المقدمة:

نعم كتبت البحوث الكثيرة حول موضوع هجرة العقول من العالم الثالث إلى الدول المتقدمة، وجمعت الإحصائيات سواء من الدول المستقبلة أم من البلدان النامية، وعقدت الندوات والمؤتمرات المحلية والإقليمية والدولية حول الموضوع، واقترحت ما تم تسميته بالحلول أو أنصاف الحلول.

ثم تبنت العديد من الدول قسما من هذه المقترحات من أجل إيقاف هذا النزيف أو الحد منه قدر المستطاع، ولكن ما هي النتيجة ؟ وهل هناك خلاص للموضوع ؟ الجواب لا حيث لم يزل تدفق الكفاءات العلمية رفيع المستوى والى وقتنا الحالي مستمراَ.

إن هذا البحث ليس مساهمة تضاف إلى بقية الدراسات التي تناولت الموضوع، فحسب، ولكن في هذه المرة توخا الباحثان سبر أغوار الحقيقة بشكل آخر، وذلك من خلال فهم المشكلة من أصحابها أنفسهم. والمقصود هنا بأصحاب المشكلة هم ذوو الكفاءات العلمية من حملة الشهادات العليا والتي لا تقل عن مستوى شهادة الماجستير في شتى الاختصاصات ومن خريجي الجامعات العربية والأجنبية المختلفة.

تضمن البحث فصلين، ركّز الأول فيهما على الإطار النظري ممثلا بالحديث عن مفهوم هجرة الكفاءات والعوامل المحركة لها سواء أكانت جاذبة من الدول المتقدمة أم دافعة من البلدان النامية وأبرز الآثار المترتبة عليها.

أما الفصل الثاني فتضمن الجانب التطبيقي الخاص بالعراق ممثلا باستمارة الاستبيان التي أعدها الباحثان لتشكل المرتكز الذي استندا عليه في هذا الفصل من خلال تحليل أبرز مضامينها واستخلاص النتائج منها.

الفصل الأول:- الجانب النظري

المبحث الأول:- مفهوم هجرة الكفاءات

تشير هجرة الكفاءات، بشكل عام، إلى الانتقال الدائم أو المؤقت للطاقة العلمية والتقنية والفنية والفكرية من بلد نامٍ أو حتى من بلد متقدم وتسربها تدريجيا إلى بلد أجنبي متقدم أو أكثر تقدما وغنى، وتشمل حقول الدراسة والنشاط البشري جميعها مع تركيز على العلوم.([1])

وبات من المتعارف عليه أن كفاءة المهاجر تعني كل ذي مهارة ابتداءً من مستوى العامل المتخصص وصولا إلى العالم المتميز، وبذلك يمكن تصنيفهم حسب الفئات الآتية:- ([2])

1. ذوو المهن الحرة:- مثل الأطباء والمهندسين والمحامين والاقتصاديين.....
2. الفنيون:- وهم حلقة الاتصال بين المهندسين والعمال المهرة ويكونوا من خريجي الكليات والمعاهد الفنية.
3. العمال المهرة:- وهم فئة العمال الذين نالوا خبرة فنية متخصصة في مجالات حيوية مثل الصناعة، وليس بالضرورة أن يكونوا من حملة الشهادات الجامعية.

وهكذا فإن المفهوم الواسع للكفاءات يشمل: الأطباء - المهندسون - المتخصصون في العلوم الطبيعية (الصرفة) والاجتماعية - الأساتذة والمدرسون - الممرضون وفنيّو التطبيب - أصحاب الأعمال والحرفيون الآخرون.

وعلى قدر تعلق الأمر ببحثنا هذا فقد اقتصرت الدراسة لموضوع الهجرة على الكفاءات من حملة الشهادات العليا حصرا (الدكتوراه والماجستير)، فضلا عن الشهادات الطبية العالية وهي:MRCOG  ,  FRCS  ,  MRCP.

إن تعبير هجرة الكفاءات هو تسمية للظاهرة موضوع البحث دون أن يعني ذلك تجاهلا للتسميات الأخرى المتداولة، فقد ينظر إلى فئة من المهاجرين بوصفها نخبة مفكرة وعندئذ يطلق عليها هجرة العقول (أو هجرة الأدمغة)، أو يجري التركيز على الآثار السلبية لهجرة هذه الكفاءات لكونها مادة حيوية في شريان التنمية فيطلق عليها نزيف العقول.([3]) وإذا تعمقنا في دراسة هذه الظاهرة نرى أن البلدان الفقيرة والمتأخرة تكنولوجيا تحول سنويا جزءً من رصيدها التكنولوجي الضئيل نسبيا والمتمثل بهذه الكفاءات نحو البلدان الغنية المتفوقة تكنولوجيا، لتدعيم تفوقها، في حين تقضي العدالة أن يكون النقل الطبيعي للتكنولوجيا باتجاه البلدان النامية، ولذلك سميت هجرة الكفاءات بالنقل المعاكس للتكنولوجيا، تعبيرا عن غرابة هذه الظاهرة وسلبيتها، وهي التسمية المستخدمة في الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة خلال السنوات الأخيرة.([4])

المبحث الثاني: دوافع هجرة الكفاءات من البلدان النامية:

ترتبط هجرة الكفاءات من الدول الأكثر تخلفا إلى الدول الأكثر تقدما بعوامل دفع من الدول الأولى وبعوامل جذب (أو شد) من الدول الأخيرة، بمعنى أن كل عامل من عوامل الهجرة يمكن أن يكون دافعاً للكفاءات أو جاذباً لها في بلد من البلدان اعتمادا على درجة النمو والتقدم التي بلغها هذا البلد. وانطلاقا من ذلك فإننا عندما نحدد العوامل الدافعة للهجرة نكون قد حددنا تلقائيا العوامل الجاذبة لها مع الأخذ بنظر الاعتبار تعاكس التأثير بين النوعين. وبشكل عام فإن دوافع هجرة الكفاءات من البلدان النامية (أو عوامل جذبها من الدول المتقدمة) يمكن تحديدها بما يأتي:-

1-تفاوت الدخول:

يرى الباحثون بعامةٍ، أن مستوى الدخل، يعد من الأسباب الأساسية المؤثرة في مجال هجرة الكفاءات ([5])، فالبحث عن دخل حقيقي مجزي من قبل أي فرد هو شئ طبيعي ومنطقي لاسيما عندما يشعر هذا الفرد بامتلاكه المؤهلات العلمية والعملية اللازمة للحصول على هذا الدخل، وبعكسه إذا وجد الفرد أن دخله لا يتناسب وكفاءته وأنه غير قادر (مع ارتفاع الأسعار أيضا) على توفير ابسط الاحتياجات الإنسانية له ولعائلته، كما يحصل في بعض البلدان النامية، فإن أنظاره تتجه حتما نحو الدول المتقدمة ذات الدخول العالية.

فمثلا في  سوريا وكاية دولة عر بية اخرى، لا يستطيع حامل شهادة الدكتوراه، أن يوفر بوساطة دخله سكناً لائقاً ولا سيارة مناسبة، والمشكلة تتفاقم طبعا مع الارتفاع المستمر في الأسعار.([6])

وارتفاع الدخل يتيح الحصول على الكثير من الضمانات والخدمات الاجتماعية من سكن ونقل وصحة وتعليم... الخ بخاصة عندما تمتاز هذه الخدمات بالجودة وبسهولة المنال.

2-فرص العمل وظروفه:

يختص البعض من أبناء البلدان النامية في أثناء دراستهم في الدول المتقدمة باختصاصات نادرة بحكم تطورها وحداثتها وبما يفوق إمكانيات ومستوى تقدم بلدانهم، لذلك يواجهون عند عودتهم مشكلة عدم الاستيعاب لما يحملونه من اختصاص، بينما يلاحظ أن أماكن العمل مهيأة لهم في الدول التي درسوا فيها.

من ناحية ثانية يعاني البعض من الأشخاص الكفوئين من عدم حصولهم على فرص العمل التي تناسب اختصاصاتهم في البلدان النامية، بل والأدهى من ذلك هو عدم حصول قسما من المؤهلين على أية فرصة عمل بالمرة لاسيما في البلدان التي لا تملك خطط جيدة لربط التعليم بالتنمية وبما يؤدي إلى خلق فائض عن حاجة البلد في اختصاصات معينة وعجز في اختصاصات أخرى.

وفي بعض البلدان النامية يجري تفضيل الكفاءة الأجنبية على الكفاءة المحلية التي تماثلها في الاختصاص من حيث التوظيف والأجر، وهذا ما يترك الألم في نفسية الفرد ويدفعه للتفكير بالهجرة.

على سبيل المثال في الجزائر بلغ متوسط راتب الفرد من الكفاءات العالية الأجنبية مثلين إلى ثلاثة أمثال راتب نظيره الجزائري، بل قد يصل إلى (10) أو (12) مثلا، وفي صناعة الحديد والصلب يبلغ سبعة أمثال راتب الجزائري.([7])

كما يجري الاستخدام والتقويم في بعض الأحيان ليس على أسس موضوعية تقوم على الشهادة والخبرة والمهارة... إنما على المحسوبية والوساطة بكل ما يحمله ذلك من تأثيرات سلبية على المجتمع، بل إن حالة التردي في أحيان معينة تصل إلى حد أن (يحارب) الإنسان في أثناء الوظيفة لا لشئ إلا لأنه يحمل المقدرة والكفاءة، لذلك يكون سوء العلاقة لاسيما مع الرؤساء في العمل وعدم تقدير الكفاءات سببا من أسباب هجرتهم     وغالبا ما يصادف المرء إداريين ينظرون إلى الكفاءة على إنه مجرد فرد من العاملين بدلا من أن ينظروا إليه على إنه مورد ثمين.([8])

وفي بعض الأحيان لا تتمثل المشكلة بتوفير فرصة عمل، فهذه قد تكون متوافرة لذوي الكفاءات، أو بظروف العمل ولكنها تتعلق بتهيئة الجو العلمي ومدى مواكبة التقدم العالمي، فالكثيرين ممن يحملون المؤهلات ويسعون لتطوير معارفهم يصطدمون بمحدودية تسهيلات البحث العلمي من مختبرات وأجهزة علمية ومصادر متنوعة... وهنا لا بد من الإشارة إلى جمود النظم التعليمية في العديد من البلدان النامية وعدم مواكبتها لحركة التطور العلمي في الدول المتقدمة، فهذه النظم بعامة متردية ومفتقدة للدراسات راقية المستوى، وهذا ناتج من التخلف العام الذي يعانيه قطاع التربية والتعليم في هذه الدول، بشكل عام، إذ يلاحظ محدودية الإنفاق على هذا القطاع لاسيما ما يوجه من نشاط وأموال للبحث العلمي الذي يعد ضروريا لأعضاء الهيئات التدريسية، حيث أن الاقتصار على التدريس دون البحث يهدر الإمكانيات والمهارات، وفي بعض الأحيان لا تتعلق المعضلة بإعداد البحوث وكتابتها من قبل التدريسيين، إنما تتصل بمدى استفادة المجتمع منها. ففي بعض دول العالم الثالث هنالك فجوة بين المؤسسات العلمية والمؤسسات الأخرى تتمثل بضعف الارتباط بين الخطط التنموية المتبعة فيها والتوجهات العلمية لهذه البحوث الأمر الذي يؤدي إلى ركنها على الرفوف بدلا من وضعها موضع التطبيق.

3-الدراسة في الخارج:

من المعلوم أن العديد من أبناء الدول النامية يرسلون في بعثات (أو على حسابهم الخاص) إلى الدول المتقدمة للتعليم ونيل الشهادات العليا، وأثبتت البحوث المختصة أن هجرة الطلاب الدارسين في البلدان الأجنبية أكثر من الذين لم يدرسوا أبدا في الخارج، لأن أولئك مطلعون على التسهيلات والفرص السانحة، واكتسبوا مهارات تناسب المؤسسات وأرباب العمل في البلدان الأجنبية.([9])

وفي هذا الإطار يلاحظ أن عددا كبيرا من الطلاب يمددون فترة إقامتهم بعد إتمام دراستهم، فيعملون في الجامعات أو المؤسسات وذلك للحصول على خبرة عملية قبل العودة الأمر الذي يعزز من احتمال بقائهم في بلدان الدراسة لاسيما عندما ينالون ترقية أو يحصلون على عرض مغري للعمل من مؤسسة أخرى.([10])

إضافة إلى ما تقدم فإن الدارسين في الخارج يتعودون على نمط حياة مختلف مبني على الوعي يقوم في بعض الأحيان على احترام كبير للوقت والحرص على النظام واحترام العلم والعلماء، والمركز الاجتماعي القائم على أساس الخبرة والمعرفة وليس على أساس النسب والجاه... لذلك نجد أن بعضهم عندما يرجع إلى بلده الأصلي يعاني من مسألة التكيف والانسجام من جديد في المجتمع بخاصة عندما تبدأ في دواخله حالة المقارنة في أمور الحياة المتعددة بين بلده والبلد الذي درس فيه.

وتذكر بعض الإحصائيات حول هجرة الكفاءات العربية أن (60%) من الدارسين في البلدان الغربية يهاجرون، كما أن (15%) من الدارسين في دول أوربا الشرقية يهاجرون، وتذكر تقديرات أخرى أن (50%) من الطلبة الذين يدرسون في الخارج لا يعودون، كما يذهب البعض إلى أن (70%) من مجموع العلماء العرب الذين يتدربون في الخارج لا يعودون إلى البلاد العربية.([11])

وبالنسبة للبعض من العائدين تكون عوامل الشد والهجرة مرة أخرى إلى الدول المتقدمة أقوى عندما يرتبطون برباط الزواج من أجنبية (أو أجنبي). كذلك قد يحمل اختلاف النظم الدراسية فيما بين الدول بين طياته سببا من أسباب الهجرة للكفاءات العائدة مبعثه عدم إعطاء شهاداتهم الدراسية حقها من الاستحقاق أو ما يمكن أن يطلق عليه مشكلة تعادل الشهادات.

4- الأسباب السياسية:

 إن ظاهرة عدم الاستقرار السياسي ومنذ زمن طويل في معظم البلدان النامية وما صاحبها من تغييرات سياسية في بعض هذه البلدان تشكل سببا من أسباب الهجرة للكفاءات التي تكون في بعض الأحيان محل عدم ثقة نتيجة لما تحمله من أفكار وآراء متطورة، وهذا الأمر (مع عوامل أخرى ومنها اقتصادية اشرنا لها) يترك في نفسية هؤلاء حالة من القلق والاضطراب والخوف على المستقبل.

وفي هذا المجال أكدت دراسة أجراها احد المهندسين المهاجرين أن (55%) من المشمولين بالدراسة رفضوا وظائف عرضت عليهم في البلدان العربية والسبب يرجع إلى تدني حرية الرأي (83%) وتقييد الحرية السياسية (69%). ([12]) 

إن فقدان الاستقرار السياسي وما ينجم من احتمال قيام أوضاع سياسية واقتصادية وإدارية مرتبكة لا تنسجم وما تحتاج إليه الكفاءة من جو هادئ للإبداع والابتكار والعطاء يشكل عامل جوهري للهجرة، فالظروف السياسية في أي بلد تنعكس على مواطنيه لاسيما منهم الباحثين عن حالة الاستقرار لزيادة نتاجهم العلمي، وهم ذوو العقول المفكرة، فعندما تحدث أزمات وأحداث ساخنة تزداد حركة الهجرة العلمية والفنية إلى مناطق أكثر استقرارا في العالم، بخاصة عندما تصل هذه الأحداث إلى حد المساس بحياة أصحاب العقول والعلماء.   

كما إن ضعف المشاركة السياسية لذوي الخبرة قد يكون عاملا مساهما في الهجرة، فالإنسان العالم يعيش في بعض البلدان النامية في جو لا يحترم العلم على مستوى السياسات العامة ومصادر تقريرها، وهذا ما يتجسد بضعف دور الكفاءات في اتخاذ القرارات، حيث يلاحظ تفضيل الولاء السياسي للمواطن من قبل بعض الحكومات في دول العالم الثالث على الكفاءة والإمكانات العلمية.([13])

المبحث الثالث: الآثار المترتبة على هجرة الكفاءات من الدول النامية:

انطلاقا من كون الاستثمار البشري هو أكثر أنواع الاستثمار مردودا على أي بلد من البلدان سواء في الحسابات المادية أم غيرها، ولكونه الأهم في عوامل التنمية الاقتصادية فإن هجرة الأدمغة والكفاءات من الدول النامية تعد نزيفا شديدا يتمثل بخسارة هذه الدول لخيرة أبنائها وهم الصفوة المتعلمة والمدربة تدريبا عاليا والذين صرفت عليهم دولهم الأموال والجهود ولكنها لم تجن الثمار والفوائد منهم. إن الآثار السلبية لهذه الهجرة عميقة وشاملة لأكثر من صعيد يمكن استعراضها بإيجاز كما يأتي:-

1- التعليم:

يشكّل تناقص الكفاءات الذي تعاني منه البلدان النامية نتيجة للهجرة خسارة فادحة بأجهزة التعليم، على أساس أن الكفاءات تمثل الطليعة وهي عماد العملية التعليمية الضرورية في تعبئة وتهيئة القوى البشرية اللازمة لتحقيق التنمية.([14]) وعلى صعيد الوطن العربي وانسجاما مع التزايد السكاني في بعض البلدان العربية حصل توسع كبير في المدارس والمعاهد والجامعات رافقه ارتفاع في أعداد الطلبة في المراحل الدراسية المختلفة، وهذا ما يحتاج إلى كوادر تدريسية كافية وكفوءة، وهنا تبرز المشكلة، حيث أن هجرة قسم من الأساتذة والمدرسين تقلل من نسبتهم إلى الطلبة الأمر الذي يؤثر على سير التعليم ونجاحه في تحقيق أهدافه لاسيما في قطاع التعليم العالي الذي يحتاج إلى تدريسيين حاصلين على شهادات عليا في اختصاصات دقيقة. وفي هذا المجال فإن نسبة الطلاب إلى الأساتذة في الجامعات العربية تبلغ في بعض الحالات (400) إلى واحد.([15])

2- الصحة:

كما هو معلوم أن المهارات الطبية لا يجري توزيعها على الصعيد الدولي وفقا للحاجة التي تشهد بها مؤشرات الأمراض أو الوفيات، إنما هذا التوزيع يتم وفقا لحركة السوق وسط عالم من التناقضات الحادة في توزيع الدخول.([16])

وتعد هجرة الأطباء خسارة فادحة في هذا الميدان، لأن العديد من الدول النامية ومنها البلاد العربية تعاني من نقص كبير في عدد الأطباء لأجمالي السكان مقارنة بالدول المتقدمة. فالبـلاد العربيـة، بشكـل عام، مازالت دون مستوى النسبة الدولية (التي حددتها منظمة الصحة العالمية) والتي هي طبيب واحد لكل ألف مواطن. ([17])   

وعلى سبيل المثال فإن عدد الأطباء الاختصاصيــن والعمومــيين في العراق هو(16518) طبيب في عام 2006، بينما بلغ سكان العراق في العام ذاته (28.81) مليون نسمة، وهذا يعني أن هناك طبيبا واحدا لكل (1744) مواطن.([18])

فإذا علمنا أن (5%) من أطباء العراق يتسرب سنويا إلى الدول المتقدمة([19]) اتضح لنا مدى عمق المشكلة وتأثيراتها على صحة المواطنين، ومن ثم على قدراتهم على العمل والإنتاج.

3- العلم والتكنولوجيا:

 يعد العصر الحالي عصر التقدم العلمي والتكنولوجي، حيث التطور في الآلة واستخدام الكومبيوتر واحدث وسائل الاتصال، وهذا يتطلب بالضرورة أشخاصا على مستوى عال من المعرفة والمهارة والتخصص والكفاءة. لذلك عندما يحصل النقل المعاكس للتكنولوجيا ممثلا بخسارة دول العالم الثالث لجزء من علمائها ومهندسيها ذوي القدرة على التعامل مع العلم والتقنية الحديثة المتطورة جدا، فإن هذه الدول تكون (في مفهوم التخلف النسبي) تراجعت فترات عديدة من السنين وتكرست مشكلة التبعية التكنولوجية للدول المتقدمة.([20]) ومن ثم فإن النتيجة الحتمية لهذه الحالة هي اتساع الهوة العلمية والتكنولوجية وبالتالي الحضارية بين العالم النامي والعالم المتقدم.

4- الخسارة المالية:

 على الرغم من أن خسارة العقول والكفاءات العلمية لا تقدر بثمن وهي أكبر من أن تحسب بالنقود، ألا أن بعض الحسابات للكلفة تظهر مدى خسارة البلدان النامية في تهيئة علمائها.

فقد ذكر مختصون بهذا الشأن، أن العالم العربي يساهم بنسبة (31%) من هجرة العقول من البلدان النامية. وأن الخسائر الاقتصادية تقدر في الوطن العربي بحدود (200) مليار $ نتيجة لهجرة الكفاءات.([21]) وفي دراسة أصدرها مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية أشار فيها إلى إحصائيات عن هجرة الكفاءات، حيث أوضح أن ربح الولايات المتحدة وكندا والمملكة المتحدة فقط جراء هذه الهجرة هو (6) مليارات $ أو ما يعادل (37) مليار فرنك فرنسي تقريبا.([22])

5- التنمية:

إن هجرة العلماء والاختصاصيين ليس فقط خسارة في المال العام المنفق على تربيتهم وتعليمهم وتدريبهم، إنما خسارة ونكسة لبلدانهم التي هي بأمس الحاجة إلى علومهم ومهاراتهم وطاقاتهم.([23]) والدليل على هذه الحاجة لاسيما للبلدان العربية هو طلب المعرفة والمهارات الفنية من مصادر أجنبية، وهذا ما يثير المرارة في النفس، لأن هجرة الكفاءات حاصلة في المجالات ذاتها التي تستورد لها البلدان العربية الخبرة الأجنبية بكثرة.([24]) إن هجرة الأدمغة والكفاءات تعد خسارة لا تعوض في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، فهؤلاء هم الرجال الذين يخططون للمجتمع والمجددون له وهم دعامة التنمية، بل إنهم الأصل في كل تغيير وتطوير لذلك يرى المختصون إن هجرة العلماء تهدد التنمية للبلاد العربية فضلا عن تأثيرها السلبي على العملية التربوية والثقافية. بالإضافة إلى ذلك فإنها تعمل على توطيد البنية غير العادلة لتقسيم العمل الدولي الذي يميل أصلا باتجاه تعزيز ظاهرة هجرة العقول إلى الدول المتقدمة اقتصاديا. 

الفصل الثاني: الجانب التطبيقي

((استقصاء دوافع هجرة الكفاءات من حملة الشهادات العليا في العراق))

المبحث الأول: تهيئة استمارة الاستبيان:

    قام الباحثان مستفيدين من الإطار النظري بتهيئة استمارة استبيان(كما في الملحق رقم 1) احتوت على سبع عشرة سؤالا شملت الجوانب المختلفة التي يعتقد الباحثان إنها مؤثرة في هجرة الكفاءات سواء بصورة مباشرة أم غير مباشرة، لكي تتم الإجابة عليها من قبل عينة البحث آخذين بنظر الاعتبار عدم ذكر الأسماء من قبل أفراد عينة البحث في الاستمارة تجنبا لأي إحراج لهم، وتوخيا في الحصول على إجابات دقيقة للأسئلة الوارد ذكرها. وتم اختيار جامعة بابل بكلياتها المختلفة ميدانا للبحث حيث تتوافر فيها شتى الاختصاصات العلمية والإنسانية والاجتماعية.

وزعت استمارة الاستبيان على عدد من أعضاء الهيئة التدريسية (ممن يحملون طبعا شهادة الدكتوراه أو الماجستير) وعلى الأطباء الاختصاصيين في الجامعة، مراعين مسألة التنوع في الشهادة والاختصاص وبلد الدراسة وسنة التخرج قدر المستطاع الأمر الذي يعطي نتائج حيادية غير منحازة وغير متطرفة إلى حد ما. وبناء على ذلك بلغت العينة المدروسة (50) فردا حاملا لشهادة عليا مقسمين على النحو الآتي:-

المجموع    (50)

المبحث الثاني: تحليل نتائج الاستبيان:

أولاً:- العوامل الاقتصادية:

    استنادا إلى استمارة الاستبيان التي أعدّت لغرض الدراسة الميدانية يمكن إجمال العوامل الاقتصادية التي وردت ضمن الأسئلة الـ (17) المطروحة بما يأتي وحسب تسلسلها في الاستمارة:

1. الرواتب مرتفعة في الخارج.
2. الخدمات الجيدة في الخارج (سكن، نقل، صحة، تعليم،...).
3. عدم توفر فرص العمل المناسبة في الداخل.

15- القلق والخشية على المستقبل.

17- توفر الاحتياجات الإنسانية وبأسعار مناسبة في الخارج.

     فقد احتلت العوامل الاقتصادية مرتبة متقدمة من بين الأسباب التي تؤدي إلى هجرة العقول، فعلى صعيد تقسيم عينة البحث على أساس الاختصاص، يتضح من الجدول رقم (1) ما يأتي:-

أ-ارتفاع الأهمية النسبية لهذه العوامل مقارنة بمجتمع البحث في مجال العلوم الطبية والصرفة والهندسية بحيث تصل النسبة إلى (100%) بالنسبة لخدمات السكن والنقل والصحة والتعليم...الخ و (88.2%)فيما يتعلق بتوفر الاحتياجات الإنسانية وبأسعار مناسبة في الخارج مع إعطاء موضوع القلق والخشية على المستقبل أهمية ملحوظة إذ وصلت النسبة كحد أقصى إلى (80%).

 ب-أهمية العوامل الاقتصادية بالنسبة إلى مجتمع البحث في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية حيث يعتقد (75%) من ذوي العقول بأهمية موضوع الرواتب و(75%) منهم كذلك بأهمية موضوع الخدمات مع إعطاء موضوع القلق والخشية على المستقبل أرجحية وإن كانت بدرجة أقل حيث تصل النسبة إلى أكثر من (56%).

جـ - تذبذب الأهمية النسبية لموضوع عدم توفر فرص العمل المناسبة في الداخل لدى عينة البحث، إذ تراوحت بين الصفر بالنسبة للمختصين في مجال العلوم الهندسية و(50%) بالنسبة للاختصاصات الطبية، بينما تضعف هذه الأهمية بالنسبة للمختصين في العلوم الصرفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية.

    وعلى صعيد تقسيم عينة البحث على أساس الشهادة، يتضح من الجدول رقم (2) ما يأتي:-

أ-ارتفاع أهمية العوامل الاقتصادية مجتمعة لكل المستويات العلمية بحيث تصل النسبة لدى حملة الماجستير إلى (100%) فيما يتعلق بموضوع الرواتب، كما تصل النسبة لدى حملة الشهادات الطبية العالية إلى (100%) بالنسبة إلى موضوع الخدمات.

ب-انخفاض الأهمية النسبية على قدر تعلق الأمر بموضوع فرص العمل لدى المستويات العلمية كافة من ذوي العقول في عينة البحث.

وعلى صعيد تقسيم عينة البحث على أساس بلد الدراسة، يتضح من الجدول رقم (3) ما يأتي:-

أ- ارتفاع أهمية العوامل الاقتصادية بالنسبة لكل عينة البحث من ذوي العقول والمتخرجين من البلدان المختلفة سواء أكانت متقدمة أم نامية حيث تصل أهميتها لدى المتخرجين من البلدان العربية والأسيوية أكثر من (92%) فيما يتعلق بموضوع الرواتب، كما تصل أهمية توفر الاحتياجات الإنسانية وبأسعار مناسبة في الخارج إلى أكثر من (81%) لدى ذوي العقول المتخرجين من البلدان المتقدمة اقتصاديا في أوربا الغربية وأمريكا الشمالية.

ب- انخفاض الأهمية النسبية لموضوع توفر فرص العمل المناسبة في الداخل لكل عينة البحث إذ تصل أهمية الموضوع إلى الصفر لدى المتخرجين من بلدان أوربا الشرقية وروسيا.

    وفي هذا الصدد يذكر أحد المتخرجين من هذه البلدان في استمارة الاستبيان ما نصه:-

 " وجود الإجراءات الروتينية التي تحاول الإيحاء للعائدين بأن المنافذ ضيقة ومغلقة في حين أن الواقع يعطي إجابة معاكسة "

ثانياً:- تسهيلات البحث العلمي:

    أكدت نسبة كبيرة من مجتمع البحث أن من بين أسباب الدفع إلى الخارج هو موضوع تسهيلات البحث العلمي في الخارج والتي تتضمن : ( المختبرات، الأجهزة، مصادر البحث، وسائل نشر البحث ).

 فعلى صعيد تقسيم عينة البحث على أساس الاختصاص يتضح من الجدول رقم (1) ما يأتي:

أ-إن نسبة كبيرة من مجتمع البحث في مجال العلوم الطبية والعلوم الصرفة والعلوم الهندسية وبما لا يقل عن (82.4%) تؤكد على أهمية موضوع تسهيلات البحث العلمي.

ب-تنخفض هذه النسبة فيما يتعلق بمجتمع البحث في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية لتصل إلى (62.5%).

جـ - وهذا منطقي بالنسبة لظروف البحث العلمي المتدنية نسبياً نتيجة لضعف المستوى التكنولوجي وتدني وسائل النشر.

 وعلى صعيد تقسيم عينة البحث على أساس الشهادة، يتضح من الجدول رقم (2) ما يأتي:

أ-أن مجتمع البحث من الحاصلين على تأهيل علمي عالي في مجال العلوم الطبية وعلى الإطلاق يؤكد على ضرورة وأهمية موضوع تسهيلات البحث العلمي.

 ب-إن نسبة (75.8%) من الحاصلين على شهادة الدكتوراه تولي موضوع تسهيلات البحث العلمي أهمية كبيرة.

جـ - إن نسبة (70%) من الحاصلين على شهادة الماجستير تؤكد على أهمية موضوع تسهيلات البحث العلمي.

د - وهذا منطقي حيث كلما تعمق البحث العلمي، من أجل الحصول على شهادة أعلى أو على تأهيل علمي عالي جداً لاسيما عند مجتمع البحث في مجال العلوم الطبية، كلما ازدادت الحاجة إلى تسهيلات علمية أكثر.

    أما بالنسبة لتقسيم عينة البحث على أساس بلد الدراسة يتضح من الجدول رقم (3) الآتي:-

أ-إن نسبة (88.9%) من مجتمع البحث الحاصلين على شهادة أو تأهيل علمي عالي من أوربا الغربية وأمريكا تؤكد على أهمية موضوع تسهيلات البحث العلمي.

 ب-تنخفض هذه النسبة إلى (71.4%) من قبل المتخرجين من جامعات عربية وآسيوية.

جـ - تنخفض هذه النسبة أيضا لتصل إلى (55.6%) من المتخرجين من أوربا الشرقية وروسيا.

د. وهذا منطقي حيث إن تسهيلات البحث العلمي في دول أوربا الغربية وأمريكا تكون متوافرة بشكل أكبر، وكذلك سهولة الحصول عليها، فضلا عن عامل التقدم التكنولوجي الذي يساعد كثيرا في موضوع الآلة مع البحث العلمي.

    ثالثا:- احترام الوقت والنظام في الخارج:

    أكدت نسبة مهمة من عينة البحث على أهمية هذا الموضوع واعتباره من ضمن العوامل المهمة في  هجرة ذوي الكفاءات العلمية العالية.

    فعلى صعيد تقسيم عينة البحث على أساس الاختصاص، يتضح من الجدول رقم (1) ما يأتي:-

أ-إن نسبة مهمة من عينة البحث وللاختصاصات جميعها وهي (64%) تؤكد على أهمية هذا العامل في حركة الكفاءات العلمية باتجاه الهجرة إلى الخارج.

ب-ارتفاع هذه النسبة لدى ذوي الكفاءات في مجال العلوم الطبية حيث تصـل إلى (80%)، وكذلك تصل إلى أكثر من (76%) في ميدان العلوم الصرفة، ويمكن اعتبار هذه النسبة المرتفعة صحيحة إذا أخذنا بنظر الاعتبار ارتباط برامج البحث العلمي بوقت محدد ومعلوم لا يمكن إهماله.

   وعلى صعيد تقسيم عينة البحث على أساس الشهادة،يتضح من الجدول رقم (2) ما يأتي:-

أ-ارتفاع النسبة لدى الاختصاصات جميعها في عينة البحث.

ب-مع التأكيد على أهمية هذه النسبة، بشكل خاص، لدى الاختصاصات الطبية.

    وعلى صعيد تقسيم عينة البحث على أساس بلد الدراسة، يتضح من الجدول رقم (3) ما يأتي:-

أ-انخفاض النسبة لتصل إلى (22.2%) عند خريجي أوربا الشرقية وروسيا.

ب-ارتفاع النسبة حتى تصل إلى أكثر من (81%) عند خريجي أوربا الغربية وأمريكا.

وفي هذا الصدد نعتقد إن عنصر الوقت بالنسبة للباحث العلمي أو الأستاذ الجامعي أو لذوي الاختصاصات العملية كالطب والهندسة مثلا على قدر كبير من الأهمية. فلا يمكن بأي حال إهماله. فقضية البحث العلمي أو حتى الانصراف إلى التأمل تتطلب وقتا طويلا. فالميدان العلمي يختلف عن بقية مجالات الحياة. إذ أن شروط البحث العلمي المتعمق سواء على صعيد التفكير والتأمل أم البحث النظري أو التطبيق العملي تتطلب وقتا طويلا لا يمكن اقتطاعه من العلماء وذوي الاختصاص العلمي العالي. وموضوع الوقت مرتبط من جانب آخر بالعوامل الاقتصادية السابقة الذكر، حيث أن الانصراف إلى العمل والنشاط الاقتصادي من أجل تعويض النقص في الدخل الحقيقي والخدمات يؤدي حتما إلى هدر الوقت وهذا يعني بالضرورة اقتطاعه من وقت البحث والتأمل والدراسة.

كذلك يرتبط موضوع الوقت بالعوامل الأخرى غير الاقتصادية. فلا يمكن أن نتصور عطاءً علمياً غزيراً مع اقتطاع جزءً من الوقت أيا كانت مدته عن طريق تكليف العلماء وذوي الكفاءات العلمية على اختلاف درجاتهم بواجبات أخرى خارج نطاق ميادينهم، في ما إذا لم تستثمر تلك التكليفات والمهمات لأغراض المزاوجة العلمية - العملية لردم الهوة الموجودة بين الجوانب العملية والتطبيقية والنظرية.

رابعا:- العوامل الاجتماعية:

استنادا إلى استمارة الاستبيان التي أعدت لغرض الدراسة، يمكن إجمال العوامل الاجتماعية التي وردت ضمن الـ (17) سؤالاً بما يأتي وحسب تسلسلها الوارد في الاستمارة المذكورة.

7- الزواج من أجنبية.

11- صعوبة التكيّف (التوافق) والانسجام للعائدين مع المجتمع الأصلي.

    فعلى صعيد تقسيم عينة البحث على أساس الاختصاص أو الشهادة أو بلد الدراسة وكما توضحه الجداول (1، 2، 3) يمكن التوصل إلى ما يأتي:-

أ-انخفاض نسبة أهمية العوامل الاجتماعية وبشكل كبير في هجرة العقول وهذا ما تقرره معظم عينة البحث، حيث تصل لدى بعض الكفاءات العلمية العالية وبالتحديد في حقل العلوم الهندسية إلى الصفر،فيما يخص أثر الزواج من أجنبية.

 ب-يلاحظ وجود أثر لا يمكن إهماله للعوامل الاجتماعية لدى المتخصصين في حقل العلوم الصرفة، فيما يتعلق بمسألة صعوبة التكيف والانسجام للعائدين مع مجتمعهم الأصلي. إذ تصل النسبة إلى (35.3%).

جـ - يرى أيضا المختصون بالعلوم الاجتماعية والإنسانية دورا هاما تلعبه مسألة الزواج من أجنبية، حيث تصل النسبة إلى (37.5%).

خامسا:- العوامل الفنية والإدارية:

    استنادا إلى استمارة الاستبيان يمكن إجمال هذه العوامل التي وردت ضمن الـ (17) سؤالا كما يأتي، وحسب تسلسلها في الاستمارة المذكورة:

4-عدم استيعاب الاختصاصات النادرة في الداخل.

6- مشكلة تعادل الشهادات.

8- سوء العلاقة مع الرؤساء في الوظيفة.

9- تفضيل الكفاءة الأجنبية على المحلية عند التوظيف.

12- عدم اعتماد معايير موضوعية للتعيين والترقية.

14- جمود النظم التعليمية.

    فعلى صعيد تقسيم عينة البحث على أساس الاختصاص أو الشهادة أو بلد الدراسة، وكما توضحه الجداول (1، 2، 3) يمكن ملاحظة ما يأتي:-

أ- ضعف الأهمية النسبية لموضوع عدم استيعاب الاختصاصات النادرة ولدى الاختصاصات جميعها، عدا العلوم الطبية، حيث ترتفع النسبة إلى (50%). وفي هذا المجال يذكر أحد الأطباء الاختصاصيين الحاصلين على شهادة من المملكة المتحدة في مقابلة معه ما نصه:-

" عدم وجود ما يكفل تطويرك وأنت تعمل بعد الحصول على الشهادة العليا والتي هي بداية الطريق وليس وسطه حتى ".

ب- انخفاض الأهمية النسبية فيما يتعلق بموضوع تعادل الشهادات، حيث تصل النسبة إلى (16%) لدى ذوي الكفاءات من الاختصاصات جميعها، بل وتصل إلى الصفر لدى ذوي الكفاءات في حقل العلوم الهندسية.

جـ - تختلف النسبة فيما يتعلق بموضوع سوء العلاقة مع الرؤساء في الوظيفة من ميدان علمي إلى آخر، فقد تبين من خلال هذه الدراسة ارتفاع الأهمية النسبية لهذا الموضوع فيما يخص الكفاءات في العلوم الصرفة حيث تصل النسبة إلى (53%) تقريبا تليها في ذلك الكفاءات في العلوم الطبية.

وهنا يذكر أحد ذوي الكفاءات الحاصل على شهادة عليا في العلوم الصرفة من المملكة المتحدة في سنة 1975 في مقابلة معه ما نصه:-

" في رأيي من الأسباب الفعالة التي تؤدي إلى هجرة العقول هو عدم وجود الشخص المناسب في المكان المناسب مما يؤدي بالتالي إلى سوء التصرف من قبل المسؤول وسوء الإدارة والتعامل غير اللائق وغيرها مما يدفع بالشخص إلى ترك الوظيفة والهجرة ".

د- تعتمد الأهمية النسبية لموضوع تفضيل الكفاءة الأجنبية على المحلية عند التوظيـف (بناءً على ما جاء في دراستنا) على:-

1- انعدام أهمية لهذا الموضوع لدى ذوي الكفاءة الطبية والصيدلانية.

2- انخفاض الأهمية النسبية لهذا الموضوع تبعا للدرجة العلمية لذوي الكفاءات حيث تصل هذه النسبة إلى (15%) تقريبا لحملة شهادة الدكتوراه مقابل (50%) لحملة شهادة الماجستير.

3- انعدام الأهمية لهذا الموضوع لدى ذوي الكفاءات الحاصلين على الشهادات العليا من أوربا الغربية وأمريكا، بينما تبرز هذه الأهمية لدى الحاصلين على الشهادات العليا من أوربا الشرقية وروسيا، وبالمقابل ترتفع هذه الأهمية حتى تصل إلى أكثر من (57%) لدى الحاصلين على الشهادات العليا من البلدان العربية والآسيوية.

هـ - يمكن تسجيل الملاحظات الآتية فيما يتعلق بموضوع عدم اعتماد معايير موضوعية للتعيين والترقية:-

1-ارتفاع الأهمية النسبية لهذا الموضوع لدى ذوي الكفاءات الحاصلين على الشهادات العليا في ميدان الطب والصيدلة والعلوم الصرفة مقارنة بالاختصاصات الباقية.

2-انخفاض الأهمية النسبية لهذا الموضوع لدى الكفاءات الحاصلين على شهادات عليا من الدول العربية والآسيوية مقارنة بأقرانهم الحاصلين على شهادات عليا من الدول الأوربية وأمريكا.

و- فيما يتعلق بموضوع جمود النظم التعليمية، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:

1-ارتفاع الأهمية النسبية لهذا الموضوع لدى الكفاءات في ميدان الطب والصيدلة، وكذلك في ميدان العلوم الصرفة، بينما تنخفض لدى الاختصاصات الأخرى حتى تصل إلى أدنى مستوٍ لها في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية.

2-انخفاض الأهمية النسبية لهذا الموضوع لدى المتخرجين من دول أوربا الشرقية وروسيا حتى تصل هذه النسبة إلى (22.2%).

سادسا:- الأسباب السياسية:

    اعتمادا على البيانات التي وردت في عينة البحث وسواء على صعيد تقسيمها على أساس الاختصاص أو الشهادة أو بلد الدراسة يمكن تثبيت الملاحظات الآتية:

1. تصاعد هذا العامل لدى ذوي الكفاءات المتخصصين في ميدان العلوم الطبية والصيدلانية بشكل ملفت للانتباه، حيث تصل النسبة إلى (100%).
2. تجاوز هذا العامل نسبة الـ (82%)،بالنسبة للعلوم الصرفة والهندسية.
3. ارتفاعا للأهمية النسبية لهذا العامل أيضا بالنسبة للكفاءات من العلوم الاجتماعية والإنسانية وإن كان بنسبة أقل من الاختصاصات الأخرى،  حيث تصل النسـبة إلى (68.8%).

إن هذه النسب المرتفعة لهذا العامل منطقية تماما، فالظروف التي مر بها العراق خلال العقود الثلاثة الماضية أبسط ما يقال عنها إنها بعيدة كل البعد عن حالة الاستقرار السياســـي (التي يبحث عنها الجميع وبخاصة أصحاب العقول)، فبالإضافة إلى الحروب التي شهدها العراق وحالة الحصار الاقتصادي والاستهداف الطائفي والقتل على الهوية (خلال السنوات الأخيرة)، يلاحظ بشكل خاص استهداف بشكل منظم للعلماء والعقول والكفاءات العراقية، وكأن هدف الأطراف المعادية هو إفراغ العراق من خيرة أبنائه سواء بالتصفية أو بالدفع نحو الهجرة وترك البلد.

سابعا:- الدراسة في الخارج:

يعد موضوع الدراسة في الخارج من المواضيع الحساسة جدا ومن عوامل الدفع والهجرة لذوي الكفاءات باتجاه البلدان المتقدمة مانحة الشهادة، وعلى الرغم من هذه الحقيقة والتي مؤداها افتراض اقتصار البحث على استطلاع آراء ذوي الكفاءات الحاصلين على شهادة عليا من الخارج، فقد ارتأينا استقصاء آراء الحاصلين على الشهادات العليا المتخرجين من خارج أو داخل العراق على حد سواء لغرض الوصول إلى الهدف النهائي من الدراسة وهو تكوين فكرة واضحة مستمدة من الجميع.

وبناءً على دراستنا الميدانية والإحصائية التي وردت في الجداول (1، 2، 3) يمكن تثبيت النقاط الآتية:-

أ-على الرغم من بروز الأهمية النسبية لهذا الموضوع لكل من:

• ذوي الكفاءات من حملة الشهادات العليا في ميدان العلوم الصرفة.
• حملة شهادة الماجستير.
• المتخرجون من الدول العربية والآسيوية.

ب-فإن أهمية هذا الموضوع برأينا في الدفع إلى الخارج يبقى نسبيا أي يعتمد على الظروف الشخصية لذوي الكفاءات من جانب وعلى تأثير بقية العوامل الأخرى السابقة الذكر من جانب آخر.

الاستنتاجات والتوصيات

أولاً: - الاستنتاجات:

1. بروز العامل السياسي بمرتبة متقدمة، كأحد العوامل المؤثرة في هجرة الكفاءات، حيث يشكل انعدام الاستقرار السياسي والنزاعات واستهداف أصحاب العقول واحدا من أهم دوافع الهجرة للخارج.
2. ظهور أثر العوامل الاقتصادية يشكل واضح مقارنة بالعديد من العوامل الأخرى، حيث وصلت الأهمية النسبية لبعض هذه العوامل إلى (100%)، كما برزت من بين هذه العوامل:

• موضوع الرواتب (علما أن استمارات الاستبيان ملئت قبل عام 2008، حيث حصل تعديل الرواتب لعموم منتسبي الدولة، فضلا عن زيادة مخصصات الخدمة الجامعية والشهادة)
• موضوع خدمات (السكن، النقل، الصحة، التعليم)
• موضوع الاحتياجات الإنسانية وبأسعار مناسبة.

3. عدم التوافق بين متطلبات الاختصاص الدقيق وشروط البحث العلمي الموجودة فعلا.
4. عدم الانسجام بين المستوى العلمي لذوي الكفاءات والوظيفة المقترحة عند التعيين بالنسبة للبعض منهم، وما يترتب على ذلك من ضعف الرغبة في العمل.
5. صعوبة الحصول على وظيفة من قبل بعض حملة الشهادات العليا (وبخاصة الماجستير) في الجامعات وحتى في مؤسسات الدولة الأخرى.
6. معاناة العديد من أصحاب العقول والكفاءات من الروتين الثقيل الناتج من:

• جمود النظم التعليمية وضمور البرامج العلمية المحفزة على التجديد.
• الملل والضجر والسأم للبعض الناتج من التكرار اليومي وصعوبة،بل عدم إمكانية التغيير، خصوصا بالنسبة لذوي الكفاءات الذين قضوا فترة طويلة في الخارج واكتسبوا طبائع وعادات مرتبطة بالتنقل والسفر المستمر.

    وفي هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى مشكلة أساسية، لكنها كامنة، وهي بالتالي عامل دفع مستمر للهجرة وهي حالة الاغتراب النفسي الممكنة والتي تتولد حتماً عند قسم كبير من حملة الشهادات العليا والتي تتحول إلى حالة فعلية نتيجة للاغتراب، أي الابتعاد عن الوطن لفترة طويلة نسبيا لغرض الدراسة أو الإقامة والعمل في الدول المتقدمة، ونتيجة لاكتساب عادات جديدة تؤدي إلى طغيان حالة المقارنة على سلوك ذوي الكفاءات ومن ثم إلى عامل إحباط مستمر يؤدي إلى صعوبة الانسجام الأمر الذي يدفع للهجرة.

7. وجود بعض المشاكل المرتبطة بمسألة تعادل الشهادات. وعلى سبيل المثال ما يتعلق منها بشهادة الدكتوراه (حلقة ثالثة) من فرنسا، حيث تُعادَل هذه الشهادة بالماجستير في العراق ويمنح حاملها لقب مدرس مساعد في الجامعات والمعاهد العراقية، في حين أن دراستها تمتد لمدة ثلاث سنوات بعد الدراسة الأولية الجامعية(البكالوريوس).

ثانيا:- التوصيات:

1. ضرورة توفير الحماية للعلماء وأصحاب العقول والكفاءات، وتهيئة الأجواء الآمنة لهم قدر المستطاع، فتجارب البلدان المتقدمة أثبتت أن التطور والبناء الحضاري لا يتحقق بالمستلزمات المادية فقط، إنما، وهو الأهم، بالموارد البشرية وبخاصة الصفوة المتعلمة ذات الاختصاص والخبرة....
2. بالنظر لما يمثله الاستثمار البشري من دور وعائد كبير على أي بلد يوليه الأهمية الكبيرة، فإننا نقترح على أصحاب القرار والمخططين في العراق أن يدرسوا وبشكل معمق تجربتي اليابان وكوريا الجنوبية.
3. شمول حملة الشهادات العليا بامتيازات وحوافز خاصة، تسهل لهم أمر السكن والضمان الصحي، فضلا عن تسهيلات الحصول على سيارة مناسبة.
4. مساواة حملة الدكتوراه والماجستير المعينين في دوائر الدولة المختلفة من حيث المرتبات والمزايا الأخرى مع أقرانهم في الجامعات.
5. تسهيل إجراءات السفر إلى الخارج لأصحاب الشهادات العليا سواء لأغراض البحث العلمي أم للسياحة والاستجمام.
6. توفير تسهيلات البحث العلمي والمعرفي وإجراءات التأليف ووسائل النشر.
7. وضع الخطط التي تستهدف الربط بين أنشطة الأكاديميين من حملة الشهادات العليا في الجامعات والكليات العراقية (الحكومية والأهلية)،وبين ميادين التطبيق في المجتمع، بحيث تؤدي عملية المزاوجة هذه إلى استفادة دوائر الدولة المختلفة من خبرات ومعارف الأكاديميين، في الوقت نفسه الذي تتراكم فيه خبرات حملة الشهادات العليا نتيجة للاحتكاك والممارسة الميدانية في وزارات ومؤسسات الدولة.
8. ضرورة أن تقوم الدولة بدعم الجامعات والكليات الأهلية بوسائل الدعم والتشجيع المتعددة، بما في ذلك رفدها بالكادر التدريسي، الأمر يهيئ فرص العمل للعديد من أصحاب الشهادات واستقطابهم بدلاً من هجرتهم. وهنا ندعو أصحاب القرار إلى ضرورة تحقيق ذلك من خلال اعتبار الخدمة في الجامعات والكليات الأهلية خدمة فعلية مجزية لأغراض العلاوة والترفيع فضلا عن الاستحقاق التقاعدي.
9. تشكيل لجنة من المختصين من قبل مجلس الوزراء مهمتها استقطاب الكفاءات العراقية الموجودة خارج البلاد، على أن تكون بصلاحيات واسعة للنظر بمعوقات عودتهم (مثل إتاحة فرص العمل لهم، ومعادلة شهاداتهم، وتسهيل إجراءات عودتهم.... الخ).

جدول رقم (1)

تقسيم عينة البحث على أساس الاختصاص

جدول رقم (2)

تقسيم عينة البحث على أساس الشهادة

جدول رقم (3)

تقسيم عينة البحث على أساس بلد الدراسة

ملحق رقم (1)

استمارة إحصائية عن موضوع هجرة العقول وذوي الكفاءات

إن الغرض من هذا المسح الإحصائي هو لتشخيص عوامل هجرة العقول وذوي الكفاءات من البلد. وسيكون لتعاونك وإعطائك المعلومات الدقيقة الدور الأساس في تحقيق هذا الهدف. علمت بأن المعلومات التي ستدلي بها سيقتصر استخدامها على الأغراض العلمية فقط..............    وشكرا لتعاونك.....

معلومات عامة:-

1- التحصيل العلمي (الشهادة              2- بلد الدراسة               3- الاختصاص

4- سنة التخرج                               5- اللقب العلمي (للتدريسيين)

سؤال:- ما هي برأيك العوامل التي تؤدي إلى هجرة العقول وذوي الكفاءات مما مذكور أدناه ؟

ملاحظة:- ضع علامة ( √) أمام العامل الذي تعتقده مناسباً.

قائمة المصادر-

أولا:- المصادر العربية:

1- الابراهيم، حسن - عنبتاوي، سمير،(أنماط استخدام الهيئات التدريسية في إطار انمائي: بعض الاستنتاجات الأولية في جامعة الكويت)،هجرة الكفاءات العربية - بحوث ومناقشات الندوة التي نظمتها اللجنة الاقتصادية لغربي آسيا (اكوا) الأمم المتحدة، مركز دراسات الوحدة العربية،(بيروت، 1981).

2- أفريحا، فاطمه زهرة، (عوامل هجرة الكفاءات في الجزائر)،   هجرة الكفاءات العربية  -  بحوث ومناقشات الندوة التي نظمتها اللجنة الاقتصادية لغربي آسيا (اكوا) الأمم المتحدة، مركز دراسات الوحدة العربية، (بيروت، 1981).

3 - الحبيب، مصدق جميل، التعليم والتنمية الاقتصادية، (بغداد، 1981).

4- زحلان، أنطوان، (مشكلة هجرة الكفاءات العربية)، هجرة الكفاءات العربية - بحوث ومناقشات الندوة التي نظمتها اللجنة الاقتصادية لغربي آسيا (اكوا)، الأمم المتحدة، مركز دراسات الوحدة العربية، (بيروت، 1981).

5-  زين، الياس، هجرة الأدمغة العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، (بيروت، 1972).

6- صادق، نداء مطشر،  هجرة الكفاءات العربية أسبابها ونتائجها،(بغداد، 1987).

7- بحوث ومناقشات الندوة التي نظمتها اللجنة الاقتصادية لغربي آسيا (اكوا) الأمم المتحدة، مركز دراسات الوحدة العربية، (بيروت، 1981).

8- غيش، اوسكار، (نظرة جديدة إلى هجرة الكفاءات مع إشارة خاصة إلى مهنة الطب)، هجرة الكفاءات العربية - بحوث ومناقشات الندوة التي نظمتها اللجنة الاقتصادية لغربي آسيا (اكوا)، الأمم المتحدة، مركز دراسات الوحدة العربية، (بيروت، 1981).

9- منظمة العمل العربية - مكتب العمل العربي، هجرة الأدمغة العربية، مؤتمر العمل العربي - الدورة الثامنة، (بغداد، 1980).

10- المؤلف (بلا)، (هجرة الكفاءات)، المجلة العربية للإدارة، المجلد العاشر، العدد الأول، 1986، (عمّان).

11- وزارة التخطيط - الجهاز المركزي للإحصاء، المجموعة الإحصائية السنوية، (بغداد، 2007).

12 - www.aljazeera.net _ 21/5/ 2009.

-  برنامج ما وراء الخبر - عنوان الحلقة / هجرة العقول العربية.

ثانيا:- المصادر الأجنبية (باللغة الفرنسية):

1- COUET Jean - Francois / et / BREMOND Janine ; pays sons - developpes ou  pays en voie de developpement Hatier , paris. 1978.

2-PERROUX  Framcois ; le monde  diplomatiqve ; mai , 1977.

3- plashke, Henrik ; L / economiste du Tiers - Monde. No. 16.Janvier - Fevrier. 1977.

4-  Graham Shanley ; L exode des cerveaux ; Le monde - vendredi 2 Juillet , 1982