تصنیف البحث: الأدب العربي
من صفحة: 8
إلى صفحة: 25
النص الكامل للبحث: PDF icon 6-1.pdf
خلاصة البحث:

حاجة الناس إلى التأريخ كحاجتهم إلى الغذاء إذ تجاوز التاريخ مفهوم القديم كقصص وحكايات تسرد على موائد الملوك والأمراء فلا يحتاج إليه إلا المترفون الذين يجدون في سماع حوادث التاريخ متعة تضاف إلى لذائذهم الأخرى.أما اليوم فقد أصبح للتأريخ مفهوماً أوسع فهو يعني الحياة بكامل أدوارها فهو ليس الماضي وحسب بل هو الحاضر والمستقبل أيضاً.تتوسل أمم اليوم في سباقها الحضاري بأية قيمة حضارية تمنحها القدرة على البقاء والاستمرار في هذه الحياة المتلاطمة، فهي تغوص في أعماق تاريخها لكي تكتشف هذه القيمة لتستخرجها من العدم على الوجود حتى تصبح مبرراً لبقائها على هذه الأرض ولكل أمة تجارب في الحياة، التجربة هي أكبر رأسمال في الأمة، والتاريخ هو الذي يخزن تجارب الأمم.من هنا؛ جاء اهتمام الأمم المعاصرة بتاريخها.

البحث:

آراء وافكار في إعادة كتابة التاريخ

حاجة الناس إلى التأريخ كحاجتهم إلى الغذاء إذ تجاوز التاريخ مفهوم القديم كقصص وحكايات تسرد على موائد الملوك والأمراء فلا يحتاج إليه إلا المترفون الذين يجدون في سماع حوادث التاريخ متعة تضاف إلى لذائذهم الأخرى.

أما اليوم فقد أصبح للتأريخ مفهوماً أوسع فهو يعني الحياة بكامل أدوارها فهو ليس الماضي وحسب بل هو الحاضر والمستقبل أيضاً.

تتوسل أمم اليوم في سباقها الحضاري بأية قيمة حضارية تمنحها القدرة على البقاء والاستمرار في هذه الحياة المتلاطمة، فهي تغوص في أعماق تاريخها لكي تكتشف هذه القيمة لتستخرجها من العدم على الوجود حتى تصبح مبرراً لبقائها على هذه الأرض ولكل أمة تجارب في الحياة، التجربة هي أكبر رأسمال في الأمة، والتاريخ هو الذي يخزن تجارب الأمم.

من هنا؛ جاء اهتمام الأمم المعاصرة بتاريخها.

ومن هنا جاءت الدعوة المدوية بتطهير سجلات التاريخ من الأوساخ، وإزالة الأشواك والألغام التي وضعها سماسرة السلاطين، وترضية الأحزاب وفئات صغيرة بتزوير الحقائق فحملوا أقلامهم بسهولة وكتبوا ما حلا لهم، وجاء من بعدهم من أخذ بهذه الأخبار دون تمحيص وتدقيق، فتحولت بعد عقود إلى حقائق.

فالتاريخ ليس هو الأوراق الصفراء التي بين أيدينا، وحتى لو كُتبت قبل ألف عام، لأن الذين تركوا لنا هذه الأوراق من أمثال الطبري وابن الأثير والمسعودي تركوها على شكل أخبار، وليس على شكل تاريخ، وهناك فرق كبير بين الأخبار والتاريخ.

فالأخبار هي مادة التاريخ من خلالها يمكننا أن نتعرف على الماضي ونكتشف العبر والدلائل.

وإذا كان عالم متخصص في الحديث كالقاري الهروي قد جمع (478) حديثاً موضوعاً على لسان رسول الله فإنّ الأخبار التاريخية لا ترقى لمستوى الأحاديث النبويّة فهي أشدّ عرضة للوضع، لأنها أولاً لا تحمل قدسية الأحاديث النبوية فلا يخشى الوضاعون في وضعها، التي تحاول أن تعطي صورة للأحداث كما يروق للسلطات الحاكمة، أضف إلى ذلك المشاكل التي تتعرض لها هذه الأخبار أثناء التصحيف والنقل وما شابه ذلك. والأصعب من كل ذلك تسامح العلماء في الأخبار التاريخية تحت ذريعة ]التسامح في أدلة السنن[ باعتبار أن أخبار الأحداث غير الأخبار التي تتعلق بالعبادات وما شابه ذلك فيتسامحون في إسنادها حتى لو كان رواتها مجهولين.

من هنا كان لابدّ من إعادة كتابة التاريخ وفق المعطيات العلمية التي تحاول الوصول إلى الحقيقة من خلال ما هو موجود من الأخبار والقرائن النفسية والاجتماعية.

ابن خلدون واعادة كتابة التاريخ

وأول من لفت الأنظار إلى هذه القضية العلامة ابن خلدون في المقدمة التي كتبها لتاريخه، فقد هاله ما تراكم من الأخبار في كتب المؤرخين سيما وأن ظهوره كان عقب مرحلة التدوين وكتابة التاريخ بأربعة قرون.

وجد ابن خلدون تعارض بعض الأخبار مع القرائن التاريخية، فمثلاً أورد المؤرخون في جيوش بني إسرائيل بأن موسى عليه السلام أحصاهم في التيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح خاصة من ابن عشرين فما فوق كانوا ستمائة ألف أو يزيدون، وهذا الخبر ينقض ما لدى الفرس من جيوش حيث كانوا أقوى من بني إسرائيل وكانت لهم الغلبة على بني إسرائيل في عهد نبوخذ نصر، ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد ولا قريباً منه، وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسية؛ مائة وعشرين ألف.

وينقل ابن خلدون خبراً عن عائشة والزهري بأنّ جموع رستم الذين زحف بهم سعد بالقادسية انما كانوا ستين الفاً[1] فلو بلغ بنو اسرائيل العدد الذي ذكره المؤرخون لا تسع نطاق ملكهم وأنفسح مدى دولتهم[2].

فقسم كبير من أخبار التاريخ تناقلتها الألسن قبل ظهور عصر التدوين والنقل بالواسطة، وليس بالقلم عرضة للتصحيف، فإضافة صفر واحد على يمين الرقم (6) آلاف يقلبه إلى عشرة أضعاف، أو بالعكس زوال صفر واحد نتيجة التصحيف، أو بسبب عوادي الزمن سيقلب الرقم من (60) ألف إلى (6) آلاف، وليس الأرقام وحدها هي التي تعرضت للتصحيف نتيجة حذف (نقطة واحدة) بل حتى الأسماء هي الأخرى تعرضت للتصحيف فكم من وجوه التاريخ وشخصيات تغيرت أسماؤهم نتيجة حذف أو إضافة نقطة؟ وكم من خبر تشوه نتيجة تقديم كلمة على كلمة، أو حذف كلمة من جملة فإنها اخطاء ممكنة وقد وقعت فعلاً ولازال هناك لبس كبير نتيجة هذه الظاهرة وسنقدّم نماذج عن ذلك في فصل آخر إن شاء الله تعالى.

وياليت وقع الخطأ في الأخبار بشكل عرضي دون أن يمسها يد الأهواء والأطماع والتيارات السياسية.

وقد هال ابن خلدون ايضاً ما تعرّض إليه ]العبيديون[ الشيعة الذين حكموا القيروان والقاهرة، فهناك من طعن في نسبهم إلى اسماعيل بن الامام جعفر الصادق عليه السلام، فهؤلاء المؤرخون اعتمدوا حسب قوله إلى أحاديث «لفقت للمستضعفين من بني العباس تزلفاً إليهم بالقدح فيمن ناصبهم وتفنناً في الشمات بعدوهم»[3].

ويرد ابن خلدون على هذا الدرس بالقول:«لقد اتصلت دولتهم نحواً من مائتين وسبعين سنة وملكوا مقام ابراهيم عليه السلام ومصلاه وموطن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ومدفنه وموقف الحجيج ومهبط الملائكة ثم انقرض أمرهم وشيعتهم في ذلك كله على اتمّ ما كانوا عليه من الطاعة لهم والحب فيهم واعتقادهم بنسب اسماعيل جعفر الصادق»[4].

ويعزي ابن خلدون سبب هذا الاهتمام إلى اخفاء العبيديين اسمائهم كونهم جماعة تتحرك بصورة سرية «حتى لقد سمي محمد بن اسماعيل جد عبيد الله المهدي بالمكتوم سمته بذلك شيعتهم لما اتفقوا عليه حين اخفائه حذرا من المتغلبين عليهم فتوصل شيعة بني العباس بذلك عند ظهورهم إلى الطعن في نسبهم»[5].

ثم يرد على اولئك المتشككين في نسبهم بوثيقة تاريخية هي كتاب المعتضد في شأن عبيد الله إلى ابن الأغلب بالقيروان وابن مدرار بسجلمات[6].

وهنا يأتي الدور للتحليل العقلي في تفسير هذه الوثيقة «فالمعتضد اقعد بنسب أهل البيت من كل أحد»[7].

فلو كانت هناك شائبة في نسبهم لكان المعتضد أول من استغل ذلك الطعن فيهم.

ثم يذكر ابن خلدون ما لحق المهدي صاحب دولة الموحدين من قدح المؤرخين ونسبته إلى الشعوذة والتلبس.

فيقول:«وانما حمل الفقهاء على تكذيبه ما كمن في نفوسهم من حسده على شأنه فأنهم لما رأوا من أنفسهم مناهضته في العلم والفتيا وفي الدين بزعمهم ثم امتاز عنهم بأنه متبوع الرأي مسموع القول موطوُّ العقب نسوا ذلك عليه وغضوا منه بالقدح في مذاهبهم والتكذيب لمدعياته»[8].

وبعد ان يسرد ابن خلدون نماذج صارخة من التزييف والتحريف في التاريخ يشرع في ذكر الأسباب الداعية إلى التحريف فيذكر عدة عوامل منها:

1. التشيعات للآراء والمذاهب: فكل حزب مذهب أخذ من الاخبار ما يعجبه ونقل منها ما يناسبه وما لا يتناقض مع اهدافه،«فان النفس اذا كانت على الاعتدال في قبول الخبر اعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه واذا خامرها تشيع لرأي او نحلة قبلت ما يوافقها من الأخبار لاول وهلة، وكان ذلك الميل والتشيع عطاءً على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحيص فتقع في قبول الكذب ونقله»[9].

2. الثقة بالناقلين(الرواة).

3. الذهول عن المقاصد: فكثير من الناقلين لا يعرف القصد بما عاين أو سمع وينقل الخبر على ما في ظنه وتخمينه فيقع في الكذب.

4. توهم الصدق: ويأتي نتيجة الثقة بالناقلين.

5. جهل الناقلين للأخبار وتطبيق الأحوال على الوقائع، لان بعض الوقائع لا تأخذ أشكالها الطبيعية فتتلبس بلباس آخر فينقلها المخبر كما رآها وهي بالتصنع على غير الحق في نفسه، فهناك ممارسات ظاهرها شيء وباطنها شيء آخر مستندة إلى قاعدة التقية والحذر، فكان لابد للمخبر أن يدرك هذا الأمر فلا يغتر بما يراه أو يسمعه.

6. تقرب الناس للوجهاء وأصحاب السلطة بالمدح والثناء، فيذكرون ما ليس فيهم ولان النفوس مولعة بحب الثناء فانها تجد طريقها للنشر بسرعة فتتحول إلى حقائق.

7. الجهل بطبائع الأحوال في العمران، أي الجهل بطبائع المجتمع وحركته في الحياة، فان كل حادث من الحوادث ذاتاً كان أو فعلاً لابد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من أحواله فاذا كان السامع عارفاً بطبائع الحوادث الأحوال في الوجود ومقتضياتها أعانه ذلك في تمحيص الخبر على تمييز الصدق من الكذب.

وهذه العوامل السبعة بمجموعها كافية لتحريف الحقائق وتزييف الأخبار فكان لابد من عمل جادٍ لاعادة كتابة التاريخ يتجاوز هذه النقاط السبعة.

«فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الاخبار بالامكان والاستحالة ان ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران نميز ما تلحقه من الأحوال لذاته، وبمقتضى طبعه وما يكون عارضاً لا يعتد به وما لا يمكن ان يعرض له، واذا فعلنا ذلك كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الاخبار والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه»[10].

اما ماهي الخطوات العلمية لاعادة كتابة التاريخ، فعلى رأي ابن خلدون:

الخطوة الأولى: التمحيص:

وهو لا يتم الا بمعرفة طبائع البشر، والتمحيص هو الذي يعين لنا صدق الخبر من كذبه، واستحالته او امكانه، فهناك من الاخبار التي لا يقبلها العقل البشري ولا تتلائم والطبيعة البشرية، او طبيعة ذلك الموجود المتعلق بذلك الخبر سواء كان انساناً أو جماداً او حيواناً.

الخطوة الثانية: الجرح والتعديل لرواة الخبر، وهو يأتي بعد مقابلة الخبر بالطبيعة البشرية إذ لا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم ان ذلك الخبر في نفسه ممكن او ممتنع، اما اذا كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والتجريح. طبعاً الاخبار التاريخية تختلف عن الاخبار الشرعية فلأن معظمها تكاليف انشائية اوجب الشارع العمل بها متى حصل الظن بصدقها، وسبيل صحة الظن الثقة بالرواة بالعدالة والبط، فكان لابد من التعديل والتجريح، اما الاخبار عن الواقعات فلابد من صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة فلذلك وجب ان ينظر في امكان وقوعه وصار فيها ذلك اهم من التعديل ومقدماً عليه.[11]

ثم ان ابن خلدون يقرر في بداية حديثه حول فن التاريخ إلى حاجة «صاحب فن التاريخ إلى العلم بقواعد السياسة وطبائع الموجودات واختلاف الامم والبقاع والاعصار في السير والأخلاق والعوائد والنحل والمذاهب وسائر الأحوال والاحاطة بالحاضر من ذلك ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق او بون ما بينها من الخلاف وتعليل المتفق منها والمختلف والقيام على اصول الدول والملل ومبادئ ظهورها وأسباب حدوثها ودواعي كونها واحوال القائمين وأخبارهم حتى يكون مستوعباً لأسباب كل خبرة، وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحاً وإلا زيفه واستغنى عنه»[12]

شروط المؤرخ عند السخاوي

أعد العلامة السخاوي رسالة في كيفية كتابة التاريخ، تحمل عنوان، الاعلان بالتوبيخ لمن ذمّ التاريخ، فأفرد في كتابه فصلاً عن شروط المؤرخ، فذكر عدداً من هذه الشروط:

1. العدالة مع الضبط التام الناشئ عنه فريد الاتقان.

2. لابدّ أن يكون عالماً بطريق النقل، حتى لا يجزم إلا بما يتحققه فإن لم يحصل له مستند معتمد في الرواية لم يجز له النقل كقوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «كفى بالمرء كذباً ان يحدث بكل ما سمع».

3. يكون عارفاً بمقادير الناس وبأحوالهم وبمنازلهم، فلا يرفع الوضيع ولا يضع الرفيع ليكون ممتثلاً لقوله(صلى الله عليه وآله وسلم):«انزلوا الناس منازلهم»

4. ويحتاج المؤرخ إلى الورع والتقوى حتى لا يؤخذ بالتوهم والقرائن التي تختلف، خوفاً من الدخول تحت قوله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث».

5. نبذ الجهل والتعصب.

ثم يقول السخاوي «والجهل في المؤرخين أكثر منه في أهل الجرح والتعديل وكذلك التعصب، قل ان رأيت تاريخاً خالياً منه»[13].

ويضرب مثال على ذلك: «واما تاريخ شيخنا (الذهبي) غفر الله له ولا آخذه، فإنه على حسنه وجمعه مشحون بالتعصب المفرط، فلقد أكثر الواقعية في أهل الدين، اعني الفقراء الذين هم صفوة الخلق،واستطال بلسانه على كثيرين من أئمة الشافعية والحنفية»[14]. ثم يقول: هذا هو الحافظ القدوة والامام المبجل، فما ظنك بعوام المؤرخين.

وفي خلاصة أفكاره حول المؤرخ يقول: «فانه يشترط في المؤرخ الصدق، وإذا نقل يعتمد اللفظ دون المعنى، وان لا يكون ما نقله مما أخذه في المذاكرة، ثم كتبه بعد، وان يسمي المنقول عنه، فهذه شروط أربعة فيما ينقله، أو ما يقوله من قبل نفسه، وما عساه يطول فيه من المنقول بعض التراجم دون بعض، فيشترط فيه أن يكون عارفاً بحال المترجم علماً وديناً وغيرهما من الصفات، وهذا عزيز جداً، وان يكون حسن العبارة، عارفاً بمدلولات الالفاظ، حسن التصور بحيث يتصور حين ترجمة الشخص جميع حاله، ويعبر عنه بعبارة لا تزيد عنه ولا تنقص، وان لا يغلبه الهوى، فيخيل اليه هواة الأطناب في مدح من يحبه، والتقصير في غيره، وذلك بأن يكون عنده من العدل ما يقهر به هواه، ويسلك معه طريق الانصاف، والا فالجرد عن الهوى عزيز، فهذه أربعة اخرى، ولك ان تجعلها خمسة، لأن حسن تصوره وعلمه قد لا يحصل معها الاستحضار حين التصنيف، فيجعل حضور التصور زائداً على حسن التصور والعمل، فتصير تسعة شروط في المؤرخ، وأصعبها الاطلاع على حال الشخص في العلم، فانه يحتاج إلى المشاركة في العلم والقرب منه حتى يعرف مرتبته»[15].

نلمس من كلام الشيخ السخاوي امتعاضه وغضبه مما كتبه المؤرخون في ذلك الوقت الذي انتشرت فيه المصنفات.

شروط المؤرخ عند السبكي

وهناك عالم آخر تحسس خطورة عمل المؤرخ وما سيجلبه من آثار وخيمة على صعيد الفرد والمجتمع وهذا العالم هو تاج الدين السبكي فذكر في كتابه معيد النقم مبيد النعم إلى ما يحدق المؤرخ من مخاطر قائلاً:«والمؤرخون وهم على شفا جرف هار لأنهم يتسطون على أعراض الناس وربما نقلوا مجرد ما يبلغهم من كاذب أو صادق فلابد أن يكون المؤرخ عالماً حافظاً عدلاً عارفاً بحال من يترجمه ليس بينه من الصداقة ما يحمله على التعصب له ولا من العداوة ما يحمله على الغض منه وربما كان الباعث له على الصنعة انه من اقوام مخالفة العقيدة اعتقاد انهم على ضلال فيقع فيهم او يقصر في الثناء عليهم»[16].

فشروط المؤرخ عند السبكي هي:

أولاً: ان يتوخى الصدق في نقل الأخبار.

ثانياً: ان يكون ذا عفة فلا يتصيد الاخبار الساقطة المستهجنة.

ثالثاً: ان ينبذ التعصب لانه يجعله يغض النظر عن سيئات البعض ويدير ظهره على حسناتهم.

فاين هوهذا المؤرخ الصادق العفيف العادل الذي لا يأخذه الهوى فلا يدفع به الطمع إلىاختراع الأخبار الكاذبة في مدح الملوك والأمراء.

إعادة كتابة التاريخ عند المعاصرين

والصرخة التي اطلقها السخاوي والسبكي ظر يرددها كل المخلصين ممن كتبوا في موضوعات التاريخ وحتى يومنا هذا.

فقد ذكر المؤرخ جواد علي «في أغلب الروايات التي يتصل سندها بكعب الأخبار، أو محمد بن كعب القرظي، أو النعمان السبائي، وهم مسلمة اليهود، أو غيرهم من مسلمة أهل الكتاب طابع القصص الاسرائيلي، وفي اغلبه دس على الرسول وعلى الاسلام كما في قصة الغرانيق، وفي أمور أخرى..»

ثم يبين لنا العوامل التي دفعت بهؤلاء المؤرخين إلى اختراع هذا الاسلوب «ويظهر في دراسة هذا النوع من القصص ان أصحابه كانوا يريدون من روايته ونشره وادخاله بين المسلمين أمراً، وان قلوبهم لم تكن مسلمة كالسنتهم، وانهم كذبوا على التوراة والانجيل أحياناً وذلك على سبيل التودد إلى المسلمين والتقرب إليهم على ما يبدو»، وبعد أن ينبه إلى خطورة هذه القصص التي تخالف ما جاء في القرآن الكريم عن الرسول يطلب من كتّاب السيرة:

«ولهذا وجب أن يكون اعتماد المؤرخ على هذا الموارد المتقدمة في نظر النقاد، امثال كتب الصحاح في الحديث، وسيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد وتاريخ الطبري وسندنا الأول بالطبع ومرشدنا قبل كل هذه هو القرآن»[17].

وليس جواد علي أول المؤرخين المعاصرين الذين تنبهوا إلى هذه القضية فكل من كتب في السيرة لأهميتها وخطورتها التفت إليها ودعى إلى إعادة كتابة التاريخ وفق معايير جديدة غير المعايير القديمة التي تعتمد أسلوب الإثارة والشد من خلال السرد القصصي واستثارة الغرائز لدى القارئين والسامعين. وقد تنبه إلى خطورة هذا الموضوع عدد من الدارسين في الموضوعات التاريخية، فيقول امين مدني في كتابه التاريخ العربي ومصادره: «فكثرة روايات الماضين والتناقض الذي يبدو على بعضها، وتدخل الحزبية في نقل الأخبار وجرأة المتحزبين على الوضع والارتجال، ورطّ الكثيرين من رواد الماضي في اخطاء مازال الباحثون مشغولين باظهاره»[18].

وفي عقيدة يسرى ان هذا الأمر غير ممكن لان الكثير من المؤرخين لا يجرؤون على قول الحق.[19]

لكني اخالف الأستاذة (يسرى) ان طبيعة عمل المؤرخ في نقل الأحداث هي التي تفرض عليه أن يكون صادقاً مع الناس لان حبل الكذب مهما طال فهو قصير، وقصير جداً.فإذا حجبنا الحقيقة عن الناس فان الزمن كفيل باظهارها في يوم من الأيام، وهو كفيل بأن يميز الصادق عن الكاذب فيحكم على الكاذب بالخروج عن دائرة الاعتماد فلا يؤخذ بكلامه وما يتناقله من الأخبار والروايات وامامنا حشد من الاخباريين والمحدثين الذين كشف الزمن عن اكاذيبهم بالرغم من انها انطلت على الناس ردحاً من الزمن فأين هو كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعوانه بن الحكم وهيثم بن عدي، هؤلاء الذين كانوا شيوخاً للطبري، والذينكانوا في صدارة المحدثين الاخباريين.

لقد جاء علماء كثيرون من بعد الطبري حاولوا التعمق في حياة هؤلاء المحدثين والرواة فكتبوا عن كل صغيرة وكبيرة ووضعوا كل راوي في مكانه اللائق به مُسمين الأشياء بأسمائها على رغم ما ورد فيها من نواقص.

خطوات أولى لاعادة كتابة التاريخ

الخطوة الأولى :فحص رواة الأخبار

أوصلنا الحديث حول اعادة كتابة التاريخ إلى الكلام حول رواة الأخبار او ما كانوا يسمون به (الاخباريون). فهم المنبع الذي يُغذي المادة التاريخية المتجمعة في كتب المؤرخين المتقدمينز والتاريخ في بداية أمره كان على شكل المغازي والسير والانساب، فاتخذ طابع الحديث في منهجه، وفي تسلسل الرواة، فكان الاخباريون الاوائل محدثين ايضاً، ولم يأخذ التاريخ شكله التخصصي كميدان مستقل الا فيما بعد على ايدي اليعقوبي والمسعودي حيث كانا ابوا التاريخ الاسلامي اللذين ادركا شروط عمل المؤرخ والادوات الضرورية التي يجب عليه استخدامها في عمله، فقد ساحا في البلدان المختلفة وكتبا من وحي مشاهداتهما، ولم يكتفيا بتسلسل الاخبار المنقولة عن فلان وعن فلان، فاصطبغت كتاباتهما التاريخية بالجغرافيا وبقضايا المجتمع، فلم يكتفيا باخبار الملوك والامراء والولاة فقط بل اضافا إلى هذه الأخبار انباء الناس بمختلف اعمالهم وشؤونهم.

لاشك ان البذرة الاولى للتاريخ وضعها رواة الأحاديث الذين كانوا يروون الاحاديث الاخبار جنباً إلى جبن، ينقلونها عن اشخاص واشخاص، وكما تآثر الحديث النبوي بنتائج هذا النهج تأثر التاريخ به أيضاً، بل كان تىثر التاريخ أكبر بكثير لان تحريف خبر حادثة اهون بكثير على الراوي من تحريف حديث نبوي، وعند التدقيق نجد ان التحريف في الخبر التاريخي وقع نتيجة عدة عوامل هي:

1-هناك قومٌ كانوا يقصدون وضع الاحاديث، وذلك لتشويه معالم الدين لأغراض عديدة،فهؤلاء لم يدخلوا الاسلام بصورة حقيقية بل حاولوا التلبس بستار الاسلام لتحقيق اغراضهم، ووجدوا أفضل السبل لمحاربة الاسلام هو تحريف مبادئه بعد أن عجزوا عن مواجهته في ساحات الوغى.

يُذكر عن ابن ابي العوجاء عندما أُخذ ليُضرب عنقه انه قال: والله لقد وضعت فيكم أربعة ىلاف حديثاً احرّم فيها الحلال واحلل فيها الحرام.

وعن جعفر بن سليمان قال: سمعتُ المهدي يقول: أقر عندي رجلٌ من الزنادقة أنه وضَع أربعمائة حديث تجول في ايدي الناس.

قال حماد بن زيد: وضعت الزنادقة أربعة ىلاف حديث.

وروى عن عبد الله بن زيد المقرئ قال: تاب رجلٌ من اهل البدع عن بدعته فجعل يقول انظروا هذا الحديث عمن تأخذون فإنا كنا إذا ترائينا رأياً جعلنا له حديثاً.

وعن أبي لهيعة انه قال: سمعت شيخاً من الخوارج تاب ورجع، فطاف يقول: إن هذهِ الاحاديث دينٌ فأنظروا عمن تأخذون دينكم إنا كنا اذا هوينا امراً صيرناه حديثاً[20].

2. يدافع الترغيب او الترهيب، فقد عمل البعض على دفع المسلمين نحو بعض القضايا الاسلامية التي يرون انها ضرورية لهم، فيختلقون من أجل ذلك أحاديث لا يرون باساً فيها.

فكان «المزوري» يضع الأحاديث على لسان عكرمة مولى عباس حول بعض الامور المستحبة، ولا يرى ضرراً من ذلك.

فقد سُئل ابن ابي مريم المروزي: من اين لك عن عكرمة مولى ابن عباس في فضائل القرآن، وفضائل كل سورة، ليس عند أصحاب عكرمة شيءٌ منه، فقال إني رايتُ الناس أرضوا عن القرآن واشتغلوا بقه ابي حنيفة ومغازي ابن اسحاق فوضعتُ هذا الحديث حسبة[21]، وقد قال عنه البخاري: منكر الحديث وهو مع ضعفه يكتب الحديث[22].

وكان نوفل بن سليمان يعمل الأمر نفسه فيختلق الأحاديث في التواضع في اللبس والاكل والشرب، ذكر الذهبي حديثاً موضوعاً عنه قال:وقف رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعسفانفقال: لقد مرَّ بهذهِ القرية سبعون نبياً ثيابهم العباءة ونعالهم الخوص[23].

وقد جمع السخاوي في المقاصد الحسنة احاديث كثيرة من هذا القبل موضوعة على لسان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فلمنم أراد المزيد مراجعة هذا الكتاب وغيره من الكتب التي رصدت هذهِ الأحاديث الموضوعة.

3. الطمع في الدُّنيا، ملئت كتب التراجم والجرح والتعديل باسماء الرواة الذين كانوا يكتسبون من خلال وضع الأحاديث.

فنقل الخطيب البغدادي في ترجمته لغياث بن ابراهيم انه دخل على المهدي الخليفة العباسي وكان يحب الحمام فقيل له: حدِّث أمير المؤمنين فحدثه بحديث ابي هريرة: «لا سبق الا في حافر او نصل وزاد فيه «أو جناح» فأمر له المهدي بعشرة آلاف قال: فلما قام قال: اشهد ان قفاك قفا كذّاب على رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وانما استجلبت ذلك انا فأمر بالحمام فذبحت»[24].

وكان مقاتل بن سليمان يضع الأحاديث مقابل المال فذكره الخطيب البغدادي عن هارون بن أبي عبد الله عن أبيه قال لي المهدي: ألا ترى ما يقول لي هذا؟ يعني مُقاتلاً: قال إن شئت وضعتُ لك أحاديث في العباس، قال: قلت لا حاجة لي فيها[25].

وعلى الظاهر أنه مقاتل بن سليمان الذي كان مشهوراً بالكذب.

يقول الخطيب البغدادي أنه سمع عبد الصمد بن انه سمع عبد الصمد بن عبد الوارث انه قال: قدم علينا مقاتل بن سليمان فجعل يحدثنا... فذكرته لأمير المؤمنين أبي جعفر، فقال: لا يكبر عليك فإنه يقول لي: انظر ما تحب ان احدثه فيك حتى احدثه[26].

ويذكر السخاوي هذا التغيير السريع في موقف احد المحدثين وهو الأعمش لما بلغه ولاية الحسن بن عمارة مظالم الكوفة قال «ظالمنا وابن ظالمنا ولي مظالمنا، ثم قال بعد يسير وقد ظهر من المشار شيئاً، صالحنا وابن صالحنا ولي مصالحنا، وانه قيل له في ذلك، فروي: «جبلت القلوب على حُبِّ مَن أحسن إليها»».

وهذا نموذج لرواة الأحاديث الموضوعة الذين يركضون وراء الربح المادي وهم لا يدركون أبعاد العمل الذي يقومون به.

4. التعصب السياسي والمذهبي:

من الوسائل الدعائية التي استخدمتها الفئات السياسية والمذهبية للترويج لافكارها ومعتقداتها هو وضع الاحاديث الكاذبة، او تحريف بعض الاحاديث الصادرةعن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

من هؤلاء الذين فضحهم التاريخ؛ عوانة بن الحكم، إذ ذكر الحموي، «كان عونة بن الحكم عثمانياً ويضع اخباراً لبني أمية»[27] .

ووصفه عبد العزيز الدوري: «ويقدم (عوانة) على الأكثر الرواية الأموية للحوادث مقابل الرواية العراقية، وهذا يُوضّح ما يبدو من نبرة اموية في بعض رواياته حتى إنّ تأكيد الأمويين على فكرة الجبر في تفسير الحوادث ينعكس في رواياته»[28].

ومن الاخباريين المعادين لعلي بن أبي طالب عليه السلام وبنيه يأتي الشعبي على رأسهم.

يقول المفيد: كان مشهوراً بالنصب لعلي (عليه السلام) ولشيعته وذريته، وكان معروفاً بالكذب سكيراً خميراً مقامراً عياراً، وكان معلماً ولد عبد الملك بن مروان وسميراً للحجاج.

وعن أبي حنيفة قال أتيت الشعبي اسأله عن مسألة فإذا بين يديه شطرنج ونبيذ وهو متوشح بملحفة مصبوغة بعصفر فسالته عن مسألة فقال ما تقول فيها بنو أستها قال: فقلت هذا أيضاً. ومن أكاذيبه انه لم يكن مع علي احد من الاصحاب.

ويردّه المفيد عليه: اجمع اهل السير انه شهد البصرة مع علي(عليه السلام) ثمانمائة من الانصار وتسعمائة من أهل بيعة الرضوان وسبعون من أهل بدر[29].

ومن أكاذيبه: انّ عليا دخل اللحد وما حفظ القرآن وكان الشعبي متملقاً يساير الولاة والحكام حتى الظلمة منهم مثل الحجاج بن يوسف الثقفي، فقد ذكر ابن خلكان حادثة بينه وبين الحجاج تنمُّ عن تملقه وتزلفه للولاة.

يُقال ان الحجاج بن يوسف الثقفي قال له يوماً: كم عطاءك في السنة؟ فقال: الفين، فقال: ويحك، كم عطاؤك في السنة؟ فقال الفان، فقال: كيف لحنت اولاً؟ قال: لحن الأمير فلحنت، فلما اعرب اعربت، وما امكن ان يلحن الأمير واعرب أنا، فاستحسن ذلك منه واجازه[30].

والغريب أنّ هذا الرجل الذي يحمل هذهِ المواقف ويحمل هذهِ النفسية الضعيفة امام الامراء وثَقَّهُ الكثير من المتخصصين في علم الرجال، كما انه احد شيوخ أبي الفرج الاصفهاني صاحب الاغاني الذي نقل تفاصيل مُزيفة عن سيرة السيدة سُكينة.

فكم احدثت يد السياسة والمصالح المذهبية والعصبيات الفئوية من وضع الأحاديث فقلبت الحقائق اما بصناعة الحديث او تحريفه. ففي أجواء التعصب وفي ظروف التصحيف استطاع المندسون أن يضعوا نقاط اضافية ويحرفوا نقاط أخرى ليقلبوا المعنى رأساً على عقب.

فقد أورد نصر بن مُزاحم، وهو من صحابة أمير المؤمنين حديثاً عن الحسن البصري إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقتلوه[31]، اما كيف تحوّل الحديث عندما وصل إلى يد المندسين، فقد اورد الخطيب البغدادي في عنوان محمد بن اسحاق بن مهران حديثاً مسنداً عن أبي الزُبير عن جابر قال: إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه[32].

هكذا تغيّر المعنى بتغيير مكان النقطة، وهكذا تفعل الأموال فعلها في تغيير الحقائق وقلبها بصورة معكوسة.

وقد دفع التعصب المذهبي بأحد المحدثين وهو مأمون بن أحمد الشلمي إلى اختراع الحديث ضد الامام الشافعي، إذ اورد الذهبي: روى عن احمد بن عبد الله عن عبد الله بن ميدان الأزدي عن أنس مرفوعاً: يكون في أمتي رجلٌ يُقال له محمد بن ادريس ... ألى آخر الحديث.

ثم قال عنه الذهبي: وكان يضع الأحاديث[33].

5. الإسناد المجهول.

المعروف ان تدوين الحديث بدأ متأخراً واخذ المحدثون يذكرون رواة الاحاديث واسنادها، وأمّا الاحاديث التي لم يجدوا لهاسنداً واضحاً فقد وضعوا له اسناداً.

يقول عبد الحي الكنوني: وهناك من استجاز وضع الأسانيد لكل كلام حسن زعماً منهم ان الحسن امرٌ شرعي لابأس بنسبته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)[34].

فهم لا يضعوا الاسناد للأحاديث التي لا سند لها بل وضعوا لكل كلام حسن وجدوا لا بأس بنسبته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يدركوا خطورة هذا الأمر وتبعاته على مجرى التاريخ، فقد مهد طريقة وضع الأسانيد لكل كلام حسن السبيل امام مُرضى النفوس والأهواء ليخترعوا الأسانيد لأحاديث لا وجود لها.

فقد نقل الخطيب البغدادي عن عبد الصمد بن عبد الورث، قال: قدم علينا مقاتل بن سليمان فجعل يحدثنا عن عطاء بن أبي رياح، ثم حدثنا الاحاديث نفسها عن الضحاك بن مُزاحم، ثم حدثنا بها عن عمرو بن شعيب فقلنا له ممن سمعتها، قال عنهم كلهم، ثم قال بعد ذلك لا والله ما ادري ممن سمعتها[35].

أما الهيثم بن عُدي وهو من شيوخ الطبري فينقد بشيء من ضعف التدقيق والتساهل في استعمال الاسناد.

الخطوة الثانية: معالجة التحريف والتصحيف

التصحيف؛ هو تغيير في نقط الحروف او حركاتها مع بقاء صورة الخط، اما التحريف فهو العدول بالشيء عن جهته، وحرّف الكلام تحريفاً عدل به عن جهته من زيادة فيه او النقص منه، وهي كثيرة جداً ولم يسلم كتاب منهاج من القرآن الكريم وكتب الحديث، فكيف بكتب التاريخ، وهذه الأمثلة تُوضِّح لنا حقيقة ذلك.

أمثلة من التصحيف في القرآن الكريم:

1-حكى ابن النديم عن ابن الراوي قال: «مررت بشيخ وبيده مُصحف وهو يقرأ: )ولله ميزاب السموات والأرض( فسلمت عليه وقلت: يا شيخ ايش تقرأ؟ قال: القرآن:)ولله ميزابُ السموات والارض( فقلت: وماتعني بـ ) ميزابُ السموات والأرض( قال: هذا المطر الذي ترى، فقلت ويكون التصحيف إلا إذا كان مثلك يقرأ، إنما هو )ميراثُ السموات والأرض(.

فقال: اللهم غفراً منذُ اربعين سنة أقرأها وهي في مصحفي هكذا»[36].

وذكر العسكري في «شرح ما يقع فيه التصحيف والتحريف: إنّ حمزة الزيّات المتوفى سنة 1565 هـ القارئ المشهور كان يتعلم القرآن من المصحف وهو صغير فقرأ يوماً وأبوه يسمع: )ألم * ذلك الكتاب لا زيت فيه ( فقال له أبوه:«دع المُصحف وتلقن: أفواه الرِّجال»[37].

وذكر الخطيب انواعاً من تصحيف عثمان بن ابي شيبة ) فإن لم يُصبها وابلٌ فظِلٌّ( قال: وقرأ مرةً ) الخوارج مكلبين( مكان ) الجوارح مكلبين ( ونُقل عنه انه قرأ ) وإذا بطاسيم بطاسيم خبازين( يريد قوله تعالى: ) وإذا بطشتم بطشتم جبارين( وقرأ أيضاّ) فضرب بينهم بسنور له ناب( فقال له بعض اصحابه: إنما هو ) بسور له باب( فقال: انا لا اقرأ قراءة حمزة: قراءة حمزة عندنا بُدعة[38].

وكثر التصحيف في الحديث النبوي ايضاً

فهناك الكثير من الأحاديث التي حدث فيها التصحيف.

نقل الخيب البغدادي عن الدار قطني قوله: ان أبا الحسن موسى بن محمد المثنى العنزي يُحدّث بحديث عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «لا يأتي أحدكُم يومَ القيامة ببقرةٍ لها خُوار» فقال: أو شاة تنعر بالنون، وإنما هو تَيْعَر بالياء[39].

وفي حديث أنس: «ثم يخرج من النار من قال لا اله الا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرّة» قال فيه شعبة «ذُرّة» بالضم والتخفيف، ونسب فيه الى التصحيف[40].

وأيضاً ان أبابكر الصولي املى في الجامع حديث أبي أيوب: «مَن صام رمضانه واتبعه ستاً من شوال» فقال فيه: «واتبعه شيئاً بالشين والياء»[41].

التصحيف في الشعر:

فقد ذكر العسكري تصحيفاً في شعر الحطيئة:

لو سست أمر بنيك حتى تركتهم أدق مِنَ الطَّحين

قال فراوه المفضل: لقد شوشت بالشين المعجمة المفتوحة، وإنما هو بني غير معجمة، أي ملكتُ[42].

وتصحيف في قول المُخبَّل السَّعدي:

وإذا الم خيالها طرقت عيني خماء دموعها تحجمُ

وإنما هو: طرفت بالفاء[43].

التصحيف في الأسماء:

ووقع التصحيف في الأسماء، منها أسماء السند مثلاً في حديث شُعبة عن العوام بن مُراجِم عن أبي عثمان النهدي، عن عثمان بن عفان، قال:«قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): لتؤدون الحقوق إلى أهلها.. الحديث» صحف فيه يحيى بن معين فقال: «ابن مزاحم» بالزاي والحاء فرد عليه، وإنما هو «ابن مراجم» بالراء المهملة والجيم[44].

أخطاء المؤرخين:

مما تقدم تبين لنا حجم التصحيف والتحريف في الكتاب المقدس وفي كتب الحديث، فما بالك بكتب التاريخ التي لا تبلغ في قدسيتها كتاب الله العزيز وكتب السنة النبوية، من هنا فلو اعتقدنا بنزاة المؤرخين الذين دنّوا لنا التاريخ فاننا لا نستطيع أن نثق بكل ما نقوله لنا لأنهم بشر والبشر يخطأ كما انه يصيب أيضاً، وقد يكون الخطأ من الناسخ أو الناقل، فالتاريخ عرضة للخطأ، فهو ليس معصوماً ولا يمكننا أن نسلم بكل ما نقله لنا الرواة حتى لو كانوا عدولاً وثقاةً لان كلامهم عرضة للتصحيف، والنقل عرضة للتغيير، وامامنا صوراً عديدة للخطأ الذي وقع فيه المؤرخون.

من هذه الصور:

أولاً: تصحيف اسماء الاعلام: وهو امر يكاد يكون عادياً في كتب التاريخ، وقد اضطر علماء الرجال ان يضبطوا الاسماء ويميزوها عن الاسماء الأخرى، وكتبوا في لك الموسوعات العديدة مثال على ذلك:

النموذج الأول: هناك شخصان احدهما، هلال بن نافع البجلي كان في جيش عمر بن سعد، والثاني هونافع بن هلال البجلي كان في عسكر الامام الحسين عليه السلام كما ذكر الشيخ المفيد في الارشاد[45]. وابن شهر آشوب في المناقب، لكن اختلط الاسمين على البعض فوضعوا هلالاً في مكان نافع بن هلال، لان هلالاً كان في جيش عمر ابن سعد.

وقد اضطر البعض إلى ذكر المرادفات من الأسماء حفظاً للامانة، لكن هذا لا يعفي المؤرخون من تحمل مسؤولية عدم الدقة في بعض الاعلام.

مثال على ذلك: جاء في (أسد الغابة) عن ابن عبد الله انه قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ان بأرضنا اعناباً نعتصرها افنشرب منها، فقال لا: فراجعته فقالا: لا، فقلت: انا نستسقي به قال بان ذلك ليس بشفاء ولكنه داء، فقال رواه شعبة عن طارق بن سويد أو «سويد بن طارق» ورواه شريك عن «طارق بن زياد» أو «زياد بن طارق » ورواه الوليد بن أبي ثور عن طارق بن بشر، او بشر بن طارق[46]. انظر كيف اختلط على المؤرخ اسماء ارواة بين اسم الأب والابن.

النموذج الثالث: هناك امرأة باسم ثريا تغزّل بها عمر بن أبي ربيعة فقال فيها شعراً:

أيها المنكح الثريا سهيــــلاً عمرك الله كيف يلتقيان

هي شامية إذا ما استقلت وسهيل اذا استقى يماني

فقد اختلفوا في اسمها واختلفوا في اسم وجها.

أما هي فقال البعض انها الثريا بنت علي، وهو ما ذكره الاصفهاني في الأغاني، وذكر اخرون انها الثريا ابنة عبد الله[47].

أما اسم زوجها فقد ذكره الاصفهاني بانه سهيل بن عبد العزيز بن مروان[48]. بينما ذكر ابن خلكان بانه سهيل بن عبد الرحمن بن عوف[49] وهناك كتاب المرادف من الأسماء فيها الأسماء المرادفة وذكر ما يميز كل اسم، ويكفينا ان ننظر إلى أي كتاب قديم ومخطوط إلا ولاحظنا ظاهرة التصحيف في قلب الراء إلى دال والحاء إلى خاء وهكذا وقد كتب العسكري كتاباً بمجلدين يتضمن أكثر من مائتي اسم من الشعراء ممن وقع الصفح في اسمائهم.

ثانياً: تصحيف الكلمات والحروف، هناك بعض الكلمات عرضة للتحريف بسبب نمط الكتابة الذي كان سائداً في العهود القديمة فكم من كلمة استبدلت نتيجة حذف نقطة أو اضافتها.

وقد ذكرنا آنفاً رواية محمد بن اسحاق بن مهران مسندا عن ابي الزبير عن جابر انه قال: اذا رأيتم معاوية يخطب على المنبر فأقبلوه[50].

بينما ذكره نصر بن مزاحم،وهو من حيث الاقدمية اقدم من الخطيب البغدادي، ذكر الحديث عن الحسن البصري (وهو اشهر من ان يُعرف) بلفظ «فاقتلوه» وليس «فأقبلوه».

ومثال آخر على التصحيف نتيجة حذف النقاط «حدثهم عن سبعة وسبعين» بينما هي في الأصل «حدثهم عن شعبة وسفين» وفي احيان كثيرة تسقط الاسماء نتيجة التصحيف فيتبدل المعنى، مثال على ذلك ما ذكر الفيروز ابادي بلفظ «المثل» فقال: «والمثل» بالكسر، مِثل بن عجل بن لجيم ملك اليمن، وصحفه عبد الملك بن مروان فقال لقوم من اليمن «والمثل فيكم» فقالوا له: كان لنا ملك يقال له المِثل: فخجل عبد الملك[51].

ووقع التصحيف ايضاً في اسم الشاعر الذي قال الابيات التي مطلعها:

وان قتيل الطف من آل هاشم اذل رقاب المسلمين فذلت

فذكر صاحب المناقب بانه سليمان بن قبة الهاشمي[52] بينما ذكره ابن قتيبة وهو سليمان بن قتة التميمي[53].

ثالثاً: الاختلاف في الشعراء، وهو كثير في كتاب الأغاني، وفي غيره من الكتب.

مثال على ذلك: الأبيات الثلاثة التي مطلعها:

ابلغ أمير المؤمنين رسالة من ناصح لك لا يريك خداعاً

فقد ذكر في الجزء الأول ص 155 انها من نظم عبدالله بن همام بعث بها إلى عبد الله بن الزبير، بينما في الجزء الثالث صفحة 361 ذكر الناظم انه انس بن زنيم الليثي، وهو ايضاً رأي ابن قتيبة[54].

وذكر ابن قتيبة انه كتب هذه الابيات لعبد الله بن الزبير عند زواج مصعب من عائشة بنت أبي طلحة بينما ذكر الاصفهاني انه عبد الله بن همام كتب هذه الأبيات عند زواج مصعب من سكينة بنت الحسين عليه السلام.

مثال آخر: بيت الشعر:

اهيم بدعد ماحييت فان امت فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي

فقد ذكره ي الجزء الأول 12/116 بأنه لنصيب.

وأكد على ذلك في الجزء 16/164 لكنه في الجزء 22 ذكر بأنه لنمر بن تولب، وهو ما يتفق مع آراء الآخرين كالسيوطي[55].

رابعاً:اختلاف في الالفاظ والاحداث: التفحص الدقيق في الأغاني تظهر لنا مدى الاختلاف في الابيات الشعرية مثلاً:

اهيم بدعد ماحييت فان امت فواكبدي من ذايهيم بها بعدي

وورد ايضاً بلفظ «فواحزنا»[56].

وبلفظ «فياحرا» أي ان بيت الشعر ورد ثلاث مرات وفي كل مرة في كل جءز من الأجزاء، وفي كل مرة ورد بلفظ مختلف.

والشيء نفسه في الأسماء فقد ورد فيها الاختلاف في كتاب الأغاني ففي الجزء الأول ورد هذا البيت:

قالت سكينة والدموع ذوارف منها على الخدين والجلباب[57]

وفي مكان آخر ورد البيت بلفظ آخر:

قالت سعيدة والدموع ذوارف منها على الخدين والجلباب[58]

الهوامش

 


 

[1] المقدمة: 10.

[2] المصدر نفسه: 10.

[3] المقدمة: 21.

[4] المصدر نفسه، ص22. ويرد السخاوي على ذلك ان ابن خلدون لا نحرافه عن آل علي يثبت نسبه الفاطميين اليهم لما اشتهر من سوء معتقد الفاطميين وكون بعضهم نسب إلى الزندقة: «الاعلان بالتوبيخ ص545».

[5] المقدمة: 22.

[6] المقدمة: 23.

[7] المقدمة: 23.

[8] المقدمة: 28.

[9] المقدمة: 35.

[10] المقدمة: 37-38.

[11] المقدمة: 28.

[12] المقدمة: 28.

[13] الاعلان بالتوبيخ: ص131.

[14] المصدر نفسه: 131.

[15] الاعلان بالتوبیخ: ص131-132.

[16] السبكي: معيد النقم، ص94، على هامش تفريح المهج، المطبعة الأدبية، مصر.

[17] راجع تاريخ العرب في الاسلام 1/75.

[18] التاريخ العربي ومصادره 2/297.

[19] يسرى: معجم المؤرخين، ص22.

[20] الأخبار المرفوعة:12.

[21] المصدر نفسه: 25.

[22] الذهبي: ميزان الاعتدال

[23] المصدر نفسه: 4/281.

[24] تاريخ بغداد: 12/324.

[25] المصدر نفسه: 13/166.

[26] المصدر نفسه: 13/166.

[27] الحموي: معجم الأدباء، 16/162.

[28] الدوري: بحث في نشأة علم التاريخ عند العرب، ص56.

[29] المفيد: الفصول المختارة، ص216.

[30] ابن خلكان: وفيات الأعيان، 3/25.

[31] نصر بن مزاحم: وقعة صفين، ص26.

[32] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد: 1/259.

[33] الذهبي ميزان الاعتدال: 3/430.

[34] الكنوني: الآثار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، ص15.

[35] الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد، 13/166.

[36] ابن النديم: الفهرست، ص217.

[37] العسكري: شرح ما يقع فيه التصحيف، ص22، البابي الحلبي.

[38] البغدادي: الجامع لاخلاق الراوي: 1/299-300، دار المعارف، الرياض.

[39] الجامع لاخلاق الراوي، 1/294.

[40] مقدمة ابن الصلاح، 253.

[41] المصدر نفس، ص255.

[42] شرح ما يقع ي التصحيف، ص139.

[43] المصدر نفسه، ص136.

[44] مقدمة ابن الصلاح، ص252.

[45] المفيد، الإرشاد، 2/103.

[46] ابن الأثير: أسد الغابة 3/48.

[47] الاصفهاي: الأغاني، 1/29.

[48] الأغاني، 1/234.

[49] ابن خلكان، وفيات الأعيان،3/75.

[50] الخطيب البغدادي: 2/259.

[51] الفيروزآبادي: قاموس المحيط مادة(المثل).

[52] ابن شهر آشوب: مناقب آل أبي طالب، 4/177.

[53] ابن قتيبة: الشعر والشعراء، 461.

[54] ذكر ابن قتيبة في الشعر والشعراء بأنه لانس ابن أبي اناس، ص461.

[55] السيوطي: شواهد المغني، ص183.

[56] الاصفهاني: الأغاني، 225/227.

[57] الأغاني: 1/162.

[58] المصدر نفسه: 17/159.