mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 035.doc

العلاقة مع اليهود

كان من المفترض أن يسارع اليهود لتأييد النبي محمد (صلى الله عليه وآله) لأنهم أصحاب دين ورسالة وإن ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) قد جاء في التوراة كما أشارت الآية القرآنية: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والانجيل) (1). كما وأن هناك مشتركات بينهم وبين المسلمين هو التوحيد وانهم كانوا يتوجهون في العبادة إلى بيت المقدس في بداية الأمر. كما وأن القرآن الكريم جاء على ذكر موسى وتفاصيل عن حياته وصراعه مع فرعون وذكر نبذاً من حياة بني اسرائيل. في ذات الوقت كان اليهود يتوعدون أعداءهم بالنبي (صلى الله عليه وآله) الذي سيبعث وانه سيقض مضاجع أعداء اليهود. وعلى أساس هذه الخلفيات كان المتوقع من اليهود أن يساندوا النبي (صلى الله عليه وآله) ويكونوا أول مؤمن به. لكن عنادهم وعنصريتهم (إذ كانوا يعتقدون بأن الرسول المنتظر يجب أن يكون من بني اسرائيل) جعلهم يفترقون عن الاسلام باستثناء عدد ضئيل من علمائهم الواعين من أمثال عبد الله بن سلام.

أما النبي (صلى الله عليه وآله) فقد أبدى نحو اليهود درجة عالية من حسن النية عند وصوله إلى المدينة فقد ارتأى تقريب الطائفتين أمة (المدينة) لتضم بالاضافة إلى المسلمين اليهود ايضاً وأعلن بنود المشروع الوحدوي في الصحيفة التي رسمت السياسة العامة وطريقة التعامل مع اليهود المتحالفين مع العرب. وكان لليهود تحالف مع الأوس والخزرج لكنهم كانوا يستثمرون تحالفهم من اجل تمزيق القبيلتين فقد أبقى النبي (صلى الله عليه وآله) على تحالفهم لكن هذه المرة مع أمة واحدة وليس مع أمتين مما سلب من اليهود القدرة على المناورة وبث النزاعات الداخلية، كما وسلب منهم القدرة على فرض آرائهم على المسلمين فقد كان هدف اليهود من حسن استقبالهم للنبي (صلى الله عليه وآله) هو استقطابه إلى جانبهم وجعله تابعاً لهم وكانوا يرسلون أحبارهم لمناقشة النبي (صلى الله عليه وآله) في أمور العقيدة وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يجيبهم على كل ما يسألون ويدحض افتراءاتهم وأكاذيبهم.

ويوماً بعد آخر أصبح يتضح لليهود أن عقيدة التوحيد التي يدعو اليها النبي (صلى الله عليه وآله) ليست بالصورة التي يعتقدونها وانهم غير قادرين على التفاهم معه لأنه يقر المساواة بين كل الاقوام ولا يعطي لقوم أفضلية على قوم آخر بخلاف عقيدتهم القائمة على حصر الايمان بقوم معين وجعل هذا القوم على رأس الأقوام.

وانقطعت جسور التفاهم بصورة كاملة عندما آمن عبد الله بن سلام برسول الله (صلى الله عليه وآله) متحدياً العقيدة اليهودية ومتجاهلاً عشيرته وقومه وكان من زعماء بني قينقاع.

فقد أراد عبد الله بن سلام أن يكون اعلانه عن اسلامه بطريقة تفاجئ اليهود فقدم عدد من يهود بني قينقاع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وعبد الله بن سلام مختبئاً في احدى الغرف ولا يعلم باسلامه أحد. فأعلمهم بذلك فقالوا له كذبت ثم دفعوه بقوة.

ومن الذين آمنوا به أيضاً مخريق من بني ثعلبة وكان حبراً كبيراً غنياً يملك الأراضي الكثيرة والمحاصيل الوفيرة.

وظلت العلاقات تتوتر اكثر فأكثر كلما مضى النبي (صلى الله عليه وآله) نحو تطبيق الشريعة الإسلامية فحرّم الربا ثمّ حرّم الخمر وكانت هذه التشريعات مدعاة للمزيد من الحقد لأنها طعنت بمصالح اليهود بعد أن نسفت عقيدتهم فازدادوا عداوة وحقداً. وهنا بدأ فصل جديد من العلاقة بين النبي (صلى الله عليه وآله) واليهود اتسمت بالتشنج والتآمر ووصلت إلى مستوى العنف وحمل السلاح وبذلك انتهت محاولات النبي (صلى الله عليه وآله) في كسب ود اليهود.

وقد تحدّث المستشرقون سيما اليهود منهم كثيراً حول هذه النقطة فاعتقدوا أن النبي (صلى الله عليه وآله) صاغ عقائده في بداية أمره في المدينة بالصورة التي يستطيع بها كسب اليهود فقد اعتبروا التوجه إلى بيت المقدس اثناء الصلاة والصيام يوم عاشوراء هو تنازل من النبي (صلى الله عليه وآله) من أجل ترغيب اليهود في الاسلام (2) وهو كلام لا يتطابق مع الحقيقة لأن ما ذكروه من تنازلات لا علاقة لها باليهود بل هي من صلب الدين الاسلامي، وعندما تغيّر موضع القبلة إلى الكعبة جاء اليهود إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وترجوا أن يستقبل بيت المقدس وعرضوا له انهم سيؤمنوا به إذا ما أطاعهم في هذا الأمر ولم يتوقعوا أن عروضهم المغرية ستقابل بالرفض. وأمامنا صور كثيرة عن مطالب اليهود في لقاءاتهم مع النبي (صلى الله عليه وآله) كان يرفضها لأنها تتعارض مع الواقع ومع الشريعة فلو كان النبي (صلى الله عليه وآله) يريد التنازل لليهود لتنازل لهم فكسب ودهم ولو تبحّر المستشرقون قليلاً في تاريخ العلاقة بين الاسلام واليهود لوجدوا أن جذور العداء الذي استحكم بين اليهود والنبي (صلى الله عليه وآله) منشأه هو عدم تنازل النبي (صلى الله عليه وآله) فلو كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أذعن لليهود ولم يصدمهم بأفكاره المناقضة للعقيدة اليهودية لكانوا قد أعلنوا تأييدهم ومؤازرتهم له، وقد ورد هذا الاشكال على لسان أحد المستشرقين الذي أخذ على النبي (صلى الله عليه وآله) موقفه الصلب من اليهود وانه دعاهم إلى الاعتراف برسالته التي تختلف عن العقيدة اليهودية فيقول (ولفنسون ) في تأريخ اليهود في بلاد العرب ص122 لو وقفت تعاليم النبي (صلى الله عليه وآله) عند حد محاربة الوثنية فحسب لما وقع نزاع بينهم وبين المسلمين ولكانوا قد نظروا بعين ملؤها التبجيل والاحترام لتعاليم الرسول (صلى الله عليه وآله) ولأيدوه وساعدوه بأموالهم وأنفسهم حتى يحطم الاصنام ويقضي على العقائد الوثنية.

فباعتقاد ولفنسون أن منشأ الصراع مع اليهود هو النبي (صلى الله عليه وآله) وليس اليهود على عكس نظرية بروكلمان ووات وغيرهما الذين قالوا أن النبي قدّم التنازلات الكافية لليهود وكانوا يطمحون للمزيد ولا مجال لطرح آراء بقية المستشرقين الذين وجدوا في العلاقة بين اليهود والمسلمين مادة دسمة للبحث والتحليل وقذف الدعايات وتوجيه الافكار المناهضة للاسلام. المهم أن هذه العلاقة كانت مرشحة للتوتر منذ اليوم الاول الذي قابل به بعض زعماء اليهود الرسالة الإسلامية. فقد كانوا على يقين من سلامة الدعوة الإسلامية وسلامة ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) لكنهم مع ذلك خالفوه وحاربوه وليس أدل على ذلك ما ذكرته صفية بنت حي بن أخطب وهو حديث نقله ابن اسحاق قي سيرته قالت: كنت أَحَبَ وُلد أبي اليه إلى عمي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني دونهم، فلما قدم رسول الله المدينة ونزل بقبا في بني عمر وبني عوف غدا عليه أبي حيّ بن أخطب عمي ياسر بن أخطب مغلسين فلم يرجعا إلا مع غروب الشمس فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينا فهششت اليهما كما كنت أصنع فوالله ما التفت اليّ واحد منهما مع ما بهما من الغم وسمعت عمي أبي ياسر يقول حي بن أخطب أهو هو؟ قال؛ نعم والله، قال: اتعرفه وتثبته قال نعم، قال فما في نفسك منه، قال عدوٌ انه والله ما بقيت. هذه الحكاية تؤكد أن اليهود كانوا قد قرروا المواجهة مع النبي (صلى الله عليه وآله) في اللحظات الاولى من وصوله المدينة واستقبال الأوس والخزرج له ذلك الاستقبال الحافل ودخولهم في دينه وكلما قوي الدين وازداد المسلمين ازداد غيظ اليهود لكن لم يكن أمامهم خيار سوى مسايرة الوضع الجديد لترقب نتائج خططهم القاضية بالفتك بالرسول أو الحيلولة دون الاستمرار في نشاط الدعوة.

  •  المواجهة:

فشلت كل المحاولات لايجاد علاقة طيبة بين اليهود والمسلمين وكانت هذه المحاولات تمضي إلى الانهيار كلما زاد اليهود في تعنتهم وتكبّرهم فأصبحت المواجهة قضية حتمية بين الطرفين لكنها سارت بصورة تدريجية حتى بلغت أوجها في المعارك الحاسمة التي أُجليت على أثرها القبائل اليهودية.

1- المعركة الكلامية:

في بداية الأمر انطلق اليهود في استخدام أبواقهم الاعلامية وهم المعروفون بالدعاية والتضليل، فأخذوا يروجون استحالة بعث الرسل من غير بني اسرائيل وكانوا يتصلون بكل من يؤمن بالرسول (صلى الله عليه وآله) منهم ويقولون له تلك الفكرة فقد التقى حي بن أخطب وكعب بن أسعد أبي رافع بعبد الله بن سلام بعد أن أسلم قائلين له: ما تكون النبوة في العرب ولكن صاحبك ملك (3).

واستعملوا هذا اللون من التضليل بين اليهود حتى لا يفكر أحد منهم بالاسلام. وأنكروا أن النبي (صلى الله عليه وآله)

قد ذكر في توراتهم فقال مالك بن الصيف للنبي (صلى الله عليه وآله) حين ذكر لهم ما أ خذ عليهم من الميثاق، والله ما عهد الينا في محمد عهد وما أُخذ له علينا من ميثاق (4) ثم عمدوا إلى تغيير صفاته الموجودة في التوراة واستبدلوها بصفات لا تنطبق عليه لايهام جماعتهم بأنه غير مذكور في التوراة وقد صرح القرآن الكريم بذلك:

 (والذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن فريقاً منهم يكتمون الحق وهم يعلمون) (5) ثم زعموا أن ابراهيم كان من ملتهم ولو كان محمداً موافقاً لابراهيم لاتبع دينهم لكن القرآن أجابهم: (ما كان ابراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين) وكانوا يظهرون للناس أنهم آمنوا ثم بعد ذلك يعلنون عدولهم عن الايمان ويجهرون بالكفر حتى يقول الناس ظهر كذبُ محمد فعدلوا عنه فنزلت الآية: (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره لعلهم يرجعون). وسبوا النبي (صلى الله عليه وآله) واستهزؤوا به وقد قال الله في ذلك لنبيه: (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا). وكان البعض يجيبه بالسأم عليك ويعني الموت.

2- التآمر:

ولم يكتف اليهود بهذا القدر من العداء للاسلام ولنبي الاسلام فأخذوا يوسعون من دائرة عدائهم وأصبحوا يتحينون الفرص للانقضاض على الاسلام والمسلمين سيما بعد انتصار المسلمين في معركة بدر والتي أثارت ضغائن اليهود وكانوا يقولون للنبي (صلى الله عليه وآله) لا يغرنك من نفسك انك قتلت نفراً من قريش كانوا أغمار لا يعرفون القتال، انك والله لو قاتلتنا لعرفت انا نحن الناس، وانك لم تلق مثلنا. وصعدوا من صراعهم وتآمرهم بمحاولة فاشلة لاغتيال النبي (صلى الله عليه وآله) عندما ذهب إلى بني النضير يطلب منهم المساعدة لدفع دية قتيلين من بني عامر وفق ما تقتضيه الوثيقة الموقعة بينهم وبين المسلمين فأبدوا موافقتهم في اعطاء الدية، لكنهم ذهبوا ليخططوا لدسيسة دنيئة وسارعوا لتنفيذ مخططهم الجهنمي القاضي بالقاء صخرة كبيرة على النبي (صلى الله عليه وآله) اثناء جلوسه أسفل جدار بيت من بيوتهم وسارع أحدهم وهو عمرو بن جحاش بن كعب لتنفيذ الخطة فصعد على سطح المنزل لكنه لم يجد النبي (صلى الله عليه وآله) إذ لم يمهله الوحي فرصة تنفيذ مأربه فقد خرج النبي (صلى الله عليه وآله) من حصنهم وفي نيته اخراجهم من أرضهم لأنهم تنصلوا عن الميثاق الذي وقعوه معه. وفي أُحد يتحمل كعب بن الأشرف أحد كبار اليهود مسؤولية تحريض قريش والقدوم إلى المدينة لمقاتلة النبي (صلى الله عليه وآله) وفي الأحزاب يتطوّع شخص آخر من القادة للقيام بنفس هذا الدور هو حي بن أخطب.

هذا على صعيد التحرك السري المضاد، أما في الداخل فبالاضافة إلى الدعايات التي كانوا يبثونها بين آونة واخرى ساندوا حركة النفاق بزعامة عبد الله ابن أبي فكانوا ممن يسهمون في تقوية هذه الحركة وساعدوها على تمزيق صفوف المسلمين فقد ذكرنا في حديث سابق محاولة شاس بن قيس وهو من اليهود في تفريق الأوس عن الخزرج وذلك باثارة الخلافات السابقة وباعادة قراءة الأشعار التي قيلت في حرب بعاث وكادت النار تشتعل بين القبيلتين المسلمتين لولا تدخل النبي (صلى الله عليه وآله) السريع.

ـــــــــــ

الهامش

1)- سورة الأعراف، الآية: 157.

2)- أنظر الجزء الثاني من كتاب محمد في المدينة، تأليف مونتجمري وات، محاولات محمد للتفاهم مع اليهود: ص302. وانظر الى كتاب تاريخ الشعوب الإسلامية، تأليف بركلمان: ص47.

3)- ابن هشام: ج2 ص44.

4)- نفس المصدر: ج2 ص36.

5)- سورة البقرة، الآية: 141.