mp3:
الملف: Microsoft Office document icon 03.doc

رجل التفوق العسكري

قامت الحروب الماضية على قوة العامل الشخصي فكان للأشخاص دور حاسم في المعارك وكان لمعنويات المقاتلين دور كبير في حسم المعركة، فالجيش الذي يملك الروح المعنوية العالية يستطيع أن يصنع الإنتصار على عكسه الجيش الذي لا يمتلك المعنويات.

وكانت المعارك تتوقف في العادة على الجولة الأولى فمن يفوز في الجولة الأولى تحسم له المعركة ولم يشذ المسلمون عن هذه القاعدة. فعادة كانت المعركة تستأنف بجولة هي فاتحة الإنتصار. وفي تلك الجولة كان يتجلى الدور الهام للإمام علي (عليه السلام).

ففي معركة بدر خرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة ودعوا إلى المبارزة فخرج إليهم في البداية عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة وكلهم من الأنصار. فقالوا: من أنتم؟ قالوا من الأنصار، فقالوا: أكفاء كرام ومالنا بكم من حاجة ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا، فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قم يا حمزة، قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا علي فقاموا ودنا بعضهم من بعض فبارز عبيدة بن الحارث بن المطلب عتبة وبارز حمزة شيبة وبارز علي الوليد، فأما حمزة فلم يمهله شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما قد أثبت صاحبه وكر حمزة وعلي على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة إلى أصحابه وقد قطعت رجليه فلماا توا به النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ألست شهيداً يا رسول الله؟

قال: بلى(1)

وقيل إن عليّ (عليه السلام) بعد أن فرغ من قتل الوليد صاح به المسلمون، يا علي أما ترى الكلب قد بهر عمك وكانا قد اعتنقا بعد أن تكسر سيفهما، فأقبل عليهما وكان حمزة أطول من عتبة فقال له علي طأطئ رأسك يا عم فلوى رأسه فضرب علي عتبة فقده نصفين وكرّ علي والحمزة بعد ذلك على شيبة فقتلاه وحملا عبيدة وكانت قد قطعت ساقه فألقياه بين يدي رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم) فأستعبر وقال: ألست شهيدأً يا رسول الله.

قال: بلى (2)

وبعد هذه الضربة انهارت معنويات قريش وانهزم جيشها وحسمت المعركة لصالح المسلمين وكان لعلي(عليه السلام) بعد تلك الجولة الأولى دور مؤثر في نتيجة المعركة فقد التقط من جيش الكفر أهم صناديدهم وأهم الشخصيات البارزة في قريش.

فقد قتل نوفل بن خويلد وكان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قد قال اللهم اكفني ابن العدوية وكذلك قتل حنظلة بن أبي سفيان ثم العاص بن سعيد بن العاص ثم طعيمة بن عدي وعبد الله بن المنذر، وقد احصى الواقدي أربعة وعشرين ممن قتلوا بسيف على وثمانية وعشرين ممن اشترك في قتلهم، وجميع أولئك الذين قتلوا بسيف علي كانوا من الفرسان والشخصيات البارزة الذين فقدت بفقدهم قريش هيبتها بين القبائل.

وفي أحُد شرعت المعركة عندما تقدم حامل لواء المشركين طلحة بن عثمان وهو من شجعان قريش فوقف بين الصفين ورفع صوته:

يا معشر أصحاب محمد أنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم الى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل أحد منكم يُعجله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني سيفه إلى النار؟

فبرز إليه علي بن أبي طالب (عليه السلام) فضربه، فقطع رجله، فسقط فخشي طلحة أن يقتله علي فكشف عورته وناشده الله والرحم، فتركه علي(عليه السلام) فكبر رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وكبر معه المسلمون فرحاً بنتيجة هذه الجولة ثم قال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي(عليه السلام):

ما منعك أن تجهز عليه، قال: إنه ناشدني الله والرحم فاستحيت منه(3). ثم تقدم بعد ذلك أخوه عثمان فحمل الراية فحمل عليه الحمزة بن عبد المطلب فضربه بسيفه فقتله على أثرها، فحمل اللواء من بعده أخوهما أبو سعيد فحمل عليه علي(عليه السلام) فقتله ثم أخذ اللواء أرطأة بن شرحبيل فقتله علي (عليه السلام) وأخذ اللواء من بعده غلام لبني عبد الدار فقتله علي بن أبي طالب وهكذا تعاقب علي حمل اللواء تسعة من بني عبد الدار قتلوا بأجمعهم بسيف علي (عليه السلام) أو سيف حمزة.

وكان آخر من حمل اللواء هو غلام لبني عبد الدار يدعى صواب فحمل عليه علي(عليه السلام) وقتله وسقط اللواء من بعده في المعركة ولم يجرؤ أحد على أن يحمله فدب الرعب في قلوب المشركين وانهارت معنوياتهم وبدت المعركة وكأنها قد حسمت لصالح المسلمين إلا أن عصيان الرماة الموكلين بحماية ظهر المسلمين والمرابطين في الجبل هو الذي غير ميزان القوة فاستطاع المشركون أن ينفذوا خلال صفوف المسلمين بعد أن ترك المسلمون الموقع ظناً منهم بأن المعركة قد حسمت فتسارعوا علىجمع الغنائم، وتبدل الأمر واستعاد المشركون معنوياتهم وأحاطوا بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لعلي احمل عليهم وكان إلى جانبه لم يفارقه خوفاً عليه ففرقهم علي (عليه السلام) وقتل عدداً منهم ثم أبصر جماعة أخرى فقال له أحمل عليهم فحمل عليهم وفرقهم أيضاً فقال جبرئيل للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله هذه المواساة، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): إنه مني وأنا منه. قال جبرئيل: وأنا منكما. قال: فسمعوا صوتاً في السماء لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي(4) فسئل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك.

فقا ل لهم:

هذا جبرئيل(5).

ويقف التاريخ بشموخ ليروي للأجيال موقف الفداء الذي وقفه الإمام علي (عليه السلام) في تلك اللحظات الحرجة التي حُوصر فيها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

في تلك اللحظات العسيرة التي فرّ فيها المسلمون وأصبح همّ الواحد منهم كيف ينجو بنفسه؟ والبحث عن مكان يأوي إليه ويخفي نفسه عن أعين المشركين

في تلك اللحظات أين كان علي (عليه السلام).

بالطبع كان إلى جانب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)

لم يخش على نفسه فلم يفر من المعركة.

بل كان كل خشيته على الإسلام، فوقف وقفة الأبطال يدافع عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لأن وجود الإسلام كان يتوقف يوذاك على وجوده.

استشهد حمزة واستشهد مصعب بن عمير وكان حامل لواء المسلمين فأعطى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) الراية إلى علي بن أبي طالب، فأخذ يصدّ الهجمات عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والراية بيده والسيف باليد الأخرى وكأنه جيش بكامل عدته وعدده، فلم يستطع المشركون من الإقتراب إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) واستطاع علي ومعه نفر قليل من المسلمين فيهم أبو دجانة أن يعيدوا المعركة إلى حالتها الأولى من التوازن، وأن يبعثوا الرعب مجدداً إلى قلب المشركين، وكان هو السبيل الوحيد لانتهاء المعركة دون أن يحرز أحد الطرفين نصراً مؤزراً.

ولأن معركة أحد كانت من المعارك القاسية على المسلمين فقد برزّت مواهب قتالية ملفتة عن الإمام علي (عليه السلام). فقد أبدى الإمام في هذه المعركة حنكة عسكرية في التصدي لأصحاب الألوية، فقتل معظم من حمل لواء المشركين في هذه المعركة كما ذكرنا، وقيل أنه قتل تمام التسعة الذين حملوا اللواء. وقد أضاف هذا العمل الشجاع شرخاً آخر في جبهة المشركين. وحتى بعد أن انقلبت موازين المعركة لصالح المشركين كان للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) دور مهم في التصدي للمشركين. فقد عمل المستحيل من أجل اعادة وضع ساحة المواجهة إلى حالتها الطبيعية التي كانت فيها، فكان يخطو بخطوات سريعة وصولاً لحالة التوازن حيث لم يحقق المشركون ما كانوا يصبون إليه وهو توجيه ضربة قاضية للمسلمين تُصفي وجودهم في جزيرة العرب.

وعندما لاح لقريش أنها فشلت في تصفية الكيان الإسلامي عادت تتهيأ مرة أخرى لتوجيه الضربة النهائية وذلك بالتحالف مع القبائل الجاهلية الأخرى، فجاء أبو سفيان ومعه أربعة آلاف مقاتل من قريش، وجاءت سليم ومعها سبعمائة بقيادة سفيان بن عبد الشمس وهو حليف حرب بن أمية، وخرج بنو أسد وفزارة في ألف مقاتل كما جاءت معهم أشجع، وبني مُرّة حتى بلغ عددهم عشرة آلاف مقاتل فملأوا البوادي المحيطة بالمدينة من كل جانب وقد ارتأى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) البقاء في المدينة واكتفى بحفر خندق حولها بعد ان استشار أصحابه فأشار عليه سلمان أن يعمل ذلك.

وغضب المشركون عندما أصبحوا وجهاً لوجه مع هذا التكتيك الحربي الذي لم يسبق لهم أن عرفوه، لكن اندفاعاتهم كانت أقوى وحماسهم للقضاء على الإسلام لم يوقفه حد. فهذه القبائل كلها قد جاءت للقضاء على الإسلام وهي الفرصة الأخيرة لتحقيق ما عجزت عنه قريش في بدر وأحد.

فالمشركون أظهروا إصراراً كبيراً على أقتحام المدينة فرغبتهم في القتال كانت كبيرة وهي نتيجة طبيعية لتلك الكثرة من المقاتلين الذين أحاطوا بالمدينة من كل جانب ومكان.

وتقدم أبطال قريش مزهوين بجيشهم الجرار، وهم عمرو بن ود العامري وكان يعادل بألف كما وصفه المؤرخون وجاء معه عكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله وضرار بن الخطاب.

أقبلوا يستعرضون قوتهم ومزهوا أمام المسلمين الذين أخذهم الخوف والهلع مما شاهدوه.

وأخذ الأبطال يستعرضون قوتهم على طول الخندق، وما أن وجدوا ثغرة حتى عبروا إلى الطرف الآخر فازداد المسلمون خوفاً على خوفهم وأصبحوا واثقين من أن الحرب واقعه لا محالة، فهذا جيش المشركين وهؤلاء طلائعهم وهذا فارسهم عمرو بن ود العامري يطلب المبارزة.

لكن من يستطيع أن يقول أنا له.. فهو المشهور بالشجاعة والبطولة يشهد له العرب بأنه بطل يليل.. فانتهزها عمرو فرصة ليسخر من عقائد المسلمين ويتحداهم إن كانوا على حق فرفع صوته..

أين جنتكم التي تزعمون أن من قتل منكم دخلها أفلا يحب أحد منكم أن يذهب إليها؟

عند هذا الحد لم يطق علي (عليه السلام) إلا أن يكون هو المجيب.. فتقدم إلى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له أنا له يا رسول الله فأجلسه الرسول.

وللمرة الثانية والثالثة طالب عمرو المبارزة فلم يكن يجيبه أحد إلا علي.. في كل مرة كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلب منه الجلوس، ولا ندري ما الذي كان يجول خاطر رسول الله في تلك اللحظات الحرجة من تاريخ الإسلام.

هل كان يخشى على علي (عليه السلام)؟

أما كان يريد بإجلاسه المكرر لعلي إبراز هذا الدور التأريخي لابن عمه كي يبقى شاخصاً عبر الزمن يتناقله عشاق البطولة والأبطال جيلاً بعد جيل. ولعله كان يريد اختبار بقية الصحابة الذين سيطر عليهم الخوف وربما ان من حقهم أن يخافوا لأن المنازلة مع عمرو بن ود هو موت محقق.. لكن ليس من الإنصاف أن يترددوا في الإجابة عن نداء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ضمن لمن يُقتل الجنة، فقد كان يكرر ويقول: من يبرز له وأنا الضامن على الله له الجنة.

ولم يكن من الصالح الإنتظار أكثر من هذا إذ أن التباطؤ في مواجهة عمرو يعني دفع معنويات المسلمين إلى المزيد من الإنهيار.

وهذه معركة فاصلة يتقرر فيها مصير الإسلام لأن الشرك قد تقدم بكل عدده وعدته.

أذن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي فأعطاه سيفه وألبسه درعه وعمامته ورفع كلتا يديه وقال اللهم إنك أخذت عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد وهذا علي أخي وابن عمي فلا تدعني فردا وأنت خير الوارثين.

وبرز علي (عليه السلام) تسبقه إلى ساحة المعركة كلمات رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

برز الإيمان كله إلى الشرك كله(6).

أصبح الإثنان وجهاً لوجه.

ومرت لحظات من الذهول على المعسكرين.

المسلمون من جانب كانوا بإنتظار ما سيحدث بعد ساعة بل بعد لحظات، هل سيسقط عمرو بن ود وتنتهي المعركة لصالحهم أم سيستشهد علي فتكون الطامة الكبرى.

والمشركون من ناحية كانوا يتوقعون مصير هذه الجولة بطمأنينة لأنهم كانوا على ثقة بأن عمرو بن ود سيحسم المعركة لصالحهم.

أما عمرو بن ود فقد كان لقاؤه مع علي مفاجأة له.. فهو لازال شاباً في مقتبل العمر وربما دار في خلد عمرو بن ود هذا التساؤل من هذا الشاب الذي تنازل عن حياته وتجرأ للقائه بعد أن تثاقل الجميع.

فالتفت إليه وبادره بالسؤال:

من أنت؟

أنا علي بن أبي طالب.

وتزاحمت في ذاكرة عمرو الأسماء والخواطر.. من هو صاحب هذا الإسم فهذا علي.. أجل الشخص الذي قتل الأبطال في بدر وهزم جيش قريش في كل المعارك.

هذا هو علي بن أبي طالب والنزال معه معروف النتائج.

فقال له بأدب:

يا أبن أخي إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، فأرجع وراءك خير لك.

أدرك علي(عليه السلام) مغزى العبارة وعرف ما يجول في خاطر عمرو ووجدها فرصة ذهبية لأن يعرض عليه الإسلام فهو رجل هداية قبل أن يكون رجل حرب.

قال له: إن قريش تتحدث عنك إنك تقول: لا يدعوني أحد إلى ثلاث إلا أجبت ولو إلى واحدة منها.

قال عمرو: أجل.

فقال له علي: فإنا أدعوك إلى الإسلام.

- دع عنك هذه.

- فإني أدعوك إلى أن ترجع بمن تبعك من قريش إلى مكة.

- إذن تتحدث عني نساء مكة إن غلاماً مثلك خدعني.

- فإني أدعوك إلى البراز.

- إني لا أحب أن أقتلك.

- ولكني أحب أن أقتلك.

فاغتاظ عمرو وبغضب نزل عن فرسه وعقره ثم أقبل على علي(عليه السلام) فتقاتلا، ضربه عمرو بسيفه فاتقاه علي بدرقته فأثبت فيها السيف وأصاب رأسه فضربه علي علي حبل عاتقه فسقط يخور بدمه، فعلا صوت المسلمين بالتكبير وفرّ أصحابه من هو ما شاهدوا فلحق بهم علي عليه فسقط نوفل بن عبد الله في الخندق فنزل إليه علي فقتله(7).

وتلقت قريش هذه الضربة القاسية باستغراب لانها لم تكن تتوقع أن أحدا يجرؤ على قتل عمرو بن ود، فدب الخوف في نفوسهم إلا إنهم ظلوا محاصرين للمدينة مدة من الزمن ولم يفكوا الحصار عنها إلا بعد أن استخدم النبي تكتيكاً حربياً فجر الخلاف بين الأطراف العديدة المشاركة في الحرب. فتفرق الجمع على أثر هذا التكتيك وعاد كل فريق إلى مكانه خائباً.

وفي خيبر ظل القتال مستمراً أياماً دون أن تلحق الهزيمة باليهود المتحصنين في حصون منيعة وكما جاء في سيرة ابن هشام والطبري والكامل في التاريخ إن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ يولي القيادة كل يوم رجلاً من اصحابه ويرجع دون نتيجة، فنفذ صبر المسلمين وكاد ينتهي ما عندهم من زاد. فكان لابد من حل لهذا الوضع فرفع النبي صوته في جمع المسلمين وقال والله لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غير فرار.

لو أحطنا بالموقف العسكري في جبهة المسلمين العاجز عن حسن المعركة لصالحهم لعرفنا أهمية العبارة التي أطلقها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والتي اشتم منها المسلمون رائحة النصر على يد القائد الموعود.

لكن من سيكون ذلك القائد الذي سيحقق الله النصر على يده بعد أن فشل الآخرون؟

فمن سيكون هذا الشجاع الذي سيواصل المعركة مع اليهود ولم يعد خائباً؟ ومن هو ذلك الرجل الذي وصفه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بأبلغ وصف عندما قال عنه إنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.. كرار غير فرار.

أراد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون الإعلان عن اسم القائد مفاجأة للمسلمين، حتى يدركوا أهميته وشخصيته الفذة من خلال تلك العبارة المقتضبة، ومن خلال التفكير المتواصل طيلة يوم كامل عمن هو المعني بكلام النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى الخليفة عمر بن الخطاب تمنى أن يكون صاحب الراية فقال كما نقل ابن كثيرفي البداية والنهاية.

إني ما أحببت الإمارة إلا ذلك اليوم وتمنيت أن أعطى الراية بعد أن سمعت ذلك من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

واستيقظ المسلمون في صباح اليوم التالي والتفوا حول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ينتظرون منه الإفصاح عن إسم القائد، فأدار النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ببصره وتصفح الوجوه فقال أين علي فقيل له إنه أرمد فاستدعاه فجيء به فمسح على عينيه بيده ودعا له فبرئت فأعطاه الراية وقال له خذ ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك وقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله. ويروي أحد أفراد الجيش وهو سلمة بن الأكوع ما حدث بعد ذلك: انطلق علي يهرول هرولة ونحن خلفه نتبع أثره حتى ركزّ الراية فوق حجارة مجتمعة تحت الحصن فأطلّ عليها يهودي من رأس الحصن وقال من أنت؟

قال: أنا علي بن أبي طالب، فقال اليهودي علوتم وما أنزل على موسى.

وقيل إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبر علياً، إذا طلب اليهود إسمه يقول له إيليا فقد ورد في كتبهم إن حصونهم تتهاوى على يد قائد إسمه إيليا، ولما أجاب علي (عليه السلام) بما ذكره له النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أيقن اليهود بأنهم مغلوبون.

وتقدّم علي(عليه السلام) نحو الحصن وقد أحاط به أبطال اليهود وفرسانهم فقضى عليهم بأجمعهم وكان من بينهم الحارث أخو مرحب وكان مشهوراً بالشجاعة، فلما سمع بمقتل أخيه خرج من الحصن وهجم على الإمام (عليه السلام) فبارزه الإمام، وكانت النتيجة مقتل مرحب وتقدم الإمام نحو بقية الجيش ويقول المؤرخون إن عليا تناول باباً كان عند الحصن طوله ثمانون شبراً وتترّس بالباب حتى انهزم الجيش فوضع الباب فوق الخندق الذي شقه اليهود حول الحصن وأمر المقاتلين بالزحف نحو الحصن بعد اجتياز الباب.

وذكر المؤرخون عن أبي رافع خادم رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، قوله:

لقد رأيتني في نفر سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك فما نقلبه(8).

يتبين مما تقدم من وصفه للمعارك الأولى في صدر الإسلام إنها حسمت لصالح المسلمين بفعل الشجاعة النادرة للإمام علي (عليه السلام) وإن النجاح في المعركة كان مرهوناً بالخطة العسكرية التي كان ينفذها. كانت خطة الإمام تتركز على السرعة في المبادرة للقضاء على القوة الضاربة للعدو ومن ثم بعث الخوف والهلع في الجيش المعادي الذي سيجد نفسه غير قادر على الصمود ومواصلة الحرب فيختار أحد الحلين إما الفرار أو الإستسلام واستطاع الإمام علي (عليه السلام) بمواقفه البطولية هذه أن يكون صورة تبعث على الخوف والرعب في أذهان أعداء الإسلام، فكان مجرد مشاركته في المعركة تكفي لنشر الخوف في نفوس الأعداء فحضوره الدائم بمثابة قوة عسكرية ومعنوية تمنح الجيش الإسلامي حالة من التفوق العسكري.

ولذلك كان رسول الله يعمل على استثمار هذه النظرة المشوبة بالخوف في جميع معاركه فكان يعطيه الراية في أكثر الحروب التي خاضها ليزيد هلع المشركين وخوفهم على أرواحهم.

 

ثانياً: رجل المهمات

في الطريق نحو ترسيخ الدولة الإسلامية كانت تواجه المسلمين مشكلات وعقد عسكرية واجتماعية لم يكن من السهل حلها وكثير من هذه المشكلات كانت نتيجة أخطاء بعض من كانت تناط بهم مسؤولية عسكرية أو ادارية، ففي مثل تلك الحالات المستعصية كان رسول الله ينتدب ابن عمه علي بن أبي طالب لحلها فقد كان على ثقة تامة يحنكته السياسية وحكمته في ادارة المشكلات المعقدة.

وفيما يلي نماذج من تلك الحالات المستعصية التي كان لها الإمام علي (عليه السلام):

من الأخطاء التي وقعت في صدر الإسلام، استيلاء القوات الإسلامية على مغانم لبني جذام وهم لا يعرفون أنهم مسلمون. فقد سبق لزعيمهم رفاعة بن زيد أن ألتقى بالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في فترة هدنة الحديبية، وأهدى لرسول الله غلاماً وكان رفاعة قد أسلم وحمل معه كتاباً من رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قومه يدعوهم فيه إلى الإسلام، فأسلم قومه ولا علم للمسلمين بما حدث لأن الإسلام في تلك المرحلة كان ينتشر بصورة ذاتية ولم يكن بمقدور المسلمين معرفة من أسلم ومن لم يُسلم سيما الذين كانوا يقطنون المناطق النائية، واتفق في تلك الفترة أن دحية بن خليفة الكلبي مبعوث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قيصر قد مرّ بأرض جُذام أثناء عودته إلى المدينة بعد إبلاغ رسالة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قيصر وفي الطريق كمن له الهنيد بن عوص الضليعيان وهو على رأس فرقة من قطاع الطرق فسرقوا من دحية كل شيء فبلغ خبر الحادثة مسامع بني الضبيب جماعة رفاعة بن زيد فحاربوا الهنيد واستردوا منه ما سلبوه من دحية فأعادوه إليه(9) وانتشر خبر ذلك النبي فسارع إلى إرسال خبر سرية من المقاتلين لمعاقبة الهنيد بن عوص وأناط قيادة السرية بزيد بن حارثة الذي زحف بقواده نحو المنطقة التي يقطن فيها هنيد بن عوص فقتلوه هو وابنه وأسروا الباقين.

ولأن الضليعيان والضبيب يسكنان مكاناً واحداً في الطريق بين الشام والمدينة، فقد امتد السبي ليشملهم أيضاً ولم يعرف زيد بأنهم مسلمون وهم يختلفون مع الهنيد ولا يرضون بعمله وجاء بعضهم إلى زيد وقالوا له أنهم مسلمون. ولكي يتأكد زيد من ذلك طلب من أحدهم أن يقرأ أم الكتاب فقرأها أحدهم واسمه حسان بن ملّة عند ذاك طلب زيد من الجيش أن يعيدوا الأموال إلى أصحابها إلا أن بعض قادة السرية لم يرتح من هذا القرار واعتقد أنه من غير الممكن اقتاع أفراد الجيش بإعادة الغنائم إلى أصحابها، فبدافع الطمع أخذ هؤلاء القواد يشككون أما زيد في صحة ادعاء العشيرة بأنها مسلمة، فاضطر زيد وأمام الحاح ضباطه أن يحتاط في تسليم السبابا(10) عندها عاد هؤلاء الجذاميون إلى زعيمهم رفاعة بن زيد وهو مزرعته وبين أمواله ولم يكن يدري بالذي حدث.

فقالوا له: إنك لجالس تحلب المعزى ونساء جذام أسارى قد غرهن كتابك الذي جئت به (أي الكتاب الذي حمله الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)) فسار رفاعة والقوم معه إلى المدينة وأخبروه بالذي وقع لهم وأدرك الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) الملابسات التي عقدت الأمر فبعض المسلمين لم يستقر الإيمان في قلوبهم بعد ولم يندفعوا إلى الإسلام إلا لكسب الغنائم، فبعض أفراد السرية من هذا النمط وهم الذي سايروا الإسلام طمعاً في الدنيا فلا يختلف عندهم المسلم عن غير المسلم المهم عندهم هو كيف يحصلوا على الغنائم؟

ومن ناحية أخرى كان قد وقع التباس فعلاً حول هوية القبيلة التي أغير عليها إذ لم يعرف أحد بإسلامهم إلا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) إذ كان أمر الكتاب الذي أرسله به إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام سراً بين رئيس القبيلة ورسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

ولم يشأ الكشف عن ذلك إلا بحضور رسول الله نفسه وربما ظن بأن أحداً لا يصدقه إن أراد أن يكشف عن سر الكتاب أو أنه أدرك مغزى هذا الإمتناع عن استرداد الأسرى وهو طمع بعض قواد الجيش بالغنائم فوجد أن المشكلة لا يحلها إلا رسول الله نفسه. ووجد رسول الله أنه يواجه معضلة لا يستطيع حلها إلا علي بن أبي طالب فهو بحنكته يستطيع اقناع أفراد السرية بصحة ادعاءات الجذاميين وإنه بهيبته يستطيع أن يفرض هذه الحقيقة على من يرى خلاف ذلك طمعاً بالسبايا.

وفعلاً تمكن الإمام علي (عليه السلام) أن يحل المشكلة وأن يعيد الأموال والسبابا إلى أصحابها.

وإذا كانت هذه المشكلة قد وقعت عن طريق الخطأ، فإن مشكلة أخرى مماثلة تقريباً قد وقعت بعد فتح مكة عن قصد وإصرار فكانت أعقد وأصعب على الحل.

والحادثة الأخرى كما ذكرها المؤرخون وقعت في بني جذيمة وكان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قد بعث السرايا بعد فتح مكة إلى المناطق القريبة من مكة بغية دعوتها إلى الإسلام بطرق سلمية ولم يأمرهم بقتال. وكان ممن أرسلهم لهذه الغاية خالد بن الوليد ومعه ثلاثمائة وخمسون مقاتلاً من المهاجرين والأنصار.

وسار خالد بن الوليد حتى وصل منازل بني جذيمة، فلما عرفوا بذلك حملوا السلاح معتقدين أن المسلمين قد أغاروا عليهم إلا أن خالد بن الوليد طلب منهم أن يضعوا السلاح وحكى لهم قصة فتح مكة، وكيف أن قريشاً دخلت الإسلام ولم يبق من العرب أحد إلا وأسلم، فقبلت بني جذيمة هذا العرض، فوافقت أن تدخل الإسلام فأغمدت أسلحتها إلا أن خالداً وبعد أن أغمدوا أسلحتهم غدر بهم فطلب من جنوده أن يقيدوا الرجال بالحبال ثم قتل منهم من قتل(11).

وكان وراء هذا العمل دوافع جاهلية، واحقاد قديمة يعود تأريخها إلى ما قبل البعثة.

فقبل سنوات من البعثة مرّت على منازل بني جذيمة قافلة تجارية متكونة من عوف بن عبد عوف والد عبد الرحمن والفاكه بن المغيرة عم خالد بن الوليد وقد نزلا مع نسائهما ضيوفاً على بني جذيمة وهما في طريقهما إلى مكة من اليمن.

وبينما كان الضيفان يتأهبان لمغادرة المكان إذ هجم عليها عدد من أفراد القبيلة فقتلوهما وأخذوا نساءهما وتجارتهما ومرت السنين وتمكن عبد الرحمن بن عوف من أخذ الثأر لوالده بقتل واحد من بني جذيمة ومع ذلك فقد ظلت هذه القضية التأريخية تحرّك العقد الاجتماعية بين جذيمة والمغيرة.

وجاء الإسلام وسطع بنوره على العقد والعادات والتقاليد البالية فأراد محوها من سطح العلاقات الاجتماعية. إلا أن بعض النفوس لم تكن قد صفت من الشوائب فقد كانت هذه النفوس تعود إلى جذورها كلما حانت لها الفرص إلى ذلك.

وفي مثل قضية بني جذيمة يطالعنا التأريخ عن نموذج آخر من بقايا الروح الجاهلية فقد قتل خالد بن الوليد جمعاً من بني جذيمة انتقاماً لعمه الفاكه(12).

وبعد فعلته هذه أدرك فداحة ما ارتكبه من جرم فأخذ يبحث عن مسوغ يبرر به قتله لبني جذيمة فمرة كان يقول: إن عبد الله بن حذافة السهمي أمره بذلك عن رسول الله(13) وهو كذب صارخ. وطورا يدعي أنه قتل بني جذيمة ثأراً لوالد عبد الرحمن بن عوف حتى يظهر أنه كان مدفوعاً من قبل عبد الرحمن بن عوف إلا أن التاريخ ينقل لنا أن عبد الرحمن نفسه كان مخالفاً لخالد وقد انتقده على فعلته. فيذكر لنا ابن الأثير هذا الحوار بين الاثنين:

قال عبد الرحمن لخالد: عملت بأمر الجاهلية في الإسلام.

فقال خالد: إنما ثأرت لأبيك.

قال عبد الرحمن: كذبت قد قتلت أنا قاتل أبي ولكنك إنما ثأرت بعمك(14).

وانتشر خبر الحادثة ووصلت تفاصيلها إلى مسامع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فرفع يده إلى السماء قائلاً:

اللهم إني أبرأُ إليك مما صنع خالد بن الوليد.

ولم يكتف بالدعاء بل استدعى علي بن أبي طالب (عليه السلام) وزوده بأموال كثيرة يستعين بها لإطفاء الفتنة وقال له وهو يتهيأ للرحيل:

اخرج إلى هؤلاء القوم وانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهلية تحت قدمك(15).

فالفتنة قد بلغت حداً لا يمكن السكوت عليها وهي نذير بعودة الجاهلية على أقبح صورة فإذا لم يتحرك الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وبسرعة قد تؤدي هذه الفتنة إلى زوال الثقة بين الذين أسلموا حديثا والقيادة، ومعنى ذلك إن الفتنة كادت تحبط المحاولة الجادة لنشر الإسلام بعد فتح مكة، فكان لابد من معالجتها بحكمة وروية، ومن يستطيع أن يقحم نفسه في مثل هذه المشكلات المستعصية غير الإمام علي (عليه السلام).

فقد ادخره النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لكل الأعمال الكبيرة ومنها هذه القضية.

انطلق الإمام علي (عليه السلام) فأعلن لعشيرة بني جذيمة عن شجبه واستنكار الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لعمل خالد ودفع لهم دية القتلى وما أصيب من أموالهم.

وبعد أن أكمل المهمة وأعاد الثقة إلى النفوس والطمأنينة إلى القلوب التفت إليهم وقال لهم: هل بقي لكم شيء من مال أو دم فقالوا لا ومع ذلك فقد وزع عليهم ما تبقى له من المال لاخماد ما تبقى من رواد الاضطهاد والاحساس بالظلم.. ثم عاد علي(عليه السلام) إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن فرغ من مهمته وقدم للقائد تقريراً بذلك فقال له: أحسنت وأصبت.

 

الهوامش:

1- ابن الأثير الكامل في التأريخ 2/125.

2- الحسيني سيرة الأئمة الاثني عشر 1/186.

3- ابن الأثير الكامل في التأريخ 2/152.

4- ابن الأثير الكامل في التأريخ 2/104.

5- الحسني سيرة الائمة الاثني عشر2/ 200.

6- ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة 4/ 324.

7- الحسني سيرة المصطفى 492، ابن الأثير الكامل في التأريخ 2/ 181.

8- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 220.

9- الضليعيان والضبيب بطنان من جذام.

10- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 208.

11- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 256.

12- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 256.

13- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 256.

14- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 256.

15- الحسني سيرة الائمة الاثني عشر 1/ 231.