشت في بطون الأمم الأعتى، لأنها لم تمتلك القدرة على الانبعاث و التجدد، بل راحت تعيد اجترار الماضي بجرعات مضاعفة من القات.

فتاريخ كثير من الأمم السكونية يشير إلى إن جوهرها ينطوي على نواة غير انبعاثية فهي تعجز عن الانفلات من قبضة الموت حين يبدأ قلبها بالانطفاء تحت ضغط عوامل الصدأ أو الانحلال فعلى الرغم من إن حضارة مصر الفرعونية قد استمرت في الوجود أكثر من (2500) ألفين و خمسمائة سنة، كأقوى إمبراطورية مرهوية الجانب في العالم القديم و إن أصالتها الفكرية جعلتها تنتج كل ما عرفه العالم من معارف و أدوات معرفية بيد إن تلاشيها على يد القوات الأخمينية عام (359-331 ق.م) كان نهائياً، إذ لم تستطع من إعادة و جودها القومي أو تراثها الماضوي، بعد أن أعطت كل ما لديها ولم تعد قادرة أن تستجيب لمنطق التحدي الجديد الذي فرضه ظهور الإمبراطورية الأخمينية كتحدي خارجي. كما إنها أضاعت فرصة الاستجابة للثورة التوحيدية التي أحدثتها أخناتون (أمنحوتب الرابع) 1375- 1358 ق.م و التي كان بإمكانها أن تضخ دماءاً جديدة للدم المصري المتلبّد بالوثنية و الانطواء الشديد على الذات، و على العكس من ذلك غدت أفكار (اخناتون) هرطقة إذ ((من الصعب تصور أي تغير جذري في الأديولوجية الوطنية)) ([25]). تقول السيدة (أي. جي. فرانكفورت) عن الفلسفة التي أحدثتها ثورة تل العمارنة ((لم تكن حياة الجماعة في تلك المدينة المصطنعة الغريبة و المشيدة بعد انشقاقات سياسية و دينية على أرض صحراوية نقية و مزولة عن وطأة المورث حسب، بل عن قيمها الثابتة. و كانت في جميع مظاهرها تمثل و جوداً منسلخاً عن ذهنية العقلية المصرية)) ([26]) ففشل الذات المصرية للاستجابة لعوامل التغيير كشرط ضروري لبعث الأمة و تجديد ما تقادم من عهدها، كان عملاً حاسماً في موتها و اختفائها من على مسرح الأحداث. كما إن سقوط الإمبراطورية العراقية في ثوبها البابلي المتأخر تحت ضربات جيوش ((كورش الثاني)) 539-530 ق.م هو سقوط نهائي و تام. إن السر في عجز الحضارة العراقية و الحضارة المصرية الفرعونية إن تستعيدا طاقاتهما السابقة انطوائهما على الأساليب التقليدية لمعطيات حضارة برونزية لم تعد قادرة على مواجهة إمبراطورية تنطوي بنيتها الحضارية و العسكرية على معطيات جديدة و ذلك حسب تحليل السيد (كارلتون كون) ([27]). لذلك كانت الأمم التي تقع سجينة لتراثها و لماضيها الثقيل، تجد نفسها في أشكال نمطية و مذهبية متوثنة. و إن رغبة الذات في التغير سوف تطمس تحت ضغط طبقات جبلوجية متكاثفة من الأنماط المتصلة في لاوعي الجماعة، و بالتالي فإن مهمة إحداث تغيير انقلابي أو جوهري يصبح أمراً مستحيلاً. وعلى حد تعبير نيتشيه ((الثعبان الذي لا يستطيع أن يغيّر جلده يهلك)) ([28]). و لعلنا ندرك إن ذات العربي و كيانه قد تشكل وفقاً للعوامل التي تتألف منها بيئته الصحراوية فعاشت عزلتها الرتيبة تحفّ بها متاعب الوهاد و فيافي الرمال و هذه العزلة قد فرضت عليها نمطاً آخر من أنماط التبدّل الاجتماعي فأمست دون بديل آخر ذاتاً انفجارية كعواصف الصحراء و سيولها. فإن عنصر المباغتة سمة جوهرية في بنية هذه الذات كان كامناً تحت أعراض تراكمية من النمطية و التقليد فهذه الذات لا تبدأ من حيث انتهى الآخرون، غير إنها تبدأ بتدمير ما انتهى لدى غيرها و بتعبير قرآني أغنى ((كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا)) ([29]) و العربي نزّاع للحرية و الانطلاق  و ورث عن جزيرته الخيمة و الفصاحة و عشقه الأبدي للشمس و الهواء.

  فالثورة التي قادها إبراهيم الخليل في العراق القديم كان أساسها الرفض و التمرّد ضد قيم الحضارة العراقية القديمة بعد أن ضاق ذرعاً بآلهة الأنهار وأوثان المدن المطلية بالذهب و عاد ليشيّد بيت الله في وادي غير ذي زرعٍ ((رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)) ([30]). إذ لم يجد في كل أرض الرافدين المترامية بقعة تصلح رمزاً للذات الإلهية التي آمن بها.

لقد أدرك إبراهيم إن الله قيمة مطلقة دون صفة أو عرض زائل، إنها القيم المحايثة للاوعي إبراهيم الأرامي – قيم هي بالضد من آلهة سومر و أكد ذات الأعراض الزائلة. و حين فشل في إزاحة قيم الحضارة الوثنية، فإنه اضطر إلى التراجع إلى عمق الصحراء ليناجي الله بعيداً عن عجمة المدن.

وبعد ما يزيد عن خمسة قرون قاد موسى العبراني ثورةً توحيدية مناهضة لحكم رمسيس الثاني (1290-1224 ق.م) فرعون مصر، ومن المعين ذاته الذي انبثق منه وحي إبراهيم من قبل. وقد انتهى موسى إلى ما انتهى إلى وحي إبراهيم فعاد متراجعاً عبر الصحراء يحمل ثورته التوحيدية مع قومه، خوفاً من أن تبتلعهم وثنية مصر الفرعونية. فكان انبثاق هاتين الثورتين التوحيديتين في بلاد كثيرة الأعمار، راسخة التشريعات، يمثل صداماً حضارياً بين صحراوية بسيطة التكوين و بين حضارات الأنهار المعقدة. فما كان بوسع حضارات وثنية راسخة و متعددة أن تستجيب لتشريع توحيدي يرى الله مجرداً. وعلى حد تعبير (بياركلاستر و مارسل غوشية): ((الدولة مدعوّه لإزاحة الله بسبب البنية التي تمنحها ضرورتها)) ([31]) و الحقيقة كانت الرغبة في عبادة الله واحداً لم تنثني أمام قوة الإمبراطوريات العتيدة بل عادت مع الوحي الإسلامي لتنفض غبار المنسي عن عقيدة إبراهيم و تندفع بثورة مضادة انبثقت من المركز الصحراوي للوديان المجدبة صوب المحيط الوثني لتشيد بيوت الله على ضفاف الأنهار القديمة. و الذي يبدو عليه الأمر إن الذات العربية تتردد في حركة نابضية بين مركز توحيدي شديد التجرد و بين محيط و ثني. ففي كل مرة يندفع الوحي الأرامي – العربي اندفاعاً بركانياً متفجراً ليزيح عن مركز التوحيد أثقال المادة و طبقات الوثنية و التضيم بيد إنه لا يلبث طويلاً حتى يختنق تارةً أخرى تحت ظلمات متكاثفة من المذهبية و التقليد لذا فإن ((التجربة المحمدية أو مدينة الله لم تستمر أكثر من جيل واحد و إنها سرعان ما اندثرت)) ([32]) لصالح هيمنة الدولة – الخلافة و قبضة المؤسسات المذهبية و التحريفية.

الخاتمة

* إن الأساس في ذات الإنسان العربي ينطوي على أعراض تقاوم سنن التبدّل و التغيّر الاجتماعي و تنحاز لموروثها الحضاري باعتباره موروث مقدس غير قابل للتبّدل.

* و بفعل تأطر هذه الذات بما هو عرضي و ساكن و تحت ضغط عوامل التقليد و المورث الحضاري المتراكم تميل هذه الذات إلى تجديد محتواها عبر الاندفاع المفاجئ و الانفجاري كما حصل في ثورة الوحي الإسلامي الجبّار.

* تعمل البيئة الصحراوية ذات الامتدادات المتماثلة على توثين الذات عند العربي تحت تأثير اللامتبدّل و الساكن من جهة وعلى توثين الذات بقبول مبدأ التوحيد ورفض توثين الذات و تقديس الموروث من جهة أخرى.

* انقسام ذات العربي إلى عَرَضٍ و ثني تقليدي و مقدس، و إلى جوهر توحيدي انفجاري يجعل الصراع عند الإنسان العربي واقعاً يومياً.

* إن السمة البارزة على هذه الذات هي سمة الموروث العرضي (السلفي) و الذي يقع بثقله التقليدي ليحاصر نواة توحيدية – منعزلة- تلجأ إلى الثورة و الانفجار على أطراف هذه الذات كما هو مشاهد في ثورة إبراهيم الخليل.

المصادر و المراجع

1- القرآن الكريم.

2- الصلات المشتركة بين أبجديات الوطن العربي، بيت الحكمة، بغداد، 2002م.

3- جورج رو، العراق القديم.

4- بياركلاستر، مارسيل غوشيه، في أصل العنف و الدولة، تعريب علي حرب، دار الحداثة، بيروت- لبنان.

5- جلال صادق العظم، ذهنية التحريم، دار المدى، سوريا ط2، 2004م.

6- الدكتور توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مكتبة النهضة المصرية، ط3، القاهرة، 1987م.

7- د. زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، دار الشروق، القاهرة، 1987م.

8- نيقولاي برديائق، العزلة و المجتمع، ترجمة فؤاد كامل، مراجعة علي أدهم، دار الشؤون الثقافية العامة، ط2، بغداد، 1986م.

9- فتاوى ابن الصلاح، طبع في مصر، 1348هـ.

10- المقريزي، الخطط، ج4، القاهرة، 1326هـ.

11- محمد كرد علي، الإسلام و الحضارة العربية، ج2.

12- طاش كبري زاده، مفتاح السعادة، ج1، طبعة حيدر آباد- الهند.

13- د. توفيق الطويل، العرب و العلم، دار النهضة العربية، 1968م.

14- فرق و طبقات المعتزلة، تحقيق د. علي سامي النشار، دار المطبوعات الجماعية 1972م.

15- سعيد عبد الفتاح عاشور، تاريخ الحضارة الإسلامية العربية، ط2، منشورات ذات السلاسل، الكويت، 1986م.

16- صائب عبد الحميد، تاريخ الإسلام الثقافي و السياسي، دائرة معارف الفقه الإسلامي ط2، 2005م.

17- فرانك كونجود، الإحساس بالنهاية، ترجمة عناد عزوان.

18- ستيف لويد، فن الشرق الإدنى القديم، ترجمة محمد درويش، دار المأمون، بغداد، 1988م.

19- كارلتون كون، قصّة الإنسان، ترجمة محمد توفيق حسين، عبد المطلب الأمين مراجعة الدكتور محمد الأمين، بغداد، 1965م.

 

[1] - سورة الأعراف، الآية 37.

[2] - جورج رو، العراق القديم، ص 368.

[3] - المصدر السابق، ص372.

[4] - الصلات المشتركة بين أبجديات الوطن العربي القديمة، بيت الحكمة، بغداد، 2002، ص97.

[5] - الصلات المشتركة، ص104.

[6] - سورة إبراهيم، الآية (37).

[7] - جورج رو، تاريخ العراق القديم، ص10.

[8] - سورة طه، الآية (40).

[9] - بياركلاستر، مارسيل غوشيه، في أصل العنف(6) و الدولة، تعريب علي حرب، دار الحداثة، بيروت/ لبنان، ص198.

[10] - المصدر السابق، ص140.

[11] - ينظر: جلال صادق العظم، ذهنية التحريم، دار المدى، سوريا، ط2، 2004، ص93.

[12] - الدكتور توفيق الطويل، أسس الفلسفة، مكتبة النهضة المصرية، ط3، القاهرة، 1958، ص445.

[13] - ينظر: دز زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، دار الشروق، ط8، 1987م، ص163.

[14] - نيقولا برديائف، العزلة و المجتمع، ترجمة فؤاد كامل، مراجعة علي أدهم، دار الشؤون الثقافية العامة، ط2، بغداد، 1986، ص70.

[15] - فتاوى ابن صلاح، طبع في مصر، 1348هـ، ص183-184.

[16] - المقريزي، الخطط، ج4، طبع في القاهرة، 1326هـ، ص183-184.

[17] - محمد كرد علي، الإسلام و الحضارة العربية، ج2،ص43.

[18] - طاش كبري زاده، مفتاح السعادة، ج1، طبعة حيدر آباد- الهند، ص26.

[19] - د. توفيق الطويل، العرب و العلم، دار النهضة العربية، 1968م، ص67.

[20] - فرق و طبقات المعتزلة، تحقيق د.علي السامي النشار، دار المطبوعات الجماعية، 1972، ص3.

[21] - المصدر السابق، ص133.

[22] - سعيد عبد الفتاح عاشور، سعد زغلول عبد الحميد، أحمد مختار العيساوي، تاريخ الحضارة الإسلامية،ط2، منشورات ذات السلاسل، الكويت، 1986، ص94.

[23] - صائب عبد الحميد، تاريخ الإسلام الثقافي و السياسي، دائرة معارف الفقه الإسلامي، ط2، 1426هـ-2005م، ص745.

[24] - د. توفيق.الطويل، أسس الفلسفة، مكتبة النهضة المصرية، ط3، القاهرة، 1958م، ص439.

[25] - ستين لويد، فن الشرق الأدنى القديم، ترجمة: محمد درويش، دار المأمون، بغداد، 1988، ص187.

[26] - المصدر السابق، ط192.

[27] - كارلتون كون، قصة الإنسان، ترجمة محمد توفيق حسين، عبد المطلب الأمين مراجعة د.محمود الأمين بغداد، 1965م، ص372.

[28] - جلال صادق العظم، ذهنية التحريم، دار المدى، سوريا، ط2، 2004م، ص93.

[29] - سورة الأعراف، آية (37).

[30] - سورة إبراهيم، الآية (37).

[31] - بياركلاستر، مارسيل غوشيه، في أصل العنف و الدولة، تعريب علي حرب، دار الحداثة، بيروت/ لبنان، ص198.

[32] - المصدر السابق، ص140.