mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 015.doc

2- المؤاخاة:

آن لأهل يثرب ان يستريحوا من الخصام..

وآن ليثرب وهي تستقبل قائدها أن تسدل الستار على الحروب والمعارك التي أثكلت النساء وأورثت الكابة والحزن على شفاه الأطفال.

آن ليثرب ان تنس عهد الاختلاف والفرقة وان تبدأ عهداً جديداً في ظل الرسالة.

آن لها ان تطوي صفحة الماضي وان تبدأ بصفحة جديدة من حياتها مملوءة بالأمل والتفاؤل. وكان على القائد أن يقلب تلك الصفحة المظلمة من الشقاق والفرقة التي عاشها أهل يثرب كان عليه أن يبدأ بخطة حكيمة لإقامة أمة إسلامية من هؤلاء الذين كانوا في صراع دائم.

كان عليه ان يباشر العمل على عجل لأن الأعداء يتربصون وسيحاولون توجيه الضربة المناسبة للكيان الإسلامي عندما يجدون الفرصة. وأقوى سلاح يوجه إلى الصف الإسلامي هو سلاح التفرقة.

كان على القائد أن يبدأ العمل الطويل من خطوة أولى ما اعظمها وما أدقها وما احكمها.

فقد أعلن المؤاخاة بين المسلمين قائلاً (تآخوا في الله أخوين أخوين) فأرسى وعبر هذه الاخوة أساسا لبناء الأمة المتراصة التي ظلت على متانتها ردحاً من الزمن.

وقام على تلك القاعدة اعظم بناء لأمة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً في وحدتها وتلاحمها وتفانيها.

لقد زرع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالمؤاخاة عنصر البقاء في الأمة فقد أزال بهذه الاخوة ما تبقى في النفوس من أنانية وحب للذات فأصبح المسلم لا يرى فرقاً بينه وبين أخيه المسلم وان لأخيه المسلم سهماً في ملكه وأمواله.

وهذه هي أعلى ذروة يبلغها المجتمع في تلاحمه وتقارب أبنائه، ولم يعرف التاريخ مجتمعاً بلغت فيه الأواصر بتلك القوة التي بلغها المجتمع الإسلامي في مرحلة التكوين.

فقد كان الأنصار يتسابقون على تقسيم أموالهم على المهاجرين وعندما يتكاثرون على مسلم مهاجر يريدون إبرام عقد الاخوة معه كانوا يضطرون لاستخدام القرعة.

كان الأنصاري يأتي للمهاجر ليقدم له نصف أمواله وبلغ التفاني بأحد الأنصار وهو سعد بن الربيع أنه قال لأخيه المهاجر وهو عبد الرحمن بن عوف أني أكثر الأنصار مالاً فاقسم مالي نصفين ولي امرأتان فانظر أعجبها إليك فسمها لي أطلقها فإذا انقضت عدتها فتزوجها.

وحتى بعد ان تحسنت أوضاع المهاجرين ظل الأنصار على وفائهم وتفانيهم فبعد حصول المسلمين على أموال بني النضير وقبل ان توزع تلك الأموال التفت النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الأنصار قائلاً لهم.

ان أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين مما أفاء الله علي من بني النضير وكان المهاجرين على ما هم عليه من السكنى في منازلكم وأموالكم وان أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم فأجابه الاوس والخزرج. يا رسول الله بل تقسمه للمهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا ونادت الأنصار رضينا وسلمنا يا رسول الله (1).

لم يعهد تاريخ البشر هذا النمط من التفاني وهذا اللون من الإخلاص في الاخوة وفي محيط جاهلي كمحيط القبائل العربية إذ توارت بعض الصفات الجيدة للقبائل عندما انتقلت من البداوة إلى الحضر وعندما أخذت تشتغل بالأنشطة الاقتصادية المختلفة فنمت عندها النزعة الفردية وطغت الأنانيات لتحل محل الصفات الخيرة.

ولم يكن أمراً هيناً إعادة الإنسان العربي إلى فطرته إذ كانت تقتضي هذه العملية إزالة تراكمات ما كدسته المدينة المادية لعقود كثيرة أصبحت فيها هذه التراكمات عائقاً عن تحول الإنسان وبالتالي حالت دون بلوغه مستوى الفاعلية وألغت دوره النافع في المجتمع وتأثرت العلاقات الاجتماعية بهذه الحالة السلبية وأخذت القيم المادية تغزو هذه العلاقات فكان لابد من إعادة صياغة المجتمع على أساس جديد حتى تغدو العلاقات على نمط آخر غير النمط الذي تعارف عليه المجتمع.

فكان إعلان الاخوة هو السبيل القويم إلى ذلك.

وأصبح لهذا الإعلان أبعاد أربعة يمكن رصدها عبر النتائج التي خلصت إليها الاخوة الإسلامية.

  •  البعد السياسي للمؤاخاة:

كان المسلمون على أعتاب تأسيس الدولة الإسلامية وما من دولة تتقدم إلا على أساس وحدة فصائل شعبها. فكان لا بد من إذابة الفروقات والحساسيات بين أبناء الشعب الواحد ليصبح هذا الشعب نسيجاً مترابطاً واحداً لأن الأمة الموحدة هي القادرة على الوقوف على أقدامها. فالوحدة هي عنوان قوة وصحوة لكل أمة. وبالنسيج المتكامل تستطيع الأمة ان تخطو خطوات منتظمة إلى بناء حضارتها وتقدمها.

فبالوحدة تصبح الأمة جسداً واحداً فيسهل على السلطات تنفيذ برامجها وتطبيق خططها لأنها ستجد من يطيعها ويتفاعل معها وباليد الواحدة تصبح الأمة رجلاً واحداً يتحرك ويقاوم. بينما التصدع يشكل عائقاً أمام الأمة الناهضة ويصبح معوقاً رئيسياً في طريق بناء الدولة القوية.

فمستقبل الدولة الإسلامية كان يحمل احتمالات المواجهة الشرسة مع الفئات المضادة فالأعداء لن يكفوا أيديهم عن الدين الجديد فكان لا بد من ترتيب البيت الداخلي قبل ان يتعرض لمداهمة على أيدي الأعداء وكانت الخطوة الهامة في ترتيب البيت الداخلي هي إيجاد حالة التجانس بين أبناء الأمة الواحدة حتى تصبح هذه الأمة قطعة نسيج واحد تتحرك وفق المطلوب وبسرعة يمكن حسابها ويمكن التخطيط للمستقبل على أساسه.

وكان الرسول (صلى الله عليه وآله) يرى المستقبل كما يرى الحاضر فوجد ان السبيل لبناء حضارة رسالية مشرقة هو بناء أمة متماسكة تصبح قادرة بتماسكها ان تشق طريقها في الحياة نحو سلم الرقي برغم الصعاب والأهوال.

  •  البعد الاجتماعي:

كان المجتمع اليثربي قبل ان يقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتآكل من الحقد والكراهية هذا ابسط ما تتركه الحرب من مخلفات ويعود ذلك إلى وساوس اليهود وحيلهم في تمزيق الصف فكان على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان يعالج هذا الموقف الاجتماعي الخطير كان عليه ان يستبدل الكراهية بالمحبة والتباغض بالتقارب والألفة حتى يعاد صياغة المجتمع على أساس الحب وليس الكراهية.

والمجتمع الذي يبنى على قاعدة الحب هو مجتمع فاضل تتفطر الفضيلة من كل جوانحه وجوانبه.

وعلى قاعدة الحب تأخذ العلاقات الاجتماعية شكلاً آخراً فيعم التعاون والخير فيصبح مجتمعاً قويماً قادراً على الحركة بفاعلية كبيرة.

والمجتمع الذي يحب أبناؤه بعضهم بعضها هو مجتمع ينعم بالتكامل فكل فرد فيه هو مسؤول عن الآخرين. فإذا ظلم يسارع لرد الظلم عنه وإذا احتاج يسارع لسد حاجته وإذا انحرف يسارع لتقويمه.

المجتمع المتحاب هو مجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هو مجتمع الكرم والتآخي كل عضو فيه عنصر إيجابي.

لقد قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) موازين العلاقات الاجتماعية عندما آخي بين المسلمين ووضع حجر الأساس لمجتمع قويم متكافل متعاون ومتكامل كل فرد فيه يعمل بما تسعه طاقته من أجل الآخرين.

فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهيأ المناخ لتحويل الطليعة الإسلامية إلى مجتمع إسلامي وكانت أول دفعة باتجاه تكوين هذا المجتمع هو إرساء الأرضية القوية لهذا البناء الشامخ فكانت المؤاخاة هي السبيل لتدفق مشاعر الحب والثقة بين أبناء المجتمع الواحد.

  •  البعد الاقتصادي:

لإستيعاب الجانب الاقتصادي من المؤاخاة يقتضي التنويه إلى الظروف الإقتصادية التي كانت تعيشها المدينة يوم قدم إليها رسول الله (صلى الله عليه وآله).

تمتاز الأراضي في المدينة بخصوبتها الكبيرة لأنها في الأصل أراض بركانية وتنعم بمياه وفيرة فهي تفيض بمياه السيول والعيون التي تكثر في الوديان وأشهر وديانها وادي العقيق الذي كان قد تحول إلى منتجع فاره لأهل المدينة وامتاز أهل المدينة بشغفهم نحو الزراعة وبالأخص زراعة النخيل حيث كانوا يستفيدون من ثمرها كمصدر للطعام ويستخدمون سعفها في البناء والوقود وبالإضافة إلى النخيل كانت المدينة تنتج أنواعاً عديدة من الحبوب والبقول كالشعير والحنطة وتكثر فيها الخضروات أيضاً.

أما مصادر الحياة الأخرى كالسمن والعسل والعنبر والعطور وبعض المنسوجات فقد كانت تستورد من الخارج وكان اليهود يحتكرون معظم التجارة في المدينة وصنف منهم كانوا يعملون في الزراعة كيهود خيبر وصنف آخر كانوا يعملون في صياغة الذهب وهم يهود بني قينقاع وكانوا يمتازون على الاوس والخزرج بالغنى وامتلاك الأموال والعقارات وكانوا يستثمرون أموالهم في الربا.

أما العرب المزارعون فكانوا يشتغلون وينفقون كل ما يحصلون عليه.

فهم أهل ضيافة وكرم فما كان ليبقى لديهم ما يدخرونه وعندما كانوا يحتاجون إلى المال كانوا يأخذونها بالربا من اليهود.

فغالبية اليهود كانوا يعيشون على عرق المزارعين الفقراء الذين كانوا يدفعون بحصيلة عرقهم لجيوب المرابين والدلالين الذين كانوا يتاجرون بالكماليات كالمصنوعات الذهبية والمنسوجات القطنية والحريرية والنمارق والسور والعطور والمسك.

وعندما قدم المسلمون إلى يثرب لم يكونوا يملكون شيئاً فقد تركوا أموالهم ومنازلهم ولم يأخذوا معهم إلى المدينة إلا الشيء اليسير وكان اغلبهم من الفقراء والعبيد الذين لا خبرة لهم في شؤون الإنتاج وخصوصاً الزراعة إذ لم تكن ارض مكة صالحة لكن كان فيهم من كان غنياً وصاحب خبرة في التجارة وكانت المشكلة الأولى التي واجهت النبي (صلى الله عليه وآله) إعالة هؤلاء الذين وردوا المدينة وبين عشية وضحاها دون ان تكون لهم مصادر للعيش في مواطنهم الجديدة.

فماذا كان سيفعله الرسول (صلى الله عليه وآله) ؟

هل كان يترك الوضع على حاله ليبقى المهاجرون يذوقون مرارة الغربة والجوع معاً.

أم ان عليه ان يخطو بخطوة لحل هذه المعضلة سيما وانه يتهيأ لبناء مجتمع سعيد ينعم بالازدهار والخيرات.

لم يكن أمام الرسول (صلى الله عليه وآله) إلا ان يختار دمج المهاجرين بالأنصار ليصنع منهم قوة اقتصادية واحدة.

وهذا الذي فعله عندما أعلن المؤاخاة بين أهل المدينة وضيوفهم واستطاع بهذه المؤاخاة ان يضع حجر الأساس لثورة اقتصادية كبرى دلت على عظمة الفكر الرسالي وعظمة الخطة التي اتبعها النبي (صلى الله عليه وآله) لمعالجة المشكلة.

فالخزرج والأوس كانوا أناسا منتجين وكان اليهود تجاراً في الغالب يعيشون على إنتاج القبيلتين.

والذي نتج عن المؤاخاة هو ربط الإنتاج بالتجارة وجعلهما يتحركان في حلقة واحدة.

فالخزرجي أو الاوسي كان يزرع والمهاجر كان يبيع أو يعمل في الأرض بالإيجار وكان معنى ذلك إلغاء الدور الاقتصادي الذي كان يضطلع به اليهود وهذا يفسر لنا سبب انقلاب اليهود على النبي (صلى الله عليه وآله) بعد ذلك الاستقبال الحار الذي استقبلوه يوم وروده المدينة.

وعلى أساس الصياغة الجديدة للعملية الاقتصادية فقد ازدهر الإنتاج وتضاعف إضعافا مضاعفة إذ كانت جسور الثقة بين الأنصار والمهاجرين وتصفية الربا هي إحدى دعائم التطور الإنتاجي في المدينة.

وهكذا حول رسول الله (صلى الله عليه وآله) العنصر الذي ورد المدينة من عالة ومجموعة استهلاكية إلى دم جديد تدفق في عروق الاقتصاد المدني فاصبح عامل ازدهار ونمو وتطور في الإنتاج.

وهكذا استطاع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان يوظف هذا العنصر الذي كان من المحتمل ان يتحول إلى معوق اقتصادي إلى أداة لأحداث اكبر تحول في اقتصاد المدينة وهو بذلك أرسى القاعدة الأساسية للاقتصاد الإسلامي القائم على التعاون والتكافل والتفاعل بين العناصر المشتركة في العملية الاقتصادية.

  •  البعد الحركي:

مع اتساع رقعة المسلمين كانت الحاجة ماسة إلى إعادة تنظيم المجموعة في إطار جديد يستوعب التطورات الجديدة فكانت المؤاخاة هي الأسلوب الأمثل لإعادة ترسيخ الجسور التنظيمية على أسس قويمة.

فالمهاجر الذي استوعب الرسالة وفهمها والذي خرج من وطنه بتجربة ثرية في المقاومة كان عليه ان يؤدي دوراً هاماً في المكان الجديد هو تعليم من لم يستوعب بعد مفاهيم الرسالة بصورة كاملة.

فقد عملت المؤاخاة على نقل التجرية الإيمانية من المهاجرين إلى الأنصار فالإندماج بين عنصر مكة وما يحمله من روح مقاومة وصمود واستقامة وعنصر المدينة الذي لم يكسب حتى الآن التجربة الحركية أمراً غاية في الأهمية لأن هذا الاندماج سيرسي أرضية جديدة تجعل من المجتمع الإسلام مجتمعاً قوياً قادراً على الصمود لا تهزه الرياح ولا يعصف به الأعداء مهما كانت قوتهم المادية وهذا الذي حدث فعلاً فقد تحول المجتمع الإسلامي في المدينة على اثر المؤاخاة إلى مجتمع مقاوم كان يعده الرسول (صلى الله عليه وآله) للمراحل القادمة من العمل الرسالي حيث المواجهة الصعبة مع قوى الشرك في مكة وغيرها. لقد آخي رسول الله (صلى الله عليه وآله) نفسه مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) وآخي بين مصعب بن عمير وأبي أيوب الأنصاري خالد بن زيد، وبين حذيفه بن عتبة وعباد بن بشر، وعمار بن ياسر وحذيفه بن اليمان، سلمان الفارسي وأبي الدرداء، بلال وأبي رويحة، أبي ذر الغفاري والمنذر بن عمرو، حاطب بن أبي بلتعه وعويم بن ساعده أبي بكر وخارجه بن زهير، عمر بن الخطاب وعتبة بن مالك، أبي عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وزبير بن العوام ومسلمة بن سلامة وعثمان بن عفان واوس بن ثابت، طلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك وبين سعيد بن زيد وأبي بن كعب.

وكان اختصاص الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) بأخوة الرسول (صلى الله عليه وآله) ذا معنى واضح في الدور الهام الذي كان يقوم به الإمام علي (عليه السلام) في تنظيم شؤون المسلمين فقد كان الإمام علي هو حلقة الوصل بين النبي (صلى الله عليه وآله) وبين مجموعة من المسلمين كان يقوم بتعليمهم مبادئ الإسلام وأعدادهم إعدادا جيداً للمهام المستقبلية.

فبالإضافة إلى ما تحمله هذه المؤاخاة من معاني الصلة القوية بين الاثنين تعطي أيضاً صورة واضحة عن الموقع الهام الذي كان يحتله الإمام علي (عليه السلام) في قيادة الطليعة الإسلامية جنباً إلى جنب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ــــــــــــ

الهامش

1)- المغازي، الواقدي: ج1 ص 379.