mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 014.doc

ومرة ثالثة يحل فصل آخر من فصول اللحظات الحرجة عندما هب سراقة بن مالك ليتعقب النبي (صلى الله عليه وآله) عله يفوز بمائة ناقة بالجائزة التي وضعتها قريش لكل من يأتي بالرسول حياً أو ميتاً.

امتطى سراقة صهوة فرسه وانطلق يبحث عن الهدف وقد وصلته أخبار خاصة عن الطريق السري الذي سلكه النبي (صلى الله عليه وآله) نحو يثرب. وقبل أن يلوح له الهدف كبا فرسه ثم كبا ثانية فنهض من جديد من فوق الأرض غير مبال بما حصل بالرغم من ان الذي حصل لم يكن طبيعياً.

ولربما كان سراقة بحاجة إلى دليل ثالث كي يقتنع بأن الذي يطارده هو رجل عظيم وإن يداً قوية تحرص على حياته وتمنع النيل منه.. أخذ سهمه من الجراب عندما لاح له النبي (صلى الله عليه وآله) من بعيد ووضع السهم في كبد القوس واستعد للرمي وفجأة يكبو الفرس ثم تغوص قوائمه في الرمل هذه المرة حتى لم يعد بمقدوره التحرك من مكانه.. فلاحت له الحقيقة وتيقن ان خلاصه لا يكون إلا على يد من أراد قتله. فلم ير طريقاً للنجاة سوى مناشدة النبي (صلى الله عليه وآله) لإنقاذه من هذه الورطة قبل أن يموت عطشاً في قعر الرمال. فنادى بأعلى صوته يا محمد ادع الله أن يطلق فرسي وارجع عنك وارد من ورائي.فدعا له النبي (صلى الله عليه وآله) ووفى سراقة بوعده عندما عاد إلى القوم ليقول لهم ؛ ارجعوا فقد استبرأت لكم خبره فلم أجد له أثر فرجعوا وهكذا أنقذ الله رسوله من الأخطار فواصل سيره حتى وصل إلى المدينة في استقبال بهيج لم تر يثرب مثيلاً له.

وهكذا خطى رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه الخطوة مسجلاً نجاحاً آخر بفضل الخطة الحكيمة والسرية التامة التي اتبعها في كل خطواته. فكانت الهجرة بحق الحدث الهام في التاريخ الإسلامي إذ توقف على هذا الحدث كل المراحل التي تعاقبت فيما بعد.

فالهجرة هي انتقال الحالة الإسلامية من وضع ضعيف إلى وضع أقوى..

وهي أيضاً انتقال المسلمين من مرحلة العذاب إلى مرحلة السعادة.

وبه أيضاً سجلت انتقال المسلمين من مرحلة كانوا فيها محكومين بقوانيين المجتمع الجاهلي وأعرافه إلى مرحلة أصبحوا فيها حاكمين على أوضاعهم مسيطرين على مقاليد الأمور.

 

الدولة

منذ ان وصل النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة شرع بوضع اللبنات الأولى للدولة الإسلامية فقد كانت الرسالة الإسلامية بحاجة إلى سور لحمايتها من الأخطار الجسيمة، كما ان المسلمين الذين ذاقوا العذاب في مكة كانوا بحاجة إلى جدار صلب يدافع عنهم ويضع حداً للأخطار الخارجية.

وبالنظر لجهل العرب بالتنظيم الجديد فقد شرع الرسول (صلى الله عليه وآله) في تأسيس الدولة بصورة تدريجية وبصورة متجانسة مع تكاثر احتياجات المسلمين، ومع تحول الجماعة الإسلامية من مستوى الطليعة إلى مستوى المجتمع الإسلامي.

فقد قام خط الدولة متوازياً مع خط المجتمع الإسلامي إذ ان الدولة ليست إلا الإطار الهيكلي لتنظيم أمور المجتمع فمع تزايد المسلمين وتعقد الحياة الاجتماعية كانت الحاجة تتزايد لتنظيم أمور الأفراد وهذا ما كانت تتولاه الدولة.

من هنا فالدولة الإسلامية بدأت بصورة بسيطة متناغمة مع صغر المجتمع الإسلامي ومحدوديته يومذاك لكنها آخذت في التطور والنمو مع توسع هذا المجتمع وهذا ما دفع ببعض المفكرين إلى نفي وجود دولة بمعنى الكلمة أيام الرسول مخدوعين بما قرأوه في التاريخ من بساطة في مكونات الدولة الإسلامية فالحقيقة ان الرسول (صلى الله عليه وآله) ومنذ ان وطأت قدماه أرض المدينة أخذ يخطو خطوة فخطوة نحو تأسيس الدولة الإسلامية حتى تكاملت في السنين الأخيرة من حياته وتوفرت في دولته كل العناصر التي يجب توفرها في الدولة المثالية.

فالأمة المتفاعلة مع القيادة المنطلقة من حاجة الأمة والسيادة القائمة أولا على القلوب قبل ان تقوم على الأرض هي من خصائص الدولة الإسلامية.

  •   المهام الأولى:

لم يعرف العرب قبل الإسلام الدولة كمؤسسة لتنظيم شؤون الجماعة على غرار التنظيم الإسلامي للدولة فقد كان العرب منقسمين إلى سكان البدو الذين ينتظمون في إطار نظام متخلف هو التنظيم القبلي والنصف الثاني من العرب هم سكان الحضر الذين انتقلوا من البداوة إلى المدن واشتغلوا بالزراعة والصناعة والتجارة ففرضت عليهم ضرورات الحياة إقامة بعض أشكال التنظيم لتمشية أمورهم الحياتية لكنها لم ترق إلى مستوى الدولة فقد احتفظ سكان الحضر بانتماءاتهم القبلية وظل النظام القبلي هو السائد أيضاً في المدن إذ كان لكل قبيلة أعراف وقيم تميزها عن القبائل الأخرى وكذلك كان لها رئيس ونظام خاص بها تنفرد به لوجودها ولرئيس القبيلة السيادة المطلقة على أفراد قبيلته فقط وكان كل فرد تابع لقبيلته وحتى لو كان في مدينة فيها عدد من القبائل كما هو الحال في يثرب قبل قدوم الإسلام.

وفي العادة كانت هذه القبائل تتنافس فيما بينها ويؤدي هذا التنافس إلى التقاتل في اغلب الأحوال كما حدث للأوس والخزرج.

ولم تكن عملية تغيير هذا النظام واستبداله بنظام الدولة أمر هين فقد واجهت الرسول مهمة شاقة في استبدال هذا النظام المتخلف بنظام تقدمي.

وهي المهمة التي بدأها منذ اللحظة الأولى التي صدع بالرسالة عندما اعتزم على تغيير الواقع الفكري والاجتماعي للإنسان فقد أرسى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قواعد بناء المجتمع الإسلامي مبتدءاً بالإنسان فهو حجر الأساس في المجتمع وإذا تغير الإنسان تغير كل شيء واستمر في إعادة بناء الإنسان مدة ثلاثة عشر عاماً وفر خلالها الأرضية الكافية لإقامة المجتمع الإسلامي بعد هدم الأسس التي قام عليها مجتمع الجزيرة العربية.

ومع دخول النبي (صلى الله عليه وآله) مرحلة المدينة كان المناخ مؤاتيا لإيجاد انعطافه في تركيبة النظام القبلي وذلك بتحوير هذا النظام إلى نظام الدولة دون ان يمس القبيلة بسوء.

فالرسول (صلى الله عليه وآله) لم يصف القبيلة بل صفى النظام القبلي الذي كان يقوم على رابطة الدم واستبدله بنظام الدولة الذي أصبح يقوم على رابطة العقيدة.

وحدثت عملية التغيير هذه بصورة تدريجية وكأن شيئاً لم يحدث قط.

وهنا تتجلى مرة اخرى عظمة الرسول الذي كان الطبيب الحاذق الذي يضع الدواء في جوف المريض دون ان يشعره بمرارته. فقد كانت لمساته الرقيقة على كتف المجتمع قد تمت بصورة محكمة ودقيقة ومع كل لمسة كان هذا المجتمع يتحول ويتغير باتجاه المجتمع الإسلامي.

ولكي يتحول النظام القبلي إلى نظام الدولة كان بحاجة إلى ثلاث لمسات متدرجة.

اللمسة الأولى بإيجاد مركز عام لكل المسلمين من جميع القبائل لتنتهى إلى الأبد المركزية القبلية وليصبح المجتمع الجديد تابعاً لمركز واحد ولمصدر قرار واحد وهو ليس رئيس العشيرة بل رئيس الدولة المتمثل شخصاً بالنبي (صلى الله عليه وآله) والمتمثل مكاناً بالمسجد.

اللمسة الثانية باستبدال الرابطة القبلية بالاخوة الإيمانية حتى يصبح ارتباط المسلمين اجمعهم بعصب واحد مشدود في كل طرف وتنتهي كل الأطراف بالمركز وهو القائد ومكان القيادة هو المسجد فشرع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بإعلان التآخي بين المسلمين من المهاجرين والأنصار للتأكيد على الرابطة الجديدة التي يقتضيها التنظيم الجديد واستطاع الرسول بهاتين اللمستين ان يوجد المناخ المناسب للمجتمع لاستيعاب نظام الدولة واستبداله بنظام القبيلة.

وقد مرت الدولة الإسلامية في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بثلاث مراحل هي:

1- مرحلة تثبيت القواعد.

2- مرحلة البناء.

3- مرحلة الانتشار.

 

أولا - مرحلة تثبيت القواعد

وصل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يثرب وهي خاوية على عروشها فالصراع القبلي بين الخزرج والأوس قد بلغ ذروته بتشجيع من الجماعات اليهودية القاطنة في أحياء يثرب وربما خمدت بعض المشاكل في السنين الأربعة قبل الهجرة وبعد جولة من الحروب الطاحن في يغاث وربما عادت القبيلتان إلى العقل وقررتا ان تعيشا بسلام واختارتا ملكاً عليها هو عبدالله بن أبي لكن كانت الأوضاع تنذر بالانفجار من جديد فقد كانت الأحقاد تتوارى خلف غطاء كثيف من الرماد وهي تتأهب في آية لحظة للاشتعال.

ومن ناحية أخرى كانت الجماعات اليهودية تتحين الفرص للدس بين القبيلتين وكانت الغالبية من اليهود تعيش على الربا باستغلال أتعاب المزارعين من القبيلتين ومن اليهود الفقراء العاملين في الزراعة.

وللوهلة الأولى كان من غير الممكن إقامة نظام مركزي واقامة نظام اقتصادي وقضائي واداري موحد في مثل تلك الظروف التي كانت تعيشها يثرب.

إلا ان المنهج الذي وضعه الرسول (صلى الله عليه وآله) لتشييد الدولة على أرض يثرب مكنه من تنفيذ غرضه من دون صعوبات كثيرة.

وتتجلى قدرة النبي في مواجهة صعوبات المهمة باختيار المداخل إلى إقامة الدولة الإسلامية وهي:

أولاً: إنشاء المسجد.

ثانياً: إعلان التآخي بين المسلمين.

ثالثاً: ترسيم السياسة الداخلية والخارجية من خلال الصحيفة.

  • أولاً بناء المسجد كقاعدة للسلطة ورمز للمركزية ووحدة الصف:

وصل النبي (صلى الله عليه وآله) إلى يثرب بعد ثمانية أيام من الجهد والعناء في رحلة شاقة بين كثبان ورمال تهامة وصخورها القاسية وتحت رحمة أشعة الشمس الحارقة التي كانت تلسع الوجوه فتحيلها جمرة من النار المستعرة وخف الألم على الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو يشاهد أهل يثرب وقد خرجوا عن بكرة أبيهم لاستقباله، ودارت الجموع من حوله و تكاثرت الأصوات وكل يريد ان يفتخر بضيافته وتوالت الدعوات من وجهاء المدينة وعامتهم. واستشعر النبي (صلى الله عليه وآله) للموقف الحرج الذي وقع فيه. لكن هداه الله إلى طريقة حكيمة للخروج من المأزق.

فقد ألقي بخطام ناقته على غاربها وتركها تسير باختيارها قائلاً لمن حوله انها مأمورة فبركت الناقة على مربد لسهل وسهيل ابن عمرو فاشتراه ليبني المسجد عليه فشرعوا بالبناء بهمة وشوق وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كأحدهم في تحمل مسؤولية البناء فكان يعمل كأحدهم وعندما رأى المسلمون تفاني النبي في العمل نشطوا هم أيضاً واخذوا ينشدون.

لئن قعدنا والرسول يعمل      ***             لذاك    منا العمل     المضلل

لا عيش إلا عيش الآخرة      ***             اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة

فيجيبهم النبي (صلى الله عليه وآله):

لا عيش إلا عيش الآخرة     ***              اللهم ارحم المهاجرين والأنصار

وبدأوا ببناء المسجد بتنظيف المكان من الماء الآسن واقتلاع ما في الباحة من النخيل وشرعوا ببناء الأساس بطول ثلاثة اذرع ثم أقيم اللبن فوقها فكان مربع الشكل، طوله وعرضه مائة ذراع أما السقف فقد أقيم من الجريد لإنجاز العمل بسرعة وأقيمت القبلة جهة بيت المقدس وجعل للمسجد ثلاثة أبواب كما وانشأ حول المسجد حجرات استخدمت فيها جذوع النخل وذلك لتكون محل لسكن الرسول وأهله وقد خصصت إحدى نواحي المسجد لإيواء الفقراء الذين لم يكونوا يمتلكون سكنا. وكان يضاء المسجد في الليل ساعة صلاة العشاء إذ كانت توقد فيه أنوار القش وبعد سنوات كانت القناديل تشد في جذوع النخيل التي كانت تحمل سقف المسجد وحتى اكتمال بناء المسجد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في دار أبي أيوب الأنصار حيث لمس عن قرب طبيعة العلاقة والحب الذي يكنه الأنصار نحوه.

فكان أبو أيوب يؤثر النبي (صلى الله عليه وآله) على نفسه وأهله في اختيار المكان والطعام وكان حريصاً على توفير أقصى درجات الراحة للنبي (صلى الله عليه وآله) خلال فترة أقامته ولم تكن بينه وبين النبي (صلى الله عليه وآله) سابق معرفة إلا الإسلام الذي ربط بين جميع من آمن بالدين الجديد فصاغهم الإسلام صياغة جديدة فأصبحوا يؤثرون الآخرين على أنفسهم بعد ان كانوا يتسمون بالأنانية وحب الذات.

وبعد ان اكتمل بناء المسجد جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفكر بالمراحل الأخرى التي تنتظره وكيف استطاع ان يصل إلى هذه المرحلة بتوفيق الله ورعايته وكيف كان حاله في مكة مطارداً محاصراً في كل مكان لا يستطيع ان يبلغ رسالته إلا بشق الأنفس وكيف أصبح حاله الآن حيث ارتفع بنيان هذا الدين وأصبح المسلمون آمنين على أموالهم وأنفسهم يستطيعون أن يؤدوا العبادات بحرية ودون وجل وتمكنوا ان يبلغوا رسالتهم دون تردد.

وهذا الدين ينتشر في يثرب بفضل الله ورعايته فلم يبق بيت لم يصله نداء الإسلام إلا بعض بيوت الأوس.

وهذا المسجد أصبح رمزاً لقوة الإسلام وعظمته فكان على المسلمين ان يستثمروا هذا المكان المقدس أقصى الاستثمار.

فالمسجد هو مكان تجمع المسلمين. إذ كل أمة بحاجة إلى مكان تلتقي فيه ويجتمع فيها أبناؤها لحل مشكلاتهم ولتدارس أوضاعهم..

والمسجد هو مدرسة يتعلم فيها المسلمون الكثير.

يتعلمون وحدة الصف عندما يقفوا صفوفاً منتظمة خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليؤدوا الفريضة ويتعلمون أيضاً معالم دينهم ويسمعون فيه آيات القرآن كلما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله) فقد شهدت باحات المسجد حلقات الدرس وحلقات تلاوة القرآن الكريم.

كما وان المسجد تحول إلى مؤسسة اجتماعية لإيواء الضعفاء والمساكين الذين لاسكن لهم من أهل الصفة وأصبح كل من يحتاج مالا أو طعاماً يلتقي بأهل الخير في باحة المسجد لسد حاجاته الحياتية.

كما وأصبح مكاناً لأجراء صفقات البيع والشراء وإقامة المناسبات المختلفة، وبالإضافة إلى جميع تلك المهام التي كان يقوم بها المسجد تحول أيضاً إلى مكان للتعبئة العسكرية ومحل للتدريب على القتال بالسيف والرمح.

فقد أصبح المسجد الرئة التي يتنفس من خلالها المجتمع الإسلامي والذي يجد فيه الفرد المسلم متنفساً لقضاء احتياجاته الدينية والدنيوية فقد كان لهذا المكان إبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وعسكرية.

والاهم من كل ذلك كان وجود المسجد يوحي للمسلمين بالكثير من المعاني ويرسخ لديهم أفكاراً عن ضرورة القيادة المركزية والنظام ووحدة الصف الواحد.

وعلى أساس هذه الأفكار المترسخة في الوجدان قامت دعائم الدولة الإسلامية فأصبح المسلمون يتعاملون مع القائد بصورة مختلفة عما كانوا يتعاملون مع رئيس العشيرة.

فقائدهم اليوم ليس فقط زعيماً لجماعة يجب أطاعته والتسليم له بل هو أيضاً نبي مبعوث ورسول من عند الله تعالى فطاعته ليست مجردة بل تحمل في طياتها مسحة من الإيمان والاعتقاد والاندفاع الذاتي. والمسلمون على استعداد كاف لان ينتظموا في نظام الدولة بعد ان كانوا ينتظمون في نطاق القبيلة.

من هنا فقد كان المسجد نقطة التغيير الأولى باتجاه تنظيم المسلمين في الإطار الجديد إطار الدولة الإسلامية.

أما نقطة التغيير الثانية فقط كانت المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين.