تصنیف البحث: علوم القرآن
من صفحة: 258
إلى صفحة: 271
النص الكامل للبحث: PDF icon 3-11.pdf
خلاصة البحث:

اللغة العربية لغة غنية بالمفردات، ولعل أحد أسباب هذا الغنى وأهمها هو ما توصف به من أنها لغة اشتقاقية، فالاشتقاق بأنواعه الثلاثة (الصغير، والكبير والأكبر) قد أثرى هذه اللغة بمفردات كثيرة لها دلالات متنوعة.و من هنا تعددت الابنية و الصيغ، فكانت ابنية الافعال و ابنية الصفات كاسم الفاعل، و ابنية المبالغة، و ابنية الصفة المشبهة و غيرها، و كل باب من ابواب الصفات هذه يشتمل على ابنية مختلفة تبعا للمادة اللغوية التي اشتقت منها أو ما نسميه بالجذر اللغوي، و بناءاً عليه اختلفت ابنية اسم الفاعِل مثلاً في معانيها و دلالاتها لاختلاف المواد اللغوية التي اشتقت منها، و إنْ كان الاطار العام الذي يجمع دلالتها هو دلالة الباب الذي انضوت تحته وهو دلالة اسم الفاعل.

البحث:

 

المقدمة:

اللغة العربية لغة غنية بالمفردات، ولعل أحد أسباب هذا الغنى وأهمها هو ما توصف به من أنها لغة اشتقاقية، فالاشتقاق بأنواعه الثلاثة (الصغير، والكبير والأكبر) قد أثرى هذه اللغة بمفردات كثيرة لها دلالات متنوعة.

ويعد الاشتقاق الصغير الصق أنواع الاشتقاق بالصيغة أو البناء الصرفي، فهو: "اخذ كلمة من كلمة أخرى بتغيير في الصيغة مع تشابه بينهما في المعنى واتفاق في عدد الأحرف الأصلية وترتيبها واختلاف في الحركات أو عدد الحروف الزائدة نحو: ذَهَبَ - يَذْهَب – ذاهِب – مَذْهُوب به – مَذْهَب … الخ"([1]).

و من هنا تعددت الابنية و الصيغ، فكانت ابنية الافعال و ابنية الصفات كاسم الفاعل، و ابنية المبالغة، و ابنية الصفة المشبهة و غيرها، و كل باب من ابواب الصفات هذه يشتمل على ابنية مختلفة تبعا للمادة اللغوية التي اشتقت منها أو ما نسميه بالجذر اللغوي، و بناءاً عليه اختلفت ابنية اسم الفاعِل مثلاً في معانيها و دلالاتها لاختلاف المواد اللغوية التي اشتقت منها، و إنْ كان الاطار العام الذي يجمع دلالتها هو دلالة الباب الذي انضوت تحته وهو دلالة اسم الفاعل.

 

بناء (مُفْعَلّ) من ابنية اسم الفاعل:

يُعَدّ بناءُ (مُفْعَلّ) أحد ابنية اسم الفاعل من الفعل غير الثلاثي، إذ يُبنى اسم الفاعل من الفعل(افْعَلّ) على بناء(مُفْعَلّ) نحو: ابيضّ فهو مُبْيَضّ، واحولّ فهو مُحْوَلّ.

ويُلاحظ انّه وبسبب التضعيف في لام الفعل فانّ الوصف المشتق من هذا الفعل لايُمَيّز في كونه(اسم فاعل) او (اسم مفعول)؛ لأنّ (اسم المفعول) من الفعل الثلاثي المزيد لا يختلف عن اسم الفاعل منه سوى في الفتح في الحرف قبل الاخير([2]).

ونرى أنّ اللغويين الذين اشاروا الى اشتراك بناء(اسم الفاعل) و(اسم المفعول) من بعض الافعال المزيدة بسبب التضعيف كمُرتدّ، ومُنصَبّ، و مُتَحابّ لم يشيروا الى اشتراك الوصف في بنائه بين الفاعل والمفعول من الفعل إفْعَلّ([3])، وقد تكون العلة في ذلك الامرين:

الاول: انّه لم يُسمَع عن العرب ورود بناء الفعل المبني المجهول من الفعل افْعَلّ، وإنّما المسموع هو بناء الفعل المبني للفاعل او المعلوم افْعَلّ ومضارعه يَفْعَلّ.

الثاني: انّ الغالب في (افْعَلّ) هو دلالته على الالوان نحو: ابْيَضّ، واخْضَرّ، واحْمَرّ، وعلى العيوب نحو: احوَلَّ، واعوَرَّ([4]). وهذه الافعال كلها لازمة، اذ تكتفي بفاعلها ولا تتعداه الى غيره؛ قال سيبويه في باب الفعل اللازم(هذا باب ما لا يجوز فيه فَعَلتُه إنّما هي ابنية لا تتعدى الفاعل، كما انّ فَعَلتُ لا يتعدى الى مفعول. فهكذا هذه الابنية التي فيها الزوائد... وليس في الكلام افْعَنْلَلْتُهُ، وافْعَنْلَيْتُه، ولا افْعَالَلْتُه، ولاافْعَلَلْتُه، وهو نحو احمَرَرْتُ واشهابَبْتُ([5])؛ أي:إنّ الفعل (افْعَلّ) ذو دلالة اتصافية لا دلالة علاجية او ايقاعية من فاعل، وعلى مفعول، مع ما يدل عليه هذا الفعل من دلالةٍ على تحولٍ وحدوث، فصيغة(افْعَلّ) مما يُصاغ للاتصاف بالالوان والعيوب، وهذا يناسب كون الوصف المشتق منه(اسم فاعل) بدلالته الوصفية لا الايقاعية، فيصدق على(مُحْمَرّ) مثلا، وهو الوصف من (احْمَرّ) انّه يدلّ على مَنْ قام به الفعل على نحو الحدوث، وهو تعريف اسم الفاعل الذي يَفْرُق به عن الصفة المشبهة، فـ(مُحْمَرّ) تدل على ذات متصفة بالاحمرار على نحو الحدوث لا الثبوت، وهذه هي الدلالة التي جاءت عليها صيغة (مُفعلّ) في الالفاظ الواردة في القرآن الكريم.

بناء (مُفْعَلّ) في القرآن الكريم:

لم ترد في القرآن الكريم على بناء (مُفْعَلّ) سوى ثلاثة الفاظ جميعها مشتقة من الفعل (افعلّ) الدالّ على اللون، وهي(مُخْضَرّة) و(مُسْوَدّ) بصيغة المذكر، وبصيغة المؤنث(مُسْوَدّة)، و(مُصفرّ)، ويبلغ مجموع المواضع التي ذكرت فيها هذه الالفاظ في القرآن الكريم سبعة مواضع([6]).

ولو تأملنا في الآيات القرآنية التي انتظمت فيها هذه الالفاظ لوجدنا أنّها جاءت موافقة لدلالة اسم الفاعل في كونه يدل على ذات متصفة بالمعنى على جهة الحدوث؛ أي: انها تدل على الوصف اللوني الحادث وبما ينسجم والسياق القرآني لتلك الآيات، و سيتضح ذلك من خلال تفصيل العرض للالفاظ الواردة على هذا البناء.

1. لفظة (مُخْضَرّة)

وردت هذه اللفظة مرة واحدة في القرآن الكريم وذلك في قوله تعالى

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} "([7])

وهذه الآية واحدة من آيات الطبيعة الالهية التي تجلّت فيها قدرة الله سبحانه عزّ وجلّ، وعظيم نعمه على مخلوقيه، وهي في مجموع الفاظها و تراكيبها تدلّ على امرٍ يحدث ويتجدد على مرأى ومسمع من العباد، فالأرض الجرداء تصبح بنزول المطر عليها ارضاً مُعْشِبة ذات خُضْرَة ونبات؛ أي: إنّ خُضرة الارض حادثة مقترنة بنزول المطر، وقد جاءت لفظة(تُصْبِح) بصيغة المضارع، ولفظة (مُخْضَرّة) بصيغة اسم الفاعل لتعبر في تصوير رائع عن حدوث تلك الخُضْرَة.

قال الزمخشري في علة اختيار الإصباح بصيغة المضارع من دون الماضي: فإنْ قُلْتَ هلا قيل فأصبَحَت؟ ولِمَ صُرِفَ الى لفظ المضارع؛ قلت: لنكتة فيه، وهي افادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، كما تقول: انعم عليَّ فلان عام كذا،فاروح واغدوا شاكراً له،ولو قلت: فَرحْتُ وغَدوتُ؛ لم يقع ذلك الموقع([8]).

أي: إنّ الفعل المضارع بدلالته على الحدوث والتجدد قد افاد في هذه الآية معنى حدوث الاخضرار في أزمنة مختلفة بعد نزول المطر، وليس في زمن واحد وهو الماضي المنقطع كما لوقيل(اصبَحَت)، وربما اوحت صيغة المضارع الدالة على الحال والاستقبال بان ما يحصل للارض من خضرة انما هو بعد زمن من نزول المطر قد يطول او يَقْصُر لا مباشرةً بعد نزوله كما توحي بذلك لفظة الماضي(أصبحت).

وقد يُفْهَم من هذا القول إنّ دلالة الحدوث في الآية مرتكزة في صيغة الفعل المضارع الذي جاءت عليه لفظة (تُصبِح)، وانه لا يضير في الدلالة على الحدوث لو قيل: (فتصبح الارض خضراء، بدل مُخضرّة)، لان كلمة (تُصبِح) مؤذنة بهذا الحدوث، وعندها لايكون هنالك فرق بين أنْ يأتي خبر(تُصبِح) على صيغة اسم الفاعل الدالة على الحدوث (مُخضرّة) أو أنْ يأتيَ على صيغة الصفة المشبهة الدالّة على الثبوت(خَضْراء) ما دامت النتيجة المتحصلة واحدة وهو حدوث الخضرة للارض، وهذا مفهوم من لفظة، (تُصْبِح).

واذا اردنا ان نوجز الكلام نقول: فما العلة في مجيء خبر الفعل الناقص(تُصْبِح) الدال على الحدوث، على صيغة الوصف الدال على الحدوث ايضا، و بعبارة اخرى لِمَ عدل إلى لفظ اسم الفاعل (مُخْضَرّة) ولم يَقُل(خَضْراء)؟

الفرق بين (خَضْراء) و (مُخْضَرّة)

إنّ الفرق بين الصيغتين يكمن في الفرق الاساسي بين صيغة (اسم الفاعل)، وصيغة (الصفة المشبّهة)، فاسم الفاعل يدل على الحدوث، والصفة المشبهة تدل على الثبوت، ولمّا كان ما يحصل للارض من تغيّر بأثر نزول المطر غير مُقيّد بزمن، وانّما هو في ازمنة مختلفة على ما يفهم من قول الزمخشري المتقدم كان من المناسب أنْ يأتي بالخبر على صيغة تدل على حال تلك الارض في كل زمن من تلك الازمنة، وهو اكتساب الارض الخُضْرَة بعد أنْ كانت غير مُخْضَرّة قبل نزول المطر، يقول الطاهر بن عاشور: وإنّما عبر عن مصير الارض خَضْراء بصيغة (تُصْبِحُ مُخْضَرّة) مع ان ذلك مفرع على فعل(أنْزَلَ مِنَ السماءِ ماءً) الذي هو بصيغة الماضي لأنّه قصد من المضارع استحضار تلك الصورة العجيبة ([9]). واستحضار الصورة بصيغة المضارع يستلزم معه ان يكون الخبر مُعَبِّراً عن تلك الصورة في الحال.

ثم انّ لفظة (مُخْضَرّة) تُؤذن بأنّ ما يحصل للارض من خُضْرَة إنّما هو على جهة التدرج والاكتساب لا على جهة المباشرة، وهذا ينسجم ومراحل نمو النبات الذي يَتَحَصّل منه مرأى اللون الاخضر، وهذا بخلاف ما لو جاء بالخبر على صيغة (فَعلاء) (خَضراء) التي تدل على ان اللون الاخضر ثابت فيها مستقر لاأنّه قد تحولت اليه بفعل نزول المطر.

ولو تاملنا في الاستعمال القرآني لمفردة اللون على صيغة الصفة المشبهة (فَعْلاء) لاتّضَحَ لنا وبصورة جلية الفرق بين هذه الصيغة وصيغة اسم الفاعل(مُفْعلّ)، ولتبينت لنا العلة في ايثار القرآن لصيغة اسم الفاعل في هذه الآيةعلى صيغة الصفة المشبهة.

جاءت المفردة اللونية في القرآن الكريم على صيغة(فعلاء) في لفظتين وهما (صفراء)، و(بيضاء) ولم يرد غيرهما على هذا البناء دالاً على اللون، وبالنظر في السياقات القرآنية التي ورد فيها ذكر هاتين اللفظتين نجد أنّ السياق القرآني في ايراده لصيغة(فَعْلاء) كان يتوخى اللون، أي: إنّ المقصد والغاية الاساسية لهذا الاستعمال هو الدلالة اللونية البحت لاغير، فاللون هو الدلالة المركزية المقصودة من استعمال القرآن لصيغة(فعلاء) في المفردة اللونية.

فلفظة(صَفْراء) وردت مرة واحدة في القرآن الكريم لبيان لون البقرة التي أمر موسى (عليه السلام) قومه ـ وبأمرٍ من ربه ـ أنْ يذبحوها، قال تعالى:

{قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} ([10])

فطلب القوم كان في بيان لون تلك البقرة، ولذلك كان الجواب في بيان ذلك اللون الذي هو من الصفات الثابتة في الحيوانات، ولما كان الاهتمام في سياق هذه الآية في بيان اللون اكّده بقوله(فاقع لونها) وفي هذه العبارة تمييز لذلك اللون.

أمّا لفظة(بَيْضاء) فقد وردت في القرآن الكريم في سياقين مختلفين ولكنهما لبيان اللون أيضاً.

السياق الاول الذي وردت فيه لفظة(بَيْضاء) هو في صفة خمر الجنة اذ قال تعالى:

أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ # فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ #فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ # عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ #يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ #بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ [11]

فبيضاء هنا صفة للكأس والمراد بها الخمر، قال ابن عاشور: والمعني بها ـ أي الكأس ـ في الآية الخمر لأنّه أفردَ الكأس مع أنّ المطوف عليهم كثيرون ولانها وُصِفَتْ بأنّها من معين... وبَيْضاء صفة لكأس واذ قد أُرِيدَ بالكأس الخمر الذي فيها كان وصف بيضاء للخمر([12]). وذكر صفة اللون هنا جاء للترغيب بهذه الخمرة وبيان افضليتها على خمر الدنيا، فقد روى مالك عن زيد بن اسلم في صفة هذه الخمرة قوله: لونُها مُشْرِق حَسَن فهي لا كخمر الدنيا في منظرها الرديء من حمرة او سواد([13]). أمّا السياق الثاني الذي وردت فيه لفظة (بَيْضاء) وهو الاكثر في القرآن الكريم لهذه اللفظة، فكان في بيان معجزة من معجزات النبي موسى 7التي جاء بها قومه، وتتمثل تلك المعجزة بتحويل لون يد موسى عليه السلام من اللون الآدمي الشديد السمرة الى لون ابيض نوراني مُشِع([14]). قال تعالى:

{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى # لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى }([15])

وليتأكد لقوم موسى7 تلك المعجزة اللونية فانّه وبعد أنْ عاينوا شدّة بياض يده النوارني اعاد اليد الى كُمِّه فعادت الى لونها الاول([16]).

و الملاحظ أنّ سياق هذه المعجزة قائم كله على التحول و التغيّر من لون الى لون آخر، و لكن القرآن الكريم لم يُعَبّر عن ذلك اللون الطارئ بصيغة (اسم الفاعِل) (مُفْعَلّ) فيقول (مُبْيَضّة) وإنّما عبّر عنه بصيغة الصفة المُشَبّهة (فَعْلاء) فقال(بَيضاء) وذلك في كل السياقات التي ورد فيها ذكر هذه المعجزة.

والعلّة في ذلك تكمن في انّ موضع الإعجاز قائم في اللون، فاهتمام السياق جاء مُنَصبّاً على النتيجة المُتحصلة من التحول، لا تصوير ذلك التحول و يفيته، فاللون الذي تحولت اليه اليد كان خارِقاً عجيباً، قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: "وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءٌ لِلنَّاظِرِينَ " ([17]) فإن قُلْتَ، بِمَ يتعلق (للناظرين)؟ قلت: يتعلق ببيضاء، والمعنى: فإذا هي بيضاء للنَظّارة ولا تكون بيضاء للنظّارة الا اذا كان بياضها عجيبا خارقا عن العادة، يجتمع الناس للنظر اليه كما تجتمع النظارة للعجائب، وذلك ما يروى انّه أرى فرعون يده وقال، ما هذه ؟ قال: يدك؛ ثم ادخلها جيبه وعليه مدرعة صوف ونزعها، فاذا هي بيضاء بياضاً نورانياً شعاعها شعاع الشمس، وكان موسى(عليه السلام) آدم شديد الأُدْمَة([18]).

والمشهور انّ الكوفيين اجازوا بناء(أفْعَل) التفضيل من البياض والسواد قالوا: لأنهما مما يصلح أنْ يَصُحَّ فيهما التدرج([19])، وهذا يعني انه لو استعمل (مُبْيَضّة) لدلت على درجة من شدة البياض اقل من (بَيْضاء).

ثم انّ الاعجاز يكمن في سرعة الانقلاب من لون البشرة الطبيعي الى ذلك اللون المعجب، وهذا ما لا يناسبه لو جيء بالصفة على صيغة(اسم الفاعل) (مُبيضّة)؛ لأنها لاتوحي بتلك السرعة المطلوبة، ولذلك نجد أنّ سياق بعض الآيات في ذكر هذه المعجزة جاء مقترنا بإذا الفجائية لتعبر عن تلك السرعة، إذ قال تعالى: " وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ " ([20])

قال ابن عاشور: ودلت إذا المفاجئة على سرعة انقلاب لون يده بياضا ([21]).

وكذا الامر في الآيات القرآنية التي جاءت فيها (بيضاء) واقعة موقع الحال نحو قوله تعالى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}([22]) فلما أُريدَ بيان لون اليد عند خروجها جيء بالحال على وزن الصفة المشبهة، فمع الفعل يؤتى باسم الفاعل حالا، فإنْ أُريدَ المبالغة في شدة اللون، أو فلنقل أُرِيدَ العناية بذات اللون، لا بالذات المتصفة به جيءَ بالصفة المشبهة؛ لأنّ الصفة فيها تكون أكثر لصوقاً بالذات، وكأنّها هي الذات نفسها، كما أنّ السياق في هذه الآية لايهتم بتصوير الحدوث الذي يفيده اسم الفاعل.

نخلص من هذا الى أنّ المفردة اللونية في القرآن الكريم تأتي على صيغة الصفة المشبهة(فَعْلاء) عند ارادة الدلالة اللونية ـ وإنْ كان في السياق ما يدل على الحدوث و التحول -، فإن كان القصد هو الحدوث لا اللون فقط جيء بالمفردة اللونية على صيغة اسم الفاعل. وهنا نسأل هل كان قصد القرآن في قوله تعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} ([23])، التعبير عن لون الارض، أم انّ اللون هنا كان مقصداً ثانوياً؟.

إنّ اللون في هذه الآية دليل على امر آخر هو موضع الاهتمام في السياق وهو النبات الذي بسببه يتحصل مرأى اللون الاخضر؛ أي: إنّ اللون الأخضر هنا دليل عقلي على شيء اخر مُلازم ومقترن به وهو النبات، قال ابن عاشور: اختير في التعبير عن النبات الذي هو مقتضى الشكر لما فيه من اقامة اقوات الناس والبهائم بذكر لونه الاخضر لان ذلك اللون ممتع للأبصار فهو أيضا موجب شكر على ما خلق الله من جمال المصنوعات في المرأى كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ}([24])، ([25]) فالدلالة اللونية الصرف لم تكن مقصودة ومرادة في هذا السياق كما أُرِيدَتْ في سياقات الآيات التي ذكر فيها اللون على صيغة (فَعْلاء).

ولو نظرنا في الآيات السابقة واللاحقة التي انتظم فيها سياق هذه الآية لوجدناها في اظهار النعم, إذ قال تعالى في آية قبلها: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [26] وقال بعدها: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ #أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ #وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ} ([27]). فكانت واحدة من هذه الآيات التي تجلت فيها قدرة الله وعظيم نعمته هي نزول المطر من السماء والذي بسببه ينمو النبت الذي يعتاش عليه الانسان والحيوان.

ثم انّ هذه الآية قد افتُتِحَت بقوله "أَلَمْ تَرَ" باسلوب الاستفهام الانكاري الذي يفيد التقرير([28])، والرؤية في هذا الموضع وإنْ كانت رؤية بصرية حقيقة (لأن الماء النازل من السماء يُرى بالعين، وإخضرار النبات على الارض مرئي) ([29]) إلا انها رؤية تدعو الى التأمل والنظر في قدرة الله التي تتجلى في هذه الحادثة المتكررة على وجه الارض، ومن ثم فأنّ هذه المعاني التي افادها هذا السياق لا ينسجم معها التعبير عن خضرة الارض بالصفة المشبهة (خضراء)، لأن الحدوث والتحول هو المقصود فهو وجه القدرة في هذه الآية.

والأمر الآخر: إنّه لّما كان الموضع موضع انعام على الانسان بالنبات الذي هو قُوْتُه جيء بما يدل عليه بالصيغة التي تفيد المبالغة والتكثير لان (مُخْضَرّة) مَصوْغة من الفعل (اخْضَرّ)، وصيغة (افْعَلّ) من الصيغ الفعلية التي يعبر بها عن المبالغة والقوة، فقولهم: احْمَرّ وجهه فهو في معنى(حَمِرَ) إلا انه أبلغ، وكذلك اخْضَرّ، و اصْفَرّ، وابْيَضّ([30])، أي: إنّ التشديد في مبنى هذه الصيغة ينمّ عن الزيادة في المعنى وتأكيده بما لا تحتمله الصيغ المجردة مثل: حَمِرَ، وصَفِرَ، والتشديد فيها يشير الى تكرار الحدث و مداومته([31]).

وعليه فان بناء (مُفْعَلّ) الذي جاءت عليه لفظة(مُخْضَرّة) قد افاد في القرآن الكريم الاتصاف باللون على جهتي الحدوث والمبالغة.

2- لفظة (مُصْفَرّاً)

لاتختلف الآيات القرآنية التي وردت فيها لفظة (مُصفرّا) في سياقاتها عن الآية التي وردت فيها لفظة (مُخضرّة) في كونها من الآيات التي يستدلّ بها على تفرده سبحانه وتعالى بالتصرف والصنع الحكيم.

فقد وردت لفظة(مُصْفَرّا) في القرآن الكريم ثلاث مرات، وقد جاءت في المواضع الثلاثة في سياق حادثة واحدة، وهو تحول لون النبت الأخضر الى اللون الاصفر، لكن ايراد هذه الحادثة جاء لغاياتٍ مختلفة بحسب السياق الذي وردت فيه.

فالموضع الاول الذي وردت فيه لفظة (مُصفرّا) جاء في سياق آيات تصور حال نفر من الناس طُبِعَ الكفر في قلوبهم فهم يتقلبون وفق اهوائهم ولا ينتفعون بآيات الله الكونية الماثلة امامهم ولا يدركون الحكمة من وراء ما يرون وما يشهدون من وقائع واحداث، وقد جاء هذا التصوير من خلال حقيقة من حقائق الطبيعة المنظورة التي (لا تحتاج الى اكثر من النظر و التدبر، ومن ثم يتخذها سبحانه وتعالى برهانا على قضية البعث والاحياء في الاخرة على طريقة الجدل القرآني الذي يتخذ من مشاهد الكون المنظورة وواقع الحياة المشهودة مادته وبرهانه، ويجعل من ساحة الكون العريض مجاله وميدانه)([32])، هذه الحقيقة تتمثل في احياء الارض الميتة التي اصابها الجفاف بنمو النبت الاخضر فيها بعد تهيئة اسباب الاحياء وهو المطر واستبشار الناس بنزوله بعد اليأس والقنوط قال تعالى:

اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ #وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ #فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " ([33])والمقصود برحمة الله الغيث الذي اشارت اليه الآيات السابقة. واثر هذه الرحمة هو النبات([34])، فإذا اصابه الاعصار وحرقه ضجوا، واجروا على اقوالهم عبارات السخط والقنوط، قال تعالى: وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ" ([35]). أي رأوا تغيّر ذلك الزرع الاخضر الذي استبشروا وتأملوا في الانتفاع والارتزاق منه قريباً ييبس ويصفر ويحترق. ويتبين لنا من السياق اثر التعبير بـ(مُصْفَرّا) في رسم صورة التغيّر والحدوث وطروء الصُفْرَة على النبت، قال الزمخشري: قال: مُصفرّا لأنّ تلك صفرة حادثة، وقيل: فرأوا السحاب مُصْفَرّا، لأنّهُ إذا كان كذلك لم يُمْطِر([36]). وهذا المعنى لا يُسْتَفاد لو قال (فرأوه أصفرا) لأنّ تصوير التحول والتغيّر هو المطلوب في هذا السياق، قال الطاهر بن عاشور: " و المُصْفَرّ: اسم فاعل مُقْتَضٍ الوصف بمعناه في الحال، أي فرأوه يصير أصفر، فالتعبير بـ(مُصْفَرّ) لتصوير حدثان الاصفرار عليه دون(*) أن يقال: فرأوه أصفر([37])، ثم أنّ (مُصْفَرّا) رسمت التحوّل والتغيّر من اللون الاخضر الى اللون الاصفر ببعده الزمني في واقع حياة النبات لأنّ النبات لا يتغير لونه الى الصفرة ـ وهو دليل الذبول والشيخوخة ـ فجأة ومباشرة، وانّما يمضي ذلك في مدة من الزمن.

والموضعان الآخران([38]) اللذان ورد فيهما ذكر(مُصْفَرّا) كانا أيضاً في بيان مرحلة من مراحل النبات والتي ضُرِبَتْ مثلاً للتذكير والعبرة والإتعاظ، قال تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ"([39]) وكما اشرنا الى أنّ المفردة اللونية في القرآن الكريم على صيغة(مُفْعَلّ) لا يُرادُ منها أصل اللون او ذاته، وإنّما يُراد منها التحول الى ذلك اللون, وانّ اللون فيها دليل على امر آخر، فإنّ (مُصْفَرّا)جاءت ـ والله اعلم بالصواب ـ لتعبّر عن انتهاء مرحلة الهياج التي يمر بها النبات او الزرع والذي فُسّر بالجفاف واليَبَس([40])، هذا يعني انّ لفظة (مُصْفَرّا) متعلّقة بـ(يهيج) تعلّق نتيجة متحصلة لاإنّها تمثل مرحلة مستقلة من مراحل دورة حياة النبات أو طوراً من اطواره، والذي يدل على ذلك إنّ الالفاظ في سياق التعبير عن هذه المراحل جاءت كلها بزنة الفعل المضارع الذي يدل على الحدوث والتجدد(يَخْرُج، يَهيج، يجعله)، على حين ورد الاصفرار على زنة الاسم(مُصْفَرّا)، يُضاف الى ذلك انّ أيّاً من الافعال الثلاثة لم يتعلق بالرؤية، و انّما الرؤية تعلقت بتغيّر الخُضْرَة الى الإصفرار، الامر الآخر إنّ الافعال الثلاثة عُطِفَت جميعها بحرف العطف ثم لافادة التراخي الرتبي([41]) بما يفيد انّ النبات يأخذ وقته في الانتقال من مرحلة الى اخرى بما ينسجم وحياة النبات كأي كائن حي يترقى في اطوار حياته، أمّا الاصفرار(مُصْفَرّا) فقد ارتبط بالرؤية المعطوفة بحرف العطف(الفاء) والتي تفيد التعقيب مما يدل على ان الاصفرار يمثل انتهاء مرحلة الهياج بتغير اللون من حال الى حال، قال الطوسي: " وقوله(ثم يهيج فتراه مُصْفَرّا) معناه يجف ويضطرب، فالهيج شدة الاضطراب بالانقلاب عن حال الاستقامة والصلاح... وقيل: معنى (يهيج) أي يحمي ويجف، فكأنّه عما يلحق الجميع يخرج الى تلك الحال فيتغير عن لون الخُضْرَة الى لون الصُفْرَة([42])، وقال القرطبي فتراه أي بعد خُضْرَته(مُصْفَرا) ([43]). ثم انّ الهَيَج في احد معانيه التي ذكرها اللغويون هو الاصفرار([44])، وهذا يؤكد تعلق (مُصْفَرّا) بـ (يهيج) تعلق نتيجة متحصلة.

وعليه يمكن القول إنّ (مُصْفَرّا) قد أوجزت بصيغتها تصوير التغيّر من لون الخضرة ـ بما يمثل مرحلة شباب النبت و نضارته ـ الى لون الصُفْرَة ـ بما يُمَثِّل شيخوخته وتقدّمه في العمرـ، وهو ما حُمِلَ عليه ضَربُ المَثَل على أحد الاوجه للتشبيه بحال الدنيا بعد بهجتها او حال الانسان في هرمه وشيخوخته بعد شبابه ويفاعته([45]). قال تعالى: " اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ([46]).

 
3- لفظة (مُسْوَدّا)

اللفظة الثالثة التي جاءت في القرآن الكريم على زنة (مُفْعَلّ) دالة على الاتصاف باللون على جهة الحدوث هي (مُسْودّا) والتي اقترنت صفة للوجه في المواضع الثلاثة التي وردت فيها في القرآن الكريم، ففي موضعين منه جاءت (مُسْوَدّا) في سياق ما اعتاده العرب في زمن الجاهلية من كرههم لولادة الاناث واستبشارهم بولادة الذكور، قال تعالى:" وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ] النحل/58 [ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ " [47]، وقال تعالى:" وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ "([48]) فأول ما يظهر من اعراض هذه الكراهة لولادة الاناث على الجاهلي هو تغيّر لون الوجه والذي عُبِّّرَ عنه بالاسوداد للدلالة على شدّة الكآبة والغضب، قال ابن عاشور: واسوداد الوجه: مستعمل في لون وجه الكئيب اذ ترهقه غبرة، فَشُبِّهَتْ بالسواد مبالغة ([49])، وقال في تفسير الآية الثانية: واسوداد الوجه من شدّة الغضب والغيظ إذْ يصعد الدم الى الوجه فتصير حمرته الى سواد، والمعنى: تغيّظ..([50])، ولما كان ما يعرض للوجه من تغير لوني حالة طارئة حادثة مرتبطة بالتبشير عُبِّرَ عنه بصيغة (مُفعلّ) (مُسودّا) من دون (أسوَد) لأنّ ملازمة السواد للوجه غير مطلوبة على وجه الدوام وانما لحالة آنية وقتية ولذلك جاء جواب الشرط متصدّراً بالفعل ظلّ لانه من افعال الكون التي تدل على اتصاف فاعلها بحالة لازمة([51])، ثم انّه لو قِيلَ (أسوَد) لَدَلَّ على تحول اللون من لون البشرة الطبيعي الى ذات اللون الاسود وهذا ما لا يكون فالسواد إنّما أُريدَ به هنا التعبير عن المساءة. ومثل ذلك قوله تعالى: " وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ "([52]) فاسوداد الوجه طارئ على المكذبين بايات الله موقوت بذلك اليوم الرهيب، فلو قيل (وجوههم سوداء) لفات – والله اعلم – معنى الهول والرهبة والخوف الذي يصيبهم بسبب معاينة انواع العذاب في جهنم والذي بأثره تُرى تلك الوجوه مُسْوَدَّة، فمعنى الحدوث مقصود مطلوب في هذا السياق للترهيب من العذاب المعدّ في ذلك اليوم لمن كَذّبَ واستكبر وهذا ما يفيده تذييل الآية بقوله تعالى" أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ "، ولا يضير في ارادة هذا المعنى تفسير من حمل اسوداد الوجه على الحقيقة بجعلها علامة لهذه الفئة وجعل بقية الناس بخلافهم لأنّه سبحانه وتعالى قد جعل اسوداد الوجوه يوم القيامة علامة على سوء المصير كما جعل بياضها علامة على حُسْنِ المصير قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ # وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }([53]).

 

الخلاصة:

نخلص بعد هذا الى القول: إنّ اختيار المفردة في القرآن الكريم و تشكيلها وبنائها على هيكلية معينة و هو ما نسميه بالبناء الصرفي إنّما قائم في المقام الاول على المعنى المتوخى الذي هو الغاية الاساس، و لذا وجدنا أنّ مفردة اللون تتغاير في بنائها الصرفي من موضع الى اخر و ما ذلك إلاّ لاختلاف معاني الابنية و منها اختلاف الدلالة بين صيغة اسم الفاعل (مُفْعَلّ) و صيغة الصفة المُشبّهة أفْعَل – فَعْلاء، فالاولى تدلّ على الحدوث و الثانية تدلّ على الثبوت وهما معنيان متضادان، إذ المقصود بالحدوث في اتصاف الذات باللون هو عدم الثبات، و بناء (مُفْعَلّ) بهذه الدلالة قد ساهم في رسم المتغيرات التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، متغيرات الطبيعة (خُضْرَة الارض، و إصْفِرار النبت) و متغيرات الاحوال (إسْوداد الوجه)، فجعل هذا البناء الصورة القرآنية صورة حيّة محسوسة بصرية لا مجرد تراكيب تحمل في طياتها معنًى جليلاً.

المصادر و المراجع

1. القرآن الكريم.

2. أبنية الصرف في كتاب سيبويه: د.خديجة الحديثي، بغداد، الطبعة الاولى، 1385هـ - 1965م.

3. البحر المحيط: أبو حيان الاندلسي، محمد بن يوسف(ت745هـ)، دارالفكر، الطبعة الثانية 1398هـ - 1978م.

4. التبيان في إعراب القرآن: العكبري، أبو البقاء عبد الله بن الحسين (ت616هـ)، تح: علي محمد البجاوي، دار احياء الكتب العربية، مصر 1976م.

5. التحرير والتنوير: محمد الطاهر بن عاشور (ت 1357هـ)، تونس الدار التونسية للنشر، 1984م.

6. تصريف الاسماء والافعال:د. فخر الدين قباوة ـ مطبعة جامعة حلب1978م.

7. التفسير الكبير: الفخر الرازي، محمد بن عمر(ت606هـ) الطبعة الاولى المطبعة البهية المصرية 1357هـ - 1938م.

8. التكملة: أبو علي الفارسي (ت 377هـ)، تحقيق ودراسة كاظم بحر المرجان، بغداد 1981م.

9. الجامع لاحكام القرآن: القرطبي، محمد بن احمد (ت671هـ)، دار احياء التراث العربي- بيروت 1376هـ - 1957م.

10. دقائق العربية: أمين آل ناصر الدين – بيروت – 1953م.

11. روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: الآلوسي، ابو الفضل شهاب الدين السيد محمود(ت1270هـ). المطبعة المنيرية بمصر،(د.ت).

12. شذا العرف في فن الصرف: أحمد الحملاوي (ت 1351هـ - 1932م) مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر، الطبعة الخامسة عشرة 1383هـ - 1964م.

13. شرح المفصل: ابن يعيش، يعيش بن علي (ت643هـ)، المطبعة المنيرية بمصر(د.ت).

14. فصول في فقة اللغة: د. رمضان عبد التواب، القاهرة، الطبعة الاولى 1977م.

15. في ظلال القرآن: سيد قطب، بيروت الطبعة الخامسة 1386هـ - 1967م.

16. الكتاب، سيبويه، عمرو بن عثمان بن قنبر(ت180هـ) تح: عبد السلام محمد هارون، عالم الكتب – بيروت، الطبعة الثالثة 1403هـ - 1983م.

17. الكشاف: الزمخشري، محمود بن عمر(ت538هـ)، بيروت دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة 1407هـ - 1987م.

18. مجمع البيان: الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (من علماء القرن السادس الهجري)، بيروت 1376هـ - 1957م.

19. المعجم المفهرس لالفاظ القرآن الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت، دار إحياء التراث العربي 1945م.

20. المفردات في غريب القرآن: الراغب الاصفهاني (ت 425هـ)، تح: محمد سيد كيلاني، طهران (د.ت)

21. المنهج الصوتي للبنية العربية: د.عبد الصبور شاهين، بيروت مؤسسة الرسالة 1980م.

 

الرسائل الجامعية

22. اللون في القرآن الكريم (دراسة لغوية نحوية دلالية): نضال حسن سلمان، اطروحة دكتوراه،كيلة القائد لتربية البنات- جامعة الكوفة1418هـ -1997م.

الهوامش

 

[1] أبنية الصرف في كتاب سيبويه ص248.

 

[2] - ينظر الكتاب 4/282.

[3] - ينظر شذا العرف ص52، وفصول في فقه اللغة ص 310، والمنهج الصوتي للبنية العربية ص115.

[4] - ينظر ابنية الصرف في كتاب سيبويه ص399.

[5] - الكتاب4/ 76-77، وينظر التكملة ص 520، واللون في القرآن الكريم ص104.

[6] - ينظر المعجم المفهرس ص234، وص370، وص409.

[7] - الحج/63.

[8] - الكشاف 3/168.

[9] - التحرير والتنوير ج17/318.

[10] - البقرة / 69.

[11] - الصافات / 41-46.

[12] - التحرير والتنوير ج23/112-113.

[13] - التحرير والتنوير ج23/113.

[14] - ينظر المعجم المفهرس ص141.

[15] - طه/ 22-23.

[16] - مجمع البيان مج9، ج16/ 157، وينظر الجامع لاحكام القرآن7/257، واللون في القرآن الكريم ص345.

[17] - الاعراف/ 108.

[18] - الكشاف ج2/138.

[19] - ينظر شرح المفصل 6/135.

[20] - الاعراف/ 108والشعراء/33.

[21] - التحرير و التنوير ج19/124.

[22] - النمل/ 12.

[23] - الحج/ 63.

[24] - النحل/6.

[25] - التحرير والتنوير ج17/ 318.

[26] - الحج/ 61.

[27] - الحج/ 64- 66.

[28] - ينظر روح المعاني 17/174، والتحرير و التنوير 17/318، واللون في القرآن الكريم ص349.

[29] - التفسير الكبير 23/61، وينظر البحر المحيط 6/385، وروح المعاني 17/174، واللون في القرآن الكريم ص349.

[30] - تصريف الاسماء والافعال ص117، وينظر اللون في القرآن الكريم ص200.

[31] - ينظر دقائق العربية ص15، واللون في القرآن ص201.

[32] - في ظلال القرآن ج21/153.

[33] - الروم/48- 50.

[34] - الكشاف 3/485.

[35] - الروم / 51.

[36] - الكشاف 3/486.

* - والصواب من دون.

[37] - التحرير و التنوير ج2/125.

[38] - وهما آية (21) من سورة الزمر، وآية (20) من سورة الحديد.

[39] - الزمر/21.

[40] - ينظر التبيان 9/20.

[41] - ينظر التحرير والتنوير 27/405.

[42] - التبيان9/20، وينظر روح المعاني 23/232، واللون في القرآن الكريم ص359.

[43] - الجامع لأحكام القرآن 15/245.

[44] - ينظر المفردات ص570.

[45] - ينظر التحرير والتنوير ج23/378.

[46] - الحديد/20.

[47] - النحل / 58- 59.

[48] - الزخرف/17.

[49] - التحرير و التنوير 14/184.

[50] - التحرير والتنوير 25/180.

[51] - ينظر تصريف الأسماء و الافعال ص 59.

[52] - الزمر/60.

[53] - آل عمران/ 106- 107.