mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 011.doc

القبضة الحديدية

أصبح التخوف من انتشار الدين يدفع بزعماء الشرك في مكة إلى تصعيد نهجهم في ضرب مواقع المسلمين بلا رحمة ولا شقة بمختلف السبل.فقد واصلوا هجومهم على المسلمين بلا كلل ولا تعب فثمة دوافع عديدة أوجدت الحالة العدائية، فلم تقتصر تلك الدوافع على المعوقات الاقتصادية التي ستطرا نتيجة انتشار الإسلام وبالإضافة إلى ذلك هناك العامل العقيدي الذي سعر من نيران المواجهة وأجج الحقد والكراهية في نفوس المشركين فحصر المواجهة بين المشركين والمسلمين بالعامل الاقتصادي فقط هو محاولة لتفسير الصراع المبدئي الذي خاضه المسلمون بالمادية الجدلية وهو التفسير المشوه الذي يحاول الماركسيون إلصاقه بالتاريخ الإسلامي.

ومن يتأمل طبيعة المواجهة يدرك إنه لم يك صراعاً اقتصادياً. فقد عرضوا على النبي (صلى الله عليه وآله) عروضاً مادية مغرية لكي ينفك عن دعوته ويتوقف عن مواجهة الآلهة.

ثم إن استمرار قريش في المعركة بلا انقطاع عرض الكثير من مصالحها الاقتصادية إلى الخطر وجعلها مشغولة بحرب رسول الله بدلاً من التفكير في تنمية مواردها التجارية فبسبب البلبلة التي أحدثتها معركتها المستمرة مع المسلمين خسرت الكثير من أسواقها.

ومن جانب آخر كان المسلمون على الطرف الآخر من الصراع رجال عقيدة ومبدأ لم يشغلهم شيء من حطام الدنيا في مواصلة درب النضال من أجل العقيدة الإسلامية فهم قد تحملوا الأذى والصعاب وتحملوا الجوع من أجل العقيدة، وهذا برهان على خطأ التصور المادي في تفسير الصراع الإسلامي الجاهلي ولعل أروع نموذج ضربه المسلمون في التجرد عن ملذات الدنيا هو استعدادهم لتقبل الحرمان الكامل في شعب أبي طالب زهاء ثلاث سنوات.

لقد كانت السنين التي أعقبت الإعلان عن الرسالة سنين مواجهة لم تهدأ لحظة واحدة، وإذا ما هدأت معركة تفجرت أخرى في موقع آخر.

فقد خيم بعض الهدوء على مكة في أعقاب هجرة بعض المسلمين إلى الحبشة وبعث فريق من رجالات قريش للتحاور مع ملك الحبشة من أجل استردادهم. فقد كانت قريش بانتظار ما ستسفر عنه محاولة وفدها إلى الحبشة فخلدت إلى الهدوء ومما أجبرها على اتخاذ هذا الموقف بين حمزة بن عبد المطلب وأبي جهل والذي توج بإسلام حمزة فقد وقع ذلك كالصاعقة على قريش وأحس المسلمون بقوة إضافية تتسرب إلى سواعدهم. لكن لم يك هدوء قريش إلا موقتاً إذ عادت إلى ممارسة نهجها العدواني بأبشع ما يمكن بعد عودة الوفد وهو يحمل الفشل الذريع.

ولفترة قصيرة من الهدوء فكر بعض المهاجرين بالعودة عندما تسربت أنباء مفادها ان هدنة غير معلنة قامت بين النبي (صلى الله عليه وآله) والمشركين، لكن ما أن وصل البعض منهم حدود مكة حتى سمعوا بتغير الموقف إلى ما هو أسوء إذ أعلنت قريش مقاطعة كاملة اقتصادية واجتماعية ضد المسلمين وضد من يقف إلى جانبهم وفي طليعتهم بني هاشم. إذ كان للعلاقات العائلية والقبلية التي لم يمسها الإسلام بسوء ذات أثر مهم في التاريخ الإسلامي. واستثمر الرسول (صلى الله عليه وآله) في بداية أمره هذه الخصلة الحميدة في المجتمع المكي عندما دعى عشيرته إلى مائدة الطعام كما سبق ذكره وأول ثمرة برزت من ذلك الاجتماع هو موقف العائلة من مسألة الحصار. وقد حدث فعلاً بعض الوقائع التي كان للعائلة موقف مشرف.

ففي إحدى المرات افتقد أبو طالب محمداً فلم يجده فاستولى عليه الخوف مما قد سيحدث لابن أخيه فسارع إلى جمع الشباب من بني هاشم وقال لهم ليأخذ كل واحد منكم حديدة صارعة واتبعوني فإذا دخلت المسجد فليجلس كل واحد منكم إلى جانب عظيم من عظمائهم وليقتله إذا كان محمد قد قتل ففعلوا ما أمرهم به وقبل أن يبدأ بتنفيذ الخطة جاءه زيد بن حارثة فأخبره عن سلامة النبي (صلى الله عليه وآله) وفي الصباح جاء أبو طالب ومعه النبي (صلى الله عليه وآله) فأخذ بيده ووقف قبال زعماء قريش وهم في أنديتهم وحوله فتيان بني هاشم فأخبرهم بما كان يريد أن يفعله لو انهم أصابوا محمد (صلى الله عليه وآله) بسوء وأراهم السلاح الذي أعده لهذه الغاية فانكسر القوم وكان أكثرهم انكساراً أبو جهل.

فوقوف بني هاشم إلى جانب النبي (صلى الله عليه وآله) أفشل مخططات قريش للنيل منه موقف أبي طالب الذي كانت له حظوة ومكانة عند القبائل.

من هنا قامت محاولات جادة للفصل بين النبي (صلى الله عليه وآله) وبين بني هاشم بهدف استفراده فيمكنهم تصفيته حينذاك وما إعلان المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية إلا محاولة دنيئة لتعريض المسلمين إلى نوع جديد من الضغوط علهم يتركوا دينهم، فكتبوا كتاباً يتعاقدوا فيه على أن لا ينكحوا بني هاشم وبني المطلب ولا ينكحوا إليهم ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم شيئاً، ووقع على الصحيفة أربعين نفراً من زعماء قريش ثم علقوها في جوف الكعبة، وجاءت نتائج هذه المحاولة كسابقتها فقد إنحاز بنو هاشم وبنو المطلب إلى رسول الله وفضلوا الانتقال إلى مكان أكثر أمنا فاختاروا شعب إحدى الجبال فتخندقوا فيه، وقام جمع من قريش بمراقبة مداخل الشعب لئلا يدخل إليه أحد، فكانت المؤن تصل إلى منطقة الحصار بصورة سرية بواسطة أفراد معينين. ولعبت أموال خديجة (من الطعام) دوراً هاماً في تغطية حاجات المحاصرين، لكن امتداد الحصار لثلاث سنوات في بعض الروايات أدى إلى نفاذ الإمكانات المادية للمسلمين واضطرهم إلى تناول ورق الشجر لسد الرمق كما ورد في الأخبار.

وكان أبو طالب (عليه السلام) يباشر بنفسه حراسة النبي (صلى الله عليه وآله) في أغلب الأوقات أو يوكل المهمة إلى أحد أبناءه في حالة غيابه إذ كانت انباءاً قد تسربت عن وجود مؤامرة لاغتيال النبي (صلى الله عليه وآله) في نفس الوقت كان هناك جمع من قريش يتواجدون طول الوقت خلف الشعب يترصدون التحركات ويتصيدون الأخبار داخل الشعب وإيغالاً في الحصار كان بعض التجار يشترون السلع بأثمان باهظة حتى لا تصل بأيدي المسلمين.

أما المحاصرون فكانوا يقضون طول الوقت في الشعب إلا في فترات العمرة والحج حيث كانوا يخرجون ليعودوا بسرعة.

وللأسف فالأخبار التي ذكرها المؤرخون عن الفترة التي قضاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الشعب قليلة للغاية مع أهميتها. ويرجح إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد استثمر وجوده بين أصحابه وأقربائه في إنماء الحس الايماني وفي التثقيف والبناء، وهذا ما يمكن ملاحظته بعد خروجه من الحصار فقد انطلق بخطة عمل جديدة وبأساليب وطرق جديدة في التحرك سنأتي على ذكرها إنشاء الله ومما ساعده على تطبيق هذه الخطة الطريقة الفذة التي تم بها فك الحصار فهناك صورتان ذكرهما المؤرخون في كتبهم عن فك الحصار.

الصورة الأولى كما وردت في أمهات كتب التاريخ ؛ إن هشام بن عمرو ابن الحارث كان ممن يقوم بتأمين بعض الحاجيات الأساسية ولم يذكر التأريخ عنه شيئاً سوى إنه أخ لأحد المحاصرين.

لما رأى هشام ما ألم بالمحاصرين مشى إلى زهير ابن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، شقيق أم سلمة، وكان شديد الغيرة على النبي، (صلى الله عليه وآله)، والمسلمين وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث علمت؟ أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم، يعني أبا جهل، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه ما أجابك أبداً. فقال: فماذا أصنع؟ وإنما أنا رجل واحد. والله لو كان معي رجل آخر لنقضتها. فقال: قد وجدت رجلاً. قال: ومن هو؟ قال: أنا. قال زهير: ابغنا ثانياً، فذهب إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقال له: أرضيت أن يهلك بطنان من بني عدي ابن عبد مناف وأنت شاهد ذلك موافق فيه؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعاً.

قال: ما أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال: قد وجدت ثانياً. قال: من هو؟ قال: أمية.

قال: ابغنا رابعاً. فذهب إلى أبي البختري بن هشام وقال له نحواً مما قال للمطعم، قال: وهل من أحد يعين على هذا؟ قال: نعم. قال:من هو؟ قال: أنا وزهير والمطعم. قال: ابغنا خامساً. فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم، قال: وهل علي هذا الأمر معين؟ قال : نعم، وسمى له القوم، فاتعدوا خطم الحجون الذي بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة. فقال زهير: أنا أبدأكم فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل: كذبت والله لا تشق. قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا بها حين كتبت. قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها: قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غير ذلك. وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك. قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل وأبو طالب في ناحية المسجد.

فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا ما كان: باسمك اللهم، كانت تفتتح بها كتبها، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة فشلت يده.

أما الصورة الأخرى لخروجهم من الشعب فقد ذكرت في جميع كتب السير بهذه الصيغة.

أرسل الله الأرضة فأكلت ما في الصحيفة من ظلم وقطيعة رحم وتركت ما فيها من أسماء الله تعالى فأخبر جبرائيل النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك وهو بدوره أخبر عمه أبي طالب الذي سارع وتوجه إلى الحرم فاجتمع بزعماء قريش وقال لهم إن ابن أخي أخبرني إن الله أرسل على صحيفتكم الأرضة فأكلت ما فيها من قطيعة رحم وظلم وتركت اسم الله تعالى فأحضروها فإن كان صادقاً علمتهم إنكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا، وإن كان كاذباًَ علمنا إنكم على حق وأنا على باطل فقاموا سراعاً وأحضروها فوجدوا الأمر كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) فهلل وجه أبي طالب ورفع صوته عالياً، قد تبين لكم إنكم أولى بالظلم والقطيعة.

فنكسوا رؤوسهم حياءاً وخجلاً لما حل بهم. والمرجح ان الصورتين قد وقعتا في آن واحد فعمل خطير كفك الحصار كان بحاجة إلى خطة حكيمة والى رعاية إلهية تقف إلى جانب نبيه فأولئك النفر الذين تحركوا بتلك الصورة ضد المقاطعة استطاعوا بعملهم المنظم أن يكونوا رأياً عاماً مضاداً للمقاطعة، لكن هذا ـ الرأي العام ـ لم يك كافياً لنقض قرار المقاطعة إذ مثل هذه المهمة بحاجة إلى عمل أكبر قد لا يتسنى لإنسان القيام به. وهنا يأتي دور المعجزة في زحزحة الوضع القائم وإيجاد منفذ لتغيير القرار. فالمؤكد ان كبرياء أولئك الطغاة لم يسمح لهم بالاستسلام إلا بعد أن افتضح أمرهم وكشفت المعجزة عن بطلانهم. فأصبحوا عاجزين عن الكلام إلا أن يهمس الواحد منهم في أذن الآخر انه سحر وبهتان.

لقد أنقلب الأمر عليهم وفسح المجال أمام رسول الله (صلى الله عليه وآله) لان يتحرك بحرية أوسع وبمساحة أكبر من الرقعة البشرية في مكة.

مهمات ما بعد الحصار

خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حصار قريش باستراتيجية جديدة هي توسيع نطاق المجموعة التي آمنت به لتتحول إلى كتلة بشرية قادرة على الحركة بحرية كافية.

كانت استراتيجية الرسول (صلى الله عليه وآله) تقوم على تحويل المسلمين من طور الطليعة إلى طور المجتمع وذلك.

1- التحرك على قطاع واسع من القبائل والعشائر في إنحاء الجزيرة العربية والخروج بالدعوة من نطاق مكة لإضافة مجاميع أخرى إلى الكيان الإسلامي.

2- البحث عن مكان مناسب لأقامة أول تجريه في بناء المجتمع الرسالي الذي تسوده قيم التوحيد والعدل وتتحكم به مبادئ الإسلام الحنيف. فقد خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حصار الشعب وهو مؤمن بأن مكة لم تعد في الوقت الحاضر مكاناً مناسباً لتوطين المجتمع الذي يطمح إليه لأنه مهما توسع في القاعدة البشرية فهو يظل محاصراً من قبل زعماء قريش فكان لا بد من البحث عن مكان آخر يستطيع فيه المسلمون أن يجدوا فيه الحرية الكافية لممارسة طقوسهم الدينية ولإقامة نظام العدالة التي جاء بها النبي (صلى الله عليه وآله) والذي سيجد فيه المناخ المناسب لتربية المجتمع الإسلامي على أسس جديدة وقواعد رصينة.

وكان الوحي يواكب نمو وتطور المسيرة الإسلامية في تلك الفترة خطوة فخطوة. ففي مرحلة البناء تركزت إشارات الوحي نحو ترسيخ عقيدة التوحيد أما في فترة العمل العلني فقد انصبت نحو كيفية المواجهة ومعالم الصراع وأصبحت الآيات تمد المسلمين بالزاد الذي يحتاجونه في هذا الطريق اللاهب بالعذاب والآلام، كما جاءت الآيات لتضيف إلى خبرة المسلمين أساليب وطرق جديدة في النظال السياسي.

  •  (وأنذر عشيرتك الأقربين).
  •   (وأخفض جناحك لمن تبعك من المؤمنين).
  • (فإن عصوك فقل أني بريء مما يعملون).
  •  (يا أيها المدثر قم فأنذر وثيابك فطهر...).
  •  (وأصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين).
  •  (إنا كفيناك المستهزئين).

ويمكننا ملاحظة التعليمات الضرورية في تلك المرحلة. خفض الجناح، الأعراض عن المشركين. الظهور بالمظهر اللائق. ثم يمكن ملاحظة ما يريد به الله أن يثبت فيه قلب الرسول في هذه المواجهة (إنا كفيناك المستهزئين).

وبعد أن توسعت الدائرة البشرية للكيان الإسلامي كان لابد لهذا الكيان من أن يتحول إلى مجتمع قوي متراص ثم ليصبح أمة على امتداد القبائل وكان الوحي يواكب هذه المرحلة أيضاً أولاً بأول كما سنلاحظ.

  •  عام الأحزان:

كانت السنة العاشرة من البعثة التي خرج فيها النبي (صلى الله عليه وآله) من الحصار سنة المهمات الصعبة حيث لم يهدأ لحظة واحدة مستثمراً كل وقته في التحرك والنشاط حتى وقع الحادث الجلل الذي بدأ يغير مجرى المسيرة الإسلامية فقد ارتحل إلى الآخرة اثنان من أشد المساندين هما أبو طالب وخديجة، فقد كان أبو طالب بموقعه الاجتماعي وبإصراره العنيد في الدفاع عن النبي (صلى الله عليه وآله) وبتأثيره القوي على البيت الهاشمي سنداً معنوياً وسياسياًَ للحركة الإسلامية فقد كانت قريش تهاب أي تحرك يفضي إلى المواجهة مع أبي طالب لذلك النفوذ الواسع الذي كان يمتلكه، ليس في مكة وحسب بل حتى خارج مكة أما خديجة فقد كانت بموقعها الهام في نفس النبي (صلى الله عليه وآله) ولدورها المؤثر في البذل والعطاء سنداً منيعاً يضفي على المسيرة القدرة على مقاومة الضغوط.

لقد فقد النبي (صلى الله عليه وآله) في ثلاثة أيام ركنين من أركان الدعوة الإسلامية فسمى ذلك العام بعام الحزن فهناك أشياء كثيرة افتقدها بفقد أبي طالب على رأسها الغطاء الأمني والحماية السياسية التي وفرها وجوده.

فاليوم من سيحميه من أذى المشركين ومن سيدفع عنه كيدهم وأين يجد ذلك المدافع الذي لم يبخل بالدفاع عنه وهو حتى في فراش الموت حيث أحس أبو طالب بدنو أجله وأخذ يفكر بما سيجري على ابن أخيه من بعده وانهم سيتطاولون عليه متى ما عرفوا بموته.

وجاءه زعماء قريش لعيادته فوجدها فرصة ذهبية كان عليه استثمارها.. التفت إليهم وهم من حوله ؛ لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمد واتبعتم أمره فأطيعوه تنالوا السعادة في دنياكم وأخرتكم (1).

وأحس زعماء قريش بدنو أجل أبي طالب فعادوا إليه عله يتوسط بينهم وبين النبي (صلى الله عليه وآله) فلعل النبي (صلى الله عليه وآله) قد لآن قليلاً بعد الذي لاقاه في الشعب وإنه بدأ يفكر بصورة واقعية وهو يشاهد دنو أجل عمه وما سيلاقيه من بعده فهي إذن فرصة ثمينة ومن المحتمل أن يكون دافعاً آخر في قبول عروضهم.

جاءوا في اليوم الثاني وصادف وجود النبي (صلى الله عليه وآله) بجوار عمه يخفف عنه آلام المرض.

فقالوا له: يا أبا طالب، انك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى فضع حداً للخصام بيننا وبين ابن أخيك فخذ له منا له وخذ لنا منه ليكف عنا ونكف عنه، ويدعنا وديننا وندعه ودينه.

عرض سخي يسيل له لعاب كل سياسي يفكر بمنظار المصلحة الموقتة ويفكر بوضع حد للمضايقات والضغوط التي تواجهه وربما جال في خلد أصحاب العرض إن محمداً سيوافق على مقترحهم لا محالة لأنهم قد أبدوا له كل تنازل بأن يتركوه وشأنه ويتركهم لشأنهم وهذا يعني إعلان الهدنة بصورة رسمية بين الطرفين لكن وعلى غير ما كانوا يتوقعون أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بأطراف الحديث ووجه كلامه لزعماء قريش قائلاً لهم:

أعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم.

فتململ جمعهم وامتدت الأعناق لهذا العرض السخي وهو أسخى مما عرضوا عليه.

التفت أبو جهل ووجه ببصره إلى النبي (صلى الله عليه وآله) قائلاً وعلامات الدهشة والفرح بادية على محياه ونعم وأبيك وعشر كلمات لا كلمة واحدة !!

لكن لم يدم فرح أبي جهل عندما أستمع لبقية كلام الرسول (صلى الله عليه وآله).

قال لهم النبي (صلى الله عليه وآله):

تقولوا لا اله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دونه.

ومن هول الصدمة أجابوه أتريد أن تجعل الآلهة إلهاً واحداً.. وقاموا من المجلس وبعضهم يهمس في أذن البعض والله إن هذا الرجل لا يعطيكم شيئاًَ مما تريدون.

وأرتحل أبو طالب قرير العين بعد أن وضع كل ما لديه في سبيل الرسالة أرتحل ونفسه راضية بأنه دافع عن ابن أخيه وعن رسالته حتى آخر لحظة ولم يأل جهداً في توفير الحماية الكافية للكيان الإسلامي الناشيء.

ومع موته أحست قريش بالانفراج وإنها الآن أصبحت قادرة على النيل من النبي (صلى الله عليه وآله) بعد رفضه كل تلك العروض، فأعدت نفسها لجولة جديدة من الاستحقار والظلم فجاءه أحدهم ورمى رأسه الشريف بالتراب فأسرع إلى البيت والتراب لا زال على رأسه فقامت إليه عزيزته فاطمة وجعلت تغسل عنه التراب ودموعها تهطل من مآقيها.. لم يك سهلاً على الوالد أن يشاهد أعز بناته وهي تبكى ودموعها تقطر فوق خديها.. لقد تعذب أهل هذا البيت كثيراً ونالوا خلال عشر سنوات ألوان المحن والآلام.. أما آن لهذا العذاب أن ينقطع.. لقد تفردوه عندما وجدوه وحيدا بعد أن غاب عنه المعين أبو طالب وما بالهم يدعوهم إلى الحرية والى الحياة السعيدة وهم يمسكون حرابهم بوجهه.

يريد خيرهم فيجيبونه بالتراب والحجارة.. فما أغلظ قلب الإنسان عندما تنطفئ فيه شعلة الضمير.. وما أتعسه عندما يفقد إحساسه فيصبح لا يميز بين ما ينفعه وما يضره.

أرادوا إذلاله بتلك الأساليب الدنيئة لكنه أبى الذل ووقف شامخاً متحملا كل تلك الصعاب وما أصعبها من لحظات مرت على تلك الفتاة التي فقدت أمها بالأمس واليوم وهي ترى أباها يطرق عليها الباب بتلك الصورة المفجعة.

أما كان من حقها أن تذرف تلك الدموع الساخنة.. فبالأمس كانت خديجة واليوم فاطمة.. فاطمة هي المسؤولة عن راحة أبيها.. لكنها لم تستطع ضبط مشاعرها الجياشة وهي تستقبل أباها وهو ترب الرأس.

وأدرك الأب ما في قلب أبنته وماذا يجول في خاطرها..

أراد أن يخفف عنها وقد آلمه بكاءها..

لا تبكي يا بنيه..

فان الله مانع أباك..

وكأنما وضع بتلك الكلمات البلسم على جراح فاطمة..

فالله قد وعد رسوله بالنصر.. فلا يهم ما يلاقيه في هذا الطريق إذا كان بعين الله وبعين التاريخ الذي سجل هذا الموقف بأروع صورة للصمود والصبر.

ـــــــــــــــ

الهامش

1)- الحسني، سيرة المصطفى: ص 201.