تصنیف البحث: الفن
من صفحة: 511
إلى صفحة: 526
النص الكامل للبحث: PDF icon 180609-043231.pdf
خلاصة البحث:

إنّ أي دراسة تبحث في الدراما سواء في بنيتها أم في دراسة أحدى عناصرها الأساسية لابد من العودة الى التراجيديا الاغريقية والى نظرية أرسطو في التراجيديا لسببين رئيسين هما أولا: لان التراجيديا التي كتبت في القرن الرابع قبل الميلاد قد توفرت على جميع العناصر الدرامية في النص المسرحي، والآن بعد اكثر من ألفي عام لم يخلُ أيّ نص مسرحي من هذه العناصر مع تغير وظيفتها وكيفية وجودها في النص تبعا للأنساق الثقافية المتغيرة من عصر الى آخر. وثانيا: إن نظرية أرسطو شكّلت وما زالت أهم نظرية نقدية جمالية في التراجيديا. وبما انّ البحث يتقصى تحول البطل التراجيدي في النص المسرحي كان لزاما دراسة البطل في التراجيديا الاغريقية. ولأن البطل عنصر محوري في النص بوصفه القائم بالفعل الدرامي، ولأنه العنصر الفاعل في توجيه مجسّات الصراع، فضلا عن أنه شخصية تتوجه إليها الانظار بوصفه البطل المتفوق الذي يواجه قوى كبرى إلهية كانت أم وجودية، لذا جاء البحث تحت عنوان (البطل التراجيدي وتحوله في نصوص مسرح اللامعقول).

Abstract:

That any study looking at the drama, both in structure, in the study of one of the elements essential to be a return to Greek tragedy and to Aristotle's theory of tragedy for two main reasons: First: because the tragedy written in the fourth century BC, has been available at all the dramatic elements in the theatrical text, and now after more than two thousand years did without any theatrical text of these elements with the change of function and how their presence in the text depending on the changing cultural drift from one age to another. Second, because in Aristotle's theory formed and is still the most important monetary theory, aesthetic in tragedy. Since the research investigates turned tragic hero in the play had to study the hero in Greek tragedy. Because the hero a pivotal element in the text as is already the drama-based, but it active ingredient in directing Sensors conflict, but he was a personal approaches it low profile as superior hero who faces major powers divine was or existential, so look under the title came (The tragic hero and turn it in the texts of theater of the absurd).

البحث:

الفصل الأول / الاطار المنهجي

مشكلة البحث والحاجة اليه:

اكتسبت التراجيديا الإغريقية خصوصيتها وتفردها عن طريق صفتين أساسيتين اتسمت بهما بوصفهما، أولا: كانت أول الأنواع الدرامية التي ظهرت الى الوجود منذ القرن الرابع قبل الميلاد. وثانيا: لطبيعة بنيتها الدرامية التي اتسمت بعناصر منحت هذا الجنس الادبي تفردا مغايرا عن الاجناس الادبية الاخرى.

واذا كانت التراجيديا محاكاة لفعل نبيل كما يقول أرسطو فانّ البطل هو الذي يكون حاملا للأحداث في سياق صيرورة الفعل، ومتفاعلا معها، وبناء على اختياره وفرض إرادته على الأحداث وطبيعة الصراع يتحدد مصير البطل، وليس هناك نصّاً وعرضا مسرحيا دون بطل فاعل يقوم بالفعل، وهذا البطل القائم بالفعل اكتسب سماته من طبيعة التراجيديا الإغريقية. وأثناء حقب زمنية امتدت الى قرابة الفي عام ومع تطور وتنوع الاشكال الدرامية بدءاً من الدراما الرومانية، ومروراً بالدراما الدينية، ودراما عصر النهضة والكلاسيكية الجديدة فضلا عن المدارس المسرحية الحديثة وصولاً الى مسرح اللامعقول الذي تمظهر فيه البطل التراجيدي بسمات غير التي إتصف بها بالتراجيديا الإغريقية، ومن ثم كان مصير البطل قد اكتسب معنى مغايرا. ومن هنا تأتي الحاجة الى دراسة البطل التراجيدي وتحوله في نصوص مسرح اللامعقول بعد اضاءة مفهوم البطل التراجيدي في المسرح الاغريقي، لذا فان البحث الحالي يطمح في الاجابة عن السؤال الآتي (ما هي سمات التحول عند البطل التراجيدي في نصوص مسرح اللامعقول؟). وتأسيسا على ما تقدم صاغ الباحث عنوان بحثه بالشكل الآتي (البطل التراجيدي وتحوله في نصوص مسرح اللامعقول).

اهمية البحث:

تأتي أهمية البحث في مادته ذاتها إذ أنّ للمتغيرات في الأنساق الثقافية والعلاقات الناشئة بسببها في حقب التاريخ المختلفة أثرا مباشراً في تطور الانتاج الفني، والفكري بما فيها تحول البطل.

هدف البحث:

يهدف البحث الى تقصي سمات البطل التراجيدي في المسرح الاغريقي وتحوله في نصوص مسرح اللامعقول.

منهجية البحث:

اعتمد الباحث المنهج الوصفي في تحليل عينة البحث.

حدود البحث:

يتمثل البحث في حدوده البحثية والماثلة في تحول البطل التراجيدي في بنية نصوص اللامعقول (في انتظار جودو) لصموئيل بيكيت و (المستأجر الجديد) ليوجين يونسكو.

مصطلحات البحث:

تحول:- التحول لغة هو"تنقل من موضع إلى موضع، أو من حال إلى حال، وعن الشيء: انصرف إلى غيره."([1]) واصطلاحا"التحول"تغير يلحق الأشخاص، او الاشياء. وهو قسمان: تحول في الجوهر، وتحول في الاعراض. فالتحول في الجوهر صدى صورة جوهرية جديدة تعقب الصورة الجوهرية القديمة، مثل انقلاب الحي بعد الموت الى جثة هامدة...والتحول في الاعراض تغير في الكم (كزيادة ابعاد الجسم النامي)، أو في الكيف (كتسخين الماء)، أو في الفعل (كانتقال الشخص من موضع الى آخر)."([2]) والتحول"يقصد به على الاخص التغير الاجتماعي"([3]).

التحول إجرائيا:

مجموعة من المتغيرات تحدث في النص المسرحي ومنها ظهور سمات جديدة في شخصية البطل تخضع لقوانين التحول الداخلية مما ينتج عن ذلك بنية درامية جديدة.

البطل:-"الشجاع، وفي الحديث: شاكي السلاح بطلٌ مجرّب،.. وقيل سمي بطلاً، لأن الاشداء يبطلون عنده."([4]) واصطلاحا هو"الشجاع. وهو عند اليونانيين نصف اله، يقوم بأفعال خارقة للعادة. والبطل أيضا هو الشخص الاول في الروايات الادبية"([5]).

التراجيديا:- اصطلاحا هي أحد الجنسين الاساسين في الفن الدرامي، وأرقى أنواعه كلها، وتكمن أهميتها في.."انها تولد الامتاع في نفوس نظارتها، رغم جديتها، وطابعها المأساوي. وهذا التناقض القائم بين البطل التراجيدي او معاناته، و اندحاره، وبين توليد الاحساس بالمتعة والراحة في نفس المشاهد، لايزال محل تفسير علماء النفس، والجمال، والدراما."([6])

البطل التراجيدي اجرائيا: هي شخصية محورية في النص المسرحي، ويمثل القيم الانسانية في عالميتها، يتميز بسمات متعددة تختلف من مذهب لآخر إلّا انها تشترك في أنه القائم بالفعل الدرامي عن طريق الاحداث بإرادة صلبة واختيار حر.

النص:-"أصل النص أقصى الشيء وغايته. ونصّ كل شيء غايته. ونصّ كلّ شيء: منتهاه. قال الازهري: النصّ أصله منتهى الاشياء ومبلغ أقصاه."([7]) واصطلاحا هو"الكلمات المطبوعة أو المخطوطة التي يتألف منها الاثر الادبي"([8])."ويستخلص تعريف النص، من ميثية التمثيلية، اذ لا يفكر فيه، الا من خلال أدبيته وفضائه"([9]). ووضع (دي بوجراند ودريسلر) معايير سبعة للنص"وهي: التماسك الداخلي، والاتساق، والعمد أو القصد، والقبول(أو التقبل)، ومراعاة مقتضى الحال، والاخبار، والتناص"([10]).

اللامعقول:"نزعة أدبية ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية في المسرح ويتزعم هذه النزعة صموئيل بيكيت ويونسكو وبنتر...، وهي تمثل التحلل من المواصفات والاعراف المنطقية، وانفصام، وتناقضات، ومفارقات في الحلم، والحياة، والواقع"([11]). واللامعقول"لا يتقيد بالمواصفات والعرف في البناء المسرحي وهو يعمل على اظهار ما في الحياة والشخصيات البشرية من تناقضات"([12]).

الفصل الثاني / الاطار النظري

المبحث الأول: تمظهر البطل في صراع القوى في التراجيديا الاغريقية:

انبثقت التراجيديا الأغريقية في لحظة فاصلة في التاريخ الانساني لتشكل بذلك بزوغ أول نوع درامي ونضوجه، واكتماله ببنية درامية متماسكة، وبذلك بدأ جنس جديد تميز بأنساق جمالية، وأصبحت جزءا من التجربة الاجتماعية. وتناولت القيم الانسانية الخالدة، الخير والشر، وتجسدت فيها الموضوعات التي تعنى بالإنسان في علاقته بالعالم، وبالقدر، وعلاقته بالآخر. واستقت موضوعاتها من الأسطورة، ووضعتها على طاولة البحث والجدل، وفي الوقت ذاته تموضعت الشخصية التراجيدية في واقع متحرك ومتلاطم لتأكيد خياراتها الحاسمة مقابل تلك القيم الغامضة.

إن التراجيديا استعادة مسرحية للأسطورة، وتمثيل للبطل في العمل مما يضفي عليها نظاما فلسفيا. وكانت الفلسفة، والدين في تفاعل، وحوار يمتد عموديا مع الفن، وما هو مشترك بينهما يتجسد في مناقشة القيم الانسانية السامية وتأكيدها، الا أن الفن يتخذ مسارا مغايراً عنهما لأنه يضع هذه الأفكار في متناول الجميع بإعطائها الطابع المحسوس، وذلك بتمثّلها عن طريق اشخاص يفعلون. وهذا الحوار الذي يتمثّل بصراع متواتر بين الأسطورة، وبين عالم المدينة بما تمتاز به من جدل فلسفي انتقل الى صراع بين القيم، والانسان وحتى في عالم الآلهة. وبما أن زمن الدراما التي تعرض على الخشبة هو زمن آني مستمر، وهو زمن الوجود اليومي للإنسان المتكون من سلسلة متتالية من أزمنة الحاضر إلّا أن الآلهة دائمة الحضور في كل لحظة بمجمل الحوادث، فهو ليس التباسا مزدوجا فحسب بل هو مجابهة مستمرة في مسار الأفعال الإنسانية بالذات ذلك (إن الفعل الانساني في رهان حول الذات، وحول المستقبل بوجود الآلهة الى جانبه، فبدون وجود الآلهة وبدون دعمها يظل الفعل الانساني من دون تأثير.)([13]) هذه المجابهة والاشتباك المستمران يتجذران في النص الذي ينبغي فهمه في سياقه، وهو عالم من التصورات يتشكل فيه الوعي التراجيدي بتدفقه في سياق ذهني، وفي ما تحت النص ايضا.

وفي عالم مازالت تتحكم فيه القوى العليا بمصائر البشر، وتهيمن على مسارات حياتهم، كانت الشخصية التراجيدية تجسد حضورها في اشتباك متنام لتؤكد قدرتها على اتخاذ المواقف المصيرية الكبرى، وباختيار حر، وتمضي في مصيرها حتى النهاية مهما كانت النتائج كارثية، حتى وأن كانت في قرارة نفسها تدرك أن ما رسمته القوى العليا، وأيدي القدر هو الذي سيتم تنفيذه. إذ أن التراجيديا ذات طابع ميتافيزيقي، ففي سياقها تتموضع القوى العليا مع الانسان وكأنهما اصبحا شيئا واحدا. وهي تمثل القوى الأبدية في صراعها عن طريق البطل التراجيدي.

سمات البطل التراجيدي في المسرح الاغريقي:

حدد أرسطو في كتابه (فن الشعر) أربع سمات للشخصية التراجيديا وهي:

  1. أن تكون صالحة دراميا، أو مؤثرة اذا كان الاختيار مؤثرا، إذ أن أفعاله وأقواله تدل على اختياره. فالعامل الجوهري الذي يبني الشخصية هو القيم الانسانية التي تفصح عنها الأفعال، وعلى هذا فانّ أيّ شخصية تكون مؤثرة عندما تكون هي ذاتها مصدر ذلك الاختيار الذي يؤلف طبيعتها.
  2. أن تكون مناسبة أو ملائمة، فالرجولة خلق يتصف فيه الرجال، بمعنى أن ذلك لا يناسب المرأة أنْ تكون ذات رجولة. وهي صفات تطبع الشخصية بذاتها، ولا تنفصم عنها في مجرى الفعل. اي جعل ما تفعله مطابقا لطبيعتها.
  3. أن تكون شبيهة بالواقع. أي أنْ تكون الشخصية معبرة عن طبيعة الانسان الواقعية، حتى وأن كانت له صفة خاصة بها كالغضب مثلا، فانه يجب أن يتفق مع صفة هذا البطل كما في (اوديب)، وبما ان التراجيديا محاكاة لأناس أفاضل أو لأشخاص على قدر كبير من الاهمية فينبغي تصويرهم احسن مما هم عليه، وإنْ كانوا مشابهين للحياة الواقعية.
  4. أن تتمتع الشخصية بالثبات، وتنسجم مع ذاتها طوال المسرحية حتى وان كانت الشخصية غير منسجمة مع ذاتها، فينبغي أن تبقى هكذا غير منسجمة مع نفسها حتى النهاية، وعدم تعرضها للتغيرات المفاجئة. وإنّما أن تتسق الشخصية مع ذاتها أثناء تطورها.

كان(أرسطو) قد حدد بأن تتابع الاحداث ينبغي أن يجري بمقتضى الضرورة والرجحان، وكما هو في بناء الحبكة الدرامية، فانه ينبغي أن يكون تصوير الشخصية يهدف الى تحقيق الحتمية أو الاحتمال. أيّ أن ما يقوله أو ما يفعله ينبغي أن يكون حتميا أو محتملا لشخصيته، بمعنى أن افعال الشخصية واقوالها تأتي فــــــــــــــــي سيـــــــاقها بمقتضى الضرورة والرجحان.([14])

وسمات البطل التراجيدي مستمدة من هدف التراجيديا ووظيفتها المتمثلة في وجوب تحقيق التطهير، عن طريق اثارة عاطفتي الخوف والشفقة في نفس المتلقي لتخليصه منهما. ولا بد للشخصية التراجيدية أن تتميز بالقدرة على تحقيق هذا الهدف، وإلا فقدت أحد اشتراطات التراجيديا بمفهوم (أرسطو) وهو مبدأ جمالي، أخلاقي في آن واحد. ومن سمات هذا البطل أن يطرأ على حظه التحول. وبعد أن يحدد (أرسطو) أنماط التحول([15])عند البطل فانه يميل الى النمط الرابع الذي يرى فيه أن البطل يقف بين طرفي الفضيلة والسوء، وإن كان اقرب الى الفضيلة. ويتحول البطل من السعادة الى الشقاء، لا بسبب رذيلة فيه، ولكن بسبب زلة ما أو خطأ ما، أو ما يسميه (الهامارتيا Hamartia) وهو ينتمي الى طبقة اجتماعية عليا، كشخصية (اوديب). ففي الوقت الذي تتميز شخصيته بصفات البطولة والنجاح فانه من المشهورين أيضاً. بهذا المعنى فالبطل التراجيدي انسان جاد ونبيل ليس مكتمل الصفات، ويدفع الى الشقاء دفعا لزلة ما أو خطأ ما.

التعارض بين اندحار البطل التراجيدي ومتعة التلقي:

إن مغزى الدراما يتمثل في استنطاق قوى الصراع، وهي قوى الواقع، بغرض الهدم، وإعادة البناء بعد الكشف عن امكانيات هذه القوى في البقاء أو التي تنطوي على التغيير. ففي التراجيديا يجري تأكيد إمكانية الانسان – البطل التراجيدي وقدرته على الثبات وبإصرار في كفاحه المتواصل حتى النهاية، ومهما كانت النتائج. بسبب أن البطل هو القائم بحركة الأحداث في طبيعة القوى المتصارعة، وبناءً على خياراته المحددة تشتبك هذه القوى للوصول الى نهايات، وإن كانت كارثية على مستوى الافراد، الّا أنها تؤكد قيماً انسانية كما في مسرحية (انتيغونا)، أو تستجيب لنبوءة الآلهة في تطهير المدينة وإعادة ترتيب العالم وانتظامه كما في (اوديب ملكا). إن ابطال التراجيديا هم الذين يتفردون بصفات خاصة تعلو على الآخرين بما يمتلكون من إرادة قوية، وشجاعة في اتخاذ القرارات، ومن ثم تحمل مصيرهم الحتمي. إلّا أن الهفوات التي يقعون فيها، وهو خطأ مأساوي غير مقصود، أو زلة ما، هي التي تحدد مصيرهم. لأنّ التراجيديا"فعلٌ يشتمل على انقلاب في مصير شخصية بطولية"([16]) متجهة ناحية اكتمالها المثالي على الرغم من شقاء هذا المصير وقسوته. ففي مسرحية (انتيغونا) لـ (سوفكليس) يتمثل الصراع بين وفاء (انتيغونا) لحقوق الأسرة، والقيم الانسانية، وبين إلتزام الحاكم (كريون) للوطن والدولة. اصطدام بين إرادتين صلبتين بين قيم الدولة والقيم السماوية. وما يحدث بعد ذلك من مآسٍ يجعل من (كريون) الحارس الأمين على تطبيق القانون، إنسانا جديداً، وقد حنكته المصائب، بعد انتحار ابنه ومقتل زوجته بسبب تعارضه مع (انتيغونا) بضرورة عدم دفن أخيها، مدركا أن موقفه لم يكن في سياق العدالة الاجتماعية. فيما غرز البطل التراجيدي (اوديب) عينيه بدبوس أمه وزوجته (جوكاستا) التي وجدها قد فارقت الحياة بانتحارها في مشهد دراماتيكي يستجيب الى شروط التراجيديا في إثارة الشفقة على البطل والخوف من ملاقاة المصير ذاته، ومن ثم التطهير لهذا الكم المكثف من الانفعالات، مما يثير شعور شفقة المتلقي على مصير البطل، ومشاركته التجربة، والخوف من أن هذا المصير قد يطاله في وقت ما، لكن ليس الان على الاقل، لذا يُعد (ياوس) التطهير"تجربة اتصالية جمالية من حيث أشكال التفاعل بين خبرة البطل، وخبرة المتلقي."([17])

كان (اوديب) الملك قد اختط حياته بإرادة قوية وباختيار حر، ولم يكن يعلم أنه يمضي الى مصيره المأساوي المحتوم بكبرياء الأبطال وفخرهم حتى وهو يتخذ قراره أن يفقأ عينيه لتنفيذ النبوءة الالهية في انه سيقتل أباه ويتزوج أمه، بسبب أن أحد العوامل البارزة في بيئة التراجيديا الاغريقية تتمثل في الصراع بين الآلهة والانسان"ذلك لان الآلهة هم الذين يقررون المصير المحتوم لكل انسان، وهو مصير غالبا ما يتسم بالقسوة والعنف والشقاء."([18]) قائلا:

"اوديب: وهكذا لن تبصرا الشرّ الذي عانيته، ولا الشرّ الذي تسببت انا فيه.."([19])

البطل (اوديب) بعد أن كان ملكا، والذي أثار حسد كل من عاش زمنه، وتأمل مصيره، وتدرجه الى هرم التاج الملكي بإرادة صلبة، وشجاعة لبطل يصنع المجد له ولقومه، وهو في الوقت ذاته سليل الملوك، لكنه وقع في الفخّ نفسه المحتوم الذي رسمته الآلهة لتأكيد مصيره المأساوي، ووحده من يتحمل هذا الشقاء:

"قائد الكورس:.. لم يكن أحدٌ في المدينة يتأمل مصيره الا ويحسده عليه. أما اليوم، فها هو قد وقع في هاوية من الشقاء الرهيب...

اوديب: آه! صدقوني، لا تخافوا مصائبي هي لي أنا، ولم يخلق انسان آخر لحملها."([20])

إن الخطاطة الدرامية في (اوديب ملكا) تتموضع في فعل يقوده البطل التراجيدي (اوديب) من البداية وحتى النهاية متحملا النتائج الكارثية المترتبة على ذلك وفق نظام زمني خارج عن إرادته، إذ يتمفصل الفعل الانساني في مسار القوى الالهية، ومن ثم تتحرك قوى الصراع بين زمنين، زمن انساني يرتبط بإرادة حرة وبتفوق الفاعل الانساني ضمن الفعل ذاته وزمن إلهي يتفرد في تفسير الوجود الانساني بهيمنة تحدد فيها المصير المأساوي للبطل على الرغم من أن ما كان يعتقده صائبا في اختيار أفعاله جاءت النتائج على عكس السياق بحكم سلطة الآلهة التي تتحكم بالوجود وبالموجودات معا. بمعنى ما كان تحت هيمنة البطل وحريته في إرادته واختيار أفعاله يسلب منه في النهاية بما فيها تحديد مصيره الشخصي. وهو التباس مزدوج غير واضح الملامح في بداية الخطاب الا انّه يبدو محددا، وقاسيا في نهايته، وفي الوقت ذاته تترتب على هذه القسوة المفرطة بالبطل بأنّه"يثير في المشاهدين شعورا بالسمو حتى وهو يهوي، وتحرك فينا.. الشعور بالإعجاب وأيضا الشعور بالشفقة."([21])

المبحث الثاني: عبثية الوجود ولا جدوى العالم في نصوص اللامعقول:

في خضم متغيرات كبرى ومتسارعة شكلت تهديدا للوجود بشكل عام، ولوجود الانسان تحديدا، فضلا عن انتهاك مروع للقيم الانسانية في النصف الأول من القرن العشرين بسبب حربين كونيتين أدتا الى مقتل ملايين البشر، وبموازاة ذلك ولغرض التعبير، وتشكيل رؤية فكرية وجمالية عن هذا العالم المتغير في شتى المجالات بما فيها البحث عن أطر جديدة للحرية الانسانية، ولدت وتشكلت العديد من التيارات والمذاهب الادبية، والفنية التي جاءت بتقنيات جديدة، ومتنوعة لتعبر عن رؤاها وتجسدها في أشكال فنية كالتعبيرية، والمستقبلية، والسريالية، وغيرها من التيارات التي اشتركت جميعها بإحساس مرير بعبثية هذا العالم ومن ثم التمرد على كل التقاليد السابقة، وجسدت ذلك بأعمالها الأدبية، والفنية. حتى جاءت الوجودية برؤى وأفكار جديدة مثّلها (جان بول سارتر) الذي قال (بوجود الانسان أولا ومن ثم تتحقق ماهيته، أيّ ان الوجود سابق على الماهية، وهي نظرة الحادية متمردة على القيم السماوية بنكرانها للخالق الذي خلق الانسان وماهيته. إذ يرى (سارتر) وأتباع هذه النزعة بان ماهيته تأتي لاحقا عن طريق اختياره لمجموع أفعاله بإرادة حرة لتشكل مجموعة السمات التي تتميز فيها الشخصية، وبذلك تم الغاء جوهر الأشياء والذهاب الى الوجود،الآن، والموجود في هذا العالم.)([22])

ومثّلت شخصية (سيزيف) الأسطورية عند (البير كامو) في كتابه (اسطورة سيزيف) مثالا للبطل العبثي الذي حكمت عليه الآلهة برفع الصخرة الى قمة الجبل ومن ثم دحرجتها وإعادة رفعها من جديد وهكذا لتشير ليس الى عبثية الحياة، بل الى لا معقولية هذا الوجود. إن مصير (سيزيف) هنا يعبر عن مصير الانسان في هذا العصر، وهو ليس التباسا في تأكيد قيمة، بل موقف فكري في أن لا جدوى العالم ينتقل بفعل التجربة العبثية الى الانسان. فـ"اللاجدوى ليست في الانسان وليست في العالم، وإنما في وجودهما معا."([23]) وهي إحالة غير مباشرة الى عبثية الشخصية التراجيدية الاغريقية مجسدة في نص (برومثيوس مقيدا) لـ (اسخيلوس). إن وجودا غير مجد هو وجود غير معقول، إذ يصبح لا معنى له ولا أهمية لأي شيء، ومن ثم لابد من التمرد على هذا الوجود ذلك أن"البديهية الوحيدة التي أتلقاها في صميم التجربة العبثية، هي التمرد."([24]) والتمرد بوصفه احد اشكال الاحتجاج على الوجود فانه ينطوي في الوقت ذاته على المجابهة، وهي مجابهة لعقم هذا العالم وبؤسه، ولذات الانسان. هذا الاحساس العبثي وجد صداه في تجربة كتاب مسرح اللامعقول مع اختلاف رؤى كل واحد منهم للعالم، إلّا أنهم جميعهم كانت استجاباتهم للتحديات الحضارية ماثلة في ذلك العبث لتدمير الوجود الانساني، ولا معقولية العالم، وهذا الوجود المأساوي إمتزج عند كتاب اللامعقول بالتهكم والسخرية. فشخصية (الاستاذ) لـ (يونسكو) الذي طال إنتظاره من قبل الجمهور ليظهر في المشهد الأخير من خطاب النص، ويدخل للحظات ليراه الاخرون ثم يغادر وهو بلا رأس. وهي دالة على رفض المسلمات القبلية الذي جسده العقل لتصور الوجود، وهو نسف للتقاليد، وفي الوقت ذاته يضع الانسان المعاصر وجها لوجه أمام الحقيقة عن عبث الوجود وخوائه كما يراها هؤلاء الكتاب.

"المعجبة: بعد خروج الاستاذ)... ولكن! ولكن... الاستاذ بلا رأس!

المذيع: وما حاجته إليها، ما دامت لديه عبقرية!"([25])

وفي مسرحية (الدرس) يشتبك الحدث بين الأستاذ والطالبة من ثرثرة لغوية الى تطور دراماتيكي بعدم قدرة الكلام على التواصل بينهما وبفقدان القدرة على إزالة سوء الفهم، ومن ثمّ الى تعقيد في العلاقة لتنتهي الى موقف عدواني مميت بقتل الطالبة. وبدم بارد يستعد الأستاذ لدفن قتلاه الأربعين من الطالبات.

"الاستاذ: نعم، ياماري.. ماذا سنفعل؟

الخادمة: سنقوم بدفنها.. هي والتسع والثلاثين الاخريات، سنقوم بدفنهن..

سيصبحن اربعين نعشا."([26])

في مسرحية (نهاية اللعبة) يستعرض (بيكيت) عالمه عن طريق أربع شخصيات قابعة في حجرة فيها نافذتان صغيرتان بارتفاع عالٍ لا يمكن النظر عبرهما إلا بوساطة سلّم.(ناج)و (نيل) مسنّان بلا سيقان يقبعان في صفيحتي قمامة فيما هما يستذكران حكايات في زمن مضى. و(هام) أبنهما الأعمى وهو عاجز اسير كرسي ذي عجلات يوقف جراحه بمنديل مشبع بالدم طوال المسرحية. و(كلوف) ابنه وخادمه وهو الشخص الوحيد الذي يتحرك في هذه الحجرة، وهو الشاهد الوحيد المترقب لأفول العالم عبر النافذتين. هكذا أربعتهم في هذا القبو بانتظار المعجزة أو بانتظار انطفاء الضوء، والموت. شخصيات تشكل عائلة متكاملة غارقة في العدم بلا اي امل حتى ان (هام) يتساءل وهو غارق في قوقعته ومغطى بالدم:

"هام: أيمكن ان يكون هناك بؤس أعظم من بؤسي؟"([27])

شخصيات عدمية مرمية في مكان عدمي مغلق بإحكام، وتحيل الأستعارة هنا الى تقهقر مريع بكل الاتجاهات، وقد أحكم القدر قبضته على الجميع مقابل شعور بالهزيمة. فعندما يسأل (هام) (كلوف) ماذا وجدت يجيب:

"كلوف: صفرا."([28])

زمن صفري في مكان كقبو يضغط باتجاه هزيمة الانسان وقد تم تفريغه من أيّ فعل سوى عزلة خانقة. الأبطال هنا معدومون ومعزولون بلا أيّ قدرة على التواصل وهو نمط آخر للبطل التراجيدي"المعدوم، والخائر القوى والبدائي، هو المخلوق المعزول، الذي يحتفظ برغباته، مما له مغزى في التراجيديا، ان تكون أعلى مراحلها قتامة، وقساوة، حين يدرك البطل التراجيدي والمتلقي تلك اللحظات التي تحاصره بالعبث واللامعقول."([29]) إن مسرح اللامعقول الذي جاء بقيم جديدة في خطاب النص المسرحي سواء بالشكل أم بالمضمون بسبب تمرده على القديم ونسفه للتقاليد الأرسطية في بناء الحدث الدرامي، إلا أنه كأي تيار مسرحي جديد ينطوي على فهم ورؤية مغايرين، ومن ثم كانت سمات البطل هنا بوصفه القائم بالفعل قد طرأ عليها تحول يتناسب مع النسق الثقافي السائد في هذه الحقبة.

الفصل الثالث: تطبيق

النص: في انتظار جودو.([30])

المؤلف: صمويل بيكيت.

من اللحظة الاولى تحيلنا مدونة النص الى رسم ملامح هيأة شخصية (استرجون) في فعلها التهكمي بانتزاع حذائه من قدمه بمحاولات متكررة ولكن دون جدوى، بل عبثا يحاول، وهو إستهلال مشهدي قصدي يثير التباساً بين مفهوم العبث والفعل العابث، وكأن لم يكن عالم هذه الشخصية سوى تكرار لفعل عابث، فضلا عن احداث نوع من الترقب لاستهلال نصي درامي يثير اسئلته منذ البدء:

"استرجون جالس على الارض، يحاول انتزاع حذائه، يحاول جاهدا بكلتا يديه

زافرا من التعب. يتوقف، وقد خارت قواه، يرتاح لاهثا، يعيد الكرة، اللعبة ذاتها.

استرجون: (عادلا عن المحاولة من جديد) عبثا."(ص39)

هذا التحديد لهيأة الشخصية باستفزاز فعلها وقولها هو إستعارة لعالم المهرجين ولاعبي السيرك أو المشردين الذين لم يعد الوجود أو العالم بالنسبة لهم سوى سؤال عن معنى وجودهم في هذا العالم، أو محاولة استرداد المعنى في اللامعنى. إن تصرف الشخصيتين هنا سواء بنوعية الزي الذي يرتديانه أو بتصرفهما وثرثرتهما التي تشبه عالم الكوميديين، فإنهما تشيران الى خواء هذا العالم وتصويره بشكل ساخر ينطوي على إحساس مأساوي:

"استرجون: (رافعا سبابته) هذا ليس سببا كي لا تزرر بنطالك."

ولانّ الانتظار في المتن النصي ثيمة أساسية لوجود الشخصيتين، فأن الحضور يستدل بالغياب في ثنائية جدلية تستبطن الغياب في الحضور معنى وجوديا، وتستبطن اللامعنى في الحضور بسبب فعل الانتظار للغائب (جودو). ومن ثم يمكن القول أن المعنى يكمن في الغياب، وهو إرجاء، وتأجيل في المكان والزمان. وبهذا المستوى يتم تفريغ الحدث الى أفعال قولية متكررة بين الشخصيتين (استرجون وفلاديمير) يتم فيه الحديث عن كل شيء بسبب الانتظار، وهو حديث يرصد لا معقولية هذا العالم، وعبث الوجود، وان كان القول غير محدد أو مترابط وسط"ناس جهلة ومغفلون"(ص46)، وفي عالم سديمي غير محدد:

"فلاديمير: قال قرب الشجرة. (ينظر الى الشجرة). هل ترى سواها؟...

استرجون: يبدو انها ميتة."(ص47)

هذا الانتظار اللامحدود واللامتناهي في مكان عدمي يجعل من ثبات الشخصيتين أمراً مقلقا ومثيراً، وهو قلق وجود، ومرعب:

"استرجون: لا شيء ينقضي، لا أحد يأتي، لا أحد يذهب، هذا رهيب."(ص92)

في ظل هذا العالم الساكن والعدمي لا شيء سوى الانتظار. حتى محاولة الانتحار لم تجدِ نفعا للوصول الى حالة الانتشاء والمعرفة"لننتظر حتى نعرف."(ص53) وحين يقرران الانتحار ثانية، وهو أعلى مراحل التجسيد الفعلي لفكرة لا جدوى الوجود ينقطع الحبل، وحتى سعادتهما تصبح في انتظار جودو، وهذا الانتظار يتكرر في المتن السردي بصورة مستمرة وحتى ختام المتن النصي ويمتد الى ما بعد النص بصيغة سؤال. وهما في ثبات وصيرورة بانتظار المخلص كي يفوزا بالخلاص، فهما أبداً"لا يتحركان"في كل لحظة والى النهاية، بل أن النص ينتهي كما انتهى الفصل الأول بالجدل ذاته:

"استرجون: واذا جاء!

فلاديمير: نفوز بالخلاص.

حسنا، أنمضي؟

استرجون: هيا نمضي.

 (لا يتحركان). (ص173)

"لا يتحركان"تتكرر أكثر من مرة. إذ ليست هناك الارادة الكامنة في قرار الرحيل فعلا، بل الاختيار هو الانتظار(ص44، ص110، ص133، ص144، ص155، ص172). هذا الانتظار الرهيب يجري في عالم لا يتسع سوى"بين قبر وولادة عسيرة"(ص165). إن البنية الدرامية للخطاب النصي هنا، هو تقويض شامل للبنية الأرسطية سواء في بناء الحبكة، أو في بناء الشخصية، إذ لا تحول ولا إنقلاب ولا تعرف، فليس هناك حكاية تتدرج في مبناها وصولا الى ذروتها ومن ثم الى خاتمتها سواء بتنامي الحدث الدرامي، أو بفعل صراع الشخصيات، وليس هناك حوار ينمو بل حوار متقطع ومبهم ومتكرر، ورغم إنعدام كل ذلك فأن النص يحمل الكثير من الترقب لما سيحدث في نصٍّ بلا أحداث، وما لا يحدث هو الذي يحدث في النهاية. وفي رحلة الانتظار تمرّ شخصية السيد (بوزو) والعبد (لاكي) وهي رؤية موازية لعدمية العالم في ظل طغيان متجبر أمام عبد خنوع، والاستغلال البشع في سحق إنسانية الانسان المتمثلة في (لاكي) مقابل هيمنة (بوزو) المطلقة، وإستخدامه أبشع صنوف الامتهان المعنوي والجسدي معه. ما يجعل شخصية مثل (فلاديمير) ينفجر احتجاجا على هذا التصرف المهين والمخجل:

"فلاديمير: منفجرا هذا عار!...

 (متلعثما وحاسما) معاملة انسان (اشارة الى لاكي) بهذه

الطريقة.. اعتبر انها.. ككائن انساني.. كلا.. عار!"(ص69)

إن تقصي جوهر الطبيعة الانسانية في تجربة الوجود البشري في نص (في انتظار جودو) خضعت للمتغيرات الحياتية الكبرى، فلسفيا وجماليا، في ظل تدمير وخراب للكينونة بفعل الكائن وسط انتهاك شامل للوجود وهو فعل إحتجاج ورفض لهذا العالم الذي لم يتبق منه سوى الانتظار في مكان وزمن متكررين"الوقت ذاته. المكان ذاته."(ص111).

النص: المستأجر الجديد([31])

المؤلف: يوجين يونسكو

في المتن الحكائي لخطاب النص نتعرف على المستأجر الجديد لشقة في الطابق السادس لبناية بدون مصعد وخادمة تحاول خدمة (السيد) إلّا أنه يرفض خدماتها رفضاً قاطعاً، وفي الوقت ذاته يدخل العاملان لنقل كمّ هائل من المحتويات والأثاث للشقة، والذي ينتهي بغلق جميع الممرات والأبواب وتخنق المالك الجديد، إذ لم يستطيع أحد أن يرى الآخر مطلقا. وهو خطاب يقدم فيه شخصية (السيد) وقد أوغل في عزلته عن العالم، وغربته عن الآخرين، فضلا عن نبذه للتواصل، والغوص بعيداً في محنته الانسانية أزاء خواء هذا العالم، على الرغم من الفوضى والحياة التي تعمّ المكان في إستهلال الخطاب"ضجة كبرى عند رفع الستار: صخب اصوات آتية من الكواليس، قرعات مطارق، نتف متفرقة من أغان، صيحات أطفال، وقع اقدام على الدرج، وصوت أرغن مما يعزف في الشوارع...الخ."(ص183) في خضم هذه الضجة الحياتية، والتي تُغنيها شخصية (البوابة) بحواراتها المتنوعة المكتظة بحيوات الساكنين السابقين الا أن (السيد) يدخل في صمت رافضا لخدماتها ولأي تواصل معها، وبهدوئه البالغ المعهود يقرر:

"السيد: لست في حاجة الى خدماتك يا سيدتي."(ص195)

وحينذاك تبدأ رحلة نقل الأثاث من قبل العاملين، (بحيث تضيق المساحة الخالية من الأثاث حول السيد باطراد وهو في مكانه، وسط المنصة.) والى أن يصبح الاداء في صمت مطبق"حتى الضجة الخارجية وصوت البوابة قد تخافتا تدريجيا، طيلة المشاهد السابقة، حتى انقطعا تماما."(225) هذا العالم الذي بدأ برسم ملامح كينونة (السيد) وخناقه بالماديات في مقابل تغييب وجوده في ذاته، وتأكيد عزلته سواء بإرادته، أم بخضوعه الى إرادة العالم بأخلاقياته وسياقاته وفق التقاليد التي تشكل قيداً مضافا لإنسانية الانسان. ويستمر نقل الاثاث الى إمتلاء سلّم العمارة، إذ لم يعدّ في وسع أحد أن يصعد أو ينزل، فضلا عن امتلاء الفناء والشوارع، وأنفاق المترو، حتى نهر السين ما عاد يجري. إنسدّ مجراه. لم يعد هناك مكان إلّا وامتلأ بالأثاث، بل تم تعطيل البلد بأكمله. حصار وعزلة خانقين. وبعد نقل الأثاث لم يعد هناك أي مخرج أو تواصل بين (السيد) والعامل الأول والثاني"العاملان يضربان على غير هدى بين الاثاث المتراكم في الغرفة: فالنافذة مسدودة، وكذلك البابان اللذان ما زالا مفتوحين على سعتهما تسدهما الالواح الخشبية وتقطع الطريق على من يبغي الخروج منهما."(234) وبعد أن لم يستطيعا رؤية احدهما للآخر لتراكم الأثاث، ولم يعد بمقدور أحد الحركة مطلقا يسأله العامل الثاني من دون ان يراه:

"العامل الثاني: ألست في حاجة الى شيء؟"

يجيبه صوت السيد"بعد فترة من الصمت، وقد اعدمت الحركة في المشهد: شكرا. اطفئا النور!"(235) وهكذا يتم ليس وحسب إطفاء النور بل إغلاق المكان تماما، كمدفن مهيمن لهذا الطغيان الجارف، إذ يتحول الانسان الى شيء عابر ولا قيمة له. وهكذا يستريح (السيد) في عزلته المأساوية وحيداً من دون أيّ فعلٍ يقوم به للمشاركة بإدارة قوى الصراع ككينونة فاعلة، الاّ أنه بعكس ذلك يستغرق في وحدته أو موته. اننا أزاء شخصية تعاني اضطرابا بنيويا، وشرخاً في وجوده ذاته يتسم بالاغتراب والعجز عن التواصل مع الاخر على الرغم من الضجيج الحياتي سواء خارج الشقة، أو التي تحدثه (البوابة) وهي شخصية شعبية ثرثارة، إلّا انه بسبب هذا الاغتراب عن الوجود وعدم الانسجام مع العالم، وكرهه للضوء والضوضاء بدلالة إغلاقه النوافذ، يغرق في عزلته الموحشة قلقاً تكتنفه هواجس لا يبوح بها لأحد حتى لذاته هو، وذلك يتضح عن طريق صمته الرهيب والاستغراق في عالمه الخاص جدا، إذ لم يقل شيئا في خطاب النص سوى كلمات إرشادية مقطوعة لوضع الأثاث هنا أو هناك، وحتى الحوار الطويل الذي بدأته (البوابة) معه والتي كشفت فيه عن عوالم الساكنين قبله في هذه الشقة والشقق المجاورة بنسجها حكايات متنوعة في سبيل الحصول على وظيفتها إلّا انه لم يصدر عنه أيّ شيء سوى الأمر بإغلاق النافذة عندما أرادت فتحها لمناداة زوجها، وهي في الطابق السادس وهي إحدى سمات خطاب اللامعقول بأن لا تقوم الشخصية بأيّ فعل أو صراع مع الاخر، بل تمضي في وحدتها وعالمها الخاص، وأن تحدثت إقتصدت في كلامها، أو تثرثر كـ (البوابة) دون تواصل مع الآخر. بل أن اللغة تصبح اقرب الى الهذيان كما عند العامل الأول والثاني، هو حضور للقيم المادية الطاغية أمام غياب الفكر من الوعي الانساني بمعنى إستلاب هذا الوعي واقصائه بقوة طغيان تلك القيم. وهذه اللغة المشروخة هي جزء من سياق الشخصية التي تعاني الاستلاب والاغتراب معا. وهو تمرد صريح على العالم في تجربته الوجودية. الخطاب هنا لا ينصب على العقدة، بل ليس هناك عقدة، وانما تأثير الخطاب يستمد وجوده من صورة الخطاب وهو ينمو ومن ثم لتشكّل وجود الشخصية في بؤسها، وتيهانها، واغترابها، وعبثيتها، وكأنها حبيسة قوى غير مرئية في مكان معادٍ. بطل اللامعقول مأزوم في اشتباك الوجود الفاقد للمعنى، حضور مأزوم أخلاقيا، ولعل هذا ما يجعله أكثر اغترابا، ومن ثمّ هذه الغلالة من الحس المأساوي المشبعة بالسخرية، بانتظار الثابت المطلق في الغياب الميتافيزيقي لإعادة تشكيل الكينونة في وجودٍ حميم.

الفصل الرابع: النتائج والاستنتاجات

  1. شخصية البطل في الخطاب النصي لمسرح اللامعقول شخصية من عامة الناس كما في شخصية (السيد) في مسرحية (المستأجر الجديد) أو من المشردين والمعدومين كشخصيتي (استراجون وفلاديمير) في مسرحية (في انتظار جودو) فهم ليسوا من سلالة ملكية ولا من فئة الامراء أو القادة.
  2. شخصية البطل قلقلة، ومتمردة وغير مستقرة، وهي اذ ترفض أي نوع من التواصل مع الاخر تستسلم لمصيرها كما في شخصية (السيد) في مسرحية (المستأجر الجديد).
  3. البطل هنا ساخر تهكمي لكنه يثير ذلك الاحساس المأساوي بعبث الوجود ولا جدوى العالم.
  4. مصير البطل محير ومرتبك وعبثي يتناسب وفعل الانتظار في الذي يأتي، في عالم لا شيء يحدث فيه.. لا أحد يذهب. لا أحد يجيء.
  5. لا وجود لتحول البطل هنا من السعادة الى الشقاء او حتى في أنماط تحول الشخصية الاخرى التي ذكرها (ارسطو). والبطل هنا يستجيب لبنية الخطاب الدائرية. فكما كانا (استراجون) و(فلاديمير) في الاستهلال النصّي في حالة انتظار ينتهي الخطاب وهما في حالة انتظار.
  6. البطل في نصوص اللامعقول يعبر عن ملامح الانسان في حقبة زمنية محددة.
  7. سمات بطل اللامعقول المتغيرة جاءت إستجابة للمتغيرات في الأنساق الثقافية التي تهيمن على العالم.
  8. بطل اللامعقول نمطي وليس فردي، ومن ثم فان عبثيته ورؤيته للعالم تستجيب لشريحة اجتماعية وجدت ذاتها ضائعة وطموحاتها باتت بلا هدف محدد.
  9. البطل يتمظهر في الغياب كمعنى مؤجل عن طريق حضوره الساكن بانتظار المعنى.

المصادر والمراجع:

  1. ابن منظور: لسان العرب، مج1، مج13، بيروت: (دار صادر)، د.ت.
  2. أرسطو: فن الشعر، ترجمة ابراهيم حماده، القاهرة: (مكتبة الانجلو المصرية)، 1977.
  3. بيكيت، صامويل: نهاية اللعبة، ترجمة بول شاوول، الكويت: (وزارة الاعلام)، 1992.
  4. ـــــــــــــــــــــــــــ، ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ: في انتظار جودو، ترجمة بول شاوول، بيروت: (منشورات الجمل)، 2009.
  5. حماده، ابراهيم: معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، القاهرة: (دار المعارف)، 1985.
  6. سعيد علوش، سعيد: المصطلحات الادبية المعاصرة، الدار البيضاء: (منشورات المكتبة الجامعية)، 1984.
  7. سوفقليس: تراجيديات سوفقليس، ترجمة عبد الرحمن بدوي، بيروت: (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، 1996.
  8. صليبا، جميل: المعجم الفلسفي، ج1، بيروت: (دار الكتاب اللبناني)، 1982.
  9. عناني، محمد: المصطلحات الادبية الحديثة، ط2، مصر: (مطابع الاهرام التجارية)، 2006.
  10. فرنان، جان بيير و بيير فيدال ناكيه: الاسطورة والتراجيديا في اليونان القديمة، ترجمة حنان قصاب حسن، ط1، دمشق: (الاهالي للطباعة والنشر والتوزيع)، 1999.
  11. كامو، البير: اسطورة سيزيف، ترجمة انيس زكي حسن، بيروت:(منشورات دار مكتبة الحياة)، 1983. 12
  12. ــــــــــــــــــــــــــ، ــــــــــــــــــــــ: الانسان المتمرد، ط3، ترجمة نهاد رضا، بيروت: (منشورات عويدات)، 1983.
  13. كوركينيان، م.س: الدراما، في، نظرية الادب، ترجمة جميل نصيف التكريتي، بيروت: (المركز العربي للطباعة والنشر والتوزيع)، 1980.
  14. مطر، اميرة حلمي: مقدمة في علم الجمال وفلسفة الفن، ط1، القاهرة: (دار المعارف)، 1989.
  15. ميرشنت، مولوين و كليفورد ليتش: الكوميديا والتراجيديا، ترجمة علي احمد محمود، الكويت: (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب)، 1979.
  16. النجار، محمد علي وآخرون: المعجم الوسيط، ج1-ج2، طهران: (مؤسسة الصادق للطباعة والنشر)، 2005.
  17. وهبه، مجدي و كامل المهندس: معجم المصطلحات العربية في اللغة والادب، ط2، بيروت: (مكتبة لبنان)، 1984.
  18. وهبه، مراد: المعجم الفلسفي، القاهرة: (دار قباء الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع)، 2007.
  19. يوسف، عقيل مهدي: فلاسفة ومسرحيون، بغداد: (دار الدكتور للعلوم الادارية والاقتصادية)، 2014.
  20. ــــــــــــــــــــــــــ، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ: التراجيديا والتحولات الفلسفية والنقدية، بغداد: (دار الدكتور للعلوم الادارية والاقتصادية)، 2014.
  21. يونسكو، يوجين: 5 مسرحيات طليعية، ترجمة شفيق مقار، القاهرة: (الدار القومية للطباعة والنشر)، 1966.
  22. ـــــــــــــــــــــــــــ، ــــــــــــــــــــــــــــــ: الاعمال الكاملة ليونسكو، ج1، القاهرة: (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، 2006.

 

 

 

[1]- النجار، محمد علي وآخرون: المعجم الوسيط، ج1-ج2، ص209.

[2]- جميل صليبا: المعجم الفلسفي، ج1، ص259.

[3]- مراد وهبه: المعجم الفلسفي، ص173.

[4]- ابن منظور: لسان العرب، مج1، ص222.

[5]- جميل صليبا: المصدر السابق، ص212.

[6]- ابراهيم حماده: معجم المصطلحات الدرامية والمسرحية، ص427.

[7]- ابن منظور: لسان العرب، مج13، ص427.

[8]- مجدي وهبه، وكامل المهندس: معجم المصطلحات العربية في اللغة والادب، ص184.

[9]- سعيد علوش: المصطلحات الادبية المعاصرة، ص122.

[10]- محمد عناني: المصطلحات الادبية الحديثة، ص116.

[11]- سعيد علوش: المصدر السابق، ص87.

[12]- مجدي وهبه، وكامل المهندس: المصدر السابق، ص314.

[13]- ينظر: فرنان، جان بيير و بيير فيدال ناكيه: الاسطورة والتراجيديا في اليونان القديمة، ص38-39.

[14]- ينظر: أرسطو: فن الشعر، ص149-153.

[15] - النمط الاول أن لا يكون التحول الذي يطرأ على حظ البطل من النجاح والسعادة الى حال الشدة والشـــــــقاوة،

لان ذلك لن يحرك فينا شفقة ولا خوفا، والثاني أن لا يكون التحول في منظر رجل سيء، ينتقل من حـــــــــــــــــــال

الشدة والشقاوة، الى حال النجاح والسعادة وذلك بعيد عن روح التراجيديا، كما لا ينبغي أن يكون التحول فـــــــي

عرض منظر رجل في غاية السوء، وهو ينتقل من حال السعادة الى الشقاوة، لأنه لايثير شفقة او خوفا ولكن

يثير فينا شعور التعاطف الانساني، لأن الذي يستحق الشفقة هو ما يقع من سوء لشخص لا يستحـــــــــــــــق أن

يشقى، والذي يثير الخوف هو ما يقع من أخطار لشخص يشبهنا. ويبقى بعد هذا البطل الذي يقف بيــــــــــــــــــن

هذين الطرفين، أي الشخص الذي ليس في الدرجة القصوى من الفضيلة والعدل، والذي يتردى في الشقاوة

والتعاسة لا بسبب رذيلة أو شر، ولكن بسبب خطأ ما، أو سوء تقدير"هامارتيا". ينظر: ارسطو: فن الشعر،

ص132.

[16]- اميرة حلمي مطر: مقدمة في علم الجمال وفلسفة الفن، ص25.

[17]- عقيل مهدي يوسف: فلاسفة ومسرحيون، ص45.

[18]- سوفقليس: تراجيديات سوفقليس، ص15.

[19]- سوفقليس: المصدر نفسه، ص140.

[20]- سوفقليس: اوديب ملكا: في، تراجيديات سوفقليس: ص143-147.

[21]- ميرشنت، مولوين و كليفورد ليتش: الكوميديا والتراجيديا، ص142.

[22]- ينظر: ابراهيم حماده: المصدر السابق، ص289.

[23]- كامو، البير: اسطورة سيزيف، ص39.

[24]- كامو، البير: الانسان المتمرد، ص15.

[25]- يوجين يونسكو: 5 مسرحيات طليعية، ص156.

[26]- يوجين يونسكو: الاعمال الكاملة ليونسكو، ج1، ص72.

[27]- بيكيت، صامويل: نهاية اللعبة، ص22.

[28]- بيكيت، صامويل: نهاية اللعبة، ص23.

[29]- عقيل مهدي يوسف: التراجيديا والتحولات الفلسفية والنقدية، ص68.

[30] - بيكيت، صمويل: في انتظار جودو، ترجمة بول شاوول، بيروت: (منشورات الجمل)، 2009، ص39.

 وسيشير الباحث الى رقم الصفحة فقط في تحليل عينة البحث.

[31] - يوجين، يونسكو: 5 مسرحيات طليعية، ترجمة شفيق مقار، القاهرة: (الدار القومية للطباعة والنشر)، 1966. وسيشير الباحث لاحقا بأرقام الصفحات فقط.