من صفحة: 6
إلى صفحة: 15
النص الكامل للبحث: PDF icon 180523-132337.pdf
خلاصة البحث:

يعد استقلال القضاء من أهم مؤشرات الدولة الرشيدة التي تنعم بالعدالة والاستقرار والرفاه. وعلى العكس الدول التي يخضع قضاؤها لصولجان الحاكم أو الرئيس فهي العلامة على التخلف والفشل وعدم الأمن والاستقرار.

ويعتقد الكثير أن استقلال القضاء من إبداعات الفكر الأوربي وبدأ مع روح القوانين لمنتسكيو الذي وجد طريقهُ في بناء الدولة الحديثة في أوربا بينما تؤكد النصوص والممارسات العملية أن الإسلام هو أول من صدع بهذه الفكرة وأن أمير المؤمنين علي  عليه السلام  هو رائد هذا المنهج الذي خطه بيمينه من خلال رسالته لمالك الأشتر ومن خلال ممارسته في الحكم.

هذا البحث يسلط الضوء على هذه الفكرة ليبرهن بالأدلة أن استقلال القضاء هو مبدأ إسلامي وهو جزء من الفكر الإسلامي الأصيل.

Abstract

The independence of the judiciary is the most important indicator of the rational state which has justice، stability and welfare. By contrast، the states whose judiciary is subject to the ruler's scepter are characterized by backwardness، failure and non-security and non-stability.

Many view that the independence of judiciary comes out of the European thought's imagination. It starts with the Essence of Laws by Montesquieu which contributes to establishing the modern state in Europe، while the provisions and practical experiences confirm that Islam is the first to formulate this idea. Imam Ali (the Commander of the Faithful) represents the pioneer of the independence of judiciary through in his epistle to Malik AL-Ashter and through his practice in governance.

The research sheds light on this idea to prove that the independence of judiciary is an Islamic principle and constitutes part of the original Islamic thought.

البحث:

المقدمة:-                                                                                                              

لم يكن مونتسكيو هو صاحب الفضل في إرساء مبدأ استقلال القضاء الذي أنتجته أفكاره من خلال فصل السلطات، وعدالة القانون في كتابه ((روح الشرائح))، بل سبقهُ الإسلام بثلاثة عشر قرناً عندما أرسى القضاء على هذا الأساس، يقول المودودي: ((إنَ مجالس القضاء والحُكم في الإسلام خارجة عن حدود الهيئات التنفيذية))([1]). ويأتي على رأس التجربة الإسلامية أسلوب أمير المؤمنين  عليه السلام  في القضاء، والذي نستطيع أن نقول عنه بحق إنه مُبدع فكرة استقلال القضاء من خلال منهجه القضائي الذي اختطه في ممارسته القضائية، وكلُ من كتب في استقلال القضاء في الإسلام استند إلى منهج أمير المؤمنين  عليه السلام ([2])

وتضمن كتاب أمير المؤمنين إلى مالك الأشتر نظرية متكاملة في استقلال القضاء، كما سنأتي على ذكره.

إما الخطوات العملية التي حقق بها أمير المؤمنين  عليه السلام  استقلالاً حقيقياً للقضاء في عهده فهي:

أولاً: الاختيار الحسن للقاضي:

فالقاضي الذي لا تتوفر فيه الشروط عُرضة للزلل والسقوط، نتيجة استجابته للضغوط الداخلية والخارجية عليه.

وتبرز هذه الخطوة في كتابه  عليه السلام  إلى مالك الأشتر:

((ثم اختر للحُكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك. ممن لا تضيق به الأمور. ولا تُمحكَه الخصوم. ولا يتمادى في الزلة. ولا يحصَرُ من الفيء إلى الحق إذا عَرَفَهُ. ولا تُشرِفُ نفسه على طمع. ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه. وأوقفهم في الشبهات وآخذهُم بالحجج.وأقلهُم تبرُّماً بمراجعة الخصم. وأصبرهم على تكشُّف الأمور. وأصرمهم عند اتضاح الحُكم)).

أحد عشر شرطاً عملياً يرتبط بجزيئات عمل القاضي، فهو أكبر من القضايا المعروضة عليه: حيث تصغر عنده كل قضية لإحاطته الكاملة بها، فلا تأخذهُ هيبة مجلس القضاء، ولا يصر على رأيه نتيجة المخاصمة، كما وانه لا يصر على الخطأ إذا اكتشفه. بل هو على استعداد تام للاعتراف بالخطأ عند وقوعه والعدول عنه. كما وانه لا يضعف أمام إغراءات المال أو المنصب.

أما حرصه على عمله وإخلاصه له فيدفعهُ دائماً إلى تقصي أبعاد القضايا وجزيئاتها وفي الشبهات عندما لا يكون هناك لا نص ولا قانون ولاشيء من هذا القبيل، تراه متأنياً مدققاً.

يقول الفكيكي في تعليقه على كلمات أمير المؤمنين  عليه السلام : ((أشترط أن يكون القاضي أو الحاكم – زيادة على ما هو عليه من الفضل – من ذوي النفوس الحساسة والذكاء المتقد والنباهة الشديدة، الذين يبددون بنور اليقين ظُلمات الشك وغياهب الشبهات: لئلا يلتبس عليهم الأمر، فيلبسون الحق بالباطل وهُم لا يشعرون: وذلك لان الشبهات هي ما لا يتضح الحُكم فيها بالنص، فينبغي الوقوف عند القضاء إذا اشتبهت وجوه الحل حتى يرد الحادثة إلى أصل صحيح، وقد تعترض الحكام هذه الشبهات في القضايا الجزائية أكثر منها في القضايا الحقوقية: ولهذا وضع علماء الجزاء – في القرن الأخير – قاعدة ذات أهمية كُبرى حتى أصبحت مثلاً سائراً وهي: ((إن براءة ألف مُجرم خير من تجريم بريء واحد))([3]). فالقاضي واستناداً لهذه الصفات – ذو شخصية قوية حيادية في الدعاوى، لا يتأثر بالضغوط الخارجية، مما يعرض عليه من مالٍ أو منصب، ولا بالضغوط الداخلية من هوى وما شابه ذلك.

وكان الإمام أمير المؤمنين  عليه السلام  يتقيد بهذه الشروط العملية عند اختياره للقضاة وكان يختبر قضاته قبل تنصيبهم و كما فعل بشريح قبل توليه القضاء.

وقد صَحت فراسة أمير المؤمنين  عليه السلام  في شريح على رغم نواقصه إلا أنه في أمر الاستقلال كان بعيداً عن التأثيرات الخارجية كما يتضح ذلك في الروايات المنقولة.

ثانياً: تساوي الحاكم والمحكوم أمام القضاء:

فعندما يُستدعى الحاكم ليجلس أمام القاضي إلى جانب خصمه، وهذا منتهى العدالة في القضاء، والقاضي الذي يجد من صلاحياته جلب رئيس الدولة ومحاكمته، فهو يجد نفسه قوياً، وقوته مُستمدة من كونه حامياً للقانون والعدالة، فبالقانون أصبح قوياً وبالعدالة أصبح قادراً على فرض سيادة القانون على أعلى سُلطة في البلاد.

وتفتخر الدول الديمقراطية المتقدمة في العالم بأنها وصلت إلى هذه المرحلة من التطور القانوني: حيث أصبحت قادرة على استدعاء حكامها لمقاضاتهم أمام الخصوم، بعد أن كان هذا الشكل من القضاء ضرباً من الخيال.

ففي مرحلة تاريخية كان فيها الإنسان يُباد بلا حساب وبلا كتاب، وكانت مجرد إشارة من السلطان تكفي للقضاء على شعب بأكمله، في هذه الفترة المظلمة من التاريخ أتى الإسلام بأعظم نظام قضائي، وسجل أفضل مواقف العدالة الإنسانية و أروعها، فقد كان الفرد العادي يُخاصم أعلى سُلطة في البلاد.

وتجلت هذه العدالة القضائية بأبهى صورها في عهد الإمام أمير المؤمنين  عليه السلام ، حتى أضحت مضرباً للأمثال: فما من باحث أو دارسِ للقضاء الإسلامي إلا وتجده يذكر موقف الإمام أمير المؤمنين  عليه السلام  من اليهودي الذي تقاضاه عند شريح القاضي. يقول ابن فرحون: ((ذُكر أن علياً – رضي الله عنه – خاصم يهودياً عند القاضي شُريح فجلس علي – رضي الله عنه – في صدر المجلس وجلس شريح والذمي دونه))، وقال علي: لولا إن النبي  صلى الله عليه وآله  ((عفا عن مساواتهم في المجالس لجلستُ معه))([4]).

واستدل ابن فرحون وغيره من الفقهاء من هذا الموقف على وجوب التساوي بين الخصمين في النظر والكلام والسلام.

ومن الصور الرائعة للقضاء في عهد أمير المؤمنين  عليه السلام  أن علياً  عليه السلام  كان جالساً في مسجد الكوفة، فمر به عبد الله بن قفل التميمي ومعهُ درع طلحة، فقال له علي  عليه السلام  ((هذه درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة))، فقال له عبد الله بن قفل: فاجعل بيني وبينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين، فجعل القاضي شريحاً قاضياً بينهما، فقال علي  عليه السلام : ((هذه درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة))، فقال له شُريح: هاتِ على ما تقول بيّنة، فأتاه الحسن، فشهد شاهد حتى يكون معهُ آخر. فدعا قنبراً، فشهد أنها درع طلحة أخذت غلولاً يوم البصرة، فقال شريح: هذا مملوك ولا أقضي بشهادة مملوك([5]).

وكان من رأي الإمام أن الغلول لا يحتاج إلى شهادة، وأنه يصح القضاء بشهادة ويمين، وأنه يقضي بشهادة المملوك.

وعندما كان ينصب قاضياً كان يُوصيه بأن يُساوي بين الخصمين حتى لو كان أحدهما شريفاً والآخر وضيعاً.

كتب إلى شريح في خبر سلمة بن كهيل: ((ثم واسِ بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك، حتى لا يطمع قريبك في حيفك ولا ييأس عدوك من عدلك))([6]) فيذكر له أن علة المساواة هي أن لا يشعر قريبه بأنه سيحيف على خصمه لقرابته منه، وحتى يحس عدوه بأنه ذاهب إلى قاضٍ عادل لا يدع لنزعاته النفسية مجالاً للتسرب إلى أحكامه.

وفي خبر آخر يقول الإمام: ((من ابتُلي بالقضاء فليواسِ بينهم في الإشارة والنظرة في المجلس))([7]).

ونَصَحَ عمر بن الخطاب يوم كان خليفة على المسلمين قائلاً له: ((ثلاث إن حفظتهن وعملت بهن كفتك ما سواهنَ ’ وإن تركتهن لم ينفعك شيء: إقامة الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود))([8]).

وقد التزم أمير المؤمنين  عليه السلام  بأقواله ونصائحه فكان مثلاً للحاكم الذي يحترم قضاته، ويقر بأحكامهم، حتى ولو كانت على حسابه. وهذا هو الأساس الذي يُبتنى عليه مبدأ فصل السلطات.

يقول هشام قبلان: ((حسب مبدأ فصل السلطات يترتب على السلطتين التشريعية والتنفيذية احترام أحكام القضاء وعدم التعرض لها عن طريق النقد))([9])

ثالثاً: فرض الرقابة على القاضي:

القاضي بحاجه إلى من يُراقبه ويسدده لأنه إنسان لا يختلف عن باقي البشر، يراقبه في سلوكه ومدى أمانته في الحفاظ على أموال الناس: ومراقبته أثناء تعامله مع الخصم. ففي نطاق الأمانة انب  عليه السلام  قاضيه شريحاً عندما اشترى داراً بثمانين ديناراً، فاستدعاه وقال له: ((بلغني أنك ابتعت داراً بثمانين دينارا وكتبت كتاباً وأشهدت شهوداً))، فقال شُريح: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، فنظر إليه نظر مغضب، ثم قال له: ((يا شُريح، أما أنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك ولا يسألك عن بينتك حتى يخرجك منها شاخصاً، ويسلمك إلى قبرك خالصاً، فانظر يا شُريح لا تكونُ ابتعت هذه الدار من غير مالِك، أو نَقَدتَ الثمن من غير حلالك، فإذا أنت قد خسرت دار الدٌنيا ودار الآخرة و أما إنك لو كنت أتيتني عند شرائك ما اشتريت، لكتبتُ لك كتاباً على هذه النسخة، فلم ترغب في شِراء هذه الدارِ بدرهم فما فوقُ))([10]) ثم إن الإمام أمير المؤمنين عزل أبا الأسود الدؤلي عن القضاء لما بلغه أن صوته علا على صوت الخصم، فقد روي أن أمير المؤمنين  عليه السلام ، ولى أبا الأسود الدؤلي القضاء، ثم عزله فقال له: لم عزلتني وما خنت ما جنيت ؟ فقال  عليه السلام : ((إني رأيت كلامك يعلو كلام خصمك))([11]) وفي وصيته لمالك الأشتر: ((ثم أكثر تعاهُد قضائه)): أي تتبعه بالاستكشاف والتعرف.

ثمّ يؤكَد عليه الأمام  عليه السلام  قائلاً: ((فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار ويُعمل فيه بالهوى وتُطلبُ الدُنيا))([12])

ورقابة القاضي لا تتناقض ومبدأ استقلاله، بل هي عامل مساعد لدعم هذا الاستقلال: ولأن الرقابة تتوخى تقويم الجانب الأخلاقي والسلوكي للقاضي فضلاً عن الجانب العلمي والتشريعي.

((وقد رأى الإمام  عليه السلام  إن مصلحة القضاء ورعاية العدل في المملكة تقضي على ولي الأمر أن يُكثر من مراقبة أعمال وتصرفات القضاة أو الحاكم من حين لآخر. وأن كانوا متصفين بالأوصاف السابقة وأنهم من أفضل الرعية علماً وأخلاقاً: لأن محاسبة النفس وضبطها والشعور بالمسؤولية قد يكون ضئيل الأثر في نفوس بعض المسؤولين، فأراد الأمام  عليه السلام  أن يكون هذا الحق قوياً وعميقاً في نفوس الموظفين عامة، والقضاة خاصة، فعهد إلى عامله أن يُكثر تعهد قضائه: أي تطلعه على أحكامه و أقضيته، وضمير ((قضائه)) يعود لأفضل الرعية: وهو القاضي الموصوف بالأوصاف المتقدمة، وقد أخذت حكومات العالم كافة – في هذا العصر – بهذه المبادئ الحكيمة، ومن جملتها حكومتنا، فوضعت نظاماً للتفتيش العدلي وأسست دائرة خاصة لهذا الغرض في وزارة العدلية يرأسها أحد أكابر الموظفين العدليين، وقد كان لهذه المؤسسة الأثر الحسن في تحسين سير المحاكم في العراق))([13]).

من هنا فإن العمل بمبدأ استقلال القاضي يُحَتم وجود الرقابة: لأنها ستكون الضمانة على عدم انحراف القاضي واستغلاله للحرية الممنوحة إليه.

رابعاً: رعاية شؤون القاضي المادية والمعنوية:

دأبت الأنظمة القضائية على منح القاضي الرعاية الكاملة، بتأمين جميع متطلباته حتى لا يخضع للإغراءات والرشاوي.

يقول أمير المؤمنين  عليه السلام  لمالك الأشتر: ((وأفسح له في البذل ما يُزل علته وتقل معهُ حاجته إلى الناس))([14]).

ومن نتائج العمل بهذا المبدأ شعور القاضي بالقوة وعدم الحاجة إلى الآخرين مما سيجعله حيادياً في اتخاذ الأحكام.

يقول الفكيكي: ((وقد مشت أكثر الحكومات في الشرق والغرب على هذه القاعدة في إصلاح المحاكم والحكام، وأحسن مثال نضربه للقارئ في هذا الباب وضع القُضاة في انكلترا وما لهم من الضمانات الكافلة لاستقلال القضاء التام وها إننا ننقل النبذة الآتية: ليس في الحكومة الإنكليزية وظيفة تعادل في مركزها ومرتبها مركز قاضٍ بالمحكمة العليا، فقد أحيطت بالضمانات التي تكفل لصاحبها الاستقلال التام، فمرتبها ثابت قدره خمسة آلاف جنيه، يُعادل مرتب رئيس الوزراء))([15]).

ولا يكتفي الإمام بالرعاية المالية، بل يعتمد مبدأ الرعاية المعنوية حتى يشعر القاضي باكتفائه الذاتي، فلا يحس بالدونية أمام الموظفين الآخرين، مهما علت مناصبهم، يقول الإمام: ((وأعطِه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال عندك))([16]).

يُعلق المحامي الفكيكي على هذه العبارة: ((وإن من يتأمل هذه الفقرات الفصيحة وأسرارها التشريعية يجدها قد تضمنت قاعدة هي من أهم القواعد الدستورية التي تناولها التشريع الحديث في هذا العصر لحمايته من التأثير والتدخل في شؤونها، وقد نصت المادة (71) من القانون العراقي ((المحاكم مصونة من التدخل في شؤونها)) وبعد ذلك يعرج إلى القضاء البريطاني، فيقول: ((أما النظام القضائي في انكلترا، وهو أعلى نظام موضوع في الدنيا، فقد وضع لاستقلال المحاكم وضمانات الحكام قواعد مهمة هي أكثر انطباقاً للعهد الذي حرره أمير المؤمنين  عليه السلام  لعامله لتنظيم أصول الحُكم في مصر سنة 37 للهجرة))([17]).

خامساً: القاضي المجتهد:

اشترط الفقهاء الاجتهاد في القضاء، يقول المحقق الحلي: ((لا ينعقد (القضاء) لغير العالم المستقيل بأهلية الفتوى، ولا يكفي فتوى العلماء، ولابد أن يكون عالماً بجميع مَا وَليهُ))([18]).

وقد فسر صاحب الجواهر هذه العبارة بالاجتهاد المُطلق، فيقول: ((فلا يكّفي اجتهاده في بعض الأحكام دون بعض القول بتجزئ الاجتهاد))([19]).

والى هذا ذهب أغلب الفقهاء، كما لاحظنا ذلك.

وكون القاضي مجتهداً يعني حصوله على الاستقلال الكامل، الاستقلال حتى في الأحكام التي يصدرها.

يقول احمد خلف الله عن التجربة الإسلامية في استقلال القضاء: ((إنَ استقلال القضاء عندهم أبعد مدى مما هو عندنا، ويرجع ذلك في ما نرى – إلى أنهم (المسلمون) كانوا يجعلون اجتهاد القاضي في كُل قضية تُعرض عليه للحكم فيها وهو الأساس في الحكم، وفي نظر القضية، أما نحن فنجعل الأساس في ذلك مواد القانون ولأن اجتهاد القاضي هو الأساس جعلوا الشرط الذي يحكم عليه أن يحكم في إطار قانونٍ معينٍ شرطاً فاسداً))([20]).

وقد حرم بعضهم نصب المُقلّد للقضاء، فذكر ابن فرحون رأي ابن شاس: ((ولا تصح تولية مقلّد في موضوع يوجد فيه عالم، فإن تقلّد فهو جائر متعدَّ: لأنه قعد في مقعد غيره، ولبس خلعة سواه من غير استحقاق))([21]).

وهذا يعني استقلاله حتى عن آراء غيره من العلماء: حيث لا نجد لهذا النمط  من الاستقلال مثيلاً في أرقى أنظمة الحُكم

وكان هذا الشرط متوفراً في القضاة الذين تم نصبهم في العهود الإسلامية الأولى.

وقد ذكرنا في ما سبق قصة المحاكمة التي دارت حول درع طلحة التي أُخذت غلولاً يوم البصرة، فعندما طالب شُريح القاضي أمير المؤمنين  عليه السلام  بالشهود قدم إليه الإمام الحسن  عليه السلام ، فرفض شهادته لأنه شهادة شاهدٍ واحد، بينما قضى رسول الله  صلى الله عليه وآله  وأمير المؤمنين  عليه السلام  بشهادة شاهد واحد ويمين، وبعد أن رفض شهادة الحسن قدَّم له شهادة قنبر فرفضها شُريح أيضاً لكونه مملوكاً، بينما كان الإمام يرى قبول شهادة المملوك.

فإن كان رأي شريح نابعاً عن اجتهاد أو شيء آخر، فإنه قد خالف برأيه هذا رأي رئيسه الأعلى ومن بيدهِ زمام البلاد.

سادساً: الوازع الديني:

الوازع الديني هو الضمان ضد أي استغلال للسلطة، وهو الذي يجعل من كل عاملٍ في الدولة الإسلامية يأخذ بالمبدأ الإسلامي لا يُطاع الله من حيث يُعصى، والقاضي أكثر حاجةً إلى الوازع الديني لكي يضمن له الاستقامة، وعدم استغلال منصبه لأغراضه الشخصية، يقول متولي عبد الحميد: ((إنّ التاريخ والواقع، وخاصة في صدر الإسلام، يؤكد أن الوازع الديني كان خير ضمانة من ضمانات الحريات ضد نزعات إساءة استعمال السلطة الاستبدادية))([22]).

وقد تجلت الدعوة إلى تحكيم الوازع في نصائح أمير المؤمنين  عليه السلام  لقضاته، ففي كتابه إلى شُريح تظهر هذه الدعوة جلية حيث كتب له عندما سمع أنه اشترى داراً: ((يا شُريح أما إنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك ولا يسألك عن بَينتك حتى يُخرجك شاخصاً ويسلمك إلى قبرك خالصاً)).

ويبعث إلى مالك بهذه التعليمات في اختيار القاضي: ((لا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عَرَفهُ ولا تُشرف نفسهُ على طمع... و أوقفهم في الشبهات))، ثم يقول له: ((فانظر في ذلك نظراً بليغاً، فإن هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يُعمل فيه بالهوى ويُطلب به الدُنيا)).. ويقصد منه عمال الخليفة عثمان، الذين كانوا يفتقرون إلى الوازع الديني الذي يمنعهم من التلاعب بالدين ويحمي الأمة من شرورهم.

سابعاً: عدم عزل القاضي بموت الإمام:

بعض المفكّرين استمدَّ فكرة استقلال القضاء التي قال بها بعض الفقهاء: وهي: القاضي لا ينعزل بموت الإمام أو الخليفة، فكان لا بُدّ من مُناقشة هذا الدليل([23]):

  1. يختلف الفقهاء في هذا الرأي، فهناك فريقٌ يرى أنّ القاضي ينعزل بموت الإمام منهم المحقّق الحلّي، وصاحب الجواهر كما عرفنا في موضوع سابق.

وفريقٌ آخر يرى أنّه لا ينعزل: وهو رأي الأكثرية من فقهاء أهل السُّنة والأقلية من فقهاء الإمامية([24]): ولذا لا يمكن أن تبنى نظرية إسلامية على رأي مختلفٍ فيه.

  1. فالذين قالوا بعدم انعزال القاضي برّروا ذلك بالمصلحة العامّةّ: ((لأنّ في الانعزال من الضرر العامّ اللاّحق للخلق بخلوّ البلدان من الحكّام إلى أن يُحدّد الإمام اللاحق نوَّاباً فتعطّل المصالح))([25]).

فلم يكُن باعث الرأي الفقهي هو استقلال القضاء، بل المصلحة العامّة في الإبقاء على السلطة القضائية مع موت الإمام.

 فالقاضي لا ينعزل بموت الإمام لأنّ بانعزاله سيختلّ النظام. وسيتهدّد الأمن وستُسلب الطمأنينة من نفوس الناس.

  1. لا يُفهم من عدم انعزال القاضي بموت الإمام استقلال القضاء: لأنّ ذلك لا يعني استقلاله عن الإمام أو الإمامة: لأنّ رجوع ولاية القضاء إلى ولاية الإمامة مسألة ثابتة عند جميع الفقهاء.
  2. لعل الأخذ بالرأي الفقهيّ الذي يرى عدم جواز عزل القاضي من قبل الإمام بلا علّة أليق في استنباط فكرة استقلال القضاء من الرأي الفقهيّ الذي يرى عدم انعزاله بموت الإمام.

ضمانات استقلال القضاء:

يُطرح الموضوع من زاويتين:

الزاوية الأولى: الفصل بين السلطات الثلاث، وذلك بأن تكون لكلّ سلطة شأنها و وظائفها ولا يحقّ للسلطات الأُخرى التدخّل في شؤونها.

الزاوية الثانية: منع التداخُل بين الوظائف الثلاثة، ويقوم هذا المنع على أسس أخلاقية إيمانية، وهذا ما أقرّه الإسلام، فهو لا يُعبر أهميّة كبيرة لمبدأ فصل السلطات بالمعنى الأوّل: لأنّ هذا الفصل بذلك النحو لا يضمن عدم التدخّل، بل يدعو إلى منع أي تداخل في الوظائف، سواء كان القائم بها شخصاً واحداً أو عدّة أشخاص منفصلين، وضمان ذلك من ناحية القاضي:

أولاً: تحمّل القاضي المسؤولية الشرعية أمام الله تبارك وتعالى، وهذا ما يُفهم من الأحاديث والروايات، ومنها الحديث الذي أخرجه المفيد في ((المقنعة)). روي عن النبيّ  صلى الله عليه وآله  أنّه قال: ((من جُعل قاضياً فقد ذُبح بغير سكّين))، وروي – أيضاً – عن أمير المؤمنين  عليه السلام أنّه فال: ((القضاة أربعة: ثلاثة منهم في النار وواحدٌ في الجنّة)) فسُئِلَ  عليه السلام عن صفاتهم لتقع المعرفة بهم والتمييز بينهم، فقال: ((قاضٍ قضى بالباطل وهو يعلم أنّه باطل فهو في النار، وقاضٍ قضى بالباطل وهو لا يعلم أنّه باطل فهو أيضاً في النار وقاضٍ قضى بالحقّ وهو لا يعلم أنّه حقّ فهو في النار، وقاضٍ قضى بالحقّ وهو يعلم أنّه حقّ فهو في الجنة))([26]).

فالقاضي الذي يقضي بالباطل، وهو يعلم أنّه باطل هو الذي يستجيب لإغراءآت الآخرين ويخضع لضغوط السلطات الأخرى: أمّا طمعاً أو خوفاً. فالقاضي مسؤولٌ أمام الله، فإذا أخلّ بواجبه فإنه سيُعاقب عقاباً شديداً.

ثانياً: هو المسؤول عن تثبيت العدالة، يقول تعالى)وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ( (النساء /58) فالقاضي، ومن خلال أحكامه، يعمل على تحقيق العدالة في المجتمع، فإذا أخلّ بوظائفه فقد أخلّ بأصلٍ مهمّ من أصول الإسلام.

مصادر البحث

  1. ابن فرحون، برهان الدين المالكي: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام، دار المعرفة، بيروت.
  2. الجواهري، محمد حسن: جواهر الكلام في شرح شرائع الاسلام، مؤسسة المرتضى، بيروت، 1992.
  3. الحر العاملي: وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق عبد الرحيم الرباني، دار التراث العربي، بيروت.
  4. خلف الله، محمد أحمد: القرآن والدولة، مكتبة الأنجلو المصرية، 1993م.
  5. الطوسي، محمد بن الحسن: تهذيب الأحكام، دار الكتب الاسلامية، طهران.
  6. الطوسي، محمد بن الحسن: المبسوط، المكتبة المرتضوية، قم.
  7. عالية، سمير: علم القانون والفقه الاسلامي، المؤسسة الجامعية، بيروت.
  8. عبدة، محمد: شرح نهج البلاغة، دار الذخائر، قم، 1412هـ.
  9. الفكيكي، توفيق: الراعي والرعية، مؤسسة نهج اللاغة، ط3، طهران، 1981م.
  10. القاسمي، ظافر: نظام الحكم في الشريعة، السلطة القضائية، دار النفائس، ط3، بيروت، 1987م.
  11. قبلان، هاشم: الدستور واليمين الدستورية، منشورات عويدات، ط1، بيروت.
  12. الكليني، محمد بن يعقوب: الكافي – الروضة، المكتبة الإسلامية، قم.
  13. متولي عبد الحميد: مبادئ نظام الحكم في الإسلام، دار المعارف، مصر، 1966م.
  14. المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار الجامع لدرر الأخبار، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1983.
  15. المحقق الحلي، جعفر بن الحسن: شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام، انتشارات الاستقلال، طهران.
  16. المفيد، محمد بن النعمان: المقنعة في الأصول والفروع، سلسلة الينابيع الفقهية، طهران.
  17. المودودي، أبو الأعلى: نظرية الإسلام وهديه، ترجمة جليل حسن الاصلاحي، دار الفكر، بيروت، 1960م.

النوري: المستدرك لوسائل الشيعة، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، بيروت.

 

[1]- المودودي، نظرية الإسلام وهديه، ص61.

[2] - من الذين ذكروا ذلك المحامي سمير عاليه في كتابه علم القانون والفقه الإسلامي، ص313.

- [3] الفكيكي، الراعي والرعية، ص52

[4] - تبصرة الحكام، ص47.

[5] - الكليني، الكافي، 7/385، المجلسي و بحار الأنوار : 40/302 – 303.

[6] - الحر ألعاملي، الوسائل، الباب (1)، الحديث رقم (1)، آداب القضاء.

[7] - الكليني، الكافي : 7/413، التهذيب : 7/226، الحديث رقم (543).

[8] - الحر ألعاملي، الوسائل، الباب (1)، الحديث رقم (2)، آداب القضاء.

[9] - الدستور، ص107.

[10] - محمد عبدة، شرح نهج البلاغة : 3/554.

[11] - المستدرك : 17/359، رواية رقم (21581).

[12] - محمد عبدة، شرح نهج البلاغة : 3/105.

[13] - الراعي والرعية، ص54 – 55.

[14] - باب الرسائل : 53.

[15] - الراعي والرعية، ص54 – 55.

[16] - باب الرسائل : 53.

[17] - الراعي والرعية، ص 56 – 57.

[18] - شرائع الإسلام : 4/860.

[19] - جواهر الكلام في شرائع الإسلام : 14/10.

[20] - خلف الله، القرآن والدولة، ص15.

[21] - تبصرة الحكام : 1/26.

[22] - متولي، عبد الحميد، مبادئ نظام الحُكم في الإسلام، ص237.

[23] - منهم ظاهر القاسمي في كتابه نظام الحكم : السلطة القضائية، حيث أفرد فصلاً عن استقلال القاضي والقضاء، ص : 185، للمزيد مراجعة ذلك.

[24] - منهم شيخ الطائفة الطوسي في كتابه المبسوط.

[25] - الجواهر : 14/38.

-[26] المفيد : المقنعة، ص20