mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 038.doc

بدر :معركة الوجود

وكانت أول معركة في الإسلام وأول اختبار حقيقي للقوة التي بدأت تأخذ طريقها لأول مرة قبل خمسة عشر عاماً والتي حظيت برعاية واهتمام الرسول (صلى الله عليه وآله) فقد بدأ الإسلام بواحد واثنين واليوم أصبحت له دولة وتحول إلى مجتمع إسلامي مصغر فكان لابد من اختبار قوة هذا المجتمع ومدى تماسكه مع القيادة، كان على الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يجني ثمار خمسة عشر عاماً من الجهد المرير والتربية المركزة لبناء الإنسان المؤمن الصابر... كان عليه أن يبدأ الفصل الجديد من التاريخ الإسلامي بهذه المعركة الفاصلة التي هيأ نفسه لها من فترة وهيأ المسلمين لها بعد أن أعدهم إعداداً عسكرياً ممتازاً لخوض غمار المواجهة.

وعلى رغم قلة إعداد المقاتلين وضعف العدة إلا أن ثقة النبي (صلى الله عليه وآله) بالنصر كانت كبيرة للغاية لأنه كان موعوداً بالنصر إذ لم يكن الله ليترك عباده المؤمنين وحدهم في أول معركة فاصلة يتوقف عليها وجود الإسلام.

فقد كانت معركة بر معركة وجود، نستنتج ذلك من دعاء النبي قبل قيام الحرب اللهم أن تهلك هذه العصابة اليوم لا تبعد فإن الإسلام كله كان يتوقف بقائه على هذه القلة من المسلمين وإن التاريخ كله كان يتوقف على تلك اللحظات التي سيكتب فيها لهذه القلة النصر أو الهزيمة.

وعلى هذا الأساس فقد أعد النبي (صلى الله عليه وآله) للمعركة إعداداً حكيماً فأول ما قام به هو طلب المشورة من أصحابه قائلاً لهم أشيروا علي أيها الناس: وكان يريد بهذه العبارة أن يعرف مدى استقامة أصحابه من ألسنتهم.. وقام عدد من الصحابة وتكلموا بكلام ينم عن شجاعة واستقامة وتحول المكان إلى بركان من الحماس والعواطف الجياشة أصبح نقطة البداية في التعبئة الروحية والمعنوية العالية وتقدم إلى بئر بدر بعد أن أخلف أبا لبابة وكيلاً عنه في إدارة شؤون المدينة وأخذوا ينتظرون العدو القادم إليهم بروح عالية مع علمهم الكامل بأن عدوهم ثلاثة أضعاف عددهم وعدتهم لكن ثقتهم بالنصر لم يدعهم يفكروا بالقوة المادية التي يمتلكها العدو طالما امتلكوا القوة الروحية.

ونزل القرآن الكريم ليشارك، في عملية التعبئة ورفع المعنويات (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبون مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون).

وتقدم المسلمون في المعركة الفاصلة وهم على يقين بأن كل خطوة من خطواتهم ستكتب في التاريخ وأن مصير هذا الدين سيتوقف على هذه الخطوات وبدأت المعركة بفاصلة قتالية قدم فيها النبي (صلى الله عليه وآله) أقربائه الثلاث علي وحمزة والحارث بن عبيدة بينما راحت قريش تختار أفضل مقاتليها لهذه الجولة وهم عتبة وأخيه شيبة وابنه الوليد ولم تمض لحظات حتى كان الثلاثة يتضرجون في دمائهم فانخسفت وجوه المشركين وانهارت معنوياتهم وهم يشاهدون تفاصيل تلك المعركة التي أبلى فيها علي بن أبي طالب وحمزة والحارث شجاعة قل نظيرها استطاعت تغير الصورة التي كانت تحملها قريش عن المسلمين بأنهم ضعاف ولا معرفة لهم بالقتال وكانت نهاية هذه الفاصلة القتالية قد حسمت نتيجة المعركة أيضاً لصالح المسلمين فالتحم الجيشان في أروع معركة في التاريخ تجسدت فيها المثل والقيم والتضحية والإيثار والشجاعة والجرأة، كان المسلم يقاتل أبيه وأخيه وابن العشيرة يقاتل ابن عشيرته فقد تساقطت في هذه المعركة قيم الجاهلية فسحقت تحت أقدام المقاتلين العصبية القبلية لتعطي مكانها للقيم والعقيدة وتجلت في المعركة أيضاً روعة العناية الإلهية التي أخذت بأيدي المسلمين نحو النصر (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) وانتهت المعركة بنصر حاسم فولت قريش بمن بقي من مقاتليها وأرسل النبي (صلى الله عليه وآله) اثنين من صحابته هما عبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة لكي يوصل أنباء الانتصار إلى أهل المدينة الذين كانوا يعيشون حالة القلق طيلة الفترة ولم يك ليحلموا بالنصر وصدم المنافقون من نصر الله للمؤمنين وحاولوا أن يستبعدوا الحقيقة متشبثين بكل حشيشة فأصبحوا يذيعون بين أهل المدينة أن محمدا قتل وأصحابه هزموا وهذه ناقته نعرفها جميعاً لو أنه انتصر لبقيت عنده وإنما يقول زيد ما يقول إلا هذياناً من الفزع والرعب لكن خابت مساعي المنافقين وعادوا أدراجهم يجرون أذيال الخيبة بعد أن عرفوا بنصر الله للمؤمنين وعم الحزن مكة كلها على فقدان أشجع شجعانها وأعز أبنائها وشاركهم في الحزن كل من خشي انتصار المسلمين في المعركة من اليهود والمنافقين، عاد المسلمون إلى المدينة ومعهم الأسرى كأي واحد منهم على خلاف عادة العرب في التعامل مع أسرى الحروب.

فقد تعاملوا معهم بطريقة إنسانية ثم قبلوا منهم الفداء ومن لم يكن لديه يفدي به نفسه طلب منه أن يعلم عشرة من أولاد المسلمين في مقابل إطلاق سراحه.

فلم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) ليحقد على أولئك الذين صنعوا به ما صنعوا ولم يك في قلبه شيئاً على الذين آذوه وعذبوا أحبائه لأن ما تلقاه كان أمراً طبيعياً وكان من الطبيعي أيضاً أن يتعامل مع أعدائه أحبائه لأن ما تلقاه كان أمراً طبيعياً وكان من الطبيعي أيضاً أن يتعامل مع أعدائه بهذه الصورة الإنسانية لأنه لم يك يوماً يريد الاستقواء والظهور بمظهر القوي بل كان يريد بناء حضارة إنسانية وكان أيضاً يريد أن يعلم قريش معنى الالتزام بالقيم لعلها تنصاع لنداء الضمير وتتوقف عن عدائها المستحكم لكن مع كل تلك المواقف الإنسانية فقد ظلت قريش تتمادى في غيها وجاءت من جديد إلى المدينة تريد الانتقام فكانت معركة أحد.

أحد: معركة التصحيح

ما كان الله ليترك عباده المؤمنين لوحدهم وما كان ليرضى لهم الهزيمة لكن ما كان ليرضى لهم التواكل فكان يريد للأمة التي ستتحمل مسؤولية عظمى في التاريخ أن تقف على أقدامها وأن تنال النصر بكفاءة وقدرة ذاتية.

لقد تدخلت القدرة الإلهية في معركة بدر.. لكن كان للمسلمين أيضاً دور حاسم في نتائج المعركة فالله لم ينصر الفئة المؤمنة إلا بعد أن نصرته بتصحيح عقيدتها وبتعلق نفوسها بالمبادئ وتقديم العلاقة بالله على العلاقة العائلية والعشائرية وهنا يكمن سر الانتصار الذي أحرزته الفئة المؤمنة في بدر.

لكن كان على هذه الفئة أن تفهم سنن الله وأن تعرف أن من يخالف هذه السنن سيلقي جزاءه، كان عليها أن تفهم أن النصر بحاجة إلى عزيمة من الإنسان وعناية من الله فبدون العزيمة لن يكون انتصار.

كان عليها أن تفهم فنون الحرب وأن تطور أسلحتها لمواجهة العدو المدجج بالسلاح وكان عليها أن لا تغتر بالنصر فالغرور هو بداية الهزيمة.

حقائق كان لابد من إدراكها ولو كان ثمن هذا الإدراك باهظاً.

فالمعركة بين الإسلام والكفر معركة لا نهاية لها فكان على المسلمين أن يرتبوا أوضاعهم وأن يعدوا أنفسهم لفترة طويلة من الصراع فكانت معركة أحد خير درس وقف فيه المسلمون موقف تأمل آخذين العبر مما حدث لهم في هذه المعركة.

فقد جمعت قريش كل ما لديها من قوة وتوجهت نحو المدينة للانتقام مما حدث لها في بدر ولفك الحصار الاقتصادي الذي ما زال مضروباً عليها والتحق معها جمع من الأحابيش وأهل تهامة وثقيف حتى بلغ تعداد القوة المهيأة للقتال ثلاثة آلاف رجل فيهم سبعمائة دراع ومائتا فرس ثلاثة آلاف بعير واخذوا معهم النساء لإثارة حمية المقاتلين ولتعيير من يحاول الفرار.

وبلغ خبر الحملة المدينة المنورة فجمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصحابه وشاورهم حول الموقف المطلوب فاختلفت الآراء حول البقاء في المدينة أو الخروج منها وقد حسم النبي (صلى الله عليه وآله) الموقف قبل أن يتسرب التردد إلى نفوس المقاتلين فخرج مرتدياً لأمة حربه واضعاً كافة المسلمين أمام الأمر الواقع وكان الوضع المتردد للمسلمين بحاجة إلى مثل تلك المبادرة والتي على أثرها انطلق المسلمون لمواجهة أعدائهم الذين كانوا يفوقونهم بأكثر من ثلاثة أضعاف.

واختار النبي (صلى الله عليه وآله) ميدان الحرب كما فعل في بدر وهذه إحدى الخصائص الهامة للقيادة الناجحة واستلم المسلمون جبل أحد واصطفوا للقتال.. والتقى الطرفان في منتصف شوال وطفق أبطال الإسلام وفرسانهم يقطعون الرؤوس ويوقعون الموت والهزيمة في العدو فلم تجد قريش إلا الفرار فلم يسعفها عددها الكبير ولم تنقذها عدتها الكبيرة فعم الرعب أرجاء المعركة وأصبح الشجاع من يتمكن الفرار ولم تستطع أن تردعهم عن ذلك صرخات النساء وأهازيجهن وباتت المعركة تجري لصالح المسلمين.. لكن للحظات انقلب كل شيء وتحولت المعادلة رأساً على عقب، فقد أخذ بعض المسلمين الغرور والطمع فتسابقوا لجمع الغنائم وخشيت القوة المسيطرة على الجبل أن تفوتها الغنيمة فأسرعت هي أيضاً نحو الغنائم التي تركتها قريش فانتهز خالد بن الوليد الذي كان على رأس قوة من الفرسان خلف الجبل انتهز الفرصة وأحدث التفاف سريع خلف المقاتلين المسلمين الذين كانوا مشغولين بجمع الغنائم بعد أن تمكن أن يسيطر على الجبل، وهنا بدأت المعركة تأخذ شكلاً آخر فاخترق فرسان قريش صفوف المسلمين موغلين في قتل من تصل إليه رماحهم وسيوفهم وبات مصير الحرب بأيدي قريش لولا المبادرة السريعة التي قام بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في جمع بعض صحابته والوقوف بحزم وشجاعة بوجه زحف المشركين للحيلولة دون تحقيق المزيد من الانتصار العسكري.

وقاتلت الكتيبة التي كان فيها الرسول قتال المستميت وفيها قاتل رسول الله بشجاعة لا نظير لها فكان يتصدى لمن يتقدم لقتله ولم يستطع المشركون الاقتراب منه فأخذوا يرشقونه بالحجارة والصخور حتى كسرت رباعيته وسال الدم على وجهه الشريف.

وعلى رغم الإعياء والتعب فقد واصل النبي (صلى الله عليه وآله) القتال هو ومن كان معه وعلى رأسهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) حتى لا يدعوا للعدو فرصة الشعور بالقوة.. فقد حافظ النبي (صلى الله عليه وآله) بهذا التكتيك حالة التوازن في المعركة وتمكن أيضاً أن ينقذ تسعين بالمائة من جنوده وكانوا مهددين بالقتل لو لم تجد قريش تلك المقاومة والتي بسببها عجزت عن تحقيق ما تريد وهو كسر شوكة المسلمين والقضاء على النبي (صلى الله عليه وآله) وانتهت المعركة دون أن يكسب أي طرف نتائج حاسمة.

فقريش كانت تتأنى كثيراً عندما تصطدم بمقاومة عنيدة فهي لا زالت تعيش الهزيمة النفسية التي تلقتها في بدر وهي تخشى أن تلقى نفس المصير فكانت تتحرك في المعركة بحذر.

أما المسلمون فقد عادوا يجمعون قواهم مجدداً بعد أن أدركوا فاعلية المقاومة وعرفوا أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يقتل وكان لبعض الصحابة من أمثال خارجة وأبو ذر وسهل بن حنيف الفضل الأكبر في دحر العدو فباستقامتهم ودفاعهم المستميت عن الإسلام خيبوا آمال قريش، وكان لبعض النسوة دور شامخ في هذه المعركة من أمثال نسيبة، فقد تركن وظيفتهم الأصلية وهي تضميد الجرحى واضطررن مع هزيمة الرجال أن يحملن السلاح دفاعاً عن النبي (صلى الله عليه وآله).

لقد تجنب المسلمون الخسائر الفادحة في هذه المعركة ويعود ذلك إلى الموقف الصامد الذي وقفه النبي (صلى الله عليه وآله) فقد ظل محتفظاً بهدوئه واتزانه لم تزعزعه الهزيمة العسكرية المنكرة ويعود الفضل في الدرجة الثانية إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي قاتل في ذلك اليوم قتالاً لم يقاتل مثله قط ودافع عن النبي (صلى الله عليه وآله) كما ذكر أبي الحديد في شرح النهج.

لقد انتهت المعركة ليخلص منها المسلمون بنتيجة واحدة هي ضرورة الطاعة والالتزام والانضباط وكان الدرس قاسياً إلى حد لم ينساه مسلم آخر عمره.

وهكذا قدر للمسلمين أن يصابوا بذلك البلاء الشاق حتى يسدوا الثغرات التي في نفوسهم وحتى يتمكنوا من مواجهة العدو في معارك أخرى.

ولا عجب أن تكون الهزيمة في أحد هي الأولى وهي الأخيرة بفضل النتائج التي أسفرت عنها وبفضل الدرس الذي أخذه المسلمون والذي ظل مائلاً أمامهم خلال المعارك التي خاضوها.