mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 039.doc

الخندق: المواجهة الشاملة

وقعت في السنة الخامسة للهجرة، وخلال هذه السنوات الخمس حقق المسلمون انتصارات باهرة على بعض القبائل كبني المصطلق وبني النضير وبني قريظة وطهروا منطقة دومة الجندل من المتعرضين للقوافل التجارية وذاع صيت المسلمين في جزيرة العرب بالصورة التي أثارت القلق لدى قريش.. لكن ما المخرج من هذه المشكلة؟

فقريش وحدها غير قادرة على مقاتلة النبي (صلى الله عليه وآله) لما استنزف منها من شجعان وفرسان كان هناك حل واحد هو أن يجتمع أعداؤه في جيش واحد يضربوه ضربة واحدة.. فبدأ تحرك واسع بين يهود بني النضير الذين أجلاهم النبي من أراضيهم في المدينة وبين قريش وغطفان لعب فيه سلام بن أبي الحقيق وكنانة بن أبي الحقيق وحي بن أخطب وهوذة بن قيس الوائلي دور هام في التوفيق بين هذه المجموعات المتباينة في الاتجاهات المتحدة في محاربتها للنبي (صلى الله عليه وآله) ووصلت أنباء الحشود إلى المدينة عن طريق خزاعة القبيلة التي كانت لها علاقات طيبة مع المسلمين.

وتقدمت جيوش الأحزاب في عشرة آلاف مقاتل وفي قول آخر أربعة وعشرين ألف ولم يكن مع النبي (صلى الله عليه وآله) يومذاك سوى ثلاثة آلاف مقاتل وهو عدد لا يكفي لمواجهة هذا السيل من المقثاتلين، فكان رأي النبي (صلى الله عليه وآله) أن يتجنب القتال الا إذا اضطر إليها وكانت المدينة محصنة بالجبال والأشجار من كل الأطراف إلا حدودها الشمالية فكانت حرة وأقم تمتد إلى الشرق وحرة وبرة إلى الغرب أما من ناحية الجنوب فكانت الأشجار الكثيفة تحول دون تسلل الأعداء داخل المدينة كان محصناً بالبنايات المرتفعة والتي كانت تشبه الحصون، فطرح رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأمر للمشورة فأشار إليه سلمان الفارسي أن يحفر خندق في الجهة الشمالية فاستحسن المسلمون هذا الرأي وأخذ كل عشرة يحفرون أربعين ذراعاً وكان للرسول (صلى الله عليه وآله) سهم أيضاً في الحفر وقضى المسلمون ستة أيام في أروع عمل جماعي حتى تمكنوا من حفر الخندق بطول اثني عشر ألف ذراع ولكي لا يأخذهم التعب كانوا ينشدون أناشيد جماعية أثناء الحفر وكان الرسول يشاركهم في المقاطع الأخيرة بأن يرفع صوته ماداً الكلمة الأخيرة من الأنشودة.

وجاء الأحزاب وكانوا ثلاث كتائب.. كتيبة مع أبي سفيان وكتيبة مع عيينة بن حصن وكتيبة مع ابن الأعور السلمي ووقفوا أمام الخندق بينما وقف المسلمون في الخلف وتمكن حي بن أخطب أن يقنع بني قريظة الذين لا زالوا في المدينة بالمشاركة في الهجوم فتأزم الوضع عند المسلمين وتحركت مجموعة من الفرسان واستطاعوا أن يجدوا مكاناً ضيقاً في الخندق فسارعوا للانتقال إلى الجهة الأخرى فأصاب بعض المسلمين الذعر وكان فيهم عمرو بن ود العامري، عكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن ابي وهب ونوفل بن عبد الله وضرار ابن الخطاب بن وادي وهم من أشهر فرسان قريش وقد طلبوا البراز فلم يتقدم إليهم سوى علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما جاء في كل كتب التاريخ وتمكن علي أن يقضي على هذه المجموعة لوحده بطريق المبارزة الثنائية ولم ينجو سوى عكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وقد عرض المشركون عشرة آلاف درهم في مقابل جثة عمرو بن ود التي ظلت خلف الخندق في جانب المسلمين.

وعلى أثر مقتل هؤلاء الفرسان ارتفعت معنويات المسلمين وهبطت معنويات المشركين الذين ما كان أمامهم سوى الإسراع في اتخاذ قرار الهجوم لكن شاءت إرادة الله أن يتسلل أحد المهاجمين إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ليعلن إسلامه وهو نعيم بن مسعود فاتفق معه النبي (صلى الله عليه وآله) على خطة لتفريق الأحزاب فجاء نعيم إلى بني قريظة وكان نديماً لهم وقال لهم: يا بني قريظة لقد عرفتم ودي لكم وصلتي بكم، فقالوا: ما تريد فلست عندنا بمتهم: فقال لهم: أن قريشاً وغطفان ليسوا كانتم البلد بلدكم وفيه أموالكم وأولادكم ونساؤكم ومن الصعب عليكم أن تتحولوا لغيره، أما قريش وغطفان فقد جاؤوا لحرب محمد وتركوا نساءهم وأموالهم وأولادهم في بلدهم آمنين، فإن قدر لهم أن يصيبوا محمداً وأصحابه فذاك ما يريدون وإن عجزوا رجعوا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبينه، ولا طاقة لكم له إن خلا بكم، وأرى لكم أن لا تقاتلوا مع القوم إلا أن تأخذوا منهم رهناً من أترافهم يكونوا بأيديكم وعندها يضطرون أن لا يتخلوا عنكم ويرجعوا إلى بلادهم فاقتنعوا بهذا الرأي وقالوا له لقد أشرت بالصواب ثم أتى إلى أبي سفيان وقال له نفس هذا الكلام، ثم جاء إلى غطفان وقال نفس الكلام وأوجد هذا التحرك اضطراباً في العلاقات فأرسل أبو سفيان وفداً من قبله إلى بني قريظة ليستطلع موقفهم فاستقبلوهم بالغضب واشترطوا على بقائهم في جبهة القتال إعطائهم رهينة حتى يطمئنوا بأنهم لا يتركونهم وحدهم بعد أن تنته الحرب بل يظلون يقاتلون، عندها تأكدوا من مقالة نعيم فأرسلوا إليه أن لا ندفع لكم رجلاً واحداً من رجالنا وحدث الانشقاق في جبهة الأحزاب فخشي أبو سفيان أن يزداد الخوف فقرر الهجوم في صبيحة اليوم التالي لكن دعاء الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يمهلهم فقد طلب من الله أن يكشف عنه ما أحاطه من البلاء ويصرف عنه شرهم فإذا بالريح تعصف بهم والصواعق تتلاحق مثيرة الرعب والخوف وكفأت قدورهم واقتلعت خيامهم وخشوا أن ينتهز المسلمون الفرصة ويهاجموهم وهم على هذا الحال واضطر أبو سفيان أن يعدل موقفه وأن يعلن لقريش الإسراع في العودة إلى الديار فعادوا إلى الديار فعادوا بعد عشرين يوماً من الحصار لم يجنوا سوى الخيبة والإحباط التي أخذت تمزق نفوسهم ولم يغدوا بعدها يفكروا بقتال النبي (صلى الله عليه وآله).

وهكذا استطاع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن ينتزع من أيدي أعدائه السلاح وأن يدفعهم إلى التسليم شاؤوا إلى ذلك أم أبوا فقد عمل خلال السنوات الخمس الماضية على استنزاف العدو مادياً ومعنوياً حتى لم يعد يفكر بالعودة من بني قريظة الذين خانوا العهد منهياً بذلك فصلاً آخر من فصول المواجهة مع جبهة اليهود.

ثانياً.. مرحلة السلام المشروط.

كان وضع المسلمين في ذي القعدة بعد سنوات من الهجرة على أحسن ما يرام فقد تمكنوا خلال السنوات الست أن يتخلصوا من أشرس أعدائهم وتمكنوا أن يقتلوا في قريش إرادة القتال فكانوا القوة الرئيسية في جزيرة العرب لا ينافسهم أحد.

فلم لا يستثمر النبي (صلى الله عليه وآله) الظروف الجيدة ويقوم بمبادرة أخرى يبرهن خلالها أنه رجل مبادئ وليس رجل مصالح وهذا موسم الحج قادم وقد اشتاقت القلوب إلى بيت الله الحرام فهي فرصة لا يمكن إضاعتها.

وجاءت مبادرة النبي (صلى الله عليه وآله) وإعلانه للمسلمين بأنه عازم لأداء المناسك ودعا كل المسلمين أن يشاركوا في هذه الرحلة وأوفد إلى القبائل غير المسلمة طالباً منها مشاركته أيضاً في مسيرة السلام نحو بيت الله الحرام.

ولم يخطر ببال أحد أن النبي (صلى الله عليه وآله) سيفكر بمثل هذه المبادرة.. لكن القيادة الناجحة هي التي تمتلك الرؤية الثاقبة والتي من خلالها تتمكن أن تصنع المبادرات الخلافة.

والمبادرات الجيدة هي التي لا يتكلف كثيراً بل تعطي الكثير من النتائج، وإذا ما تتبعنا سير الرحلة والمناقشات التي دارت فيها لتجلت لنا حكمة القيادة وقدرة خارقة في إدارة دفة الصراع، وإدارة الصراع في فترة السلم هي اصعب بكثير من فترة الحرب.

فقد جاء في كتب السير أن النبي (صلى الله عليه وآله) وأكثر من ألف وأربعمائة من صحابته خرجوا متجهين نحو مكة بعد أن أعلن للملأ بأنه لا يريد الحرب وساق من أمامه سبعين بدنة وأصبح يتقدمهم على ناقته القصوى وأخذوا معهم سيوفهم لكنها كانت في إغمادها وما أن وصل الميقات في الحليفة حتى أحرم ولبى وجرح عدداً من البدن في الشق الأيمن من سنامها ووضع قطعاً من الجلد في أعناقها إشارة بأنها هدي.. وبوصوله عسفان هبت قريش على أنباء هذه المبادرة فخرجت بأطفالها ونساءها فزعة ونزلت بذي طوي وتقدم مائتي فارس من قريش إلى كراع الغميم وهو موقع لا يبعد عن مواقع المسلمين سوى ثمانية أميال وكانت مهمة هؤلاء الفرسان هي قطع الطريق على النبي (صلى الله عليه وآله)، ووصل النبي (صلى الله عليه وآله) خبر استنفار قريش فقال يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين العرب فإن هم أصابوني كان الذي أرادوه وأن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين وهي عبارات تكشف عن معالم الاستراتيجية التي كان النبي يتبعها مع قريش، فهو لا يريد القتال ولو أرادها لكان باستطاعته دخول مكة محرراً فاتحاً.. كان هدف الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يدخل مكة مسالماً وقد كلفه ذلك الكثير فغّير طريقه عندما سمع باستنفار قريش وتحركت المسيرة العبادية السياسية في طريق وعر كثير الحجارة بين شعاب مضنية حتى وصلوا الحديبية فنزل هناك وعندما لاحظت قريش ذلك شكت في أنه جاء للقتال فأوفدت أحد قادة خزاعة هو بديل بن ورقاء في رجال من عشيرته ليتعرف عما جاء إليه محمداً (صلى الله عليه وآله) فأخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله) عن نيته فرجعوا إلى قريش وأخبروها عن أهداف المسيرة فلم تصدق أقوال بديل بها وكذلك رفضوا قوله ثم أرسلوا إليه الحليس بن علقمة وكان زعيم الأحابيش وهم يشكلون القوة الضاربة في مكة وكانت غاية قريش من إرسال الحليس هو وضعه في المواجهة الساخنة مع النبي (صلى الله عليه وآله) عندما يجده جاء للقتال في شهر الحرام.

واستبشر النبي (صلى الله عليه وآله) بمجيء الحليس فقال لأصحابه أن هذا من قوم يتألهون، وأمرهم بأن تعرض الهدي أمامه ليتأكد بنفسه أنه لا يريد الحرب.

ولما رأى الحليس البدن في القلائد قد أكلت أوبارها من طول الحبس تأثر كثيراً لهذا المنظر وهو رجل على فطرته فلم يكلف نفسه عناء اللقاء بالنبي (صلى الله عليه وآله) فرجع مسرعاً ليقول لقريش أنه لم يأت للحرب فأجابوه بأنه رجل أعرابي لا يفهم شيئاً فغضب الحليس وتسمر قائلاً:

يا معشر والله ما على هذا حالفناكم ولا على هذا عاقدناكم، ايصد عن بيت الله من جاء معظماً له.. والذي نفس الحليس بيده لئن لم تتركوا محمداً وما جاء لأجله أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد وأنقلب الوضع على قريش وازادادت ورطتها بالتحول الذي حدث للحليس فخشيت أن يتعقد الموقف أكثر من ذلك فاستدعت عروة بن مسعود الثقفي وهو رجل حكيم وموزون فأرسلته لمعالجة الموقف الصعب.

وجاء عروة غاضباً يأخذ بلحية النبي (صلى الله عليه وآله) ويهزها والنبي (صلى الله عليه وآله) يبتسم في وجهه ويمنع أصحابه من النيل منه على رغم خشونته فتأثر عروة بخلق النبي (صلى الله عليه وآله) وهو الرجل الذي لا يخشى أحداً فعاد إلى قريش ليقول لها يا معشر إنما جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه وإني والله ما رأيت ملكاً في قوم قط مثل محمد في أصحابه، رأيت قوماً لا يسلمونه لشيء أبداً.

وارسل النبي (صلى الله عليه وآله) مندوباً عنه ليضع قريش في الصورة وكادوا يقتلون ممثله لولا تدخل الأحابيش (1) وظلت قريش في عنادها فأرسلت خمسين رجلاً ليقذفوا النبي (صلى الله عليه وآله) فعفا عنهم وخلى سبيلهم ثم أنه أرسل عثمان بن عفان لهذه الغاية مستفيداً من علاقاته مع إبان بن سعيد فأجراه فاحتبسوا عثمان ثلاثة أيام حتى ظن المسلمون أنه قتل، عندها سارع أصحابه لمبايعته على أن لا يفروا عنه حتى الموت وسميت ببيعة الشجرة أو بيعة الرضوان.

وبعد أن تأكدت قريش من أهداف هذه المبادرة وأن النبي لا يريد حرباً وأنها غير قادرة على منعه وأنه ما انفك مصراً على عزمه ارتأت أن تفاوض النبي (صلى الله عليه وآله) حتى لا يعرف بأن المسلمين دخلوا على رغم أنوفهم فكبريائهم كان سهيل بن عمرو للتفاوض وبعد أخذ ورد تم الاتفاق بين الطرفين على النقاط التالية:

1- عودة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة وتأجيل أداء المناسك إلى العام القادم.

2- إرجاع الطرفين لكل من يقدم إليهم من مكة أو المدينة.

3- السماح للطرفين بالتحالف مع من يشاؤوا من القبائل.

4- إيقاف الاقتتال بين الطرفين لعشرة أعوام.

والتزم النبي (صلى الله عليه وآله) بالبنود وصدفة جاءه ابن سفير قريش أبي جندل بن سهيل بن عمرو وكان مسلماً فانفلت من قريش وجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وهو مقيد بالحديد فلما شاهد سهيل ابنه قام إليه فضربه وأخذ بتلابيبه وقال يا محمد لقد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا فقال النبي صدقت فجعل يجر ولده ليرده إلى قريش وهو يصرخ ويقول أأرد إلى المشركين ليفتنوني عن ديني ولم يكن هيناً على النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك لكن ما الذي يستطيع أن يفعله قد وقع على المعاهدة فالذي تمكن عليه هو أن يقول لأبي جندل: اصبر واحتسب فإن الله سيجعل لك ولمن معك مخرجاً وفرجاً، أنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً وأعطيناهم وأعطونا العهود على ذلك وأن لا نضربهم وعاد المسلمون إلى المدينة وهم متألمون لأنهم لم يحققوا ما يريدون لكن ليس كل ما يريده الإنسان هو الصحيح فإن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة فقد دفعت هذه المبادرة بالمسيرة الإسلامية إلى الأمام ومنحت المسلمين فرصة لإعادة بناء أنفسهم من جديد ومنحت الرسول (صلى الله عليه وآله) فرصة التفرغ نحو بقية المهام وللإلمام بهذه الخطوة السلمية  لابد أن نقف قليلاً على الوضع العام.

فالرسول (صلى الله عليه وآله) في هذه العملية السلمية كانت له اليد العاليا على قريش فلم تستطيع قريش أن تملي عليه شيئاً، وثانياً لم يتنازل عن هدفه الأساسي وهو أداء المناسك فالذي حدث هو تأجيل الهدف إلى العام القادم، أما بند تبادل الفارين فكان لمصلحة المسلمين أيضاً إذ أنه أوجد مشكلة جديدة لقريش كما حدث لها مع أبي بصير الذي التجأ إلى البحر وانضم إليه المسلمون الفارون وأصبحوا يشكلون عائقاً أمام تجارة مكة.

ورابعاً لم تكن معاهدة الحديبية سلاماً دائماً بل كانت أشبه ما تكون بالهدنة وهي مشروطة بالتزام الطرفين ببنودها وكان من المؤكد لدى الرسول (صلى الله عليه وآله) أن قريش سوف لا تفي بتعهداتها طالما ظلت تتعامل مع النبي (صلى الله عليه وآله) من موقع التكبر والتعجرف فهي لا زالت تنظر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) على أنه ذلك الطريد الذي هرب إلى المدينة بتلك الصورة فكانت هذه النظرة وتلك الحالة تدفعان بقريش للاستهانة بالمعاهدة ثم خرقها في يوم من الأيام.

وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) ينتظر ذلك اليوم حتى يكشف للقبائل خواء قريش ويكون سبيلاً لتحقيق هدفه الأساسي وهو الدخول إلى مكة فاتحاً قالعاً لجذور الوثنية.

أما المكاسب التي حصل عليها النبي (صلى الله عليه وآله) من خلال توقيعه على معاهدة الصلح مع قريش فهي:

1- الظهور بمظهر القوي وأنه لا يخشى أحد بدليل أنه يتوجه إلى مكة معقل أعدائه مسالماً وسيفه في غمده.

2- وضع قريش في زاوية حرجة حيث أصبحت لا تدري ماذا تفعل هل تمنع المسلمين من أداء المناسك ومعنى ذلك أنها لم تف بالتزاماتها أمام القبائل عندما جعلت من نفسها حامية للبيت والحجيج ثم أنها تسمح لهم فيعرف العرب أن محمداً قد أرغمها وأجبرها على ذلك وهذا يتنافى مع كبريائها وغرورها.

3- كسب الشرعية الدولية فالدول كانت تتعامل مع قريش باعتبارها الممثل الواقعي لجزيرة العرب وترفض التعامل مع أية جهة لا تعترف بها قريش وهذا ما نلاحظه عند استدعاء إمبراطور الروم لأبي سفيان ليسأله عن الدعوة الإسلامية بعد وصول كتاب النبي (صلى الله عليه وآله).

واليوم وبعد أن وقعت قريش مع المسلمين على تلك المعاهدة فإنها اعترفت بوجود قوة سياسية ذات كيان مستقل عنها وكان لهذه الحقيقة مردود سياسي لدى السلطات التي تلقت الرسائل عن النبي (صلى الله عليه وآله) كما سنأتي إلى ذكر ذلك.

4- أخذت القبائل تتعامل مع المسلمين بلا حذر أو خوف كان مصدره في السابق هيمنة قريش على تلك القبائل أما الآن وبعد إذعانها للأمر الواقع وتوقيعها على معاهدة السلام مع المسلمين فإن تلك القبائل التي كانت ترغب في مد جسور التعاون مع المسلمين أخذت تعمل بحرية تامة متجاهلة قريش سيما وأن قريش أقرت هذا الحق في بنود الصلح.

5- التصدي والتفرغ للعدو التقليدي اليهود الذين تجمعوا في خيبر وكان يشكل تجمعهم خطراً على الإسلام والمسلمين فقد حان الوقت للتخلص منهم بعد أن جمد المسلمون صراعهم مع المشركين ولو لفترة محدودة، فقد ذكر ابن هشام أن النبي (صلى الله عليه وآله) شن سبع عشرة غزوة خلال السنتين الفاصلتين بين الحديبية وفتح مكة، وما كان ذلك ليحدث لولا الصلح الذي عقد مع قريش.

لقد برهن الرسول (صلى الله عليه وآله) خلال هذه المصالحة المؤقتة أنه سياسي محنك لم يتنازل عن أهدافه ومبادئه وأنه رجل المفاوضات لا يستطيع الخصم إجباره على شيء بالرغم مما أظهر من ليونة في بعض الأمور غير السياسيه كموافقته على إلغاء كلمة رسول الله من الوثيقة وهي ليونة مطلوبة في العمل السياسي لكن يجب أن لا تخرج عن الحدود والذين يحاولون أن يشبهوا اتفاقية (كمب ديفيد) يصلح الحديبية لتبرير سياسة لتبرير سياسة المصلحة مع إسرائيل على خطأ كبير لأنهم تجاهلوا حقائق هامة أول هذه الحقائق أن النبي (صلى الله عليه وآله) أخذ من قريش ولم يعطها شيء في الواقع الأمر فالمكسبان اللذان حصلت عليهما قريش هما عودة الأمن لشريانها التجاري بعد سنوات من التلكؤ وعدم الاستقرار والأمر الآخر كان إعادة المسلمين الفارين إلى مكة لكن ماذا كانت النتيجة.. النتيجة أن  طرقها الاقتصادية عادت غير آمنة وهذه المرة عبر هؤلاء الفارين الذين كانت تطمح بإعادتهم إلى مكة لكنهم لم يعودوا إلى مكة ولم يقبلهم النبي (صلى الله عليه وآله) في المدينة حسب بنود الاتفاق فاصبحوا يفعلون ما يريدون وليس قريش أي حق على النبي (صلى الله عليه وآله) بضبطهم وإلزامهم بنود الاتفاقية لأنهم خارجون على القانون.

أما في اتفاقية كمب ديفيد فقد حصلت إسرائيل على أكثر مما أعطت فهي كسبت أولاً شرعياً احتلالها للأراضي الفلسطينية وعرضت مصر لغزو ثقافي واستفادت إسرائيل من منابع النفط في شبه جزيرة سيناء وفي ذات الوقت قامت بغزوها للبنان مستفيدة من تحييد أكبر دولة عربية فإسرائيل هي الرابحة في صفقة كمب من عدة جهات ولم تكسب مصر شيئاً سوى استرداد الأرض التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967.

ويعزى هذا التفاوت إلى الموقف قبل عقد الاتفاقية فالرسول (صلى الله عليه وآله) وقع على الاتفاقية من موقع القوي المنتصر.

لكن لم يكن موقف مصر من القوة بحيث تستطيع بها إخضاع إسرائيل لشروطها على رغم قيامها بحرب 73، لكنها لم تستفد من نتائج هذه الحرب فقد دخلت إسرائيل في الاتفاقية من موقع القوة، وهناك أمر آخر وهو الأهم أن النبي (صلى الله عليه وآله) الذى وقع على اتفاقيه الصلح هو طريد الامس الذى لم يكن له ملجأ ولم تك قريش لتفكر انها ستضطر الى توقيع هذه المعاهده مع النبى.. أما في قضية كمب ديفيد فالعكس الذى نجده

فاسرائيل التي لم تك شيئاً ولم يكن لها ملجأ ولا مأوى أصبحت طرفاً في توقيع المعاهدة أما مصر فلم يكن ليمر بخلدها أنها ستضطر في يوم من الأيام أن توقع اتفاقية مع فلول شراذم جاؤوا إلى أرض وسكنوها ثم أخرجوا أهلها ثم قالوا هذه الأرض لنا.. هذا هو الفارق الكبير بين اتفاقية كمب ديفيد وصلح الحديبية.

ـــــــــــــــ

الهامش

1)- ابن الأثير، الكامل في التاريخ: ج2 ص202.