mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 010.doc

حفلات التعذيب

وتزامناً مع شن الحرب النفسية ضد شخص النبي (صلى الله عليه وآله) قامت قريش بحرب شعواء ضد المستضعفين من المؤمنين بالرسالة فأنقضت على أبنائها وعبيدها مستخدمة ابشع أساليب القمع والتعذيب من أجل إبعادهم عن النبي (صلى الله عليه وآله).

تحولت قريش إلى وحش كاسر وغمدت مخالبها القوية في الأجساد الضعيفة التي هزلتها العبادة ولم يعترها أدنى خجل أو حياء بما فعلته بأولئك الضعاف الذين لا حول لهم ولا قوة.

فتلك عائلة ياسر كانت آمنة في بيتها، فرحة مسرورة باتباعها الدين الجديد الذي أنار قلبها للحق وفتح عقلها للعالم ولما يجرى فيه من ظلم واستحقار للقيم والمثل الإنسانية.

أعضاء العائلة ياسر الأب، سمية الأم عمار الابن كانوا في البيت عندما داهمتهم عصابة من قريش تعمل لمصلحة أبي جهل. دخلوا البيت بقوة أضرموا فيه النار وأخرجوا الثلاثة مقيدين بالأغلال وساقوهم بأسنة الرماح ورؤوس الحراب حتى وصلوا بطحاء مكة فرموهم أرضاً وأخذوا يضربونهم من كل مكان حتى سالت الدماء من أجسادهم.. عندما تعبوا من الضرب سلطوا النيران على صدورهم وأيديهم وأرجلهم ثم جاؤوا بالأحجار الثقيلة ووضعوها على صدورهم فأشيع خبر تعذيبهم فجاءت قريش لتتفرج.. وجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأطل بعينيه ليشاهد ثمار رسالته وهي يانعة على شجرة الصمود والاستقامة.

فهؤلاء آل ياسر تتفجر من تحت السياط أصوات الرفض والمقاومة.

ما أروعه من موقف.

موقف الصمود.. وموقف القائد وهو يرى ثمار جهوده في أولئك الصابرين تحت السياط وكيف أصبحوا يتحملون النار المستعرة وكيف يواجهوا السباب والشتم بروح عالية ملؤها الصمود والتضحية والكبرياء تلك الروح التي صنعتها الرسالة وأوجدتها التربية والرعاية المباشرة لقد ازداد رسول الله ثقة برسالته وبأصحابه وهو أمام مشهد حي من مشاهد الإيمان العظيم فأزداد يقيناً بأن المستقبل سيكون لهذا الدين وكيف لا وإن لهذا الدين رجالاً لا يتوانون في طريق الحق ولا يترددون في أهدافهم ولا يستسلمون للضعف ولا يذعنون للضغوط مهما كبرت.

وفي لحظات التأمل لا يسع القائد إلا أن يوصل صوته إلى المعذبين ليشد على جراحهم ضمادة من الكلمات الدافئة.

صبراً آل ياسر..

فاستيقظ المعذبون من غفوة التعذيب فرفعت سمية بصرها فوجدت النبي (صلى الله عليه وآله) بين الجموع فانتهزتها فرصة ذهبية لإطلاق صوتها الثائر لعلها تستطيع ان تحرك الضمائر الميتة أو تستثير العقول المغروسة في الجهل المتصداة بالخرافة. أومأت بجفون ثقيلة من التعذيب ورفعت صوتها وسط الجموع واخرجت نبرات من وسط العذاب وأشارت بأصابع ممزقة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائلة ـ ؛ أشهد انك رسول الله وإن وعدك حق.

ما أعظمها من كلمات وما أروع هذا الصمود.. وما أجمل هذا الحب وهذا الولاء الصادق.

لقد قالت تلك الكلمات لتكشف للعالم انها غير متراجعة وأنها غير نادمة على متابعتها للنبي (صلى الله عليه وآله) وبسرعة البرق نالت سمية ثمن تلك الكلمات، فقد انقض عليها الجلادون من كل حدب وصوب يشبعون منها ساديتهم فغشي عليها فلما أفاقت دنا منها أبو جهل وصاح بها:

لتذكرن وآلهته بخير ومحمداً بسوء أو لتموتن؟

فماذا سيكون جوابها؟ وهي متأكدة ان مصيرها سيتحدد بإجابتها.

ما أصعب الموقف لكن ما أسهل الكلمات التي نطقتها سمية جواباً على أبي جهل.

بؤساً لك ولآلهتك.

وبوحشية يندى لها جبين البشر أخذ يطعنها بحركة ويكرر الضربات حتى قضى عليها فذهبت إلى خالقها أول شهيدة في الإسلام.

ولم يكتف الطغاة بهذا القدر من السادية فقد قرروا أن يواصل حفلة التعذيب على أجساد بقية الضحايا جاؤا إلى ياسر وهو مكبل بالحديد عاري في وهج الشمس تلفحه حرارتها المحرقة فضربوه حتى ألحقوه بزوجته.

ولم يبق من حفلة التعذيب إلا الفصل الثالث فتجمعوا حول عمار فأهالوا عليه بالسياط والرماح والحراب وهم يخيرونه بين الموت وبين ذكر آلهتهم بخير اويذكر محمداً بما يريدون فاضطر إليها فأطلقوا سراحه وسارع إلى النبي باكياً متألماً لما صدر منه وهو يقول لم أترك يا رسول الله وقد أكرهوني حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير.

فقال له النبي كيف تجد قلبك يا عمار.

أجابه انه مطمئن بالإيمان يا رسول الله.

فقال فما عليك.. فان عادوا إليك فعد لما يريدون فقد أنزل الله فيك.

 {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمانِ}.

ومشهد آخر من مشاهد التعذيب في تلك الصحراء المقفرة ذات الرمال الساخنة، كان هناك عبد أسود نحيف الجسم مفرط في الطول كث الشعر خفيف العارضين ملقاً على الحصى وحوله عدد من الجلادين فيهم أمية بن خلف كانوا يواصلون ضربه تتعب أجسامهم وهو لا يتعب من ترديد أنشودة الصمود والمقاومة... أحد.. أحد.. أحد..

فذاك بلال الذي أصبح رمزاً للمقاومة يعدل ألف سيد وهو عبد.

لقد استطاع النبي (صلى الله عليه وآله) بفكره الوقاد ان يحول هذا الجسد النحيل إلى عملاق في الصمود والى ثورة بوجه الأعراف الجاهلية.

فقد حولت قريش جسده إلى مختبر جربت فوقه كل ما لديها من حقد وكراهية وتجبر وتكبر.

وحين يصابون بالكلل يأتون بحجر مستعرة ينقله من مكانه بضعة رجال ويلقون به فوق جسده وظهره.. وهم في هذا الحال يطلبون منه أمراً واحداً وهو أن يذكر آلهتهم بخير حتى لو يقولها بلسانه فكان يجيبهم [ إن لساني لا يحسنه].

لقد أبى أن ينطق باسم اللات والعزى لأنه اعتقد ان مجرد النطق بهذه العبارات هو تنازل بحد ذاته وهو يرفض أن يقدم أقل تنازل واكتفى بجواب واحد هو أحد.. أحد.. أحد وبين الفينة والأخرى كانوا يستبدلون طريقة التعذيب، فجعلوا في عنقه حبلاً ثم أمروا أطفالهم أن يسخروا منه ويطوفوا به في شوارع مكة حتى يشاهده الناس فيصبح مثلاً للآخرين.

وعبثاً كان الأطفال يحاولون بضجيجهم أن يخمدوا صوت بلال وهو يرتل نشيد المقاومة أحد.. أحد..

فكانت كل القلوب وكل الحناجر وكل العبيد يتضامنون مع تلك النبرات.

لقد شاهد حفلة التعذيب الكثير.. من مؤيد ومن معاند. فرأوا في بلال وهو لا يرضى ان يعطي أسياده حتى نصف كلمة.

ومشهد ثالث من حفلة التعذيب بطله هذه المرة خباب بن الارث،ذلك السياف الذي كان يصنع السيوف ويبيعها في أسواق مكة، فقد هدى الله قلبه للأيمان فدفع ثمن إيمانه غالياً. كانوا يأتونه إلى داره ويأخذون الحديد الذي يستخدمه في صنع السيوف ويحمونه حتى الاحمرار ثم يربطون به رجله ويده.

وفي مرات أخرى كانوا يعرونه ويلصقون ظهره بالرمضاء ثم يضعون الحجارة المحماة تحت ظهره حتى ذهب لحمه.

وأم أغار وهي سيدة خباب قبل أن يصبح حراً كانت تشترك في بعض الأوقات في حفلة التعذيب فكانت تأخذ الحديدة الحارة وتضعها على رأسه طالبة منه أن يترك دينه ويعبد الأصنام.

وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمر على تلك المشاهد لكي يعطي المعذبين شحنات من الصمود حتى يواصلوا مقاومتهم لمسلسل التعذيب لأن كل ما بناه كان يتوقف على صمودهم وتضحياتهم.

مر رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوماً على خباب وهو في حالة يرثى لها الحديد الساخن يشوي رأسه وهو عار في الرمضاء تحت لهيب الشمس المحرقة فدعا له.

 (اللهم أنصر خباباً)).

ولم يمض وقت طويل على دعاء الرسول (صلى الله عليه وآله) حتى أصيبت أم أغار بمرض غريب فكانت تعوي كالكلب فأخبروها ان علاجها أن يكوى رأسها بالنار. فقد قدر الله لها أن تتألم بمثلما كان يتألم خباب وان تنال ما كانت تفعله به.

لقد مرت فترة من المحنة هي أشد ما عرفها التأريخ الإسلامي وتاريخ الثورات من روعة في الصمود وتألق في سماء المقاومة والتحدي ويعود الفضل في تلك المشاهد الرائعة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي كان رمزاً للمقاومة فمنه أخذ أصحابه درس المقاومة والتحدي فكانت لقاءاتهم مع طغاة قريش هي صورة مصغرة عن مواقف رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع هؤلاء الطغاة.

في تلك اللحظة العصيبة لم يهدأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تقوية معنويات أصحابه وبعث الصمود في نفوس أولئك الذين سيواجهوا حفلات التعذيب في كل يوم وليلة.

فكان يتنقل من مشهد إلى آخر يصب زيت الارادة في النفوس الكبيرة لتشتعل بالثورة ضد الوثنية وكان يزرع الأمل في النفوس إذ الأمل هو بلسم للجراح المعذبة. فقد اتفق عدد من الصحابة الذين كانوا ينالون التعذيب بالتقسيط اليومي مع خباب بن الإرت فجاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) طالبين منه أن يدعو الله ليضع حداً لمعاناتهم.. قالوا للنبي:

يا رسول الله.. ألا تستنصر لنا؟؟

فاحمر وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال لهم.. قد كان من قبلكم يؤخذ منهم الرجل، فيحفر له في الأرض، ثم يجاء بالمنشار، فيجعل فوق رأسه، ما يصرفه ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ما يصرفه ذلك عن دينه. وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخشى إلا الله عز وجل والذئب على غنمه. ولكنكم تعجلون.

إذن لا شيء ما يلاقونه في قبال أولئك الذين كانوا يقطعون بالمناشير وتمشط لحومهم من عظامهم بأمشاط الحديد.

لا شيء ما يلاقونه في قبال ما سيحصلون عليه.

فان ما يجري عليهم لا يدوم.. وأن قريشاً لا يمكن أن تستمر إلى الأبد في ممارستها الشوفينية فما هي إلا أيام أو أسابيع أو أشهر وبعده سيأتي الخير حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخشى أحداً إلا الله.

لقد وعدهم الله إنه سينصر دينه وأن يوماً ليس ببعيد سيأتي ليحكم هذا الدين الربوع كلها وسيأتي اليوم الذي ستمرغ فيه أنوف أسياد قريش وطواغيتها.

فأذن ما هي إلا أيام.. فالصبر والمقاومة.

وبهذه الروح واصل الأباة طريق المقاومة مستهينين بالعذاب غير مبالين بالضغوط بهذه الروح استطاع المسلمون ان يمرغوا أنوف الطغاة وأن يدفعوهم إلى الاستسلام والاذعان لإرادة الله.

فمسلسل الاضطهاد يصهر النفوس ويصنع منها قالباً إيمانياً واحداً، والمسلمون كانوا بأمس الحاجة لأن يجتازوا تلك المحنة ويتذوقوا طعم الشدائد ليخرجوا من مدرسة المقاومة رجالاً أقوياء ولتعدهم إعداداً جيداً للمستقبل ولشدائده وأهواله.

إن مصير الإسلام أصبح مرهوناً بصمود تلك الجماعة القليلة الملتفة حول النبي (صلى الله عليه وآله)، وأن أهوال المستقبل أشد وأعنف وان مواجهتها بحاجة إلى أعداد. وأجواء مكة في تلك الفترة كانت الميدان الأفضل لأعداد الطليعة المؤمنة.

فلولا تلك المحن وذاك الاضطهاد الذي لقيه المسلمون لما كان سينتصر الإسلام في بدر والخندق وخيبر، ولما كان يجرأ أحدهم ليقف ذلك الموقف الذي وقفه عبدالله بن حذافة أمام كسرى ملك الفرس.

إن الأمم الخالدة تبدأ من نطفة.. وكلما كانت النطفة قوية كانت الأمة قوية أيضاً. وهذا هو الذي أراده رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقد بذل كل جهد من أجل هذه النطفة الخيرة فقد رعاها بكل ما يملك ومنحها كل اهتمامه حتى أصبحت نواة النطفة المباركة لولادة خير أمة أخرجت للناس.

والأمة لا تتسلق المجد إلا بالتعب والنصب. ولا تصبح قوية إلا بالشدائد والمحن، فهي في الشدائد تزداد ثقة بالنفس وتتضاعف علائقها بقائدها ويزداد تشبثها بأهدافها، وهذه هي سمات الأمة الخالدة.

ثقة عاليه بالنفس.

وثقة عالية بالقيادة.

وانشداد نحو الأهداف.

لكن لم يكن سهلاً على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يرى أصحابه ورفاق دربه وهم مرميين فوق الرمال الحارة وفوق صدروهم الصخور الحامية وهم يتعرضون إلى التنكيل والتعذيب بأقصى صوره.

كيف يتمكن ذلك القلب العطوف الذي يرتجف لألم هرة أن يشاهد أصحابه وأعزته ومن سارع فآمن به وهم يئنون تحت سياط الشياطين ويتألمون تحت حراب الطغاة.

والى متى يستطيع المسلمون أن يتحملوا كل هذا العذاب وعلى ما يبدو إن قريش غير منفكة في ارواء حقدها الدفين من جسد المستضعفين.

فما الحيلة والقوم يزدادون حقداً على الرسالة.

ويتضاعفون في شراستهم وتنكيلهم..

  • صوب الحبشة:

لم يكن هناك مفر سوى الخروج عن مكة..

فمع مجيء شهر رجب من السنة الخامسة من البعثة أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أصحابه أن يتوجهوا صوب الحبشة سراً. لوضع حد لعمليات التصفية التي شملت بعض الصحابة كياسر وسمية ولإيجاد قاعدة جديدة للانطلاق.

لكن لماذا الحبشة؟

لأن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد ولبعدها عن مكة ثانياً فالمسافة الطويلة ستحول دون ممارسة قريش لطغيانها وثالثاً لضعف النفوذ المكي على السلطة الحاكمة في الحبشة بخلاف المناطق الأخرى التي يحظى فيها المكيون بنفوذ واسع.

وفي غسق الليل، انطلق خمسة عشر من المسلمين فيهم أربع نساءهم الوجبة الأولى من المهاجرين إلى الحبشة (الذين ناهزوا الاثنين والثمانيين نفر) فسارعوا للوصول إلى جدة حيث كانت السفن الراسية بانتظارهم.

وبنصف دينار عن كل راكب استطاع المسلمون أن يطووا صفحة من حياتهم ويبدأوا حياة جديدة على أرض أخرى.. لكن هل سيكونوا بمنجا من أولئك الطغاة الذين أدمنوا على تعذيب المستضعفين.

واستيقظت قريش على أنباء مزعجة تهددهم في الصميم لأن الهجرة إلى الحبشة كانت تعني خروج الإسلام من قبضتها الحديدية.

فتحت طائل الخوف من انتشار الإسلام سارع المكيون إلى إرسال وفد رفيع المستوى إلى النجاشي ملك الحبشة وحملوا هدايا كثيرة للملك واستطاع الوفد أن ينفذ إلى بطارقة الملك ويقنعهم بضرورة مساعدتهم على استرداد المسلمين.. لكن أبى الملك ذلك إلا بعد ان يسمع رأي المسلمين بالتهمة الموجهة إليهم بأنهم ابتدعوا ديناً جديداً لهم.

وتم اللقاء، وكان لقاءاً تاريخياً، حيث استطاع المسلمون أن يقلبوا حسابات الوفد المكي. فقد انبرى جعفر بن أبي طالب ليجيب على سؤال الملك حول ماهية الدين الجديد بكلمة رائعة ذكرها كل المؤرخين.

فنزلت كلمات جعفر كالصاعقة على رؤؤس الوفد الذي لم تسعفه الهدايا ولم تنفعه العلاقات السابقة فقد انهزموا أمام أولئك القلة الذين كانوا موضع سخرية لهم. ولم يتصوروا يوماً من الأيام انهم يقفون هذا الموقف الضعيف الذليل أمام من اعتبروهم عبيداً وأفراداً من الدرجة السفلى.

ولم يمر ببالهم أن يصبح للمسلمين هذا المنطق وهذه القوة في الحجة والبيان وهم الذين كانوا إلى الأمس حفاة فقراء فما الذي صنع بهم ذلك؟

وهنا تبرز أمامنا القيمة الحقيقية للفترة الهامة التي قضاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) في إعداد هؤلاء الكوادر الذين امتازوا بقدرة فائقة على المواجهة السياسية والإعلامية. فإذا كان هناك فضل في مثل هذه المواقف فالفضل كله يعود إلى الخطة الحكيمة التي اتبعها رسول الله في بناء تلك العناصر القيادية ورعايته المستمرة لها حتى أصبحت بمستوى المواجهة من حيث المنطق والشجاعة النفسية والجرأة الأدبية.

وكانت خيبة أمل للوفد ان يخرج من قصر الملك بدون نتيجة ، فماذا سيقولون لقريش وماذا سيجيبونهم وهم ينتظرون منهم النتيجة ليحتفلوا بإعادة المسلمين قهراً إلى مكة ماذا سيكون جوابهم لأولئك الذين أرسلوا معهم الهدايا وكلهم ثقة بقدرة الوفد على التأثير في الملك ثم على استرداد المسلمين.

وهكذا لم يرض الوفد العودة إلى مكة دون أن يكسب المعركة فسارع إلى التفكير بدسيسة أخرى وفي الغد جاء اعضاء الوفد إلى الملك ليقولوا له إن المسلمين ليقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه واعتقدوا بأنهم سيكسبوا هذه الجولة لأن المسلمين لا يسعهم الجواب ومهما كانت إجاباتهم فأنها ستغضب الملك.

وعلى الفور طلب الملك من حاشيته أن يدعوا جعفرا فطلب منهم الإجابة على ذلك السؤال وبلا تردد قال جعفر نقول فيه الذي جاء به نبينا يقول هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عوداً وخط به على الأرض وقال ليس بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخط ثم قال للمسلمين.

اذهبوا فأنتم آمنون.

وصعق الوفد لهذه النتيجة غير المنتظرة ولتلك الإجابة البليغة التي تنم عن نضج وتكامل في الشخصية.

فعادوا إلى مكة بأيدي خالية وظل المسلمون في الحبشة بعد أن ربحوا الجولة ووجدوا هناك مأمناً مناسباً للعيش وللدعوة. وجاء في بعض التواريخ ان النجاشي  أسلم بعد أن أدرك سلامة الدين الإسلامي. وإذا أريد وضع هذه التجربة في دائرة التقييم فأنها تعتبر من التجارب الناجحة التي خاضها المسلمون في فترة التحرك المكي. وهي تكشف عن مدى ما بلغه المسلمون من حنكة سياسية وقدرة على المناورة للتخلص من الأعداء. وبالإضافة إلى هدف تأمين الجانب الأمني للمسلمين هناك هدف آخر هو عقد علاقات سياسية مع زعيم أقرب دولة إلى مكة بعد أن تيقن المسلمون من سلامة السلطة وسلامة نهج ملكها وجودة البيئة كمحطة للبناء والانتشار.

ولم يقع الاختيار على الحبشة كمأوى لبعض المسلمين إلا بعد أن قدر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الموقف بكل حذافيره ودرس الوضع العام الاجتماعي والديني فاستنتج ان وجود المسلمين في تلك البقعة سيشكل عامل ضغط قوي على المشركين وسيعطي للحركة بعداً سياسياً هاماً وخصوصاً إذا ما استطاع المسلمون من التأثير على السلطة الحاكمة وهذا الذي تحقق فعلاً. فقد آمن النجاشي بالإسلام ولم يرغب في الإعلان عن ذلك خوف انقلاب الوضع عليه. وقيل إن الحركة العصيانية التي وقعت في الحبشة كانت بسبب تمايله للإسلام، وهذا ما يبرز الدور الفاعل للمسلمين فهم لم يتحولوا إلى عملاء للسلطة هناك بل على العكس من ذلك تمكنوا أن يقنعوا ملك تلك الدولة باعتناق دينهم ويعود السبب في نجاح هذه التجربة إلى عاملين اثنين.

الأول: الخطة الحكيمة التي تم على أساسها سفر المهاجرين إلى الحبشة من التوسل بالكتمان ودقة في التنظيم. العامل الثاني هو حسن اختيار العناصر القيادية في المجموعة عامل هام في نجاح التجرية. فلولا الوقفة الباسلة التي وقفها جعفر أمام الملك لما كان المسلمون بقادرين على إحراز هذه المكتسبات في الحبشة.