تصنیف البحث: علوم القرآن
من صفحة: 272
إلى صفحة: 281
النص الكامل للبحث: PDF icon 3-12.pdf
البحث:

 

مقدمة:-

مما لاشك فيه إن القران الكريم حوى الكثير من المبادىء الخلقية والتربوية والإنسانية المهمة التي تصب في خدمة المجتمع، تلك المبادىء التي جاءت لتنظيم حياة الإنسان في كل دقائقه وتفصيلاته، وبالتالي بنائه خلقياً ليكون قادراً على السير في خطى الرسالة التي جاء بها رسول الإنسانية محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وليكون كذلك قادراً على تحمل الأمانة التي حمّلها إياه خالقه، تلك الامانة التي عجزت السماوات والأرض والجبال عن حملها، وعليه فأننا نجد القران الكريم ما انفك يدعو إلى هذا الجانب ويؤكد عليه،وذلك من خلال رسم آياته، ذلك الأمر الذي لاشك انه يمثل أحد الجوانب المهمة في خلود القرآن الكريم، ووصوله إلينا كما انزل دون تبديل أو تحريف، بالإضافة إلى كونه تعالى هو الذي تعهد بحفظه فقال "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"([1])

ومما ينبغي ذكره إن الجوانب الخلقية كانت في مقدمة المنهج التربوي للقرآن الكريم المتمثل بالأوامر والنواهي،هذه الجوانب التي بدونها لا يمكن بحالٍ من الأحوال تحقيق الأهداف المنشودة للمجتمع الإسلامي([2])، ويكفي في التدليل على هذا القول هوإن الآيات المكية تكاد كلها أوجلها تؤكد على هذا، ولعل السبب يكمن في إن استقرار مثل هذه القيم في النفوس هوالذي يساعد في استلهام أهم هدف جاء القران الكريم لأجله، ألا وهو تربية المجتمع وتهذيبه.

وسورة يوسف هي إحدى سور القرآن الكريم، التي تناولت الجوانب التربوية على طريقة العرض القصصي المثير([3])، والذي يشدّ السامع ويلفت انتباهه، ويعرض له حقيقة مؤداها إن الحق لابدّ أن ينتصر على الباطل، وإن الحقيقة مهما خفيت فانه لابدّ لها أن تظهر ولوبعد حين، وأن العبد المؤمن لابد وأن يصبر على المحن والبلايا التي تتوالى عليه، وأن العفة والشرف أمر لا يمكن تثمينه، وإن عذاب الدنيا وإن طال هوأهون بكثير من عذاب الآخرة وإن قصر، وأن الرؤى والأحلام في مجملها هي ذات معارف عظيمة لا يمكن لأي شخص تصورها إلا من أوتي الحكمة وجوامع الكلم، وأن على المرء كذلك أن يحسن حتى لمن أساء إليه، أويعفوعمن أذاه، فكل هذه وغيرها غايات تربوية حفت بها السورة المباركة والتي يدور الحديث عنها ([4]).

وسنحاول في الصفحات التالية أن نبين وأن نسلط الضوء على أهم الجوانب التربوية منها، وأساليب عرضها، على أن نتخذ منها طريقاً ومنهجاً لتربية هذا الجيل بتهذيب سلوك أفراده، لنجعل من كل وليد يوسف، بأخلاقه وطبعه وسجيته وتسامحه وعفوه، والله خير من أعان وسدد.

أولا:- التأني في إصدار الحكم واتخاذ القرار

من الجوانب الخلقية التي أكدت عليها سورة يوسف هي انه على المرء - بشكل عام- والقاضي أو الحاكم - بشكل خاص- أن لا يصدر حكمه على شخص متهم مالم يسمع حجته ودعواه، وإعطائه الفرصة للدفاع عن نفسه، فإذا جاء شخص وادعى أمرا معيناً، فما على السامع حينها إلا أن ينصت إلى حجة الشخص ودليل قوله، أودليل ادعائه، قبل إصدار الحكم عليه بالكذب أم بالصدق، وإن كان هويعلم سلفاً بطلان ذلك الادعاء وتلك الحجة، قال تعالى" وجاءوا أباهم عشاء يبكون([5]). قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولوكنا صادقين " ([6])

فمن خلال كلام أولاد يعقوب(عليه السلام) تبين لنا كما تبين ليعقوب نفسه إن الفتية كانوا كاذبين([7]) لسببين اثنين:-

اولهما:- اختلاقهم قصة الذئب، فيعقوب هوا لذي ذكره أمامهم وذكرهم به بقوله " و أخاف ان يأكله الذئب " وأدرك يعقوب ذلك، فعلم أن الذئب ليس له وجود وانه لم يأكل يوسف، ولوان الفتية كانوا على قدر قليل من الذكاء لاختاروا سبباً آخر غير الذئب ليوهموا أباهم بان ما حصل ليوسف(عليه السلام) كان حقيقة ولم يكن وهماً، بل لوكان لهم ذلك القدر من الذكاء لمزقوا قميص يوسف قبل أن يلطخوه بدم كذب، الأمر الذي جعل أباهم يسخر منهم واصفاً الذئب بأنه حليم يأكل ولده دون أن يمزق قميصه ([8]).

ثانيهما:- هو قول إخوة يوسف(عليه السلام)" وما أنت بمؤمن لنا ولوكنا صادقين " ([9]) والمعنى انك سوف لن تصدقنا وإن صدقنا، وهذا منطوق يستلزم مفهوماً خلاصته أنهم كاذبون ([10]).

ولأجل كل ما تقدم كان من حق يعقوب (عليه السلام) أن ينكر عليهم ادعاءهم مباشرة لكنه لم يفعل ولم يتهمهم أو يصفهم بالكذب حتى جاءوا على قميصه بدم كذب قال تعالى " وجاءوا على قميصه بدم كذب "([11]) حينها قال لهم من غير فاصل " بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبراً جميل "([12])، وهذا خلق تربوي واجتماعي مهم مؤداه انه يجب على الحاكم أن لا يصدر حكمه دون الاستماع إلى حجة المتهم،لأن ذلك طريق يؤدي إلى الظلم، وهذا هومحور قوله تعالى " وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل "([13])، والحكم بالعدل يستلزم الاستماع إلى المتهم وحجته، وأن تترك له الفرصة للدفاع عن نفسه، قبل إصدار الحكم عليه، لأن ذلك اضمن لتحقيق العدل ولتوافر دواعيه، أضف إلى ما سبق ذكره، أن سبق الخصم خصمه في الإدلاء بدعواه لا يستدعي بالضرورة صدق تلك الدعوى، وهذا ما تناولته سورة يوسف أيضا، فقال تعالى " وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أوعذاب اليم"([14])، وفي هذه الآية إشارة إلى إن امرأة العزيز بادرت باتهام يوسف وذلك بإلقاء التبعة عليه، بالرغم من تيقنها ببراءته، فما كان من يوسف حينها إلا أن بادر بالدفاع عن نفسه، نافياً دعوى زوجة مولاه قائلاً " هي راودتني عن نفسي " ([15])، ولعل في إدلاء زوجة العزيز بحجتها إمام زوجها قبل يوسف(عليه السلام) دليل على براءة الأخير، من حيث أن يوسف لوانه هوالذي بادر في إغراء زوجة سيده بجماله وحسنه وروعة صورته، لبادر هوبالدفاع عن نفسه قبلها، ولكنه لم يفعل، لأنه ليست لديه تهمة متحققة تستوجب منه الدفاع عن نفسه، وإنما دافع عن نفسه بعد أن اتهمته زوجة سيده بمحاولة الاعتداء عليها، فهوإذن بريء بشهادة الواقع ومجريات الأمور، إضافة إلى أدلة براءته الأخرى، وعلى ذلك فليس كل من سبق خصمه في الإدلاء بحجته يكون مظلوماً وإنما على صاحب الأمر التريث والتأني وعدم التسرع في إصدار الحكم، كما فعل يعقوب(عليه السلام) فعليه أن يستمع إلى حجة الخصمين، وصدق من قال: إذا جاءك شخص قد فقئت عينه فلا تحكم له فربما يكون قد فقأ عينيّ صاحبه، والا فان مجانبته للصواب في حكمه ستكون متحققة لا محالة.

ثانياً:- عدم التواني في الدعوة إلى الله

من الرؤى التربوية التي تناولتها سورة يوسف، هي انه على المرء أن يكون داعياً إلى ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن عليه أن لا يعتذر في الدعوة إلى الله تعالى، بالظرف الذي يمر به، فهذا يوسف(عليه السلام) وقد رمي في السجن لا لشيء إلا لأنه أبى تدنيس نفسه وخيانة سيده الذي أكرمه وأحسن مثواه،ودخل السجن دون أن يتزعزع إيمانه وتتذبذب عقيدته في أن من سدده للخلاص من كيد امرأة، العزيز سوف لن يتركه دون هدى أوتسديد آخر، وأنه إنما دخل السجن فهو لمصلحة، على الرغم من عدم علمه بماهية تلك المصلحة وطبيعتها، لكن إيمانه العميق هو الذي دفعه إلى الإقرار بذلك، وبقي (عليه السلام) ملازماً لطاعة ربه، وكله إيمان وعقيدة بان ربه سوف ينجيه، وما السجن إلا وسيلة من وسائل رفعته وعلو شأنه، فبالرغم من حالة الظلم التي عاشها يوسف إلا انه لم يتوان في الدعوة إلى ربه وهو في سجنه بقوله " يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار. ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون "([16])

ولعل هناك دلالة أخرى في هذه الآية، وهي استثمار يوسف للموقف، وذلك بالعروج من إجابة السجينين إلى الدعوة إلى الله، لان من الملاحظ إن دعوة يوسف إلى ربه اجنبية عن طبيعة الأسئلة الموجهة إليه،وفي ذلك إشارة واضحة وجلية إلى أن يوسف(عليه السلام) كان مواظباً في الدعوة إلى الله، حتى قبل أن يسأل السجينان رؤيا هما، وإن السجينين ما كانا ليسألانه عن رؤياهما لولا معرفتهما وعلمهما بفضله وعلمه وحكمته بقولهما " إنا نراك من المحسنين "([17]) ولا شك انهما ما أدركا إحسان يوسف إلا من خلال عشرتهما له في السجن الذي لبث فيه بضع([18]) سنين، فيوسف إذن لم يأل جهداً في الدعوة إلى الله، وفي هذا إشارة إلى أن الدعوة إلى الله تعالى واجبة في كل حال وفي كل ظرف.

وبعبارة إننا نلاحظ عروج يوسف من تأويل رؤى السجينين إلى الدعوة إلى الله تعالى، على الرغم من تأويله الرؤيا، وقد يكون ذلك سبباً - أعني الدعوة إلى الله- للإيمان بتأويل الرؤيا من قبل صاحبيها، لأن الملحد لا يمكن له أن يؤمن بتأويل رؤيا من قبل شخص يخالف ما هو عليه من عقيدة ورأي، فلا بد إذن أن يعترف السجينان أولاً بأهلية يوسف لتأويل رؤياهما كي يؤمنا به، لذلك جاءت الإشارة منه (عليه السلام)إلى الله تبارك وتعالى ووحدانيته ما بين سؤال السجينين ورده عليهما.

وحينما أراد الملك تفسير رؤياه وآل الأمر إلى يوسف، اختلف الوضع حينئذ، حيث انه(عليه السلام) ابتدأ بتفسير الرؤيا مباشرة دون الإشارة أوحتى العروج إلى الحديث عن عقيدة الوحدانية، ولذلك فان هناك علاقة ما بين عدم عروج يوسف إلى محور العقيدة، وبين السنين ألبضع التي لبثها (عليه السلام) في السجن، لأنه وفي غضون تلك الحقبة من الزمن كانت مظاهر التوحيد قد انتشرت في مصر، وبالتالي لم تكن هناك حاجة للعروج إلى هذا الموضوع من قبل يوسف، قال تعالى " وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات. يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون. قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. وقال الذي نجا منهما وادّكر بعد امة أنا أونبئكم بتأويله فارسلون. يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي ارجع إلى الناس لعلهم يعلمون. قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون " ([19])

وهكذا نلاحظ ان التأويل من قبل يوسف قد أتى مباشرة وفور انتهاء عرض الرؤيا عليه، ومن هنا نعلم ان عقيدة التوحيد قد أخذت مأخذها في المجتمع المصري آنذاك، وإلا لما توانى يوسف في الدعوة إلى ربه والإشارة إلى وجوب وحدانيته، قبل أوحتى قبيل تأويله الرؤيا، كما حصل في الحالة الأولى - والله اعلم-.

فلا بدّ لدعاة قرننا هذا ان ينتهجوا الأسلوب نفسه، وان يدعوا إلى الله ما أمكنهم الى ذلك سبيلا دون توان أو تقصير، على ان يكونوا دعاة الى الله تعالى بخلقهم وسجيتهم قبل ان يكونوا دعاة بأقوالهم وكلامهم([20]).

ثالثاً:- وجوب ستر عورات الآخرين

ومن المبادىء التربوية الأخرى التي احتوتها سورة يوسف هي وجوب المحافظة على عورات الآخرين، لا سيما عورات من سبق فضله وبره وإحسانه، حتى مع توافر الدواعي والأسباب، كأن يتوقف على ذلك إثبات براءة الشخص وإظهار حقه، وهذا عين ما فعله يوسف(عليه السلام) فحينما عاد موفد الملك الى سيده بعد التقاءه يوسف وقيام يوسف (عليه السلام) بتأويل رؤيا الملك، وبعد ان قال الملك ائتوني به، فلما جاءه الرسول قال يوسف له " ارجع إلى ربك فأسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن " فيوسف يعلم بان النسوة بريئات من كل ذنب، وامرأة العزيز تعلم، كما ان النسوة أنفسهن يعلمن ذلك، و مع هذا فقد أعلن يوسف(عليه السلام) بان سبب وجوده في السجن هو النسوة، ولعل السبب في ذلك يكمن في ان يوسف يعلم بان النسوة لو وصلها هذا الاتهام فإنهن سيدافعن عن أنفسهن أمام الملك، ويخبرنه بعد ان يوجه سؤاله إليهن بهذا الخصوص عن قصة يوسف، بان المذنب إنما هو زوجة العزيز، و انها هي من راودته عن نفسه، وبالتالي فان هذا الأسلوب يعد من قبيل الإشارة غير المباشرة من يوسف صوب امرأة العزيز([21])، تلك المرأة التي كانت السبب في كل ما جرى له، ومع ذلك فقد أبى يوسف ان يشير إليها بأصابع الاتهام إشارة واضحة، ولعل أول من أدرك هذا الخلق التربوي هي امرأة العزيز نفسها، مما دعاها للاعتراف بذنبها وجريرتها، فاعترفت بأنها هي الكاذبة، وان يوسف صادق في دعواه ومقالته، وأدرك الملك ذلك أيضا، كما انه أدرك والنسوة معه عظيم أخلاق يوسف، وبعبارة أخرى فان يوسف لم يرد الإساءة إلى من أكرمه وأحسن مثواه، بإساءته إلى زوجته، ولكنه أراد ان يظهر براءته بالإشارة الى النسوة اللاتي قطعن أيديهن مع علمه ببراءتهن، وعلمه كذلك بان النسوة سوف يدافعن عن أنفسهن أمام العزيز، وبدفاعهن عن أنفسهن فان الملك لابد له ان يدرك ومن خلال التحقيق بان يوسف انما أراد الإشارة الى امرأة العزيز، وانه تكريماً للعزيز لم يفعل ذلك، ووفاء منه(عليه السلام) له، لما قدمه من خير أثناء إعالته له، قال تعالى " قال ما خطبكن اذ راودتن يوسف عن نفسه. قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الان حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين " ([22])، ولعل الذي يؤيد ان زوجة العزيز أدركت هذا المعنى، وكيف انه -عليه السلام- رفض الإشارة اليها مع علمها وعلمه بأنها هي المذنبة، وأن إشارته إلى النسوة انما هي إشارة اليها، هوان امرأة العزيز اعترفت بذنبها مباشرة ودونما فاصل قال تعالى " قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء (قالت) "وبهذا فان المرأة تكون قد أدركت ومن قبلها النسوة بان هناك جمالاً آخر ليوسف يفوق جمال وجهه، ألا وهو جمال أدبه وأخلاقه، المعنى الذي أدركه العزيز أيضا من خلال أسلوب يوسف الرائع، ذلك الأسلوب الذي جعل امرأة العزيز تعترف وتقر بفعلتها، وهي التي كانت شديدة الإنكار طوال السنين ألبضع الماضية، وبغض النظر عن الضمير الذي تعود عليه لفظة الخيانة " ذلك ليعلم اني لم أخنه بالغيب "([23])، فان الثابت هوان امرأة العزيز شعرت بذنبها، وأدركت عظم أخلاق يوسف، وكيف انه فضل السجن على ان يقارب الفاحشة " قال ربي السجن أحب الي مما يدعونني اليه "([24]) كما وانها أدركت خطأها اذ توهمت ان بامكانها إغراء يوسف وجذبه اليها بما تملكه من مال وجمال، وقد أدرك الملك هذا المعنى الذي لا يمكن ان يصدر الا عن نفس كبيرة تؤثر العذاب على خيانة من أكرمها باللذة الزائفة، وهذا ما نلحظه في أسلوب الملك نفسه، فحينما راى رؤياه، وقام يوسف بتأويل تلك الرؤيا طلبه الملك لرؤيته ومقابلته قال تعالى " وقال الملك ائتوني به" ([25]) ولكن أسلوب الملك تغير بعد ذلك فبعد ان اعترفت زوجة العزيز بذنبها من خلال الأسلوب التربوي الذي انتهجه يوسف -ع- تغير أسلوب الملك بقوله " ائتوني به استخلصه لنفسي " ([26]) وتمثل كلمة الاستخلاص معان عدة من أبرزها ان يوسف سيكون بالنسبة الى الملك مطرح الثقة ومنتجع الأسرار، وهذا ما حدث فعلاً فمن كان وفياً لصاحبه رغم الإغراءات المتكررة، لاسيما وان نوازع النفس معروفة، ولا يمكن التغلب عليها الا بذكر الله والاعتصام بهداه، فانه لابد ان يكون وفياً فيما عدا ذلك، ولأجل هذا فقد اضاف الملك كلمة الاستخلاص في المرة الثانية بعد (ائتوني به) وكلمة لنفسي تمثل الاستخلاص الحقيقي اوقمة الاستخلاص وذلك لما لمسه من صدق يوسف ووفائه وكرمه وأخلاقه وعفته الى غير ذلك من الشمائل التي قلما تجتمع في شخص واحد.

ثم قال تعالى: " فلما كلمه قال انك اليوم لدينا مكين امين قال اجعلني على خزائن الارض اني حفيظ عليم "([27]) وكلمة (مكين امين) هي دلالة واضحة على ان الملك قد طرح ثقته بيوسف من غير حدود، قال تعالى " وكذلك مكنا ليسوف في الارض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على امره ولكن اكثر الناس لا يعلمون "([28]) وهكذا فانه على كل فرد من افراد مجتمعنا الإسلامي أن يسلك هذا المسلك الذي سلكه يوسف(عليه السلام) وأن يعتبر به ويجعله طريقا وأسلوبا ومنهجاً في حياته وفي تعامله مع غيره، لانه يمثل خلقاً تربوياً رفيعاً يرقى بالمجتمع إلى اعلى الدرجات وأسماها.

رابعا:- احترام العهود مطلب إسلامي هام

ان احترام المواثيق يمثل في حقيقته رعاية مهمة للإنسان المؤمن فحتى اولئك الذين فقدوا أبسط قيمهم، فإن للعهد والميثاق عندهم مكانة مهمة، بمعنى أن على المرء ان يلتزم بمواثيقه وعهوده، وهكذا ما حصل مع اكبر أولاد يعقوب(عليه السلام) فبالرغم من أنه قام بالاشتراك مع اخوته بالكيد لاخيهم يوسف، وجاء الى ابيه بقميص اخيه مدعيا أن الذئب قد أكله، وبالرغم من قساوة قلبه وهويسمع استنجاد أخيه الأصغر طالبا المعونة والغوث، دون ان يرق قلبه له، الاّ انه مع اخوته كانوا ملتزمين حقيقة بالعهد الذي اخذوه على أنفسهم أمام ابيهم بشأن اخيهم الاخر، الذي طلبه عزيز مصر (يوسف)، حيث رفضوا ودافعوا عنه، قال تعالى "فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا. قال كبيرهم الم تعلموا ان اباكم قد اخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الارض حتى يأذن لي ابي اويحكم الله لي وهوخير الحاكمين"([29]).

وقد وصل المر بأولاد يعقوب ان طلبوا من يوسف(عليه السلام) ان يأخذ احدهم بدل أخيهم الذي وجد صواع الملك في رحله، وما ذلك الا احتراماً للميثاق الذي اعطوه لأبيهم، قال تعالى على لسان يعقوب " قال لن ارسله معكم حتى تؤتوني موثقاً من الله لتأتينني به الا أن يحاط بكم. فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل"([30])

وفي هذه الاية اشارة الى ان الابن الاكبر ربما يكون تحمله للمسؤولية اكثر من غيره " قال كبيرهم الم تعلموا ان أباكم قد اخذ عليكم موثقاً من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف. فلن ابرح الارض حتى يأذن لي ابي او يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. ارجعوا الى ابيكم فقولوا يا ابانا ان ابنك سرق وما شهدنا الا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين. واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي اقبلنا فيها وانا لصادقون "([31])

وهذا الكلام كله يتضمن اشارة الى صدقهم من حيث الادلة الكثيرة، والشهود الذين طلبوا من أبيهم أن يسألهم، وهم اهل القرية وأهل العير، وهذا يستدعي بالضرورة كذبهم في الحالة الاولى، لأنهم لوكانوا صادقين في السابق لما اقتضت الضرورة الان الاستشهاد بهذا الكم من الأدلة، وقد يسال السائل هنا، ماذا لو اخذ يعقوب الميثاق من ابنائه في المرة الاولى حينما ارسل يوسف معهم([32])، وجواباً عن ذلك نقول فعلاً، فلو اخذ يعقوب(عليه السلام) الميثاق من اولاده ومنذ البداية في قضية يوسف، لما تمكن احد منهم ان يكيد به اوان يرميه في غيابت الجب كما حصل، ولكن لان الله تعالى اراد ومن خلال يعقوب(عليه السلام) ابتلاء اخوة يوسف، لاجل ان تتحقق رؤيا يوسف بان الكواكب سوف تسجد له، ولاجل ان يعّلم الله تعالى انبيائه الصبر والجلد وتحمل المشاق وفراق الاحبة كان ذلك كله، ولان يعقوب لم يطلب من ابنائه الميثاق والعهد في الحالة الاولى، فانه كان مؤمناً ايماناً حقيقياً بان ابنائه يكذبون عليه، وان يوسف ما زال حياً، ودليل ذلك قول الله تعالى على لسانه " يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله"([33])، وما يفهم من قول يعقوب في هذه الآية، هوان يعقوب لم يكن مصدقاً ما ادعاه اولاده بان يوسف قد أكله الذئب، بل كان متيقناً بسلامة يوسف ونجاته، لاعتقاده بان رؤيا ولده يوسف لابد وان تتحقق طال الزمن ام قصر، اضف الى هذا أن قول الله تعالى على لسان يعقوب(عليه السلام) " قال بل سولت لكم انفسكم امراً فصبراً جميل "([34]) لا يمكن ان يكون المقصود به اخويوسف، لانهم كما نعلم بريئون من وضع صواع الملك في رحله، اذ كيف يفعلون ذلك وهم بالاصل حريصون على اعادته الى ابيهم سالماً حسب الميثاق والعهد الذي قطعوه له " فلما اتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل "([35])، وانما الحديث هنا عن يوسف نفسه كما هوالحال في الاية الثامنة عشرة من السورة ذاتها، وفي هذا كله دلالة على ان يعقوب(عليه السلام) كان مؤمناً ومعتقداً بنجاة يوسف،

ودليل ذلك ايضاً هوقوله تعالى بعد ذلك مباشرة " وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم"([36]).

وبناء على هذا فاننا نؤمن بان يعقوب كان يعلم ان ولده يوسف حي، وان اخوته قد مكروا به وكادوا له، وان أخاهم الآخر قد فقدوه مرغمين، وذلك استناداً إلى بقاء أخيهم الاكبر وعدم رجوعه معهم، واستناداً ايضاً الى الادلة الكثيرة التي حاول اخوة يوسف جمعها وتقديمها لأبيهم، لتكون لهم خير دليل على صدق دعواهم ببراءتهم، ولكن الامر الذي غفل عنه الابناء، هوان الحاحهم بعرض الادلة التي تؤيد صدق دعواهم في هذه القضية هو الذي فضح أمرهم وكشف سرهم، وأصبحوا من حيث لا يشعرون مدانين بالمكر لاخيهم وبجريمة الكذب على ابيهم، حتى قال لهم " والله المستعان على ما تصفون".

خامساً:- إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه

من القواعد التربوية المهمة في المجتمع الإسلامي قاعدة " إذا عمل أحدكم عملاً ان يتقنه".

فان من اراد تنفيذ امر فلابد له ان يحكمه ويتقنه، ومسألة إتقان العمل بعد الابتداء به، من المسائل المهمة التي على المرء ان يفعلها، وهكذا صنع يوسف، فحينما أراد(عليه السلام) ان يتهم أخاه بفعل لم يفعله أمام إخوته، وبعد أن وضع صواع الملك في رحل أخيه المقصود، وحينما ابتدأت مرحلة التقصي والتحري، لم يذهب يوسف مباشرة إلى رحل اخيه الذي كان قد وضع الصواع فيه، وانما ابتدأ برحال بقية اخوته مع علمه السابق بان الصواع ليس موجوداً في رحالهم، حتى وصل الى رحل اخيه المقصود فاستخرج الصواع منه، لان يوسف لو ذهب مباشرة الى رحل أخيه وقام باستخراج الصواع منه، لقال الإخوة حينها مخاطبين يوسف: وما الذي أدراك بان الصواع هنا ؟ وبالتالي يكون يوسف(عليه السلام) قد فتح على نفسه أبوابا كان من الممكن إغلاقها، وقد أغلقها يوسف فعلاً بمحاولة البحث عن الصواع في رحال بقية الإخوة([37])، فعلى المرء إذن أن يتأسى بيوسف في عمله وإتقانه وضبطه.

سادساً:- على المرء أن يكون متسامحاً

ومن المبادىء التربوية والخلقية التي جاءت سورة يوسف لتأصلها وتجذرها، وذلك من خلال خلق نبي الله يوسف - عليه السلام – هومبدأ العفووالتسامح، فرغم غدر إخوته به ومكرهم له، إلا إن ذلك لم يزده إلا عفواً وتسامحاً وهويتذكر مقاساة ومعاناة السجن، ومن قبله سجن الجب، الذي ما زاد أنينه فيه إخوته إلا غلاظة وقسوة، وكأن الله انتزع الرحمة والشفقة من قلوبهم، فقال -ع- لهم وهويتذكر ذلك كله " قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين "([38]) وهذا هوخلق الأنبياء الذين امرنا ان نتأسى بهم([39])(صلى الله عليه وآله وسلم)وعلى نبينا خاصة، محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين وسلم تسليماً كثيراً.

المصادر

1. القرآن الكريم.

2. التبيان في تفسير القرآن – ابي جعفر محمد بن الحسن الطوسي

تحقيق احمد حسين قصير العاملي

الطبعة الاولى 1409

طبع و نشر مكتب الاعلام الاسلامي

3.الاسلام في حياة المسلم – د. محمد البهي – دار الفكر- بيروت – لبنان.

4. الجامع لاحكام القرآن- ابي عبد الله محمد بن احمد الانصاري القرطبي.

طبعة 1405 – دار احياء التراث العربي – نشر مؤسسة التاريخ العربي – بيروت.

5. جامع البيان عن تأويل آي القران- ابي جعفر محمد بن جرير الطبري.

6. الدر المنثور في التفسير بالمأثور – و بهامش القرآن الكريم مع تفسير ابن عباس جلال الدين السيوطي الطبعة الاولى 1365 – مطبعة الفتح جدة ونشرها.

7. جواهر الحسان في تفسير القرآن – عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف – ابي زيد الثعالبي المالكي، تحقيق دكتور عبد الفتاح ابو سنة و آخرون- الطبعة الاولى 1418- دار احياء التراث العربي.

8. التفسير الكاشف – محمد جواد مغنية – دار العلم للملايين – بيروت – الطبعة الاولى 1669.

الهوامش

 


 

([1]) - الحجر/9.

([2]) – ينظر: التبيان في تفسير القرآن – أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي: 6 / 92.

([3]) – ينظر: الاسلام في حياة المسلم – د. محمد البهي – 49. و ينظر: التربية الاسلامية بين الاصالة و المعاصرة – د. اسحاق احمد فرحان / 33.

([4]) – ينظر الجامع لاحكام القران- القرطبي 9/118

([5]) – ذهب الامام القرطبي الى ان ابناء يعقوب انما اختاروا وقت العشاء ليكونوا اكثر قدرة في الاعتذار من ابيهم. الجامع 9/118

([6]) - يوسف /17

([7]) – ينظر الجامع 9/ 118

([8]) – ينظر التبيان في تفسير القران- الطوسي 6/92

([9]) - يوسف /17

([10]) – ينظر جامع البيان عن تاويل آي القران – ابي جعفر محمد بن جرير الطبرسي 12/194. وقيل المعنى هو " وما انت بمصدق لنا و لو كنا من اهل الصدق الذين لا يتهمون سوء ظنك بنا و تهمتك لنا " المصدر نفسه 12/194

([11]) - يوسف /18

([12]) - يوسف / 18

([13]) - النساء /58

([14]) - يوسف /25

([15]) - يوسف/26

([16]) - يوسف /40

([17]) - يوسف/36

([18]) – ذهب الطبرسي في تفسيره الى ان السجينين و كأنهما سألا يوسف عن كيفية تاويله الرؤيا، و ليس بكاهن ولا عراف فاخبرهما حينها بانه رسول الله، ثم قام بعد ذلك بنصب الادلة التي تشير الى وجوده عز و جل . ينظر مجمع البيان في تفسير القران 5/ 354

([19]) - يوسف/43-47

([20] )- ينظر الاسلام في حياة المسلم – محمد البهي / 214

([21]) – ينظر التفسير الكاشف – محمد جواد مغنية 4/ 325

([22]) - يوسف/ 51

([23]) - يوسف/52

([24]) -يوسف /33

([25]) يوسف/50

([26]) -يوسف/54

([27]) يوسف/54

([28]) - يوسف/ 21

([29]) - يوسف/ 80

([30]) -يوسف/ 66

([31]) -يوسف/ 82

([32]) –ذهب البعض الى ان يعقوب قد اخذ ايضا العهد على اولاده في شأن يوسف، فروي انه خاطب روبيل احد ابنائه قائلا يا " يا روبيل الم ائتمنك على ولدي الم اعهد اليك عهدا"

([33]) -يوسف / 87

([34]) -يوسف/ 83

([35]) -يوسف/66

([36]) -يوسف/84

([37]) – ينظر الجواهر الحسان في تفسير القران- الثعالبي 3/31

([38]) -يوسف /92

([39]) – ينظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور – جلال الدين السيوطي 4/ 34