المادة: فقه الدولة
mp3:
الملف: Microsoft Office document icon fekeh_dawla 03.doc

المبحث الأول من مباحث فقه الدولة في عناصر الدولة ومقوماتها وفيه فصول

الفصل الأول في عناصر الدولة وأركانها فقد عرفنا مما تقدم في التمهيدات أن الدولة ليست حقيقة شرعية ولا متشرعية بل هي حقيقة عرفية خاصة أو عامة وقد استعملت في المعنى اللغوي أيضاً ولكن الظاهر عدم وجود تعريفٍ كاملٍ تامٍ في علم السياسة للدولة حتى ذهب بعض المتخصصين في هذا الموضوع إلى أنه جمع مائة وخمسة وأربعين تعريفاً لهذا المفهوم مما يكشف عن                أن أهل الاختصاص لم يتفقوا على تعريفٍ منطقيٍ تام شامل لكل أفرادها وطارد لأغيارها وربما ذلك ناشئ من كون الدولة حديثة الاستعمال نسبياً إذ لم تعرف في أوروبا قبل النهضة وقد استخدمت منذ القرن السابع عشر للتعبير عن الكيان الذي يشكل في آن معاً إطاراً وركيزة للسلطة السياسية وقديماً عبر الإغريق عن الدولة بكلمة بوليس وعبر الرومان عن الجمهورية بكلمات مقاربة والظاهر أن من أوائل من استخدم كلمة الدولة بمعناها الحديث المتعارف عليها الآن هو ميكافيلي في كتابه الأمير في عام 1515م على ما ورد ذكره في كتاب مدخل إلى علم السياسية في ص139 ولعل من هنا ننتهي إلى القول بأن هذه الاختلافات المتباينة حول تعريف الدولة أدت إلى التفكير عند البعض إلى الاستغناء عن هذا المفهوم بتاتاً والاكتفاء ببيان أركان الدولة ومقوماتها فقد جرت العادة عند فقهاء الشريعة والقانون أيضاً على تحديد ثلاثة أركان للدولة والظاهر أن فقهاء القانون وفقهاء السياسة وفقهاء الشريعة متفقون على أن الدولة مكونة من أركان ثلاثة وإنما الاختلاف نشأ بينهم في تعيين هذه الأركان من ناحية السعة والضيق فقد اختلفوا فيها إلى آراء ثلاثة الأول لعلماء القانون والسياسة والثاني والثالث لفقهاء الشريعة.

 

أما الأول: فهو ما ذكره فقهاء القانون إذ حددوا أركان الدولة بأمور ثلاثة هي الشعب والسلطة والإقليم وقد أخذ بعض المفكرين الإسلاميين هذا التقسيم أيضاً من غير التفات إلى قوانين الشريعة ومبادئها بحجة أن الفارق بين الشعب والأمة في أن الرابطة التي تجمع بين أفراد الأمة رابطة طبيعية معنوية تستند إلى عوامل معينة ولكن لا يترتب عليها أي أثر قانوني أما الرابطة بين الشعب و الدول فهي رابطة سياسية قانونية تفرض عليها الولاء للدولة والخضوع لقانونها وتفرض على الدولة في المقابل حماية أرواحهم وأموالهم وكافة حقوقهم التي يقرها لهم القانون وكان من المفروض أن يكون الذين ذهبوا إلى هذا التعريف أكثر دقة حيث يختلف موقف الإسلام من موضوع الدولة وتقسيماتها عن مواقف القوانين الوضعية والمبادئ السياسية الحديثة على ما ستعرفه من خلال بيان الآراء الأخرى.

 

 القول الثاني: وهو ما ذهب إليه بعض الفقهاء حيث قال بأن أركان الدولة ثلاثة هي أولاً الأمة ثانياً السلطة ثالثاً الأرض وهذا التقسيم أوسع من الأول من جهة أعمية الأمة من الشعب لشمول الأمة لأكثر من شعب ولأعمية الأرض وأوسعيتها من الإقليم وقد ذهبوا إلى هذا بلحاظ أن الدول في الإسلام لا تحد بحدود إقليمية إذ أن الرسالة الإسلامية هي للعالم بأسره وأن رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بعث إلى الناس كافة كما أن مفهوم الأمة التي جاء به القرآن الكريم هو أرقى من مفهوم الشعب الذي أورده أرباب القانون الوضعي ومن هنا غيّروا إلى هذه الأركان الثلاثة.

 

 القول الثالث: ما ذهب إليه السيد الشيرازي (قدس سره الشريف) في كتابه الفقه السياسة حيث جعل العناصر الثلاثة التي تقوم عليها الدولة الإنسان والنظام والأرض وبذلك يكون ما ذهب إليه السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) أوسع وألصق بمبادئ الشريعة من التعاريف الأخرى وذلك لأن الإنسان هو الهدف من التشريع كما هو مقصد العدالة في السلطة كما أن النظام هو الأصل والسلطة متفرعة عن النظام والسر في هذه التوسعة التي صنعها السيد (رضوان الله عليه) وجهان الأول ما ذكره في الفقه السياسة في ص10 قال عناصر الحكومة ثلاثة الإنسان والنظام والأرض وقد خلق الله الإنسان ابداعاً كما يستفاد من الآيات والروايات لا تكاملياً كما ذهب إليه دارون وأتباعه وألهمه نظامه كما قال سبحانه: (وعلم آدم الأسماء كلها) وخلق من قبل ذلك الأرض فقد تكاملت الأسس الأولية للحكومة منذ أول إنسان ولذ اورد لقد كانت الخليفة قبل الخليقة وإليه يشير ما ورد في قوله سبحانه: (إني جاعل في الأرض خليفة) والرواية المشهورة لولا الحجة لساخت الأرض بأهلها فإن الحجة سياسياً منزلتها منزلة الحجة عبادياً واقتصادياً واجتماعياً وغيرها على ما لا يخفى هذا مضافاً إلى ما ورد في النصوص الشرعية من الأدلة الدالة على أن أهمية الدولة ترجع إلى أهمية الإنسان وأن الدولة خادمة للإنسان ومحققة لأغراضه وأهدافه فمن ذلك ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في أكثر من كتاب ونص منها ما ورد في كتاب له إلى بعض عماله الذي روي هذا الكتاب في نهج البلاغة أيضاً تحت الرقم 46 يقول فيه الإمام إلى بعض عماله أما بعد فإنك ممن استظهر به على إقامة الدين وأقمع به نخوة الأثيم وأسد به لهاة الثغر المخوف فاستعن بالله على ما أهمك واخلط الشدة بضغث من اللين وارفق ما كان الرفق واعتزم بالشدة حين لا تغني عنك إلا الشدة واخفض للرعية جناحك وابسط لهم وجهك وألن لهم جانبك وآسي بينهم في اللحظة والنظرة والإشارة والتحية حتى لا يطمع العظماء في حيفك ولا ييأس الضعفاء من عدلك والسلام.

وفي هذا الكتاب دلالة على أن في نظر الحاكم لا فرق بين إنسان وإنسان ومبدأ وآخر أو معتقد وغير معتقد وإنما الجميع عند الحاكم سواء في نظر الإسلام ولذا أخذ السيد عنوان الإنسان في أركان الدولة وليس الشعب الذي يدل على قوم خاص أو قبيلة خاصة مثلاً أو الأمة التي تدل على جماعة تعتقد بمبدأ خاص وإنما الإنسان بما هو إنسان هدف في الدولة ومن هذا ما ورد في كتاب مولانا أمير المؤمنين إلى الأشتر النخعي (رضوان الله عليه) لما ولاه على مصر وأعمالها حين افترض أمر أميرها محمد بن أبي بكر وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن فقد ورد فيه: وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك والله فوق من ولاك وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم وورد في هذا الكتاب أيضاً في نص آخر يقول: أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك فإنك إلا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ومن خاصمه الله ادحض حجته وكان لله حرباً حتى ينزع أو يتوب وليس شيء أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامة على ظلم فإن الله سميع دعوة المضطهدين وهو للظالمين بالمرصاد.

ونلاحظ في هذا النص أيضاً بأن الإنسان هو الذي أخذ في لسان الحاكم وينبغي أن تراعيه الدولة في مخططاتها وفي مشاريعها ومن هذا أيضاً ما ورد في الكتاب المزبور يقول فيه: واعلم انه ليس شيء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم وتخفيفه المؤونات عليهم وترك استكراهه إياهم على ما ليس له قبلهم فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظن برعيتك فإن حسن الظن يقطع عنك نسباً طويلاً وإن أحق من حسن ظنك به لمن حسن بلائك عنده وإن أحق من ساء ظنك به لمن ساء بلاءك عنده ولا تنقض سنة صالحة عمل بها صدور هذه الأمة واجتمعت بها الألفة وصلحت عليها الرعية ولا تحدثن سنة تضر بشيء من ماضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنها والوزر عليك بما نقضت منها ونلاحظ أيضاً أن الرعية هي التي أخذت في لسان تلك الخطاب والرعية تشمل الناس عموماً بقطع النظر عن القومية أو العنصر أو الدين والمبدأ وورد أيضاً ما يؤكد على مدارسة العلماء يقول في ذلك (عليه الصلاة والسلام) في نفس الكتاب موجهاً واليه في مصر يقول فيه: واعلم أن الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض ولا غنى عن بعضها ببعض فمنها جنود الله ومنها كتاب العامة والخاصة ومنها قضاة العدل ومنها عمال الإنصاف والرفق ومنها أهل الجزية والخراج من أهل الذمة ومسلمة الناس ومنها التجار وأهل الصناعات ومنها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة والمسكنة وكل قد سمى الله له سهمه ووضع على حده فريضة في كتابه أو سنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عهداً منه عندنا محفوظاً فنلاحظ في هذا النص أيضاً أن هموم الحاكم ومطمح نظره الرعية  _ بما هم بشر _ في تدبير شؤونهم والقيام بأمورهم وتنظيم دولتهم فنلاحظ أن اهتمامه بغض النظر عن الدين أو المعتقد أو الطبقة الاجتماعية هذا الاهتمام منصب إلى الناس بمن هم ناس وهذا يؤكد ما ذهب إليه السيد الشيرازي (رضوان الله عليه) من جعل الإنسان هو الركن الذي تقوم عليه الدولة وليس الشعب أو الأمة فقط بل يؤكد ما وسّعه الإسلام من مسؤولية الحاكم لغير الإنسان أيضاً ما ورد في النصوص الدالة على أن الحاكم والدولة مسؤولان حتى عن الأراضي والبقاع والبهائم فقد جاء في بعض خطب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) التي خطبها في أوائل خلافته ما يلي: اتقوا الله في عباده وبلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم فإن المسؤولية في منطق الشريعة لا تخص الإسلام والإيمان فقط حتى تجعل الأمة هي الركن ولا المسلمين والمؤمنين فحسب ولا الرجال والنساء فقط ولا البشر فقط وإنما هي تعمّ ما خلق الله تعالى مما يمكن للبشر الاستفادة منه في خير أو شر في حق أو باطل في هداية أو ضلالة وما إليها حتى الأرض والتراب والبلاد والبر والبحر الناس مسؤولون عنها بشتى أنواع المسؤولية سكناها زراعتها تركها إسرافها ونحو ذلك وحتى البهائم والحيوانات الإنسان مسؤول أمام الله تعالى عنها في ظلمها والرحمة بها الاستفادة منها في خير أو شر في تبذيرها وإسرافها وغير ذلك فبناءً على هذا إذا كان الإمام (عليه الصلاة والسلام) ينص على أن الإنسان مسؤول حتى على البقاع والبهائم فما بالك بالدولة والحكومة هذه هي حدود مسؤولية الدولة والحكومة في سياسة الشريعة ومن هنا يتضح بأن جعل السيد الإنسان هو الركن هذا هو الأقرب إلى روح الشريعة وإلى نصوصها من التعبيرات الأخرى أو النصوص الأخرى وبذلك يظهر أن من دون عنصر الأرض لا يمكن تصور وجود الإنسان أو الشعب أو الأمة وكذا الدولة والحكومة والسلطة وممارسة تطبيق القانون من هنا نقول بأن المفاهيم والقيم الإنسانية والأخلاقية التي قامت عليها وتكونت منها فكرة الدولة في الإسلام هي القيم التي يتجه إليها طموح البشر في العصر القديم والحديث على مستوى الدولة الإنسانية وعلى مستوى النظام الدولي المرتجى وهي قيم العدالة والحرية الواعية وكرامة الإنسان وتيسير سبل التكامل الروحي والمادي لبني البشر ومن هنا فإن الشعب أو الأمة الذي يخضع للدولة الإسلامية قد لاحظت فيها الشريعة أموراً عدة منها أنه مجتمع سياسي يحكم نفسه قال تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) فإن الاستخلاف في الأرض هنا هو الاستخلاف الخاص بمعنى استخلاف الاصطفاء وهو ليس مجرد العيش كيفما اتفق وليس صرف الوجود وإنما هو الوجود الفاعل المتميز الذي يحمل مضموناً ومعنى ينطبق مع الروح الإنسانية والقيم الإنسانية للشريعة وتمكين الدين لا معنى له إلا بتمكين المعتقدين بذلك الدين الحاملين لرسالته من حيث أنهم يحكمون هذه الرسالة في حياتهم ويحملونها إلى الآخرين وتكون هذه الرسالة هويتهم ومن هنا فإن الهوية الإنسانية للدولة الإسلامية هي هوية الإنسان والقيم الإنسانية ومن الواضح أن التمكين هي السلطة والقدرة على التصرف دون وصاية من الغير أو أي تدخل يقيّد حرية الاختيار فلا بد أن تكون هذه السلطة قادرة على حماية نفسها من العدوان فإن الأمن لا يكون منحة معطاة من الغير وإنما هو نتيجة معادلة قوة سياسية وعسكرية واقتصادية وروحية وفكرية وتربوية وغير ذلك مما يكوّن قوة المجتمع السياسي وهذا كله لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود مجتمع سياسي يحمل رسالة الإنسان التي هي رسالة الإسلام ويقوم على فكرة مركزية تدور وتتركز عليها حياته ومن هذه السمات والخصوصيات أنه مجتمع متميز ومنفتح فإن المجتمع الإسلامي يتميز عن غيره من المجتمعات بكونه تجسيداً لعقيدة وشريعة ورسالة حضارية فليس المجتمع الإسلامي مجرد تعبير عن ضرورة الإنسان إلى الاجتماع لحفظ حياته واستمرار وجوده والحصول على خدمات ومكاسب أكثر مما يستطيع أن يحققه بجهده الفردي إن المجتمع الإسلامي باعتبار أنه تعبير عن ملتزم رسالي ومهمة حضارية فإن هذا هو مبرر وجوده في التاريخ وإلا فقد كان يمكن من دون ذلك أن يبقى الاجتماع العربي والحضري والبدوي وغيره على ما كان عليه دون تغيير في معناه ومبناه ومن هنا أكدت الشريعة على المسلمين في المجال التنظيمي أو السياسي أن يتمايزوا عن المجتمعات الأخرى في الولاء السياسي وفي نمط الحياة العامة والخاصة وفي تعاملهم وسلوكهم مع أنفسهم ومع الآخرين بحيث لا يكون نسخة من حضارة أخرى ونهج حياة آخر ولعل من ذلك قوله تعالى: (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منه تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير). فإن الآية الشريفة تضمنت إنشاء حكم تكليفي تحريمي في مجال التنظيم السياسي ويترتب على عصيانه وانتهاكه مسؤوليات سياسية ولعل من ذلك أيضاً قوله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين). وفي هذه الآية أيضاً إنشاء حكم تكليفي تحريمي تترتب على عصيانه مسؤوليات سياسية أيضاً إلى غير ذلك من الآيات الواردة في هذا المجال هذا وقد حفلت السنة الشريفة أيضاً بالنصوص التي صرحت أو لمحت إلى هذا التشريع وهذا التمايز لا يقتصر على الولاء السياسي والممارسة العبادية فقط بل يشمل نمط الحياة العامة والخاصة في قضايا الطعام واللباس وعلاقات الجنس والأنشطة الاقتصادية وغير ذلك مما اشتمل عليه نظام المحرمات في الإسلام وفصّلت السنة منه ما أجمله القرآن وذكره الفقهاء في كتبهم الفقهية ومن الواضح أن هذا التمايز بين المجتمع الإسلامي وغيره لا يعني الانغلاق ونبذ الآخر أو محاربته إنه تمايز لحفظ الشخصية الرسالية من الذوبان فهو تمايز تفرضه طبيعة المجتمع ومهمته الرسالية وليس تمايزاً ناشئاً من التعصب العرقي أو الديني أو ناشئ من البغضاء العاطفية أو ما أشبه ذلك كما هو الملحوظ في جملة من الدول الحديثة التي تمارس سياسة متعصبة للقوم أو العنصر أو ما أشبه ذلك ومن هنا فإن المجتمع الإسلامي منفتح على الآخر لكن انفتاحه عليه بالحوار وبالتعايش والتعاون لما في خير الإنسانية العام وهذا ما أكده القرآن الكريم في آيات عديدة تضمنت الحوار والتعايش والتعاون منها قوله سبحانه وتعالى: (ادعوا الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل سبيله وهو أعلم بالمهتدين).

ومنها قوله سبحانه وتعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون). كما وجه التشريع الإسلامي المسلمين إلى التعايش مع غيرهم والتعاون معهم وقد دلت على ذلك آيات منها قوله سبحانه: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين).

والملحوظ في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين الأوائل تطبيقاً أميناً وجدياً لهذا التشريع في مجال الحوار والتعايش والتعاون والمساندة ابتداءً من تجربة النبي والمسلمين مع اليهود والنصارى في المدينة ونجران وغيرهما مروراً بالمراحل التاريخية التي كان المجتمع الإسلامي فيها متماسكاً على أساس الإسلام ويحترم غير المسلمين ما داموا يحترمون الإسلام ويحفظ حقوق المسلمين .

الميزة الثالثة الوسطية والشهادة وهذا التمايز عن الآخر والانفتاح هو الذي أعطى الأمة الإسلامية سمتها العظيمة الفريدة وهي الوسطية والشهادة كما نصت عليه الآيات الشريفة إذاً الأمة الإسلامية بما هي حامل رسالة الإسلام سواء في العقيدة والشريعة والحضارة وتجسيد لها تقع في المركز الوسط المتوازن وتمثل التوازن في مسيرة البشر بين الإفراط والتفريط وبين الإسراف من هنا والإسراف من هناك وهذا ما ينبغي أن تتسم به الدولة الإسلامية أيضاً وهذه هي سمة الشاهد فإن الشاهد يجب أن يكون منفصلاً ومتمايزاً عن المشهود عليه ولكن لا يجوز أن يكون منغلقاً عنه بل يجب أن يكون منفتحاً متواصلاً معه في آن واحد وقد تجلت هذه الحقيقة المقوّمة للحضارة الإسلامية مع الأقوام الأخرى في جميع الحالات فكان المسلمون دائماً منفتحين على غيرهم في مجالات السياسة والاجتماع والثقافة فأنجزوا صيغة التعايش مع الأنظمة وأنجزوا المجتمع المتنوع من حيث الانتماء الديني لأول مرة في التاريخ في صيغة مجتمعية واحدة وكيان سياسي واحد وأنجزوا أعظم وأنبل انفتاح علمي ومعرفي وحتى ثروات البلد فقد جعل الإسلام قانون الإحياء والإعمار والأسبقية وما أشبه ذلك أعم من المسلمين وغيرهم فإن الأرض لمن أحياها سواء كان من المسلمين أو غيرهم كما أن الحق لمن سبق سواء كان من المسلمين أو غيرهم مضافاً إلى أن كل جيل يعيش في بلاد الإسلام له حق في ثروات هذا البلد وخيراته كما عليه واجبات فبناءً على هذا الدولة كما أنها ترعى الإنسان بما هو إنسان غضت الطرف عن المبدأ وغضت الطرف عن القوم والعنصر وما أشبه ذلك إلا في بعض الموارد الخاصة التي يتعلق بها الدين أو يتعلق بها القوم أو العنصر أو ما أشبه ذلك وهذا أمر موجود في كل دولة ومجتمع وقد نصت على هذه الخصوصية أي الوسطية والشهادة في الأمة الإسلامية آيات القرآن وروايات السنة الشريفة فمن ذلك قوله سبحانه وتعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) وكلمة ناس هنا أعم من الذين يعتقدون بدين أو لا يعتقدون وأعم من الناس الذي ينتمون إلى قوم وعنصر أو غيرهم وقال سبحانه وتعالى: (جاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم مسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكون شهداء على الناس) أيضاً ومن هنا جعل الإسلام أيضاً غاية الجهاد والحرب ليس فقط الدفاع عن الإسلام والمسلمين بل من ضمن أهداف الجهاد في الإسلام هو إنقاذ المستضعفين في الأرض والمظلومين سواء انتموا إلى جماعة أو قومية لأن الإسلام يريد رفع الظلم وبسط العدل على الأرض بغض النظر عن القومية وعن العنصر.

 السمة الأخرى لهذا المجتمع هو القسط كما قال سبحانه وتعالى: (أمر ربي بالقسط) وقال تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) وقال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوه فأقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).

فنلاحظ من مجموع هذه الآيات الشريفة أن العدل هو رسالة الدولة في الإسلام والعدل لا يختص بمجتمع مسلم أو غير مسلم وإنما الكل عنده سواء.

إذاً مبدأ العدالة هو المبدأ الحاكم والمسيطر على الحياة العامة والخاصة للبشر في المجتمعات السياسة وبينها خاصة وهذا المبدأ هو الذي يحكم قانون الوجود ويحكم الكون أيضاً ومن الواضح لزوم تطابق العالمين التكويني والتشريعي معاً كما قال سبحانه وتعالى: (شهد الله أن لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائم بالقسط).

وقال تبارك وتعالى: (الله الذي نزل الكتاب بالحق والميزان).

وقال سبحانه وتعالى: (والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان).

فهذا المبدأ يجب أن يكون حاكماً على الإنسان في خاصة نفسه في علاقته بربه وعلاقته بمجتمعه وأعماله الشخصية فعلى المسلم في جميع هذه الأحوال أن يكون عادلاً ويجب أن يكون حاكماً على الجماعة في علاقته مع الأفراد والجماعات الأخرى لأن العدل هو الأساس كما يجب أن يكون العدل والقسط حاكما في المجتمع السياسي في علاقته الداخلية بين جماعته وأفراده وبين الحكومة والشعب وبين الشعب والحكومة وفي علاقاته ومعاملاته الخارجية مع المجتمعات الإنسانية الأخرى كما أن هذا المبدأ الأساس وهو الذي ميّز المجتمع السياسي الإسلامي عن المجتمعات الأخرى قديماً وحديثاً فهذه المجتمعات والحضارات منها ما كان يقوم على مبدأ الاستبداد ومنها ما كان يقوم على مبدأ الحرية ومبدأ الاستبداد كان هو الغالب على المجتمعات القديمة كما أن مبدأ الحرية هو الغالب في المجتمعات الحرة الحديثة لكن التشريع الإسلامي رفض هذين المبدأين في تكوين المجتمع السياسي والدولة والنظام السياسي وجعل العدل هو الأساس إذ رفض مبدأ الاستبداد رفضاً مطلقاً لأنه دائماً يؤدي إلى الظلم والطغيان ويتصرف في شؤون الناس من دون رضاهم كما رفض مبدأ الحرية باعتباره أساساً يقوم عليه المجتمع السياسي وإن الاعترف بهذا المبدأ باعتباره حقاً للأفراد والجماعات في حدود النظام التشريعي للفرد والجماعة والمجتمع وعلة ذلك على ما ذهب إليه البعض هو أن إقامة المجتمع السياسي على مبدأ الحرية يجعل العدالة في خطر وكثيراً ما يلغي العدالة ويؤدي إلى الظلم إذ أثبتت جميع تجارب التاريخ البشري أن الحرية لا تضمن العدالة بل قد تتجاوز عليها والمجتمعات الحديثة التي اعتمدت مبدأ الحرية أدى بها ذلك إلى شيوع الظلم الاجتماعي والسياسي فيها كما أدى ذلك على المستوى العالمي إلى نشوء ظاهرة الاستعمار والاستعمار الجديد والتعدي على الشعوب بينما نجد أن إقامة المجتمع السياسي على مبدأ العدالة يصون الحرية ويحميها من العدوان.

فالعدالة إذاً تصلح ضمانة للحرية والحرية لا تصلح ضمانة للعدالة من هنا نلاحظ تركيز آيات القرآن والسنة الشريفة على العدل دون الحرية لأن العدل هو الذي يحقق الحرية دون العكس فإن إقامة المجتمع الإسلامي على مبدأ العدالة يلقي على هذا المجتمع وعلى نظامه السياسي وعلى حكومته مهمة تطبيق العدالة وصيانتها من الانتهاك والتعدي من قبل القوى الداخلية أو الخارجية وهذه المهمة ليست مهمة وعظية نظرية وإنما هي مهمة عملية لا يمكن القيام بها على وجهها الصحيح من دون امتلاك وسائل تنفيذها وآلاتها على من يتعدى عليها أو يهم بالتعدي ولذا يجب أن يمتلك المجتمع والدولة وسائل وأدوات تنفيذ العدالة وحمايتها من الانتهاك والتعدي وهذا ما أومأت وأشارت إليه سورة الحديد بنحو الإشعار في هذه المرحلة التأسيسية من المجتمع في قوله سبحانه وتعالى: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس على تفصيل لا يسعنا بيانه هنا).

السمة الأخرى للمجتمع الإسلامي هي الشورى إذ ينبغي أن يكون مبدأ الشورى في الشؤون العامة أهم المبادئ السياسية على الإطلاق عند جميع المسلمين عند الشيعة الإمامية في عصر غيبة الإمام المعصوم (عليه الصلاة والسلام) وعند العامة وسائر المسلمين منذ وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك لأن مقتضى أدلة هذا المبدأ من الكتاب الكريم والسنة أنه لا تستقيم شرعية أي حكم سياسي لحاكم غير معصوم ولا تستقيم شرعية أي تصرف في شؤون المجتمع من دون أن يكون قائماً على مبدأ الشورى وأخذ أكثرية الآراء فإن الشورى في حين كونها من أهم المبادئ الدستورية والسياسية للحكم والدولة فهي من أهم المبادئ المكوّنة لمفهوم الأمة ومفهوم المجتمع السياسي في الإسلام وذلك من حيث ما يقومان به من أنشطة وينشآنه من علاقات في داخلهما والخارج بصرف النظر عن وجود سلطة حكومية.

والملحوظ في أدلة الكتاب والسنة أن الأمة الإسلامية ملزمة بإتباع أسلوب الشورى في إدارة أمورها العامة كما أن الحاكم ملزم بالحكم عن طريق الشورى وملزم باتباع ما تنتهي إليه من نتائج.

وسنتعرض إن شاء الله تعالى إلى هذا المبدأ بشيء من التفصيل ولكن الذي نريد أن ننوه إليه بأن الشورى هي سمة المجتمع الإسلامي الذي يكوّن الدولة وتقوم عليه كمبدأ وركن من أركانها فإن الشورى واجب على الأمة وعلى الحاكم وملزمة لهما معاً فيجب على الأمة أن تدير أمورها العامة عن الطريق الشورى ويجب على الحاكم أن يحكم عن طريق الشورى أيضاً وهو ملزم شرعاً بإتباع ما تنتهي إليه عملية الشورى فضلاً عن الإلزامات العقلانية والعقلائية وما أشبه ذلك.

وحسبنا أن نذكر هنا بعض الآيات الدالة على تشريع هذا المبدأ في الأمة وفي الحاكم أما ما دل على وجوب الشورى على الأمة في إدارة أمورها العامة فهو قوله سبحانه وتعالى في سورة الشورى: (وأمرهم شورى بينهم).

ومن الواضح أن هذا ليس وصفاً للمؤمنين وإنما هو حكم شرعي وضعي تنظيمي على المسلمين يقتضي أن يطبقوه في حياتهم العامة بما هم آمنوا وأسلموا كما هو الظاهر من سياق الآية والثانية ما دل على وجوب الشورى على الحاكم في ممارسته لمهمة الحكم وهي قوله تعالى في سورة آل عمران: (شاورهم في الأمر) إلى تفصيل تاريخي وروائي لسنا في مجال بيانه والحاصل أن المراد بالشورى في الآيتين هو الأمور العامة المتصلة بقضايا الحكم والمجتمع فإن النص القرآني على أن مورد الشورى هو الأمر ولا شك في أن المراد منه الشأن العام الذي تزاوله الأمة والحاكم فكل ما يتعلق بشؤون المجتمع العامة هو مورد الشورى ونتائجها الملزمة ولا شك في أنه ليس المراد من الأمر في الآيتين الشؤون الفردية الخاصة لأن المشورة والمشاورة في القضايا الفردية والشؤون الخاصة من الأمور التي جرت عليها عادة البشر جميعاً ومما تقتضيه طباعهم ويتلائم مع مصالحهم الخاصة فليس الأمر بها تأسيس لنهج جديد في حياة الناس وإنما الجديد هو الشورى في الأمور العامة على مستوى المجتمع وعلى مستوى الحكم فإن ذلك أمر لم يكن مئلوفاً للمجتمع السياسي وفي قضية الحكم فقد كان السائد على مستوى الحكم والاستبداد والدكتاتورية والحكم الفردي ولم يكن لرأي المجتمع وزن أو قيمة وحيث اقتضت حكمة الله عز وجل أن الحكم السياسي لا يكون طبعاً في غير حالة كون الحاكم معصوماً إلا بالشورى فقد اقتضى ذلك إن شاء الله هذا الحكم الوضعي التنظيمي والأصل الأصيل الذي يميز المجتمع المسلم عن غيره فتحصل من ذلك بأن الدولة تقوم على أركان ثلاثة والذي وافقته النصوص الشرعية من الآيات والروايات والسيرة أن الإنسان هو الركن الأول لا الأمة ولا الشعب وان الأرض هي الركن الثاني لا الإقليم وان النظام هو الركن الثالث لا السلطة باعتبار أن النظام هو الأصل والسلطة متفرعة عنه.

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.