تصنیف البحث: علوم القرآن
من صفحة: 161
إلى صفحة: 178
النص الكامل للبحث: PDF icon 180417-144209.pdf
خلاصة البحث:

لا شك أنّ للتعبير القرآني أسراراً وجماليات ولمسات وصوراً فنية تدلّ على أنّ هذا القرآن كلام فني مقصود وُضع وضعاً دقيقاً ونُسج نسجاً محكماً فريداً.

 استهدف هذا البحث دراسة سورة « ص » مستخدماً المنهج الأسلوبي الذي يتمحور حول معطيات علم اللغة العام. ويتناول المستوى الصوتي والدور البياني والموسيقي للأصوات والكلمات في السورة، ويدرس المستوى الدلالي وسمات الألفاظ ودقة اختيارها في السورة وتتبع الظّواهر الأسلوبية البارزة في السورة والمعاني البلاغية الملازمة لها كالتكرار، والإستفهام، واهتمّ بالتصوير الفني المعتمد على التشبيه والاستعارة، والصور الواقعية.

ظهر من خلال هذه الدراسة أنّ هناك توازناً مقصوداً في إيقاع السورة كما أنّ التكرار هو من العناصر الهامّة في زيادة هذا الإيقاع الجميل للسورة، بالإضافة إلى تناسق هذه الأصوات، وأنّ ألفاظ السورة تميزت بالدقة في اختيار وقوّة التأثير في المتلقي وأنّ التناسق الفني قد برز بين الصور المختلفة ـ البلاغية منها والواقعية ـ بصورة واضحة.

الكلمات الدليلية: الأسلوبية، سورة (ص)، المستوى الصوتي، المستوى الدلالي، المستوى التركيبي، مستوى الصورة.

البحث:

المقدمة:

الحمدلله ربّ العالمين الذي علّم القرآن، خلق الإنسان، علّمه البيان، والصّلاة والسّلام على نبيّه الكريم وآله الطاهرين.

أما بعد فالدراسات الأسلوبية من الدراسات التي تحتل مكانة عالية في دراسات علم اللغة حالياً وتعد من المناهج التي اعتمدت على  الدراسات اللغوية أساساً في تحليل النصوص، وقد أثار ذلك عدة تساؤلات حول حقيقة الأسلوبية هل هي علم مستقل أم منهج؟، وهذا أمر يصعب تحديده، لأنّ نقاد العرب اختلفوا فيه، فمنهم من اعتبرها علماً عاماً كعلم اللغة، أو علم الكلام باعتبارها منضوية في علم اللسانيات أو فرع من فروع اللغة. (مصلوح، 1984م، ص217) بينما رفض بعضهم وصف الأسلوبية بالعلم. (أبوديب، 1984م، ص219)

والحديث عن علمية الأسلوبية أمر لم يحسم عند الدارسين لسبب واضح وهو أنّ الأسلوبية نشأت مرتبطة بالدراسات اللغوية، ثمّ استفاد منها النقاد في دراسة النصّ وتحليله، وبناء على  ذلك فإنّ الأسلوبية تجمع بين المنهج العلمي في دراسة اللغة، والمنهج النقدي في دراسة النصّ الأدبي أي أنها تجمع بين العلم والمنهج.

ولعلم الأسلوب اتجاهات مختلفة تستخدم فيها المستويات المتعددة للتحليل اللغوي منها: المستوى الصوتي، والمستوى الدلالي، والمستوى التركيبي، ومستوى الصورة. ولكلّ من هذه المستويات صفات تميزه عن الآخر وتساعد الناقد في كشف جماليات النصّ وتعين المتلقي في فهم أسرار النصّ.

فهذا البحث دراسة تطبيقية للمنهج الأسلوبي على  سورة «ص»، وهو يركز على  دراسة الظواهر الأسلوبية واللغوية، وبيان ما تؤديه من معانٍ بلاغية، ومقاصد أسلوبية في السورة وذلك على  المستويات الصوتية والدلالية والتركيبية والصورة، وبمنهج وصفي تحليلي لآيات السورة والبحث لم يكتف بالتناول الجزئي للنص، بل تعامل معه بوصفه قطعة متكاملة من اللغة والفكر والجمال، فلم تغفل البنية الكلية للسورة وما يتجلى في مضمونها من ترابط موضوعي وفني.

1ـ الأسلوبية ودلالتها:

تتمثل مشكلة الدراسات النقدية الحديثة في تناولها الظاهري للنصوص، واعتمادها الظواهر الشكلية في معالجتها، فالعملية النقدية للنص الأدبي لا تتوقف عند مرحلة شرح النص وتوضيح معناه العام والواقع أن تناول بهذه الطريقة يهبط بمستوى النصّ إلى درجة يفقد فيها جمالياته المميزة له، ووسائله التعبيرية الخاصة. ومن هنا تبرز أهمية علم الأسلوب الحديث (Stylistics) في تجاوزه دور النقد السطحي في التعامل مع النصوص وتحليلها، وقد تميزت الدراسات الأسلوبية الحديثة بتناولها الناضج للنصوص، وقدرتها على  الكشف عن مواطن الجمال فيها، مستفيدة من علم اللغة ودراساته العلمية التي تغذي الدراسات النقدية بحيث تتجاوز الجوانب الشكلية للنص والنقد الساذج الذي يقوم على  الشرح والتفسير، وهكذا فإنّ الدراسة الأسلوبية الحديثة تفيدنا كثيراً في فهم النصّ الأدبي و« استكشاف ما فيه من جوانب جمالية، وذلك بما تتيح للدارس من قدرة على  التعامل مع الاستخدامات اللغوية، ودلالاتها في العمل الأدبي، وبهذا التفاعل مع الخواص الأسلوبية المميزة المكتشفة بطريقة علمية سليمة، تتضح مميزات النصّ وخواصه الفنية ». (عودة، 1994م، ص100)

ومن هنا يأتي اختيارنا للمنهج الأسلوبي وسيلة نستطيع من خلالها النفاذ إلى عمق النص القرآني بما يحمله هذا المنهج من إمكانيات دراسية تحليلية عميقة، نستطيع من خلالها أن نرصد جماليات النص، معتمدين لغة القرآن الكريم وأدواته الفنية وسيلة للتحليل.

« وعلم الأسلوب هو الذي يطلق عليه في الإنجليزية (Stylistics) وفي الفرنسية (La Stylistique)، والباحث فيه هو (Stylistician)، وكلمة (Style) تعني طريقة الكلام، وهي مأخوذة من الكلمة اللاتينية (Stylas) بمعنى عود من الصلب كان يستخدم في الكتابة، ثم أخذت تطلق على  طريقة التعبير عند الكاتب ». (عبد المطلب، 1994م، ص185) وهكذا يمكننا القول إنّ الأسلوب هو طريقة الكاتب في تشكيل المادة اللغوية، وعلى  هذا الاعتبار يمكننا أن نعرّف الأسلوبية على  أنها منهج نقدي حديث، يتناول النصوص الأدبية بالدراسة، على  أساس تحليل الظواهر اللغوية والأسلوبية تكشف الظواهر الجمالية للنصوص، وتقيّم أسلوب مبدعها، محددةً المميزات الأسلوبية التي يتميز بها عن غيره من المبدعين. وهكذا تبدو أهمّ سمات المنهج الأسلوبي هي:« استكشاف العلاقات اللغوية القائمة في النص، والظواهر المميزة التي تشكل سمات خاصة فيه، ثمّ محاولة التعرّف على  العلاقات القائمة بينها وبين شخصية الكاتب، الذي يشكل مادته اللغوية وفق أحاسيسه ومشاعره التي تجعله يلحّ على  أساليب معينة، ويستخدم صيغاً لغوية تشكل في مجملها ظواهر أسلوبية لها دلالتها في النصّ الأدبي ». (عودة، 1994م، ص99)

اللغة هي الأساس الذي تقوم عليه الدراسات الأسلوبية، وهي الأداة الأولى التي ترتكز عليها الأسلوبية في تحليل النصوص الإبداعية والكشف عن مظاهر الجمال فيها. وعلى  الرغم من العلاقة الوثيقة التي تربط علمَ اللغة بالأسلوبية، إلّا أنّ الفرق بينهما كبير وملموس من حيث مادة الدراسة وهدفها، فعلم اللغة يتناول بالدراسة اللغة العادية المنطوقة والتي يستخدمها المجتمع في حياته اليومية الاعتيادية أداة للاتصال. أما علم الأسلوب فهو يتعدى اللغة المتداولة في المجتمع إلى الأنماط اللغوية الفردية المتميزة بما فيها من انحرافات لغوية لافتة ومتميزة على  المستوى الفردي.

إذاً فالأسلوبية « تتجاوز مجرّد نقل المعنى إلى عمق الاستعمال اللغوي المتمثل في وضع الكلمات في أنساق معينة، وكيفية انتظامها، وانتظام الجمل والمفردات، ورسم الصور، وانتظام ذلك كله مع المعنى، فالكلمة هي مادة التشكيل الفني لدى الأديب». (المصدر نفسه، ص113) ومن هنا تأتي أهمية توظيف اللغة في فهم النصّ الأدبي في الدراسات الأسلوبية، فهي الأداة التي يستخدمها المبدع في تشكيل مادته الفنية تشكيلاً يعكس أفكار الشاعر ومشاعره، فيضفي عليها بذلك ملامح جديدة وأبعاداً مختلفة. وعلى  هذا الأساس فسوف تكون أداتنا الأولى في دراستنا الأسلوبية هذه هي اللغة بمستوياتها المختلفة؛ الصوتية، والتركيبية، والصورة، لننفذ من خلالها إلى عمق النص القرآني، آخذين بعين الاعتبار مدى تميزه في صياغة تلك اللغة وتشكيلها وجماليات هذا التشكيل.

تهتمّ الأسلوبية بالجانب العاطفي للظاهرة اللغوية، إذ تسعى الأسلوبية إلى تتبع الكثافة الشعورية التي تميّز النص الأدبي، وهكذا فإنّ الأسلوبية تدرس « وقائع التعبير في اللغة المنظمة من ناحية محتواها العاطفي، أي التعبير عن وقائع الإحساس عبر اللغة، وفعل اللغة في الإحساس ». (عبد المطلب، 1994م، ص187)

2ـ اتجاهات علم الأسلوب:

ويتفرع علم الأسلوب إلى ثلاثة اتجاهات:

1ـ علم الأسلوب العام الذي يتم من خلاله دراسة القوانين التي تحكم على  النصّ الأسلوبي دون التركيز على  لغة معينة، وهو علم نظري على  الأغلب، وغير تطبيقي، وهو يوازي فقه اللغة.

2ـ اتجاه يدرس الخصائص الأسلوبية في لغة معينة، وهو يمثل الجانب التطبيقي لعلم الأسلوب، ويتناول التنوعات اللغوية، ولكن ليس على  أساس فردي لأنّه يبحث في طاقات التعبير في لغة معينة.

3ـ الاتجاه الثالث وهو الذي يدرس الظواهر الأسلوبية في إنتاج كاتب معين محاولاً رصد الظواهر الأسلوبية الملحة في عمله الأدبي، وأسباب تميز إنتاجه الأدبي عن غيره من الأدباء. (المصدر نفسه، ص137ـ 140)

والاتجاه الثالث هو الاتجاه الذي سنتبعه في دراستنا الأسلوبية هذه. وفي داخل هذه الاتجاهات يستخدم علم الأسلوب مستويات التحليل اللغوية وهي:

*  المستوى الصوتي:

وهو الذي يدرس الأنماط التي تخرج عن النمط العادي، والتي تؤثر بشكل لافت في الأسلوب. تناول البحث البناء الصوتي لكلمات السورة، والموسيقى النابعة من تردد الأصوات والألفاظ وانسجام هذه الموسيقى مع معاني السورة وتجسيدها لها والفاصلة وأثرها في إحداث الانسجام الموسيقي.

*  المستوى الدلالي:

ويعتبر المستوى الدلالي من أهمّ عناصر البحث والتحليل الأسلوبي ويأتي التركيز هنا على  الإلفاظ في المقام الأول لما لها من تأثير جوهري على  المعنى. ويتم التركيز على  الكلمات وتركيباتها وتجاور الألفاظ وهناك بحث عن سمات الألفاظ ومميّزاتها في السورة ودقة اختيارها.

* المستوى التركيبي:

الأسلوبية ترى في هذا المستوى عنصراً هاماً في مجال البحث الأسلوبي، إذ يعتبر هذا المستوى من أهم الملامح التي تميز أسلوب مبدع ما عن غيره من المبدعين، ويتوجه علم الأسلوب على  المستوى التركيبي إلى بحث العناصر التالية: دراسة طول الجملة وقصرها، والاهتمام بالظواهر الأسلوبية ودلالتها البلاغية في السورة ومن هذه الظواهر: تكرار الألفاظ والعبارات، وظاهرتا الإفراد والجمع، والتعريف والتنكير و...

 * مستوى الصورة:

وهو يدرس تشكيل الصورة في هذه السورة من حيث العناصر المكونة لها ومدى تكرارها. وهو يدرس كذلك الصور الفنية البلاغية المعتمدة على  التشبيه والاستعارة و.. التناسق الفني بين صور السورة المختلفة.(عبد المطلب،1994م، ص189ـ192)

3ـ تطبيق المستويات الأسلوبية على  سورة « ص »:

وفي هذا المجال درس البحث تطبيق المستويات الأسلوبية التي ذكرت على  سورة « ص » مبتدئاً بالمستوى الصوتي، عابراً بالمستوى الدلالي والتركيبي ومنهياً بمستوى الصورة.

 1ـ3ـ المستوى الصوتي في سورة (ص):

لا يخامرنا شك أنّ الدراسة الصوتية تقع في صميم دراسة النصوص الأدبية، لأنّ التحليل الأسلوبي لهذه النصوص يساعد كثيراً في فهم طبيعتها، وفي الكشف عن الجوانب الجمالية فيها، بالإضافة إلى ما فيه من كشف الانفعالات النفسية والعواطف التي تحكم مبدعها، والتي تدفعه إلى اختيار أصوات وإيقاعات بعينها و« ليس يخفى أنّ مادّة الصوت هي مظهر الانفعال النفسي، وأنّ هذا الانفعال بطبيعته إنّما هو سبب في تنويع الصوت، بما يخرجه فيه مدّاً أو غنّة أو ليناً أو شدة ». (الرافعي، 1997م، ص 169) وليس يخفى ارتباط مستويات اللغة المختلفة ببعضها، وتعتبر دراسة المستوى الصوتي الخطوة الأولى لدراسة المستويات الأخرى، فعلى  سبيل المثال، لا يمكن دراسة الصرف دراسة صحيحة إلا بالاعتماد على  الوصف الصوتي. (هلال، 1996م، ص 15)

ولا ينكر عاقل أثر الموسيقى والنغم في شدّ المتلقي وجعله أكثر انتباهاً وأشدّ إصغاءً، بل إنّ موسيقى الشعر هي أجمل ما فيه من عناصر وللشعر نواح عدّة للجمال، أسرعها إلى نفوسنا ما فيه من جرس الألفاظ، وانسجام في توالي المقاطع وتردد بعضها بعد قدر معين منها، وكلّ هذا هو ما نسميه بموسيقى الشعر. (أنيس، 1972م، ص13)

أمّا بالنسبة إلى القرآن الكريم فلن نجد نصوصاً توافرت فيها الاتفاقات ـ بين جميع مستويات اللغة ـ كنصوص القرآن الكريم، وسوره وآياته، حيث تركت طريقة القرآن في التعبير تأثيرها على  المتلقين وأثارت انتباههم، « حتى لم يكن لمن يسمعه بدّ من الاسترسال إليه والتوفر على  الإصغاء.. فإنه إنما يسمع ضرباً خالصاً من الموسيقى اللغوية في انسجامه، واطراد نسقه واتزانه على  أجزاء النفس، مقطعاً مقطعاً، ونبرة نبرة كأنها توقّعه توقيعاً ولا تتلوه تلاوة ». (الرافعي، 1997م، ص167) ويبدو الإيقاع الموسيقي واضحاً في القرآن الكريم، ولكنّ لهذا الإيقاع طريقته الخاصة التي تختلف عن الشعر المقيّد بالأوزان والقوافي، فهو خاص بالقرآن وحده، إذ هو « إيقاع في نطاق التوازن، لا إيقاع في نطاق الوزن، فالوزن في العربية للشعر، والتوازن في الإيقاع للنثر، والذي في القرآن إيقاع متوازن لا موزون ». (حسان، 1993م، ص 269) ويؤدي هذا الإيقاع دوراً فاعلاً في تكثيف المعنى، وزيادة طاقاته التعبيرية، من خلال انسجامه مع أجواء النصوص ومعانيها، حيث يعبّر القرآن عن المعنى بالألفاظ، ويختار من هذه الألفاظ ما كانت أصواتها متناغمة مع معانيها، ومجسّدة لها، وهكذا يكون « النسق القرآني قد جمع بين مزايا النثر والشعر جميعاً. فقد أعفي التعبير من قيود القافية الموحدة والتفعيلات التامة؛ فنال بذلك حرية التعبير الكاملة عن جميع أغراضه العامة. وأخذ في الوقت ذاته من الشعر الموسيقى الداخلية، والفواصل المتقاربة في الوزن ». (قطب، 1983م، ص 102)

وقد برز الإيقاع في أكثر آيات القرآن الكريم، والإيقاع هو « عبارة عن تردد ظاهرة صوتية ما على  مسافات زمنية محدّدة النسب » (عياد، 1978م، ص 60)، ولا يحتاج الباحث إلى عناء كبير ليثبت أن اتزان الإيقاع في الآيات والفواصل شيء يقصد إليه القرآن قصداً، دون أن يكون ذلك بالطبع على  حساب المعنى المطروح.

وقد كثرت الشواهد على  ذلك بحيث يصعب حصرها في القرآن الكريم، ومن هذه الشواهد في السورة، أننا نرى كيف تختل الموسيقى الكامنة في تركيب بضع الآيات أو الجمل لو قمنا بإحداث تغيير في كلماتها، استبدالاً، أو تقديماً وتأخيراً، فلو أردنا تقديم كلمة (الذكر) في قوله تعإلى: ﴿ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا﴾ [ ص38 / 8] وقرأناها: (أءنزل الذكر عليه من بيننا)، لاختفى هذا الإيقاع المتوازن الجميل.

ومثل هذا الإجراء الاستبدالي يعدّ منهجاً علمياً يفيد منه الباحث في إدراك أسرار التركيب وجمالياته وغاياته، ويسمح ـ في الدراسات الأدبية ـ بفهم الاختيار الأسلوبي للمبدع، والأنماط اللغوية التي كان بوسع المؤلف أن يختار منها في عملية الإنتاج. لكي نبحث هذا، يمكن أن نقوم بإجراء استبدالي، إذ ننطلق من وحدة لغوية معينة في النص، لنضع بدائلها المحتملة في النظام اللغوي. (فضل،1992م، ص 233)

ولا يكفي النظر إلى آيات القرآن مكتوبة حتى نتذوق أصواتها، بل لا بدّ من تلاوتها والتلفظ بها، حتى نقف على  روعة بنائها الصوتي والموسيقي. ولا تقتصر أهمية السماع على  القرآن الكريم فحسب، فإنّ الشعر ـ على  سبيل المثال ـ يفقد من جماله الشيء الكثير إذا لم يتمّ إنشاده بنغمة موسيقية تناسبه، وبشكل عام « إنّ اللغة المحكية هي التي تمثّل فقط انعكاسات الأصوات ». (طحان،1981م، ص64) وفي الكلام المسموع ما ليس في المكتوب من إظهار للتعبيرات المصاحبة للكلام ولهذا كانت دراسة الكلام المنطوق المسموع مقدمة لا بدّ منها لدراسة الأنظمة (القواعد) اللغوية أو بعبارة أخرى لدراسة اللغة نفسها. (حسان، 1979م، ص47)

1ـ1ـ3ـ البناء الصوتي للكلمات:

يمكن التعرف على  البناء الصوتي للكلمات، من خلال تبيّن نوعية المقاطع الصوتية المكونة لها، ويعدّ المقطع مرحلة وسيطة ما بين الصوت المفرد، والكلمة المركبة من عدة أصوات فهو « مزيج من صامت وحركة، يتفق مع طريقة اللغة في تأليف بنيتها، ويعتمد على  الإيقاع التنفسي، فكلّ ضغطة من الحجاب الحاجز على  هواء الرئتين يمكن أن تنتج إيقاعاً يعبّر عنه مقطع مؤلف في أقلّ الأحوال من صامت وحركة (ص+ ح). (شاهين، 1980م، ص38)

وللمقطع أهمية كبيرة في الكلام؛ لأنّ المتكلمين لا يستطيعون نطق أصوات الفونيمات كاملة، أو هم لا يفعلون ذلك إن استطاعوا، وإنما ينطقون الأصوات في شكل تجمعات هي المقاطع(عمر، 1976م، ص238).وإذا رمزنا للصامت بالرمز (ص)، وللصائت أو الحركة بالرمز (ح)، فيمكن عرض الأشكال الرئيسية للمقاطع العربية كما يأتي:

1ـ المقطع القصير (ص ح)، ويتألف من صامت وحركة قصيرة.

2ـ المقطع المتوسط المفتوح (ص ح ح)، ويتألف من صامت وحركة طويلة.

3ـ المقطع المتوسط المغلق (ص ح ص)، ويتألف من صامت ثمّ حركة قصيرة يتلوها صامت.

4ـ المقطع الطويل المغلق (ص ح ح ص)، ويتألف من صامت، حركة طويلة يتلوها صامت.

5ـ المقطع الطويل المزدوج الإغلاق (ص ح ص ص)، ويتألف من صامت ثم حركة ثم حركة قصيرة يتلوها صامتان. (شاهين،1980م، ص38ـ40)

وقد عملنا على  تحليل المقاطع الصوتية التي تتكون منها كلمات السورة، واخترنا نماذج من الآيات، من مواقع متفرقة، وبدأنا كلّ آية برقمها في السورة ثم قمنا ببيان نوعية المقاطع الصوتية وعددها في كلّ آية:

1) صاد        والـ          قُر         ءا      ن      ذِذ        ذِك        رِ

ص ح ص /  ص ح ص / ص ح ص/ح ح/ص ح/ص ح ص/ص ح ص/ ص ح.

2) بـَ    لِل  لَ      ذيـ    نَ     كـ َ     فـ َ     روا    في    عز  زَ تن  و ش   قا   قن

ص ح/ ص ح ص/ ص ح /ص ح ص/ص ح/ ص ح/ ص ح/ص ح ص/ ص ح ص/ص ح ص/ص ح/ ص ح ص/ ص ح/ ص ح/ ص ح ص/ ص ح ص.

3) كم    أهـ     لَكـ   نا     من   قبـ   لـ ِ     هم    من   قر    نن    فـ   نا   دوا   و    لا   ت   حي  ن   م    نا   صن

ص ح ص/ ص ح ص/ ص ح ص/ ص ح ص/ ص ح ص/ ص ح ص/ ص ح/ ص ح ص/ ص ح ص/ ص ح ص/ ص ح ص/ ص ح/ ص ح ح/ ص ح ص/ ص ح/ ص ح ح/ ص ح/ ص ح ص/ ص ح/ ص ح/ ص ح ح/ ص ح ص

بلغ عدد المقاطع القصيرة في هذه الآيات (17)، والمتوسطة (28)، وزاد فيها عدد المقاطع المتوسطة على  القصيرة وقد كان لهذه الزيادة أثرها في بيان الزمن الطويل قبلهم وهلاك الأقوام قبلهم  و..

نذكر نموذجاًً آخراً:

77) قا    ل      فاخـ       رج     منـ       ها    فـ    إنـ     نـ    ك     ر جيم

ص ح ص/ ص ح/ ص ح ص/ ص ح ص/ ص ح ص/ ص ح ص/ ص ح/ ص ح ص/ ص ح/ ص ح/ ص ح/ ص ح ح/ ص ح ص.

78) و إنـ   ن    ع    ليـ  ك    لعـ   نـ    تي    إ   لى     يو     مد        دين

ص ح/ ص ح ص/ ص ح/ ص ح/ ص ح ص/ ص ح/ ص ح ص/ ص ح/ ص ح ح/ ص ح/ ص ح ح/ ص ح ص/ ص ح ص/ ص ح ح ص.

79) قا    ل      رب      ب      فـ      أنـ      ظر        ني     إ     لى    يو     م    يبـ     عـ   ثو  ن

ص ح ص/ ص ح/ ص ح ص/ ص ح/ ص ح/ ص ح ص/ ص ح ص/ص ح ح/ ص ح/ ص ح ح/ ص ح ص/ ص ح/ ص ح ص/ ص ح/ ص ح ص/ ص ح.

80) قا    ل     فـ   إنـ     نـ   ك        م     ن ال      منـ     ظ    ريـ      ن

ص ح ص/ ص ح/ ص ح/ ص ح ص/ ص ح/ ص ح/ ص ح/ ص ح ص/ ص ح ص/ ص ح/ ص ح ح/ ص ح.

في هذه الآيات الكريمة عدد المقاطع القصيرة (25) وعدد المقاطع المتوسطة ـ المغلقة والمفتوحة معاً ـ (30) والنسبة بينهما تقلل بالنسبة إلى الآيات المذكورة سابقاً، لعلّ كثرة المقاطع القصيرة في هذه الآيات تقصد زيادة حدّة الانتباه، وإثارة الأسماع وأيضاً الإشارة إلى طرد الشيطان من الجنّة.

يبدو أنّ لكلّ آية نظاماً مقطعياً خاصاً، فلا يكون هذا النظام مطرداً في كلّ الآيات، إلّا أنه يأتي في معظمها متفقاً مع معانيها، ومنسجماً مع أجوائها.

2ـ1ـ3ـ الموسيقى النابعة من تردد الأصوات:

يسهم التكرار في السورة ـ سواء أكان تكراراً للحرف أو الكلمة ـ في تشكيل الأنغام الحسنة، ويزيد من الإيقاع الجميل والمتميز في آياتها، ويكسبها انسجاماً موسيقياً، و« الانسجام هو أن يكون الكلام لخلوه من الانعقاد متحدراً كتحدّر الماء المنسجم، ويكاد لسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه أن يسيل رقة، والقرآن كله كذلك ». (السيوطي، د.ت، ص 260)

هذا بالإضافة إلى المعاني التي يؤديها الإيقاع من خلال تناسقه مع جوّ الآيات ودلالتها، وقد اعتبر الرافعي ذلك التناسب الطبيعي بين الأصوات في القرآن الكريم لوناً من إعجازه، سمّاه إعجاز النظم الموسيقي في القرآن وذلك « لترتيب حروفه باعتبار من أصواتها ومخارجها، ومناسبة بعض ذلك لبعضه مناسبة طبيعية في الهمس والجهر، والشدة والرخاوة، والتفخيم والترقيق، والتفشي والتكرير وغير ذلك ». (الرافعي،1997م، ص 169)

وعلى  الرغم من وضوح ظاهرة الإيقاع الموسيقي في القرآن فإنّها لم تحظ بالعناية المعمقة من القدماء، فـ « حديثهم عنها لم يتجاوز ذلك الإيقاع الظاهري؛ ولم يرتق إلى إدراك التعدّد في الأساليب الموسيقية، وتناسق ذلك كله مع الجوّ الذي تطلق فيه هذه الموسيقي». (قطب، 1983م، ص87)

قد عملنا على  تتبع تكرار بعض الأصوات والحروف في السورة، محاولاً الكشف عن العلاقة التي تربط بين هذه الأصوات وبين الجوّ الذي وردت فيه، وقد تناولنا مجموعة متشابهة من الأصوات، وتحدثنا عن ميزاتها وخصائصها، وعن المعاني التي جسّدتها، وعن انسجامها مع أجواء الآيات وسياقاتها، كما يأتي:

قد منحت أصوات المدّ الكثير من الوضوح والإبانة للكلام الذي يأمر الله نبيه أن يقوله ويؤكد على  أنه منذر لا يسأل الناس أجراً وهذه أظهر الأصوات وضوحاً في اللغة العربية.كقوله تعإلى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [ ص38/ 65] وقُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص38/ 86]

وتأتي أصوات المدّ في مواقف المفاصلة بين المؤمنين والكافرين، مثل قوله تعإلى: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ ص38/ 28]فجاء صوت الكسرة الطويلة في: (الذين، المفسدين، المتقين) وصوت الفتحة الطويلة في: (ءامنوا، الصلحات، كالفجار) وصوت الضمة الطويلة في: (عملوا).

والجدير بالذكر أنّ أصوات المدّ تمنح فرصة التشكي والتأوه للإنسان الحزين، الذي يتألم لحاله،كحال الذين وقعوا في عذاب الله تعإلى ورأوا أن لا مفرّ لهم منه ولا ملجأ لهم حاولوا أن يبرئوا أنفسهم وقالوا: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ﴾[ ص38/ 61] وقد تؤدي أصوات الحركات غرض المبالغة والتعظيم، من خلال ما تتميز به من مدّ، وأكثر ما يبرز غرض التعظيم في الآيات التي يكون ضمير المتكلم فيها عائداً على  الله سبحانه حيث يكون دور أصوات الحركات هو الإسهام في تجسيد عظمة الخالق، وإظهار قدرته التي لا تحدّ كما في الآية: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ﴾ [ ص38/26] وزاد في الآية من درجة التعظيم مجيء ضمير الجماعة للمتكلم الذي يعود على  الله، حيث يزداد الكلام عظمة بسبب صوت نون الجماعة المقترنة بصوت الفتحة الطويلة في كلمة (إنّا). ومثل هذا الإحساس بعظمة المتكلم نراه في قوله تعإلى: [ص/36و37و38]، فقد منحته أصوات المدّ هيبة ووقاراً، وزادته عظمة وجلالاً، وبالإمكان تأمّل ذلك في الكلمات التي اشتملت على  حركة الفتحة الطويلة: (سخرنا، رخاء، أصاب، الشيطين، بناء، غواص، ءاخرين، الأصفاد)، بالإضافة إلى التكلم بصيغة الجمع في (سخرنا) الدالة على  التعظيم. ويبرز جوّ التعظيم في قوله تعإلى: ﴿ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ﴾ [ ص38/ 46] من خلال أصوات حركات الفتحة الطويلة الخمسة.

يؤدي صوت المدّ أحياناً دوراً يجسّد استبعاد حصول شيء ما، وعدم إمكانية حدوثه أو يظهر التعجب من حصوله، وذلك ما نجده في استفهام الكافرين في قولهم: ﴿ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾[ ص38/ 5]، فهم يتعجبون من جعل الآلهة إلهاً واحداً والعبارة الأخيرة في الآية أيضاً يشير إلى هذا التعجب. وهذا المعنب قد جسّدته أصوات المدّ وكأنّ في كلّ مدّ مزيداً من التعجب. وقد يظهر جوّ السكينة والهدوء بأصوات المدّ كما تجلى هذا الجوّ في هذه الآيات: ﴿ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ  مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ﴾[ ص38/50ـ 52] وهذه بيان عن أهل الجنة وعن النعيم الذي يقيمون فيه فقد جاء التعبير في غاية الهدوء والسكينة.

وهناك صوت النون الذي ذكرها القدماء مع الميم واللام والراء في الأصوات الذلقية. وهذا الصوت يأتي ذو الوضوح السمعي المميز في الآيات ليزيدها وضوحاً ورنيناً، فعلى  مستوى الإيقاع لا شك أنّه يمّل رنّة، تحدث قوة إسماع، حاملة تردداً زمنياً طويلاً (كشك، 1983م، ص13) بالإضافة إلى صوت الغنّة الموسيقي في هذا الحرف وليست الغنة إلا إطالة صوت النون مع تردد موسيقى محبب فيها. ولنتأمل كيف تجلت هذه الخصائص الموسيقية لصوت النون في قوله تعإلى: ﴿ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ ص38/44] وقوله سبحانه: وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ﴾[ ص38/ 47] فقد نشأ عن تردد هذا الصوت نوع من الموسيقى ترتاح إليه الأذن وتميل إليه. ونلحظ وضوحاً صوتياً شديداً ورنيناً مدوياً في أكثر الآيات التي يشيع فيها صوت النون، وذلك يضاعف من قوّة إسماع الكلمات، ويجعل للآية إيقاعاً حاسماً جلياً يتواءم مع جلاء معناها، كما في قوله تعإلى: ﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ  قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ﴾  [ ص38/ 79ـ80]، ونجد لصوت الغنّة إيقاعاً حانياً يتواءم مع الحنّو من لدن الله الممنوح لإبليس الذي أراد منه الإنظار إلى يوم القيامة مع أنه خالف الله تعإلى في سجدة لآدم(ع).

ويبرز صوت النون في مقام التهديد، وفي سياق الوعيد، فيزيد من حدّتهما ويضاعف من وقعهما على  النفوس ويساهم مع أصوات أخرى في التعبير عن الغضب المجلجل، كما في قوله تعإلى: ﴿ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ ص38/ 85]، فقد كان لصوت النون رنين ووقع يصمّان الآذا من شدتهما، ويزلزلان النفوس، حيث يقسم الخالق أنه يملأ جهنمه من إبليس ومن اتبعه. وكذلك الأمر في الآية الأخيرة في السورة: ﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ [ ص38/88]

وفي الصوت تجدر بنا الإشارة إلى الأصوات المفخمة؛ يعرف التفخيم بأنّه « ارتفاع مؤخر اللسان ؤلى أعلى  قليلاً في اتجاه الطبق اللين، وتحركه إلى الخلف قليلاً في اتجاه الحائط الخلفي للحلق » (عمر، 1976م، ص283)، وتتمثل المجموعة الصوتية المفخمة في نوعين، الأول: الأصوات المطبقة وتشمل أصوات: (الضاد، الصاد، الطاء، الظاء)، وهي أصوات كاملة التفخيم، فيها مع استعلائها إطباق. والثاني: الأصوات ذات التفخيم الجزئي، وهي أصوات لا إطباق فيها مع استعلائها، وتشمل أصوات: (الخاء، الغين، القاف).

تسهم الأصوات المفخمة بإيقاعاتها القوية في تجسيد ضخامة الحدث في يوم القيامة في قوله تعإلى: ﴿  وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلاَءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ﴾ [ص38/ 15] وكان لصوت (الصاد) و(القاف) إيقاع على  هيبة ذاك اليوم.

ولنتأمل هذه الآية الكريمة: ﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ [ص38/24] كان لصوت (الخاء) المفخم ومعه الراء إيقاع دال على  هيبة هذا الخرّ وعظمته، ولنتخيل هذا الصوت الناتج عن ذلك الخرّ وكيف يعبّر عنه ويناسبه الإيقاع المفخم في الراء والخاء المستعلية.

وحين ترافق أصوات التفخيم الأحداث الضخمة فهي تصور بإيقاعاتها الضخمة ضخامتها وعظمتها حتى لكأنها تنقل صوت هذه الأصوات كما تنقل الألفاظ معانيها كما في الآية الكريمة: ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ ص38/27] فقد عبر سبحانه عن بطلان ظنّ الكافرين عن خلق الله السماء والأرض باطلاً ولما كان هذا الظنّ الباطل بهذه الضخامة فقد رافقت التعبير عنه أصوات التفخيم والاستعلاء في (خلقنا، الأرض، بطلاً، ظنّ).

2ـ3ـ المستوى الدلالي:

تبدو علاقة واضحة بين جانبي الدلالة والصوت، فهما يتكاملان معاً ويتطابقان في السورة، فبعض الدلالات كانت تستدعي نوعاً معيناً من الأصوات، كما أنّ بعض الأصوات كانت تعبّر عن نوع معيّن من الدلالات، « على  أنّ هناك نوعين من النسيج في العمل الأدبي: أحدهما هو النسيج الصوتي والآخر هو النسيج الدلالي. وهما لا يحتاجان عادة إلى التطابق سوى في الأدب ». (فضل،1992م، ص93) وتعتبر الكلمات أو الألفاظ من الأهمية بمكان في دراسة النصوص، لأنّها تمثّل الوحدات الصغرى التي يتشكل منها النص، وإن دراستها ودراسة دلالتها وخصائص استعمالها تقودنا إلى الخروج بتصور واضح عن البنية الكلية، أي عن الوحدة الكبرى التي هي (النص) أو السورة، فلا يستغنى إذن عن دراسة الألفاظ في محاولة فهم النصّ، « وليس ثمة ما يثير الدهشة أو الغرابة في هذه المكانة التي تنفرد بها الكلمات، فهي أصغر نواقل المعنى أو أصغر الوحدات ذات المعنى في الكلام المتصل ». (أولمان، د.ت، ص19) وللألفاظ في القرآن الكريم مكانة خاصة، إذ هي تنفرد عن غيرها بدقة متناهية وهي تنسجم تمام الانسجام مع السياق الذي ترد فيه، بحيث لو حاولت أن تستبدل بكلمة ما كلمة أخرى، لاختلّ المعنى وانتقص التعبير لذا فإنّ ألفاظ القرآن الكريم تقع « في ضمن الأسلوب البياني الرائع، ونعتقد مؤمنين أنّ كلّ لفظ في القرآ« له معنى قائم بذاته وفيه إشعاع نوراني يتضافر مع جملته ». (أبوزهرة، 1970م، ص104)

ولا شك أنّ للسياق الذي ترد الألفاظ فيه دور هام في البحث في مستوى الدلالة، إذ لا يصح الاعتماد على  مجرد النظرة الفردية في كلّ كلمة دون معرفة مواقعها في السورة؛ لأنّ اللفظة في حدّ ذاتها لا قيمة لها، وإنما هي تستمدّ قيمتها من السياق الذي ترد فيه. وهذا ما تنبه إليه علماؤنا القدامى، يقول عبد الاهر: « وها تجد أحداً يقول هذه اللفظة فصيحة، إلا وهو يعتبر مكانها من النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها وفضل مؤانستها لأخواتها؟ ». (الجرجاني، 1988م، ص36)

يحار المتأمل في معاني هذه السورة من هذه الدقة التي تميز ألفاظها، بحيث تؤدي المعنى بطريقة فريدة، وكأنّ هذه الألفاظ ما خلقت إلا لهذه المعاني ومن سمات ألفاظ سورة (ص) ومميزاتها هي: الدقة في الاختيار، إذ تعتبر سمة بارزة وعامة نتذوقها في كلّ ألفاظ القرآن الكريم، فإنك تجد أنّ اللفظ قد وقع في مكانه المناسب، وعبّر عن المعنى المطلوب تعبيراً دقيقاً ومن مظاهر هذه الميزة في السورة هي أنّه لا يمكن استبدال لفظ بغيره دون أن يختلّ المعنى، لأنك لو حاولت أن تستبدل بلفظ القرآن لفظاً آخر من عندك لن تجده يعبّر عن المعنى بالدقة نفسها التي يعبّر عنها لفظ القرآن ولن تعثر فيه على  تلك الإحاطة بالمعنى من جميع الجهات وكافّة الجوانب، ولنأخذ لفظ (سخرياً) في قوله تعإلى: ﴿ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ ﴾ [ص38/63]

لا شك أن (السخري) أقوى من (السخر) والخصوصية أقوى من الخصوص ونذكر هنا أن النسب يحدث في الاسم تغييرات:

1- زيادة ياء النسب في آخره وهذه الياء المشددة حرف بمنزلة تاء التأنيث لا موضع لها من الإعراب.

2- كسر ما قبلها.

3- جعل الياء منتهى الاسم.

وإنما تطرق التغيير في اللفظ لتغيير المعنى، ألا ترى أنك إذا نسبت الى علم استحال نكرة بحيث تدخله أداة التعريف كالتثنية والجمع وصار صفة بمنزلة المشتق بعد الجود ويرفع الاسم بعده على الفاعلية أما مظهرا أو مضمرًا تقول مررت برجل تميمي أبوه وآخر هاشمي جده، وإذا نسبت الى المصدر زدته قوة كما في قولك سخريا. (الدرويش، 1999م، ج 8، ص 380)

ومن عجيب نظم القرآن ودقة اختياره، أنّه يختار من صيغ الجمع المختلفة، تلك الصيغة التي تنسجم مع السياق وتتفّق مع المعنى. ومثال ذلك في السورة كلمة (العباد) التي وردت في الآية: ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ﴾ [ص38/ 45]، ونلحظ أنّ القرآن استخدم صيغة الجمع (العباد) في هذا المقام ولم يستخدم صيغة (العبيد). وقد ورد لفظ (العباد) في القرآن الكريم نحواً من سبع وتسعين مرّة (الأصفهاني،1997م، مادة (عبد))، وهو في معظمها صريح في دلالته على  الطاعة وإخلاص العبودية لله، أمّا لفظ (العبيد) فقد جاء في القرآن خمس مرّات فقط، في سياق نفي صفة الظلم عن الله حين يحكم بإدخال الكافرين إلى النار، وذلك في الآيات كـ: ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾[ ق50/29]

ومن الفروق بين الجمعين، ما ذكره ابن جنّي أنّ: « أكثر اللغة أن تستعمل (العبيد) للناس، و(العباد) لله » (ابن جني، 1969م، ص89)، أي نقول: عبيد الناس، وعباد الله، والتفت باحثون إلى العلاقة بين التركيب الصوتي لكلا الجمعين، وبين معنى كلّ منهما، من حيث اختيار اللفظ المنسجم بأصواته للمعنى المرموز إليه، فجاءت لأجله كلمة (عباد) في القرآن وصفاً للمسلمين العابدين لله، بينما جاءت (العبيد) وصفاً للكافرين. وبرّروا ذلك أنّ الانتقال في (عباد) من الكسرة إلى الفتحة ثمّ الاستطالة بالألف ـ الموحية بالعزّة والرفعة والمنتصبة القامة ـ يشير إلى هذه العزّة والرفعة التي نلحظها في حياة العباد المؤمنين المطيعين لله، بينما الانتقال في (عبيد) من الفتحة إلى الكسرة فالاستطالة بالياء ـ التي جاءت وسط الكلمة منبطحة ملقاة بذلة ـ يوحي بانكسار النفس، واستغراقها في الذّلّ، ومهانتها باستعباد الناس لها. (الخالدي، 1992م، ص58)

   وفي قوله تعإلى (يسبحن) [ص38/18] عدول عن الاسم الى الفعل، والنكتة فيه الدلالة على التجدد والحدوث شيئا بعد شي ء وحالا بعد حال وكأن السامع حاضر تلك الحال يسمع تسبيحها. (الدرويش، 1999م، ج 8، ص 343)

ولاستعمال التضاد في السورة دلالات مختلفة منها أنّ التضاد يفيد معنى العموم في الآية ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ﴾ [ص38/ 27] بين (السماء) و(الأرض) أي هو ربّ كلّ شيء وخالقه.

 قد يدلّ التضاد على  الدوام والاستمرارية وعدم الانقطاع كما في التضاد بين (العشيّ) و(الإشراق) في قوله تعإلى: ﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الإِشْرَاقِ﴾ [ص38/18] أي يذكرن الله باستمرار وتواصل في الصباح والمساء.

وقد يرد التضاد فيحدث مقارنة بين نقيضين، ليزيد من الترغيب في أحدهما، والتنفير من الآخر، وذلك من خلال استحضارهما معاً، ولنتأمّل التضاد بين (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) و(المفسدين) وبين (المتقين) و(الفجّار) في قوله تعإلى: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص38/ 28]

3ـ3ـ المستوى التركيبي:

وهنا نهتمّ بأهم الظواهر الأسلوبية في سورة (ص) ومنها:

1ـ 3ـ3ـ التكرار:

يوجد نوعان من التكرار في القرآن الكريم، هما تكرار القصص والأخبار وتكرار الألفاظ والعبارات. ونجد النوع الأول في هذه السورة، إذ توجد قصص مختلفة في هذه السورة عن أنبياء وقد وردت بعض هذه القصص في السور الأخرى كقصة سليمان (ع) الذي وردت في سورة النمل أيضاً. أو قصة خلق آدم (ع) وامتناع إبليس في سجدته له إذ وردت في سورة البقرة أيضاً. ومن أسرار تكرار القصص: أنّ إعادة القصة الواحدة بعبارات أخرى، وبأسلوب مغاير، يُظهر بلاغة القرآن وتصرفه في فنون القول فـ « إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدي معنى واحداً من الأمر الصعب الذي تظهر به الفصاحة وتبين به البلاغة ». (الباقلاني، د.ت، ص61) وحين يكرر القرآن في قصصه، ثمّ يبقى ـ بعد ذلك ـ محافظاً على  بلاغته فإنّ في ذلك تحدّياً كبيراً للمعاندين أن يأتوا بمثل ما جاء به، فـ « عجيب نظمه، وبديع تأليفه لا يتنفاوت ولا يتباين، على  ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها ». (المصدر نفسه، ص36)

وأما النوع الثاني من التكرار ـ المتمثل في تكرار الآلفاظ والعبارات ـ فنجده في سورة (ص) والمقصود به: إعادة الكلمة نفسها، أو العبارة ذاتها، في السياق نفسه، أو في سياق آخر من السورة وبمعنى آخر فهو « دلالة اللفظ على  المعنى مردداً، كقولك لمن تستدعيه: أسرع، أسرع فإنّ المعنى مردد واللفظ واحد ». (ابن الأثير، 1998م، ج2، ص110)

من نماذج التكرار قوله تعإلى: ﴿ مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ ﴾ [ ص38/ 51] حيث جرى تكرار الجار والمجرور (فيها) الذي يعوذ الضمير فيه على  الجنات للإشارة إلى مكانة هذه الجنات وأهميتها وللتنبيه على  أنّ المتقين خالدين في هذه الجنات وفيها تعدّ لهم كلّ الفواكه وأدات الراحة والرفاه.

وعندما نتتبع الألفاظ والعبارات التي تكررت في مواضع متفرقة من السورة، نلاحظ أنّ بعض الألفاظ في السورة تكررت وكان لتكرارها أثر في رسم المعالم البارزة للسورة وتحديد مضامينها، فقد أشاعت ألفاظ مثل: (الوهاب، رحمة، هب، وهبنا، عطاؤنا) أجواء حانية وجعلتها تتضح بفيض من أحساسات الودّ والبركة والفضل من جانب الله تعإلى.

وفي السورة نلاحظ أنّ الله تعإلى يكرّر صفة (الأواب) لأنبيائه داود، سليمان وأيوب : [ص/ 17و30و44] ويسجل عليهم بالمدح ليكون ذلك أدعى لوجوب الاقتداء بهم.

وكان لتكرار كلمات بعينها علاقة وثيقة بالتأكيد على  بعض العقائد الإسلامية المهمة التي لا إيمان للشخص من دون الاعتقاد بها ومن هذه العقائد توحيد الله وتنزيهه؛ كتكرار كلمة (الربّ، العبد) بصيغهما المختلفة.

أما (الربّ) فهي إحدى صفات الخالق، ولا يقال الربّ مطلقاً إلا لله تعإلى المتكفل بمصلحة الموجودات، وهي تشمل أكثر من معنى، فقولنا ربّ يتمضن معنى الملك والتدبير وجاءت بهذا المعنى في الآية: ﴿ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ﴾ [ص38/ 66] ومعناها أنّ الله وحده هو المسيطر على  هذا الكون والمالك له في مقابل عبودية الآخرين له وتبيين ذلك مقصد أساسي من مقاصد السورة. وأكثر ما تتجلى تلك الربوبية عند الدعاء الذي يعدّ أبرز المواقف التي تظهر فيها عبودية الإنسان وحاجته أمام خالقه ليصلح له أحواله وشأنه، وحتى إبليس عندما أراد أن يدعو ربه لينظره إلى يوم القيامة قال: ﴿ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [ص38/79] وتكرر (الرب) على  ألسنة الأنبياء في مقامات الدعاء بما يتناسب مع معناه في قوله عن سليمان(ع): ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ ﴾ [ص38/ 35] ونبيه أيوب (ع): [ ص38/ 41]

ولرفعة مقام العبودية، نجد أنّ وصف الأنبياء بالعبودية لله يأتي في سياق المدح لهم والدلالة على  رضا الله عنهم كما جاءت في هذه الآيات: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ ص38 /30] و﴿ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ ص38/44]و﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ﴾ [ص38/ 45]

تكررت في هذه السورة عبارة (واذكر) عندما يخاطب الله الرسول (ص) أن يذكر الأنبياء السابقين كداود وسليمان وأيوب و...

وهناك تكرار في عبارة: ﴿ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص38/25و 40و 49] وفيها نوع من المدح للأنبياء والمتقين.

وفي السورة تكرار لكلمة (الذكر) [ص38/ 1و 8و 32و 49].

2ـ 3ـ3ـ الاستفهام:

ينفي أسلوب الاستفهام الرّتابة عن النصّ، لأنه يعدّ شكلاً من أشكال التنوّع في الأساليب، والانتقال من الخبر إلى الإنشاء كما أنه يدفع المخاطبين إلى التفكر والتأمّل. ورد في السورة الاستفهام وقد خرجت عن الاستفهام إلى تحقيق أغراض بلاغية أخرى كالإنكار والتوبيخ و..كالآية هذه: ﴿ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ ﴾ [ص38/63] الهمزة للاستفهام الإنكاري وهمزة الوصل سقطت استغناء عنها. و﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ص38/28] أم هنا عاطفة منقطعة وفيها معنى الاستفهام الإنكاري. (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) عطف على ما تقدم وفي الإنكار إبطال لما يدعونه من أن الجزاء غير وارد لأنه لو صح كلامهم لاستوت عند اللّه حال من أصلح أو أفسد ومن اتقى أو فجر.

وفي قوله تعإلى: ﴿ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴾ [ص38/75] الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي وهمزة الوصل سقطت استغناء عنها واستكبرت فعل وفاعل وأم عاطفة متصلة ولا يمنع من ذلك اختلاف الفعلين.

وقوله تعإلى: ﴿ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص38/5] في الآية استفهام جرى على  لسان الكفار ويدل على  التعجب، تعجبهم من جعل الرسول الآلهة إلهاً واحدا ويحسّ القارىء بنوع من السخرية في طريقة تعجب هؤلاء الكفار، فجاء استفهامه حاملاً لمعاني الاستغراب وظنّ الاستحالة.

4ـ3ـ مستوى الصورة:

انحصرت الصورة لدى الباحثين القدماء في التصوير البلاغي، من مجاز واستعارة وتشبيه و..، فقد قصروها على  هذه الألوان، وأغفلوا أموراً غاية في الأهمية، كالتصوير بالحقيقة، حيث يمكن أن يخلو التعبير من المجاز ويكون في الوقت ذاته مشرقاً بالصور الفنية الرائعة. وقد تجاوز النقد الحديث هذا التضييق في مفهوم الصورة الفنية، « فلم تعد الصورة البلاغية هي وحدها المقصود بالمصطلح، بل قد تخلو الصورة من المجاز أصلاً فتكون العبارات حقيقة الاستعمال مع ذلك تشكل صورة دالّة على  خيال خصب ». (البطل، 1983م، ص25)

ولا تخفى المزايا العديدة لطريقة التصوير؛ فلو خوطب الناس بطريقة تجريدية خالية من التصوير لم يلامس ذلك سوى أذهانهم، لأنّه بدون التصوير تصبح التعابير جامدة، خالية من الجمال، وضعيفة التأثير. ولكنه من خلال الصورة، يواجه القرآن النفس من جميع أقطارها فلا تصير الدعوة إلى الإيمان مجرّد جدل منطقي مؤسّس على  مقدّمات عقلية وبراهين فلسفية، بل تصبح كشفاً روحياً لا يحتاج معه الإنسان إلّا أن يخلص النظر إلى أعماقه. (أبوعلي، 1984م، ص118)

ويشتمل القرآن الكريم على  التصوير بجميع أشكاله، ففيه تصوير باللون، وتصوير بالحركة، وتصوير بالتخييل...وكثيراً ما يشترك الوصف والحوار وجرس الكلمات ونغم العبارات وموسيقى السياق في إبراز صورة من الصور. (قطب،1983م، ص37)

1ـ4ـ3ـ التشبيه:

والتشبيه في القرآن وإن كان عنصراً بيانياً يكسب النصّ روعة واستقامة وتقريب فهم، إلّا أنّه يعود عنصراً ضرورياً لأداء المعنى القرآني متكاملاً من جميع الوجوه. (الصغير، 1981م، ص37)

يتناول التشبيه في الآية: ﴿ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴾ [ ص38/ 22]، فشبّه الاعتقاد الحقّ في كونه موصلاً إلى الهدى بالصراط المستقيم في إيصاله المكان المقصود باطمئنان بال.

ولنتأمل ما يوحي به ذلك التشبيه من دلالات على  صحّة السير والوصل إلى الغاية واختصار الطريق، فالخطّ المستقيم هو أقصر طريق بين نقطتين. ولأنّ القوم كانوا يعيشون في الصحراء التي لا يعرف السفر من خلالها إلا الخبير فإنّ هذه الصورة تلامس أعماقهم فهم يعرفون أن معنى أن يسيروا في غير الطريق الصحيحة هو التيه والضياع.

وفي قوله ﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾  [ ص38/ 64]تشبيه تقاولهم وما يدور بينهم من حوار ويتبادلونه من سؤال وجواب بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك لأن قول الرؤساء لتابعيهم لا مرحبا بهم وقول التابعين بل أنتم لا مرحبا بكم لا يعدو الخصومة التي يتراشقها المتخاصمون. (الدرويش، 1999م، ج 8، ص379)

2ـ4ـ3ـ الاستعارة:

تبدو الاستعارة واحدة من أهمّ ألوان التعبير المجازي، وينظر إليها بالمفهوم الجديد على  أنها « اعتداء وجرح لشفرة اللغة، أي انحراف عن الاستخدام العادي » (فضل،1992م، ص238) وهذا الانحراف يشدّ المتلقي وينفي الرتابة عن النص ويمده بوسائل طريفة ومدهشة في التعبير.

في السورة استعارة في قوله « ذو الأوتاد » في الآية: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ ﴾ [ص38/ 12] استعارة تصريحية أي ذو الملك الثابت الموطّد وأصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده. (الدرويش، 1999م، ج 8، ص 327).

3ـ4ـ3ـ المجاز:

يحصل المجاز حين لا يتمّ استعمال الألفاظ على  أسلوب الحقيقة فإذا « عدل باللفظ عمّا يوحيه أصل اللغة وصف بأنّه مجاز على  معنى أنّهم جازوا به موضعه الأصلي أو جاز هو مكانه الذي فيه أولا ». (الجرجاني، د.ت، ص342)

في قوله تعإلى: ﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾ [ص38/ 75] تغليب لليدين على غيرهما من الجوارح التي تباشر بها الأعمال لأن ذا اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه حتى قيل في عمل القلب هو مما عملت يداك على المجاز. (الدرويش، 1999م، ج 8، ص 384) واختلف العلماء والمفسرون أيضا في المراد بالخير بقوله: ﴿ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي ﴾ [ص38/ 32]، فقال قوم هو المال مستدلين بقوله تعالى « إن ترك خيرا » أي مالا وقوله « إنه لحب الخير لشديد » وقيل هو مجاز والمراد به الخيل التي شغلته وأنسته ذكر ربه أو سمى الخيل خيرا كأنها نفس الخير لتعلق الخبر بها قال رسول اللّه (ص): « الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة » وقال أيضا في زيد الخيل حين وفد عليه وأسلم: « ما وصف لي رجل فرأيته إلا كان دون ما بلغني إلا زيد الخيل وسماه زيد الخير »(المصدر نفسه،ج 8، ص365)

وفي قوله تعإلى: ﴿ أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ ﴾ [ص38/ 45]إذا كانت جمعا ليد بمعنى النعمة فهي مجاز مرسل علاقته السببية؛ لأن اليد هي سبب النعمة وإنما حذفت الياء في خط المصحف اجتزاء عنها بالكسرة وفسر بعضهم الأيد بمعنى القوة وهي وإن كانت جائزة من حيث اللغة إلا أن المقام يضعف استعمالها بهذا المعنى، قال الزمخشري « وتفسيره بالأيد من التأييد قلق غير ممكن ».(الزمخشري،1995م، ص267)

وفي الآية 20: ﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ من هذه السورة أشار الله إلى وهبه داود (ع) نعمة فصل الخطاب. و(الفصل): التمييز بين الشيئين وقيل للكلام المبين فصل بمعنى المفعول وأصله: انهم يقولون كلام ملتبس، وفي كلامه لبس والملتبس المختلط الذي لا يبين لتداخله أو معاظلته فقيل في نقيضه كلام فصل أي مفصول بعضه عن بعض. ويجوز أن يكون الفصل بمعنى الفاعل أي الفاصل بين الحق والباطل وبين الصحيح والفاسد وبين السمين والغث. وهنا المجاز العقلي، علاقته المفعولية أو الفاعلية (الدرويش، 1999م، ج 8، ص344).

وفي قصة أيوب (ع) إنما أسند أيوب ما مسّه من نصب وعذاب الى الشيطان مع انه من البداءة الأولية أن الشيطان لا يسلط على الأنبياء تأدبا مع اللّه لأن الشيطان كان يوسوس اليه ويغريه على الكراهة والجزع وهذا على  سبيل المجاز.

4ـ4ـ3ـ الكناية:

الكناية في الاصطلاح هي:« كلّ لفظة دلّت على  معنى يجوز حمله على  جانبي الحقيقة والمجاز، بوصف جامع بين الحقيقة والمجاز » (ابن الأثير،1998م، ج2، ص 172) ومرجع الكناية إلى المعنى لا إلى اللفظ. والكناية من وسائل تصوير المعنى وهي أبلغ من التصريح في الدلالة عليه، فإنّك « إذا كنّيت عن كثرة القِرى بكثرة رماد القدر، كنت قد أثبت كثرة القرى بإثبات شاهدها ودليلها... وذلك لأنّه يكون سبيلها حينئذ سبيل الدعوى تكون مع شاهد». (الجرجاني، 1988م، ص340)

ورد التعبير بالكناية في قوله تعإلى: ﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴾ [ص38/ 23]كناية عن المرأة فقد كانوا يكنون عن المرأة بالنعجة والشاة في نحو قول عنترة:  

                            يا شاة ما قنص لمن حلت له         حرمت علي وليتها لم تحرم

وإنما ذكر امرأة أبيه وكان يهواها وقيل بل كانت جاريته فلذلك حرمها على نفسه وهذه الكناية تتمشى مع القول بأن القصة جارية مجرى التمثيل.

قال الزمخشري: والذي يدل عليه المثل الذي ضربه اللّه أن قصته ليست إلا طلبه الى زوج المرأة أن ينزل له عنها فقط ثم نبه الزمخشري على مجي ء الإنكار على طريقة التمثيل والتعريض دون التصريح وذلك أن التعريض داع الى التأمل والتنبيه الى وجه الخطأ مع ما فيه من اجتناب المجاهرة في الإنكار والتوبيخ وألقاه بطريق التمثيل ليستقبح ذلك من غيره فيجعله مقياسا لاستقباح ذلك من نفسه مع البقاء على الحشمة كما أوصى بذلك في سياسة الوالد لولده إذا حصلت منه هنة منكرة قال: وجاء ذلك على وجه التحاكم ليحكم بقوله لقد ظلمك فتقوم الحجة عليه محكمة. (الزمخشري،1995م، ص270)

وقال: وقوله ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ ﴾ [ص38/ 21] جاء على وجه الاستفهام تنبيها على أن هذه القصة قصة عجيبة من حقها أن تشيع ولا تخفى على أحد وتشويقا الى سماعها أيضا.(المصدر نفسه)

   في الخطاب يحتمل أن يكون من المخاطبة ومعناه أتاني بما لم أقدر على ردّه من الجدال ويحتمل أن يكون من الخطبة مفاعلة أي خطبت فخطب على خطبتي فغلبني والمفاعلة لأن الخطبة صدرت عنهما جميعا.(الدرويش، 1999م، ج 8، ص351)

   وقال في ذكر النعاج إنها تمثيل فكان تحاكمهم تمثيلا وكلامهم أيضا تمثيلا لأنه أبلغ لما تقدم وللتنبيه على أن هذا أمر يستحيا من التصريح وأنه مما يكنى عنه لسماجة الإفصاح به وللستر على داود 7 ووجه التمثيل فيه أن مثلت قصة أوريا برجل له نعجة ولخليطه تسع وتسعون فأراد أن يتمها مائة بالنعجة المذكورة فإن قلت طريقة التمثيل إنما تستعمل على جعل الخطاب من الخطابة فإن كان من الخطبة فما وجهه؟ قال الوجه حينئذ أن تجعل النعجة استعارة للمرأة كما استعاروا لها الشاة في قوله: يا شاة ما قنص لمن حلت له...

قال: والفرق بين التمثيل والاستعارة انه على التمثيل يكون الذي سبق الى فهم داود 7 أن التحاكم على ظاهره وهو التخاصم في النعاج التي هي البهائم ثم انتقل بواسطة التنبيه الى فهم انه تمثيل لحاله وعلى الاستعارة يكون فهم عنهما التحاكم في النساء المعبر عنهن بالنعاج كناية ثم استشعر أنه المراد بذلك. (الزمخشري، 1995م، ص278)

الكناية في قوله: ﴿ أولي الأيد والأبصار ﴾  وهي كناية عن العمل الصالح قال الزمخشري « أولي الأعمال والفكر كأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يجاهدون في اللّه ولا يفكرون أفكار ذوي الديانات ولا يستبصرون في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على إعمال جوارحهم والمسلوبي العقول الذين لا استبصار بهم » (المصدر نفسه)

وفيه أيضا فن التعريض بأن من لم يكن من عمال اللّه ولا من المستبصرين في دين اللّه خليق بالتوبيخ وأسوأ المذام، والأيدي جمع يد وهي الجارحة فالكناية بها لأن جميع الأعمال تزاول بها. (الدرويش، 1999م، ج 8، ص371)

5ـ4ـ3ـ التصوير المعتمد على  الواقعية:

لا يقلّ التصوير المعتمد على  الواقعية أهمية عن التصوير البلاغي، وهو يتكامل معه ليوسعا معاً من دائرة التصوير الفني.

لنتأمل هذا المشهد الخاطف: ﴿ وَمَا يَنظُرُ هَـٰؤُلاَءِ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ ﴾ [ ص38/15]، حيث جاء التعبير عن يوم القيامة مختصراً وسريعاً وخاطفاً، حتى ليخيل للسامع أنّ هذا اليوم قد وقع وانتهى الأمر.

وإذا يقول تعإلى: ﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ  ﴾ [ص38/3] ويصور للسامع ما وقع على  الأقوام السابقة الذين هلكوا وعند هلاكهم كانوا ينادون ويستغيثون ولكن لم يكن لهم ملجأ ومفرّ. وبطريقة التصوير المعهودة راح يعرض على  السامع مشاهئ محسوسة أو معروفة للأقوام الهالكين قبلهم، أين غدوا؟ وكيف انتهوا؟

أو عندما يريد الله أن يصور لنا حال المتقين في الجنة والطاغين في النار يقابل بين الصورتين ويبين أنّ المتقين في جنات يتكئون ولهم فواكه وشراب وقاصرات الطرف ولهم فيها كلّ اللذات. وأما الطاغين فيسوقونهم إلى النار ويذوقونهم الحميم والغسّاق ولبئس المهاد والقرار: [ص38/ 50ـ60]

6ـ4ـ3ـ الإطار القصصي:

امتدّت السورة وتحولت إلى مجموعة متجاورة من المشاهد حدد على  مستوى الأسلوب الإطار القصصي وعلى  مستوى المضمون موضوع لطف الله ورحمته بكلّ الأنبياء فبل الرسول (ص) وعلى  النبي محمد (ص) أن يتأسّ بهذه القصص وبذكرها ويصبر على  ما يقوله الكافرون والمشكرون.

أول قصة في السورة هو قصة داود (ع) مع الذينِ دخلا عليه وأرادا منه أن يحكم بينهما. والإشارة إلى أنّ الله تعإلى جعل داود خليفته في الأرض وأمره بالحكم بين الناس بالحقّ وألا يتبع هواه وفي هذه القصة درس كبير للرسول (ص).[ص/ 17ـ26]

بعد قصة داود إشارة خاطفة إلى قصة سليمان (ع) والنعم التي وهبها إياه، من سلطته على  الريح،والشياطين و... [ص/ 31ـ40] وبعد ذلك يشير إلى قصة أيوب (ع) الذي نادى ربّه ودعاه والله وهبه أهله رحمة منه. [ص/ 41ـ 44] وقصة أيوب حافلة بالصور الشعرية الملهمة وهي ديوان حافل عن الصبر على البلاء وعدم البطر في الرخاء. وقصة صبر أيوب تدخل في حيز أغراض القصص في القرآن، وأسمى أغراضها إنشاء العقيدة الدينية الخاصة المجردة وموطن هذه العقيدة الخالدة هو الضمير والوجدان فلم يكن الداعي الى الاستمساك بالصبر والاعتصام به مجردا لقداسته الدينية ولكن اتساع الآفاق النفسية وانفتاح منافذ المعرفة أمام النفس.

ونلاحظ أنّ أيوب قد تلطف في السؤال وألمح الى ما يعانيه من بلاء دون أن يصرح بمطلوبه حيث اكتفى بذكر المس في الضر وأدخل أل الجنسية على الضر لتشمل أنواعه المتقدمة ووصف ربه بغاية الرحمة بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها فكان درسا بليغا لكل من تتعاوره الأرزاء وتنتابه اللأواء.

 وفي السورة إشارة إلى قصة خلق آدم (ع) واستكبار إبليس أمام الله وعدم سجدته وخضوعه لآدم (ع) وإخراجه من الجنة وطلبه الإنظار من الله وقسم إبليس أن يغوي الناس أجمعين إلا عباد الله المخلصين. [ص/ 71ـ 83]

اشتركت غالبية مشاهد السورة في ظلال خاصة من الرحمة والنعمة، والحنان والودّ، والعطاء والبركة وهذه المعاني صبغت السورة كلّها. فتُذكر نعمة الله لداود(ع) وسليمان(ع) وأيوب(ع). والنعم التي يهبها المتقين في الجنات من الفواكه والشراب و.... وعلى  النقيض من ذلك، في السورة أيضاً صورة للطاغين الذين يدعون إلى جهنم ويهيأ لهم شراب من حميم وغساق. وكانت الخاتمة في صورة إبليس الذي دقسم أن يغوي الناس وأقسم الله أن يملأ جهنم منه ومن التابعين له.

7ـ4ـ3ـ أسلوب الحوار:

الحوار، من أبرز الأساليب الحكمية والبليغة التي استعملها القرآن الكريم في إقامة الأدلة على  وحدانية الله وعلى  صدق الرسل الكرام.

يتبين في السورة الحوار الذي يدور بين الأتباع والمتبوعين يوم القيامة، وما قال أهل النار للذين اتبعوهم في الدنيا وما دار بينهم حول أهل الإيمان الذين كانوا هم يسخرون منهم في الدنيا ويحسبونهم أهل النار والآن في النار لا يرونهم. [ص38/60ـ 63]

وفي السورة حوار جرى بين الله تعإلى وإبليس عندما خلق الله سبحانه آدم وأمر الملائكة أن يسجدوا له واستكبر إبليس قال تعإلى له: ﴿ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴾ [ص38/75] وأجاب إبليس: ﴿ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ [ص38/ 76] وقال تعإلى: ﴿   قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ﴾ [ ص38/77ـ78] وهنا أراد إبليس من الله أن يهمله إلى يوم القيامة والله تعإلى أنظره وقال إبليس مقسماً بعزة الله تعإلى أنه سيغوي الخلق أجمعين إلا عباد الله المخلصين والله سبحانه يقسم أن يملأ جهنم منه ومن تابعيه: [ص38/ 79ـ85]

وفي هذه الحوارات في السورة دروس كبيرة لمن يتأمّل فيها، منها: أنّ المعبودين يتبرأون من عابديهم ويتبرأ العابدون من معبوديهم يوم القيامة ويشترك الأتباع مع المتبوعين في العذاب، حيث يوقفون للحساب معهم ويشعرون بالحسرة والندامة والذل معهم ويدخلون جهنم معهم، ويتقلّبون في نارها وعذابها معهم، ويتحمّلون المسؤولية معهم. وأن الاستكبار أمام الله تعإلى وعدم إطاعة أوامره سبحانه يؤدي إلى غضب الله على  المستكبر والدخول إلى جهنم.

النتيجة:

دراسة السور القرآنية في ميزان علم الأسلوبية الحديثة تكشف لنا أبعاد القرآن الجمالية أكثر فأكثر، فاستنبطنا في هذا البحث الأسلوبي في سورة (ص)، بعض الأسرار الخفية فيها. وتمّ البحث في المستويات الأسلوبية المختلفة للسورة كالمستوى الصوتي، والدلالي،والتركيبي، ومستوى الصورة.

الدراسة الصوتية للسورة دلّت علينا بوجود توازن مقصود في إيقاعها وأنّ ألفاظ السورة تميزت بالدقة في الاختيار وبسعة الدلالات وتنوعها وبإثارة الخيال وبقوة التأثير في المتلقين وأنّ معظم أشكال التضاد في السورة انبثقت من العلاقة بين الإسلام والكفر، وبرزت دور التضاد الفاعل في إنشاء مقارنة بين نقيضين بهدف التبيين والوعظ وفي نقض أوهام الكافرين. وبرز التكرار في السورة وقد ساهم في تأدية المعاني كإشاعة ظلال الرحمة والعطاء في جو السورة وتقوية المعنى وتوكيده والتأكيد على  بعض العقائد الإسلامية. وتبين أنّ القرآن اختار التعبير بالصورة عن المعاني التي يراد إثباتها في ذهن المتلقي فنقل له الأفكار والمعاني بصورة حسية وقد تضافر التصوير المعتمد على  الواقعية والتصوير البلاغي المعتمد على  التشبيه، والاستعارة، والمجاز، والكناية، في تشكيل الصور الفنية في السورة.

المصادر و المراجع

ـ القرآن الكريم.

ـ ابن الأثير. ضياء الدين. (1998م). المثل السائر في أدب الكاتب و الشاعر. حققه: محمد عويضة. بيروت: دار الكتب العلمية.

ـ ابن جنّي. أبوالفتح عثمان. (1969م). المحتسب. تح: علي النجدي الناصف وعبد الفتاح شلبي. القاهرة: المجلس الأعلى  للشؤون الإسلامية.

ـ أبوديب. كمال. (1984م). «الأسلوبية». مجلة فصول. مج6. ع1.

ـ أبوزهرة. محمد. (1970م). المعجزة الكبرى القرآن. القاهرة: دار الفكر العربي.

ـ أبوعلي. محمد بركات حمدي. (1984م). في الأدب والبيان. عمان: دار الفكر للنشر والتوزيع.

ـ الأصفهاني. الحسين بن محمد بن المفضل المعروف بالراغب. (1997م). معجم مفردات ألفاظ القرآن. بيروت: دار الكتب العلمية.

ـ أنيس. إبراهيم. (1972م). موسيقى الشعر. ط4. بيروت: دار القلم.

ـ أولمان. ستيفن. (د.ت). دور الكلمة في اللغة. ترجمة: كمال بشر. ط12. القاهرة: دار غريب للطباعة والنشر.

ـ الباقلاني. أبوبكر محمد بن الطيب. (د.ت). إعجاز القرآن. حققه: السيد أحمد صقر. ط3. مصر: دار المعارف.

ـ البطل. علي. (1983م). الصورة في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري،دراسة في أصولها وتطورها. ط3. بيروت: دار الأندلس.

ـ الدرويش. محيي الدين. (1999م). إعراب القرآن الكريم وبيانه. ط6. بيروت ـ دمشق: دار الميامة ـ دار ابن كثير.

ـ الرافعي. مصطفى صادق. (1997م). إعجاز القرآن والبلاغة والنبوية. القاهرة: دار المنار.

ـ الزمخشري. محمود بن عمر بن محمد. (1995م). الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل. صححه: محمد عبد السلام شاهين. بيروت: دار الكتب العلمية.

ـ الجرجاني. عبد القاهر. (1988م). دلائل الإعجاز في علم المعاني. صححه الإمام محمد عبده. ط4. بيروت: دار الكتب العلمية.

ـ ــــــــ. (د.ت). أسرار البلاغة في علم البيان. شرحه: السيد محمد رشيد رضا. بيروت: دار المعرفة.

ـ حسان. تمام. (1993م). البيان في روائع القرآن. القاهرة: عالم الكتب.

ـ ــــ. (1979م). اللغة العربية معناها ومبناها. ط2. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

ـ الخالدي. صلاح عبد الفتاح. (1992م). لطائف قرآنية. دمشق: دار القلم.

ـ السيوطي. جلال الدين. (د.ت). الإتقان في علوم القرآن. تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم. ط3. القاهرة: دار التراث.

ـ شاهين. عبد الصبور. (1980م). المنهج الصوتي للبنية العربية، رؤية جديدة في الصرف العربي. بيروت: مؤسسة الرسالة.

ـ الصغير. محمد حسين علي. (1981م). الصورة الفنية في المثل القرآني، دراسة نقدية وبلاغية. بغداد: وزارة الثقافة والإعلام.

ـ طحان. ريمون. (1981م). الألسنية العربية. ط2. بيروت: دار الكتاب العربي.

ـ عمر. أحمد مختار. (1976م). دراسة الصوت اللغوي. القاهرة: عالم الكتب.

ـ عياد. شكري محمد. (1978م). موسيقى الشعر العربي. ط2. القاهرة: دار المعرفة.

ـ فضل. صلاح. (1992م). علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته. القاهرة: مؤسسة مختار للنشر والتوزيع.

ـ قطب. سيد. (1983م). التصوير الفني في القرآن. ط8. القاهرة: دار الشروق.

ـ كشك. أحمد. (1983م). من وظائف الصوت اللغوي محاولة لفهم صرفي ونحوي ودلالي. دار السلام: مطبعة المدينة.

ـ مصلوح. سعد. (1984م). « الأسلوبية ـ ضمن مهرجان شوقي وحافظ الذي أقيم بالقاهرة سنة 1982م». مجلة فصول. مج5. ع1.

ـ هلال. عبد الغفار حامد. (1996م). أصوات اللغة العربية. ط3. القاهرة: مكتبة وهبة.