النص الكامل: PDF icon lshhd_wlshhd.pdf

الشهادة والأشهاد

في إمامة أهل البيت عليهم السلام

 

 

 

 

 

 

تأليف

الأستاذ الدكتور حميد النجدي

رئيس جامعة أهل البيت عليهم السلام

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله كما ينبغي لكرم وجهه وعزّ جلاله, والصلاة والسلام على حبيبه المصطفى أبي القاسم محمّد وعلى المنتجبين من آله وصحبه.

وبعد: فهذا البحث الذي بين يديك عزيزي القارئ بحث مستخلص في اغلب نتائجه من القرآن الكريم، وفي بعض آخر من السنة المطهرة المتفق عليها، وكان القسم الأول منه محاضرة ألقيت في محرم الحرام من عام 1409 للهجرة النبوية المباركة، وأضفت إلى القسم الأول قسمين آخرين نشرا في مجلة الثقافية الإسلامية بدمشق، ثم ألحقت الأقسام الثلاثة قسمين آخرين استكمل بهما البحث إطاره العام.

يسلط هذا البحث الأضواء على حقيقة كبرى من الحقائق الإسلامية، وهي قضية الشاهد الذي يصطفيه الباري سبحانه ليشهد على الأمة، ويتضح للقارئ في ثنايا هذا البحث: أهمية الشهادة، وضرورة وجود الشاهد، واصطفائه من قبل الله تعالى، والصفات التي تميز الشاهد على الأمة، عن بقية الأمة، والهدف من وجود الشاهد, وانه قائم مقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في تحكيم الرسالة على الأرض، وانه الشخص المستوعب تماماً لكل أبعاد الرسالة، والعالم بكل جزئياتها وتفاصيلها فضلاً، عن قواعدها العامة ومجملاتها، وانه الوحيد المؤهّل لتنفيذها بحذافيرها لو كان مبسوط اليد.

والأمة تعتبر مقصرة إذا لم توفر للشاهد الظروف الموضوعية لبسط يده في تحكيم الإسلام العزيز, أو أسهمت في العوامل التي عرقلت مسيرة التحكيم وفي حالة انحسار الأحكام الإسلامية، عن واقع الحياة فإن كل فرد مكلّف وجوباً بالسعي بكل ما بوسعه لإعادة الإسلام إلى الحياة، ولا بدله من التفكير بجدية بكل الوسائل المشروعة التي تسارع في عملية التغيير نحو الإسلام في شتى جوانب الحياة انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾([1]), وأن عملية التغيير بكل أبعادها وفي شتى نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعقائدية ـ إن عملية التغير بالمعني المتقدم ـ تعتبر من العوامل الفعالة في التوطئة والتمهيد لشاهد العصر في أن يمارس سلطته التنفيذية في الحياة على كل الأرض ليملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

ولا بد لكل إنسان رسالي هادف في هذه الحياة أن يحاسب نفسه ويسائلها دائماً، عن الدور الذي تقوم به إزاء مسؤولياتها الإلهية, وعن عملية التمهيد والتغيير كما وكيفاً إلى أي حدٍ وصلت؟ ومدى نجاحها في الواقع ؟ وهل ينبغي تغيير الوسائل؟ أم أن هناك حدوداً معينة تقف عندها عملية التغيير؟ وإلى أي حد تنسجم هذه الوسائل مع الكتاب والسنة؟ كل هذه الأسئلة وأسئلة غيرها يطرحها الإنسان الرسالي على نفسه، ويجيب عليها بشكل عملي وايجابي لكي يأتي عمله غير مخجل ومخزي حينما يعرض على شاهد العصر, وأولاً وقبل كل شيء حينما يراه الله تعالى رب العالمين، ﴿وقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾([2]).

د. حميد النجدي

 

 

القسم الأول:

1- المقدمة:

الشهادة, حقيقة قرآنية تكررت في كثير من الآيات الكريمة وكذلك الأشهاد والشهود والشهداء.

هناك آيات قرآنية كثيرة وردت تؤكد على هذه الحقيقة وهي الشهادة والأشهاد. حيثما ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم, فلا يقصد به الشهداء الذين يقتلون في سبيل الله تعالى, وإنما يقصد به الشهادة على الأعمال والحقائق من الشاهد الذي يشهد في المحكمة مثلاً أو في التقاضي, ونريد أن نستعرض بعض هذه الآيات الكريمة لنتعرف من خلالها على المقصود بهؤلاء الأشهاد أو الشهداء؟ لماذا نزلت هذه الآيات الكريمة, علام تؤكد هذه الحقيقة القرآنية، من هؤلاء الذين يؤدون الشهادة أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة؟

قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾([3]) فالآية تشير إلى أن لجميع الأمم شهداء, شهيد واحد لكل امة فلابد من وجود شهداء في امة محمّد (صلّى الله عليه وآله) شهداء يشهدون لا الذين يقتلون في سبيل الله تعالى. وقال تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء﴾([4]) وهذه الآية الكريمة تشير إلى أن كلمة الشهداء تشمل اناسا غير النبيين وإن كان النبيون من الشهداء أيضاً.

وقال تعالى في شأن عيسى (عليه السلام): ﴿كُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾([5]) تثبت الآية الكريمة حقيقة شهادة عيسى (عليه السلام), وانه يشهد أعمال امته ويشهد عليها, فهو إذن نبي وشهيد إلا أن شهادته ليست في الدنيا فقط بل يؤدي هذه الشهادة يوم القيامة بدليل قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً﴾([6])فنعرف من هذه الآيات المتقدمة أن الشهادة حقيقة ثابتة للنبيين ولأناس غير النبيين. ونريد أن نتعرف على الذين تؤكد عليهم الآيات الكريمة من الشهداء غير النبيين، الآيات لم تنزل عبثاً، وهذه الحقيقة ـ حقيقة الشهادةـ الباري هو الذي يقررها وليس الناس, فهي ليست قضية اعتبارية, أو جعلية, فهي ليست بالانتخاب, فالناس لا ينتخبون حقيقة من الحقائق ويثبتونها أو هم ينتخبون أصحاب تلك الحقائق, بل إن الباري تبارك وتعالى هو الذي يقرر هذه الحقيقة ويشير إلى وجود أشخاص يتصفون بتلك الحقيقة. والآن نريد أن نعرف أولاً ما هي هذه الشهادة؟ ومَن هو الشهيد ثانياً؟

الشهادة في هذه الآيات الكريمة يقصد بها الشهادة على الأعمال, والشهادة بالحقائق, أي أن الشاهد أو الشهيد والأشهاد والشهود والشهداء, كل هذه الألفاظ يقصد بها أن هناك إنساناً قد ميزه الله تبارك وتعالى، عن بقية خلقه واصطفاه واتخذه شهيداً, وأن هذا الإنسان قد كشف الله تعالى له، عن بصيرته وقلبه ونفسه وأعطاه القابلية التي يتمكن بها من أداء الشهادة أمام الله تعالى ويوم القيامة على الناس الذين كلّف بالشهادة عليهم.

2- أقسام الشهادة:

الشهادة على قسمين: فإذا اطلقت كلمة الشهداء فيراد بها الشهادة على الأعمال, وهنا شهادة بالحقائق وعلى الأعمال وهذه الشهادة تختصّ بالصديقين أي أنهم كشفت لهم الحقائق في هذا الوجود فعرفوها, لأنّ نفوسهم نورانية خالية من الحجب والأغلفة التي تحجب نفوس غيرهم من الناس، عن إدراك الحقائق بصورة مطلقة, أو أنهم قد يدركونها ولكن بشكل مشوش، والنفوس البشرية بتعلقها بعوالم المادة تحصل لديها حواجب تمنعها من الكشف التام، عن الحقائق ومعرفتها لذلك لا يتسنى للنفوس البشرية المعرفة التامة بدون اضطراب وتشويش, ولهذا احتاجت البشرية إلى شخص من نوعها مشروح الصدر صافي النفس من تلك العوالق والحجب المادية يعلم المعارف التي لا تنال السعادة الدنيوية إلا بها ويعلمها بتعليم الباري تبارك وتعالى وذلك الإنسان الذي اصطفاه الله تعالى لهذه المهمة هو النبي (صلّى الله عليه وآله) ومن بعده الأئمة (عليه السلام) فهؤلاء الأشخاص بتلك المواصفات يصلحون للشهادة على الأعمال وبالحقائق.

هناك شهادات أخرى يتعرض لها القرآن الكريم مثل شهادة الجوارح والجلود والأيدي, قال تعالى: ﴿وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ﴾([7]) ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا﴾([8]) ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾([9]) ﴿وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾([10]).

إلا أن الشهادة التي هي محل البحث شهادة مطلقة غير مقيدة. والشهادة على الأعمال ليست على الأعمال الظاهرية المحسوسة فحسب، بل تتعدى ذلك إلى الأعمال المعنوية كأعمال القلوب من حب وبغض, نفاق, حسد, حسن ظن, وسوء ظن... الخ, لأنّ الله تبارك وتعالى يؤاخذ الناس بما كسبت قلوبهم, وهذه الأعمال هي من أعمال القلوب, قضايا المعرفة, العقائد, كل ذلك مما تكتسبه قلوب من يشهد عليه.

3- الغرض من الشهادة:

لا شك أن الله تبارك وتعالى الذي لا تخفی عليه خافية والذي يعلم السر وأخفى, هو الذي يشهد على أعمال القلوب. إذن ما الحاجة إلى هذه الشهادة؟

الجوارح تشهد وكذلك الجلود والأيدي والألسن والأشهاد, وهناك بعض الملائكة يسجلون أعمال العباد ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾([11]) ما الحاجة والأمر كله بيد الله تعالى, وهناك كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها, إذن ما هو الهدف من هذه الشهادة؟

الباري تبارك وتعالى خلق الإنسان وفيه خاصية الجدل ﴿وَكَانَ الإنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾([12]) حتى لو وضع في القبر وسأله منكر ونكير وطلب العودة من الله تعالى إلى الدنيا وأعاده الله تعالى إلى هذه الدنيا, نلاحظ أنّه إذا رجع لعاد إلى ما كان عليه من الأعمال السيئة إذا كان من أهل الشر ﴿لَوْ رُدُّواْ لَعَادُوا﴾([13]) فمع كل ما يرى من الموت والقبر والمساءلة فهو حين يرجع إلى الدنيا يعود إلى ما كان عليه, فهو على درجة كبيرة من العناد, إلا أن لله الحجة البالغة على خلقه لذلك كانت الحكمة من وجود الشهداء الذين يشهدون على أعمال الناس.

هناك مسألة يثيرها بعض المفكرين وهي قضية خلود العذاب لبعض الناس, لماذا يخلّد الكافر في نار جهنم وعمره قصير لم يستوعب الخلود على فرض أن ذنوبه استمرت طيلة عمره؟ والجواب على ذلك, أن هذا الكافر لو قدر لـه البقاء إلی ما لا نهاية في هذه الدنيا لبقي علی ذنوبه وكفره إلی ما لا نهاية، فمعنی ذلك أنّه يستحق من العقاب ما لا نهاية.

الله تبارك وتعالى لا يخلق الناس عبثاً ويدخل هذا في الجنة وهذا في النار دون اختبار, بل يختبر هم ويمحصهم في هذه الدنيا, وهو يعلم يقيناً بسابق علمه أن زيداً سوف يذهب إلى الجنة وعمرواً إلى النار, ولكن لو خلقهم وجعل هذا في الجنة وذلك في النار, أيقتنع الإنسان بذلك؟ الإنسان مع هذه الذنوب وهذه الحجج من الأنبياء والأئمة والعقل والشهود والجوارح مع ذلك ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾([14])مع كل هذا والجدل موجود, فكيف لو خلقه ووضعه في النار دون أن يمتحنه ويختبره؟ إذن فحاجة الشهادة ليس من ناحية الباري تعالى وهو الغني المطلق لأنه واجب الوجود لذاته وإنما من باب إلقاء الحجة على هذا الإنسان ﴿فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾([15]).

الله تعالى غنّي، عن العباد، عن الخلق اجمع، السموات والأرضين والعرش, والكرسي فكل هذه الأمور الباري غني عنها, وهو قادر على أن يخلق ما لا نهاية من السموات والأرضين والنجوم والكواكب والملائكة وهو تعالى يقول: ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾([16]) فلا يصعب علی الله شيء، بل الأشياء كلها متساوية باليسر لديه، اليسير والعسير بالنسبة لنا, أما بالنسبة للباري تعالى فخلق ذرة واحدة أو أصغر وخلق السموات والارضين سواء. إذن فالشهادة لإلقاء الحجة على هذا المخلوق الضعيف المجادل وهو الإنسان. كما أنها كرامة من الله تعالى للشهداء الذين يصطفيهم ويختارهم من خلقه بسابق علمه, فالشهداء ليس بذاتهم ولا باختيار الناس كانوا شهداء, ولكن الله تعالى هو الذي يتخذ من الناس شهداء ﴿وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء﴾([17]).

الله تعالى يعلم بسابق علمه أن أفضل هذه الأمة أو تلك والذي سوف يطيعه أتم الطاعة هو فلان, فالله تعالى يصطفي الشهداء قبل أن يخلقهم لعلمه أنهم أفضل من سوف يطيعونه في الحياة الدنيا.

4- من الشاهد وكيف يشهد؟:

والسؤال الآن كيف يشهد الشهيد أمام الله تعالى إذا كانت الشهادة حتى على الأشياء الغائبة؟ كيف يشهد الشهيد لو لم يكن مطلعاً على القضايا المحسوسة وغير المحسوسة؟ وهذا يعني أن الشهيد الذي يشهد يوم القيامة على الناس أو على أمته لا بد أن يكون عالماً بدقائق وخوافي الأمور. ففي عصرنا الحاضر أي إنسان مهما بلغ من الإيمان غير الشهيد المعاصر (عليه السلام) هل يتمكن أن يشهد على الناس؟ أو يعلم بالأشياء الغائبة عليه؟ حتى لو كان عالماً، عادلاً ومتصفاً بكل صفات التقوى والورع, فهو لا يمكن أن يطلع حتى على كل أعمال من يحتك به، فضلاً عن الناس البعيدين عنه، ناهيك عن الأعمال الغائبة وغير المحسوسة, فإذا كان من اتصف بمثل هذه الفضائل ومع ذلك يستحيل عليه أداء الشهادة هناك فكيف لبقية الأمة أن تشهد؟

قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾([18]).

يرى بعض المفسرين أن امة محمّد (صلّى الله عليه وآله) بأسرها تشهد على الناس. فهل هذا الرأي ينطبق على الحقيقة؟ امة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ببرّها وفاجرها, بمؤمنها وطاغوتها، كل هؤلاء يشهدون على الناس؟ وفي وقتنا الحاضر المؤمنون لا يشهدون على الناس فكيف يتسنى لأمثال يزيد أن يشهد على الناس؟ المؤمنون الآن لا يعلمون بالأشياء الغائبة عنهم حتى يشهدوا بها فكيف يتسنى لغيرهم أن يشهد؟

فإذا كان الأمر كذلك فما المقصود هنا من قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ ما المقصود بالامة؟ ليس المقصود كل الأمة. بل المقصود بالأمة الشهداء فقط, الذين يشهدون على الناس لأنّ قضية الشهادة قضية كبرى, كما أن هناك صفات شخصية في الشهيد الذي يشهد على الاخرين, فالمقصود بالشهداء هنا ليس كل الأمة بل بعضها, أو أن الأمة متمثلة بالشهداء فقط، الذين لهم الخصائص والمميزات التي تؤهلهم لأداء الشهادة أمام الله تعالى و لا يصلح لذلك سوى الأئمة من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

أما «الوسط», فالوسط في اللغة يعني مابين الطرفين؟, والوسط: العدل وبعض المفسرين منهم الزجاج يذهب إلى أن «الوسط» في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾ أي (عدلاً) والعدل أيضاً من الوسط, وأخيار من الوسط (امة وسطاً) أي: اخياراً. كل هذه المعاني تدل على الوسطية, إلا في الآية هم الأئمة الذين يتوسطون بين الأمة وبين الرسول (صلّى الله عليه وآله) أي أنهم يشهدون على الأمة والرسول يشهد على الأئمة. وأول هؤلاء الشهداء الذين يشهدون على الأمة هو الإمام على بن أبي طالب (عليه السلام) وهو الذي يتوسط بشهادته بين الرسول وبين الأمة بدليل قوله تعالى: ﴿قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾([19])فالذي عنده علم الكتاب تكفي شهادته وهو يشهد بين الرسول (صلّى الله عليه وآله) وبين الأمة ولا شك أن الذي عنده علم الكتاب هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) فهو أعلم الأمة بالكتاب, وقد وردت روايات صحيحة كثيرة عند الفريقين بنزول هذه الآية الكريمة في الإمام علي كما في تفسير البرهان للثعلبي وكذا في تفسير الدر المنثور. والذي يؤيد أن الشاهد في هذه الآية الكريمة هو الإمام علي قوله تعالى: ﴿أفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾([20]) فالإمام علي هنا هو الشاهد وهو من الرسول (صلّى الله عليه وآله) وهو التالي لـه، فهو الذي يتلوه في قيادة الأمة وإمامتها, وهو على بينة وبصيرة من أمره, وقد وردت الروايات من الفريقين بنزول هذه الآية في الإمام علي (عليه السلام) وقد أورد ذلك الثعلبي في البرهان والسيوطي في الدر المنثور وصاحب المنار،وفي الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن» فقاله له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود﴿فَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ﴾ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على بينة من ربه وانا شاهد منه».

ومما يؤيد ذلك ويثبته قول الرسول (صلّى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾([21])فالرسول (صلّى الله عليه وآله) منذر ولكل قوم هاد والهادي بعد الرسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو الإمام علي (عليه السلام). والآية تدل أن الأرض لا تخلو من هاد يهتدي به الناس إلى الحق. وهذه الآية أيضاً من الآيات النازلة في علي بن أبي طالب وقد أورد ذلك الفريقان, وقد أخرج الحاكم النيسابوري في المستدرك بإسناده، عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير، عن أبيه، عن الحكم بن جرير، عن أبي بريدة الاسلمي قال: دعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالطهور وعنده علي بن أبي طالب فأخذ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بيد علي بعدما تطهر فألصقها بصدره ثم قال: [إنما أنت منذر] ويعني نفسه ثم ردها إلى صدر علي ثم قال: [ولكل قوم هاد] ثم قال له: [أنت منار الانام وغاية الهدى وامير القراء أشهد على ذلك انك كذلك]. وقد أخرج ذلك كثير من المفسرين وأصحاب السنن. منهم الطبري وابن كثير والشوكاني والرازي الالوسي في تفاسيرهم, والآية الكريمة صريحة في أن في كل زمان هادياً يهديهم ويحفظ الشريعة ويكشف عن مراد الله تعالى من الأحكام وذلك هو الإمام, وهو الشهيد الذي يرى أعمال الناس ويطلع عليها ليقوم بدور الشهادة, قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾([22])خطاب عام للجميع, والآية تشير إلى أناس يرون اعمالنا جميعاً, فمن هذا الذي تعرض عليه رؤية جميع الأعمال وفي كل الأوقات, من هذا الذي تعرض عليه الأعمال فيراها ليتسنى له أداء الشهادة يوم القيامة امام الباري تبارك وتعالى؟ هل كل المؤمنين يرون أعمال العباد؟ هل أنا وأنت نرى أعمال العباد كي نشهد عليها يوم القيامة؟ لا, بل المقصود في هذه الآية الكريمة بالمؤمنين هم الأئمة من آل محمّد (صلّى الله عليه وآله).

هناك بعض المفسرين يقول في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾: فهذه الأمة هي الوسط العدل الذي به يقاس ويوزن كل من طرفي الإفراط والتفريط فهي الشهيدة على سائر الناس الواقعة في الأطراف والنبي (صلّى الله عليه وآله) وهو المثال الأكمل من هذه الأمة. هو شهيد على نفس الأمة فهو ميزان يوزن به حال الآحاد من الأمة, والأمة ميزان يوزن به حال الناس, ومرجع يرجع إليه طرفا الإفراط والتفريط.

فهذا المفسر يشمل في الشهداء جميع الأمة, ولكن الواقع يخالف ذلك لأنّ من أمثال يزيد الذي حارب الحسين: أحد سيدي شباب أهل الجنة, هل يشهد الأعمال؟ هل أمثال يزيد يشهد على الناس؟ وكذلك أي مسلم عادي, أو المجتهد الورع التقي, أو المؤمن الصابر المجاهد, أمثال هؤلاء لا يتمكنون من الشهادة, فكيف بالطغاة والفراعنة إن يشهدوا؟

5- صفات الشهيد:

هناك أمور لا بد منها في الشهادة فالشهداء إذا لم يروا الأعمال فكيف يشهدون؟ وكيف يتسنى لفرد واحد أن يرى أعمال الملايين لو لم تكن لديه خاصية من قبل الباري تبارك وتعالى يميزه بها، عن العالمين ويكشف له بها، عن أعمال العباد, فالقضية تميز الشهيد، عن غيره من الناس, وهذه القضية من الله تعالى فهو الذي يميزه, فالأمر بالاصطفاء قال الله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء﴾([23]). فالاتخاذ من قبل الباري تبارك وتعالى, إذا اتخذ واصطفى من الناس الشهداء فحينئذ يعطي هذه الخاصية وتلك الامتيازات لهذا الشهيد, فالشهادة المقصودة في هذه المعاني ليس كما يذهب إليه هذا المفسر، وإنما تتجاوز هذا المعنی وتتجاوز الأمور الحسية, إلى الأمور المعنوية.

واتخاذ الشهداء من قبل الله تعالى يؤكده العديد من الآيات الكريمة منها قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَـؤُلاء شَهِيداً﴾([24]).

وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾([25]).

قال تعالى: ﴿ووُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء﴾([26]). وقوله تعالى:﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ﴾([27]).

ورواية الإمام الباقر (عليه السلام) توضح المراد بالشهداء تمام التوضيح، قال (عليه السلام): «ولا يكون شهداء على الناس إلا الأئمة والرسل، وأما الأمة فغير جائز أن يستشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته على حزمة بقل» فالذي لا تجوز شهادته على حزمة بقل, كيف يشهد على الناس؟ وأمام من يشهد؟ في الحضرة الإلهية, فهؤلاء الشهداء لهم الولاية ولديهم الكشف على الحقائق, حتى تكون شهادتهم بالحق، لأنهم لا يشهدون إلا بالحق, فهؤلاء تحت ولاية الله ونعمته أصحاب الصراط المستقيم, وهم ليسوا عدولاً فقط, بل أعلى درجة من العدول وليس أعلى من العادل إلا المعصوم, أولئك عصمهم الله تعالى ولديهم الكشف على الحقائق حتى يشهدوا بالحقائق.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ﴾([28]).

حيث جعل الله تعالى كون الرسول (صلّى الله عليه وآله) شهيداً عليهم وكونهم شهداء على الناس غاية متفرعة، عن الاجتباء ﴿هو اجتباكم﴾، وبعد الاجتباء ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ جعلكم شهداء. ماذا يقصد بالاجتباء؟ يعني أن الله عندما يجتبي عبداً فهو يصطفيه, يستخلصه لنفسه, وإذا استخلصه لنفسه يعني كان من المخلصين، فهل تجوز عليه المعصية؟...لا, حينئذ لا تجوز عليه المعصية, إبليس لعنه الله يستثنى المخلصين من الغواية ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾([29]) فالمخلص من عباد الله تعالى لا تناله الغواية, يعني لا تناله المعصية, فلا يجوز عليه الذنب فهو معصوم، والنتيجة أن الذين يجتبيهم الله تبارك وتعالى ويجعلهم شهداء لا بد أن يكونوا من المعصومين. إذن هناك صفات شخصية في هؤلاء الشهداء أرجو الالتفات لقوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ﴾ ولا يجاهد في الله حق جهاده إلا المعصوم لأنّ كل من صدرت منه ولو معصية واحدة لم يجاهد في الله حق جهاده والذي يجاهد في الله حق جهاده جاز أن يجتبى, إذن هل المقصود بهذا الاجتباء في الآية الكريمة كل الأمة؟ لا المقصود الأئمة من أهل بيت محمّد (صلّى الله عليه وآله) وذرية إبراهيم (عليه السلام) ﴿هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ هل إبراهيم (عليه السلام) أب لكل الأمة من الناحية النسبية؟ لا بل لبعضها, وهو أب نسبي لنبينا محمّد وآل محمّد (صلّى الله عليه وآله) نعم هو أب للأمة من الناحية الروحية, ثم: ﴿مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ﴾([30]).

في كل هذه الأمور المتقدمة: الأوامر بالركوع والسجود والصلاة ثم الاجتباء وعدم جعل الحرج في الدين, كل هذه الأمور حتى تكونوا شهداء على الناس. فالغاية هي الشهادة يعني كل ما تقدم لتكونوا مؤهلين للشهادة, فالشهادة حقيقة كبرى من الحقائق القرآنية, وفي آيات كثيرة ينبغي الالتفات إليها, ينبغي أن نتدبر ماذا يراد من هذه الشهادة؟ ماذا يقصد بهذه الشهادة؟ من هؤلاء الشهداء الذين ذكرهم القرآن الكريم ؟ هل لفترة محددة أم لا بد من وجود شهيد إلى يوم القيامة، لأنّ القرآن خاتمة الكتب السماوية مستمر العمل به إلى يوم القيامة, وحلال محمّد حلال إلى يوم القيامة، وحرام محمّد حرام إلى يوم القيامة، فإذا ذكرت آية كريمة غير منسوخة فحكمها نافذ إلى يوم القيامة, إذن في كل زمان لا بد من وجود شهيد أي أن الأرض لا تخلو من شهيد ـ كما يظهر من النصوص القرآنيةـ وفي زماننا هذا لا أحد يدعي الشهادة على الناس من الناس الحاضرين، من علمائهم وحكامهم ومؤمنيهم وكفارهم، لا يوجد من يدعي الشهادة في الظاهر, وشهادة الأموات لا تكفي وإلا لاكتفينا بشهادة آدم (عليه السلام) ولم يتعدد الشهداء. فالشهيد الآن ما دام لم يكن ظاهراً ولم يكن ميتاً فلا بد أن يكون غائباً بالضرورة لأنه لا احتمال رابع لهذه الاحتمالات الثلاثة, وذلك الشهيد الغائب هو حجة الله تعالى على عباده، المهدي من آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين.

6- الخليل (عليه السلام) والشهداء:

القصة تبدأ من إبراهيم (عليه السلام) في قضية تسمية الأمة الإسلامية بالمسلمين، وقضية ذرية آدم (عليه السلام) أن يتخذ الله تعالى من ذريته مجموعة من الشهداء, هناك دعاء لإبراهيم مع إسماعيل أثناء بناء البيت ﴿ربنا تقبل منا﴾ إلى أن يقولا: ﴿ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة﴾ إبراهيم (عليه السلام) نبي ورسول ومن أولي العزم ومعصوم لأنّ كل نبي معصوم, وإسماعيل (عليه السلام) نبي وكلاهما أثناء بناء البيت يدعوان بهذا الدعاء ﴿ربنا واجعلنا مسلمين لك﴾ النبي يدعو أن يكون مسلماً. ما المقصود من هذه الكلمة أن يكون مسلماً ؟ الذي يطلب شيئاً بالدعاء يعني أنه يفقده لا يطلب شيئاً موجوداً لديه أو يطلب المزيد مما لديه, إذن ما المقصود بـ﴿ربنا واجعلنا مسلمين لك﴾ معنی ذلك أن هناك درجة من الإسلام أو التسليم لم ينلها إبراهيم (عليه السلام) في ذلك الوقت من الدعاء وهو يطلب من الباري تبارك وتعالى أن يوصله إلى تلك الدرجة إلی درجة أولئك المسلمين الذين لديهم درجة التسليم المطلق, ويدعو هذا الدعاء أيضاً لذريته الذين هم الصفوة المجتباه من ذريته ﴿ربنا واجعلنا مسلمين لك﴾ والآية الأخرى عندما يذهب إبراهيم (عليه السلام) لتنفيذ الأمر الإلهي في ذبح ابنه إسماعيل (عليه السلام) ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ اسلما إسلاماً مطلقاً, فكان الإسلام درجات, كما أن الإيمان درجات، وكما أن الصلاح درجات, المسلم العادي الذي يشهد أن لا اله إلا الله وأن محمّداً (صلّى الله عليه وآله) رسول الله هو مسلم، إذن المقصود بدعاء الخليل (عليه السلام) لا بد أن يكون درجة من الإسلام عالية غير هذه المقصودة وكذلك عندما يدعو ﴿واجعلني من عبادك الصالحين﴾ فهو في دعائه يثبت أن هناك عباداً صالحين نالوا تلك المرتبة ويريد الخليل (عليه السلام) أن يكون منهم في الصلاح والتسليم. فهو يطلب تلك الدرجة من الإسلام والصلاح, والسؤال الآن هو: من هؤلاء الذين يطلب إبراهيم (عليه السلام) أن يكون منهم؟ والطريف في الأمر أنّه يطلب أن يكون منهم لا بمنزلتهم وكأن منزلتهم من المسلم لأمثال الخليل (عليه السلام) أنّه لا ينالها أحد، فالسؤال إذن من هؤلاء الذين بتلك المنزلة؟

7- آدم (عليه السلام) والشهداء:

تأتي الآيات الكريمة في قضية خلقة آدم (عليه السلام) لتروي لنا تلك الأحداث وتميز أناساً لهم درجة من الكرامة بحيث أن مجرد معرفة آدم (عليه السلام) لأسمائهم يلزم الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم (عليه السلام) ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ﴾([31]), الظاهر أنّه لم يعرض الأسماء, هم هنا الضمير المتصل بالفعل (عرضهم) ضمير للجماعة يعود على العاقلين, أي أن الله تعالى عرض على الملائكة وجودات عاقلة ﴿فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ﴾ يعني أن هناك أشخاصاً, وجودات عاقلة ولهم أسماء وآدم (عليه السلام) يعرف هذه الأسماء، هذا ظاهر الآيات الكريمة، والملائكة عليهم السلام لم يعرفوا تلك الأسماء أي أسماء تلك الوجودات العاقلة وآدم امتاز، عن الملائكة بأنه يعرف هذه الأسماء وبمعرفته لهذه الأسماء استحق الخلافة في الأرض, بمجرد العلم بهذه الأسماء, اسجد الله تبارك وتعالى له ملائكته, فإذا كان العلم بتلك الأسماء يوجب هذه الكرامة والمنزلة العظيمة إذن من هؤلاء الأشخاص؟ من هذه الوجودات التي هي أعظم من الملائكة وأعظم من آدم, من هم وما هي كرامتهم وما عظمتهم؟ هؤلاء هم محمّد وآل محمّد (صلّى الله عليه وآله) فهؤلاء هم العظماء, المخلوقون الذين لا يعصون الله تعالى ما أمرهم وهم بأمرهم يفعلون.

8- الاصطفاء الإلهي:

الله تعالى علمه حضوري, أي أن الأشياء حاضرة لديه غير غائبة, وليس عنده علم مستقبل أو حاضر أو ماض, فالماضي والمستقبل كالحاضر ويعلم الأشياء قبل أن يخلقها, علمه علم حضوري لأنه علّة للموجودات، فلكونه يعلم بذاته فهو يعلم بجميع المخلوقات، لأنّ المخلوقات جميعاً صادرة من الباري تبارك وتعالى، وبالتالي هو يعلم بجميع الأشياء علماً حضورياً، فهو يعلم بمن في الجنة ومن في النار الآن وقبل الآن, ولكن علمه بالاشياء ليس سبباً لدخول هذا الإنسان الجنة أو النار, كما أن الشهداء إذا علموا أن زيداً من الناس يذهب للجنة وعمرواً من الناس يذهب للنار فعلمهم هذا ليس هو سبب دخول زيد وعمرو الجنة والنار, أي أن العلم بالشيء ليس سبباً له, فالمدرس حين يدرس التلاميذ ويعرف من يحضر واجباته ويؤديها ومن لا يؤديها وإذا استمر على هذه الوتيرة فتحصل له قناعة أن هذا الطالب سوف يرسب والآخر سوف ينجح, فعلم المدرس بنجاح ذاك ورسوب هذا ليس هو السبب بالنجاح والرسوب, والباري يعلم بعباده بسابق علمه قبل أن يخلقهم ويعلم أن أصلح من فيهم هو فلان وأشدهم تفرعناً هو فلان ولسابق علمه هذا اختار أهل البيت عليهم السلام واختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) خيرة للخلق. لماذا اختاره؟ لأنه أفضل إنسان ينفذ أوامر الله تعالى ويسلم لأمره التسليم المطلق دون تردد.

وأهل البيت عليهم السلام عندما تبوءوا هذه المنزلة عند الله فانما نالوها باستحقاق من فضل الله تعالى بما وصلوا إليه من الدرجات التامة من التسليم التي لم ينلها أحد وهذه مقارنة بين التسليم الذي وصله إبراهيم (عليه السلام) وبين تسليم الحسين (عليه السلام) أحد سيدي شباب أهل الجنة نلاحظ أن الله تعالى لما أمر إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل (عليه السلام) لم يراجع الله تعالى في ذلك، لم يقل إن هذا ابني هو نبي لم يفعل ما يستحق به الذبح فلا أذبحه, بل إنه لما أُمر سلّم لأمر الله تعالى بدون تردد وبدون مراجعة وذهب لابنه مخاطباً إياه في ذلك ﴿يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾، الابن (عليه السلام) كذلك لم يقل ذلك بل سلّم لأمر الله تسليماً مطلقاً وعلّق صبره علی هذا البلاء على المشيئة الإلهية فقال ﴿سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ قمة التأدب مع الباري تعالى.

والباري يعلم بسابق علمه أن إبراهيم وإسماعيل سوف يحققا النية بصدق وجزم ففداه الله تعالى بذبح عظيم. وهكذا فدي إسماعيل (عليه السلام) ولم تمر السكين على رقبته أي أنّه لم يذق حرارة الذبح بالفعل.

أما الحسين (عليه السلام) فإنّه على علم بتعليم الله الذي علّمه رسوله الذي ارتضاه فعلّمه من غيبه قال تعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾ فاخبر الرسول الحسين (عليه السلام) بما سيجري عليه وهذا ثابت في كتب الفريقين أن الحسين سوف يذبح بالفعل لا بالقوة في كربلاء أي أن حرارة السيف سوف تصل إلى نحره الشريف فداءً لبقاء الإسلام، قرباناً لله تعالى، فسفك دمه الطاهر بسيوف الحقد الأموي.

والباري تبارك وتعالى يقول، عن ابتلاء إبراهيم واسماعيل (عليه السلام) ﴿إن هذا لهو البلاء المبين﴾ فإذا كان من لم يذبح بالفعل وإنما علم ذلك وانه صادق النية يعبر عنه بالبلاء المبين, فكيف بمن علم بأنه سيذبح بالفعل وصبر على ذلك, لا شك أنّه اشد بلاءً من الأول ولما كان المرء يبتلى على قدر إيمانه فلا شك أن منزلة الحسين (عليه السلام) أعلى وأسمى، ولأجل ذلك كان لمحمّد وآله (صلّى الله عليه وآله) ما كان من المنزلة التي سَمَوا بها على جميع الخلق. ولهذه المنزلة ولهذا الإخلاص اختارهم الله تعالى وأكرمهم بتلك الكرامات, واجتباهم حتى أن عيسى (عليه السلام) يصلي خلف المهدي (عليه السلام)، والإمام أفضل من المأموم فكيف بمنزلة سيد الخلق محمّد (صلّى الله عليه وآله).

أقول لذلك اجتباهم الله عزّ وجل وصلحوا لوراثة الكتاب بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال تعالى: ﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ*ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ- أي من العباد فالضمير في (فمنهم) يعود علی العباد لا علی المصطفين ـ ظالم لنفسه- وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ- وهو الإمام وارث الكتاب وفاعل للخيرات بإذن الله -ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ وفضل كبير فعلاً أن يورثهم الله تعالى علم الكتاب كله ويجعلهم ممن يسبقون بالخيرات بإذنه تعالى.

والآية تشير بوضوح تام إلى وجود أناس بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله) اصطفاهم الله تعالى وأورثهم الكتاب وأنهم سابقون بالخيرات باذنه تعالى. فمن هؤلاء الناس الذين اصطفاهم وأورثهم الكتاب –كل الكتاب- أي أنهم لا يجهلون بأي شيء من الكتاب بتوريث الله تعالى لهم، يعلمون كل ما في الكتاب وهم ورثة لا بالانتخاب أو الشورى بل باصطفاء الله تعالى لهم, هؤلاء هم الأشهاد الذين يشهدون أمام الله تعالى على العباد وأعمال العباد، لأنهم يرونها هنا في دار الدنيا, هؤلاء الهداة الذين لا بد لكل زمان من هاد منهم قال تعال: ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَاد﴾ ولأنهم يقومون بوظيفة الهداية للعباد فلا بد أن يكونوا هم أنفسهم بأعلى درجات الهداية حتى يتمكنوا من هداية الآخرين فلا بد من عصمتهم حتى يكونوا أحق بالاتباع ﴿فَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى﴾ ولذلك عصمهم الله تعالى وطهرهم من الذنوب تأهيلاً لهم حتى يكونوا أحق بالإتباع, أي يتأهلوا للإمامة ولأجل ذلك طهرهم الله تعالى ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ وبعد أن طهرهم وعصمهم من الذنوب وأهلهم لقيادة الأمة فرض على الأمة مودتهم والصلاة عليهم في كل فريضة قال تعالى: ﴿قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ فهذه الأوامر الإلهية بهذه الآيات القرآنية لم تأت عبثاً ولا اعتباطاً, بل لأمر هام ولأناس مهمين يريد الله تعالى أن يبين مكانتهم للأمة وفي الأمة.

هذه حقائق أقولها,هذه آيات كريمة وليست من الأحاديث الشريفة التي قد يختلف في صحة سندها ومتنها ولأجل ذلك صدع رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يبين للأمة منزلتهم فقال في جملة ما قال: [الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما], وفي الجنة أنبياء ومرسلون, إذن عندما يقول الرسول (صلّى الله عليه وآله) ذلك فإن الأمر كما للسيادة في الآخرة فمن الأولى أن يكون سيداً في الدنيا فكيف إذا نص عليهم الرسول (صلّى الله عليه وآله) مراراً وتكراراً بأنهم سفينة النجاة والمتمسك بهم ينجو وهم خلفاء الرسول وأولياء الأمة. فلهذا الإخلاص استحقوا ذلك ولإيمانهم ويقينهم وأخلاقهم استحقوا هذه الكرامات واستحقوا أن يحصي الله تعالى فيهم كل شيء قال تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ عملية إحصاء وعدّ, كيف يتم هذا الإحصاء وما علاقة ذلك بالشهادة والشهداء؟

الجواب على ذلك أن الشهيد الذي يؤدي الشهادة أمام الله تعالى لا بد أن يكون مطلعاً على كل صغيرة وكبيرة سوف يشهد بها, والا كيف يتمكن من أداء الشهادة, وهذا يعني أن لديه عملية إحصاء, وعملية الإحصاء والشهادة لهما ارتباط بالعلم اللدني أي العلم الحضوري العلم الذي لا يأتي كسباً وتحصيلاً وإنما هو من قبل الباري تبارك وتعالى مثل علم الخضر (عليه السلام) الذي علّمه الله تعالى من لدنه, علماً،هذا العلم الذي لدی أهل البيت عليهم السلام بتعليم الله تعالى يجعلهم يطلعون على حقائق الأمور, ويجعلهم يصلحون لهذا الإحصاء،إذا كان الكتاب الذي يقول عنه المجرمون كما يعبر عنهم الله تعالى بقوله: ﴿مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا﴾ كتاب له هذه القابلية والقدرة من الإحصاء فمن الأولى من يكون هو أشرف من ذلك الكتاب وأعلى شأناً وقدراً عند الله تعالى وأن تكون له هذه القابلية على العدّ والإحصاء ليصدق فيه قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾, فلماذا نستعظم عليهم أمثال هذه الأمور. الله تعالى اختار نبينا محمّداً (صلّى الله عليه وآله) وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين وخيرة خلقه وسيد الخلق وفضل آل عمران على عالمي زمانهم فلماذا يستكثر على آل محمّد (صلّى الله عليه وآله) قال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً﴾([32]).

القسم الثاني:

خلصنا في البحث السابق, إلى أن الشهداء لا بد منهم في كل امة, وأن الأرض لا تنفك عنهم, قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾([33]) يدل دلالة واضحة, على أنّه لا بد لكل امة من شهيد, وفي قوله تعالى: ﴿وُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء﴾([34])دلالة واضحة على أن الشهداء يمكن أن يكونوا من غير النبيين, وأن هناك شهداء في امة محمّد (صلّى الله عليه وآله) يشهدون على الناس, ويتوسطون بين الأمة وبين الرسول، والرسول (صلّى الله عليه وآله) يشهد عليهم. والآن نريد أن نعرف الوظيفة الإلهية, التي كلف بها هؤلاء الشهداء, وما هي الخصائص التي تميز بها هؤلاء الأشهاد؟ والدور الذي يقومون به في الدنيا والآخرة؟.

1- دور الأشهاد:

أهم ميزة في الشاهد أنّه لا بد أن يكون متيقناً مما سيشهد به, وصادقاً حين أداء الشهادة أمام الله تعالى، وبما أنّه شاهد على الأمة, فلا بد أن يرى هنا بالرؤية الحقيقية, كل ما يجري للأمة من الأحداث بمختلف مناحي الحياة، سواء كان ذلك الحديث يخص الأمة أو الفرد, وسواء كان ذلك الحديث صغيراً أو عظيماً، وإضافة إلى ذلك, فإن الشهيد يقوم بدور الرقابة الدقيقة على الأمة بحيث لا تغادره كبيرة أو صغيرة, فيما يحصل لها. ﴿كُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾([35]).

ومن خصائص الشهيد أنّه عالم بالرسالة وعالم بمدى تطبيق الأمة لها وابتعادهم عنا واقترابهم منها, أي أنّه لا تغيب عنه أي مسألة تخص أمور الرسالة. وبعد أن نعرض لهذه الأمور التي تبين وظيفة الشاهد نتعرض بعدها لوظيفة الأمة نحو الشاهد.

الشاهد بما أن له دور الرقابة لا بد أن تكون لديه صورة واضحة عما يجري في الأمة التي كلّف بالشهادة عليها, ولأجل ذلك خصه الله تعالى, برؤية أعمال الأمة رؤية صادقة يقينية لا يعتريها الشك, قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ ([36])والمؤمنون هنا هم الأشهاد الذين كلفوا بمراقبة الأمة ووظيفة المراقبة هذه يحتاجها الشاهد في الدنيا, لمعرفة السير التكاملي للأمة وهي جادة في السير نحو الخط الإلهي, ولأجل تشخيص الأمراض التي تنتابها الانتكاسات التي تبعدها عن خط الله تعالى ومن ثم وصف العلاج لتلك المشكلات إلا أن وصف العلاج بعد المرض، يحتاج لمعرفة تامة بكل أبعاد الرسالة الشمولية من جانب الشاهد, كما أنّه يحتاج إلى معرفة من جانب الأمة, إلى من تلتجىء في حل مشكلاتها, فجاءت الآيات الكريمة تعالج بوضوح هاتين الناحيتين, فأمرت الأمة أن تسأل، عن كل ما تجهله من أناس مخصوصين يعلمون كل ما تجهله ﴿اسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾([37]) أي كل ما تجهلونه فاسألوا به أهل الذكر فانهم يعلمون كل ما جهلتموه.

والخطاب عام لكل الأمة سواء كانوا صحابة أم تابعين، فقهاء أم مفسرين كافة طبقات الأمة, كل هؤلاء مكلفون بالرجوع إلى «أهل الذكر» في كل ما يفتقرون إليه من العلوم, والباري تعالى لا يحيلنا على من يجهل, لأنه لا فائدة بتلك الاحالة, كما أنّه لا يحيلنا على من يعلم بعض الرسالة دون بعض, لأنّ السؤال يبقى بدون اجابة والمشكلات تبقى قائمة, إذن فأهل الذكر لابد أن يكونوا على درجة من الرسوخ بالعلم والمعرفة بحيث يكونوا على علم تام بكل ما تحتاجه الأمة.

لذلك اشار اليهم الكتاب الكريم: ﴿مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾([38]) فالآية نفت العلم الكامل بالرسالة، عن غير الله تعالى وعن غير الراسخين, ولا نتفاء هذا العلم، عن الأمة, قامت الحاجة بالامة لاناس لديهم الإجابة الكافية، عن كل سؤال تطرحه الأمة, لوجود هذه الحاجة التي قررها القرآن الكريم, وجب وجود من يسدّ تلك الحاجة وهم «اهل الذكر» «الراسخون في العلم» إلا أن الحاجة إلى السؤال لم تكن مقتصرة على عصر من العصور أو وقت من الأوقات فلا بد إذن من وجود «أهل الذكر» في كل عصر ووقت, لأنّ حلال محمّد (صلّى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة وكذا حرامه (صلّى الله عليه وآله) إذن فهذه الخاصية, لا بد أن تكون بالشاهد الذي يصطفيه الله تعالى، لمراقبة الأمة والشهادة عليها, وإرادة شؤونها.

والسؤال الآن, من هم أهل الذكر؟ للإجابة على ذلك لا بد أن نعرف معنى كلمة «الذكر» وأفضل معرّف لذلك, هو القرآن الكريم, قال تعالى: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾([39]) ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾([40]) ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ﴾([41]) وآيات آخر تشير بوضوح إلى أن كلمة الذكر تعني القرآن الكريم, وعلى هذا القول يكون معنى «أهل الذكر»« أهل القرآن» وهذا يعني أن هناك أناساً مختصين, يعلمون كل علوم القرآن, الذي أنزله الله تعالى ﴿تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾([42]) إلا أن علم كل ما في القرآن لا يتسنى لكل أحد, بل أن الأمة بأجمعها، نفى عنها الله تعالى أن تعلم علم الكتاب كله، باستثناء الراسخين في العلم، لذلك وجب وجود هؤلاء الراسخين في العلم.

2- أهل الذكر وعلمهم:

والسؤال الذي يطرح: هل أن علم هؤلاء علم كسبي تحصيلي, يمارسون فيه عملية التعليم, كما نمارسها نحن, أم أن لهم علماً يختلف عمّا لنا؟ والجواب: أنّه لو كان علمهم تحصيلياً لما طولبنا أن نرجع إليهم. والامر الآخر: أن الأمة منتف عنها علم كل الكتاب بدليل ﴿مَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ فثبت أن علم هؤلاء الأشهاد, ليس كعلمنا,أي ليس علماً تحصيلياً, إلا أن العلم ليس له إلا تقسيمان: وهما العلم الحصولي, والعلم الحضوري, فلما انتفى الأول, فثبت بالضرورة الثاني, إذن فعلم «أهل الذكر» علم حضوري, إلا أن هذا العلم الحضوري علم يخص رسالة السماء, والبشر كلهم يفتقرون إليه, إذن لا بد أن يكون ذلك العلم علماً حضورياً لدنياً أي من لدنه تعالى، فثبت أن علمهم عليهم السلام علم لدني, لذلك أشار الباري إلى أن المختصين بعلم الكتاب, لا بد أن يكون ذلك الاختصاص بتعليم الله تعالى لهم، قال تعالى: ﴿الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ* ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾([43])

إذن فتعليمهم لا بد أن يكون بأمر الهي يختصهم به، وهذا التعليم لا يتم إلا بعد الاصطفاء, والاصطفاء معناه الاستخلاص أي يكون المصطفى مخلصاً والمخلص لله تعالى يستحيل أن تصدر منه معصية, لعدم اقتراب الشيطان منه, ﴿إِلاّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ وقد أسلفنا الكلام في هذه النقطة. كما أنّه تجدر الإشارة ثانية إلى أن تكملة الآية ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ الذي تجدر الإشارة إليه أن الضمير «هم» في قوله تعالى «فمنهم» يعود إلى «عباد» في قوله «عبادنا» ولا يعود إلى «المصطفين» لأنّ المصطفين معصومون لا يقربهم الشيطان بدليل الاستثناء السابق فيكون المعنى: فمن العباد ظالم لنفسه ومن العباد مقتصد ومن العباد سابق بالخيرات بإذن الله, في قوله تعالى «بإذن الله» إنما هو بإذن الله, وبأمره، لا بالانتخاب والشورى ولا بإرادة الناس وإذنهم.

ولاشك أن علم الرسول (صلّى الله عليه وآله) هو علم لدني من الله تعالى, إلا أن علم الرسول (صلّى الله عليه وآله)، عن طريق الوحي، إذن كيف يكون علم «أهل الذكر» «الأشهاد» «الراسخون في العلم» بعد الرسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولا وحي بعده (صلّى الله عليه وآله)؟

الجواب على ذلك، أنّه لا بد أن يكون، عن طريق الإلهام, إذن فعلمهم عليهم السلام علم الهامي من الله تعالى.

إلا أن القرآن الكريم، لم يذكر لكلمة الذكر معنی واحد فقط, وهو القرآن الكريم، بل إن هناك معنى آخر،وهو «الرسول» (صلّى الله عليه وآله), حيث وردت كلمة «الذكر» في القرآن بمعنى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وحينذاك يكون معنى «أهل الذكر» أي «أهل رسول الله»، وهذا ما استدل به الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ـ كما سيأتي بعد قليل ـ وعلى هذا يكون معنی «أهل الذكر» أي أهل رسول الله (صلّی الله عليه وآله) ويكونون هم المرجع للأمة في كل شيء تفتقر إليه, قال تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾([44]) فكلمة «ذكرا» في الآية الكريمة مفعول به منصوب, ولفظ الجلالة هو الفاعل، وكلمة «رسولاً» بدل من «ذكرا» والبدل يقوم مقام المبدل منه وإذا حذفنا المبدل منه يكون التقدير: قد أنزل الله إليكم رسولاً وإذا فسر «الذكر» في قوله تعالى: ﴿فسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ بـ«الرسول» يكون معنى «اهل الذكر» بالضبط «أهل الرسول». إذن فعلى كلا التقديرين والمعنيين وهما تفسير «الذكر» بمعنى «القران» أو بمعنى «الرسول» يكون هناك بعد الرسول أناس لهم العلم بكل ما تفتقر إليه الأمة وأنهم لا بد أن يكونوا من ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأمور-سنذكرها فيما يأتي من البحث إن شاء الله تعالى.

ونذكر هنا أن الاصطفاء الذي ورد في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ﴾ هذا الاصطفاء يختص بذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولا يشمل غيرهم بدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾([45]) فالاصطفاء يختص بهذا النسل ولا يعدوه إلى غيره، وهذا النسل حلقة متصلة من آدم (عليه السلام) إلى نهاية الذرية المصطفاة من آل إبراهيم (عليه السلام) والآية كما نرى ذكرت آل عمران، وآل عمران كما نعلم هم من آل إبراهيم، وذكرهم فيه دلالة على السلسلة الثانية من آل إبراهيم (عليه السلام) المنحدرين من إسماعيل (عليه السلام)، لا من إسحاق (عليه السلام)، وفيه إشارة إلى محمّد وآل محمّد (صلّى الله عليه وآله). ويزداد الأمر وضوحاً بقوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ فأمر الإمامة منحصر في ذرية إبراهيم (عليه السلام) الذين منهم محمّد وآل محمّد (صلّى الله عليه وآله) وأن المصطفين منهم للإمامة يمتنع عليهم الظلم, وهذا يعني أن غير هذه الذرية لا يصلح للإمامة, إلا أن المصطفين في آية ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ هم الذين أورثوا الكتاب وعلموا كل ما فيه من العلوم. إذن على هذا التقدير يكون ورثة الكتاب, من ذرية آل إبراهيم (عليه السلام) ومن ذرية رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفيهم الإمامة لا في غيرهم.

وهم أهل الذكر, كما استدل بذلك الإمام الرضاء (عليه السلام) حينما كان في مجلس المأمون, وقال: «نحن أهل الذكر» فقال علماء العامة الحاضرون في المجلس: بل أهل الذكر هم اليهود والنصارى، والمراد من الذكر التوراة والإنجيل.

فأجاب الإمام (عليه السلام) بقوله: «سبحان الله! هل يجوز ذلك»؟.

إذن يدعونا إلى دينهم ويقولون: إنّه أفضل من دين الإسلام. فقال المأمون: لو أقمت برهاناً على ما تقول من القرآن!

فقال (عليه السلام): «نعم، الذكر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ونحن أهله, وذلك بيّن في كتاب الله تعالى, حيث يقول في سورة الطلاق: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً*رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ﴾([46]) والشهرستاني ينقل، عن الإمام الصادق (عليه السلام) وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قالوا: «نحن أهل الذكر»([47]).

والواقع أن كلا المعنيين «القران» و«الرسول» (صلّى الله عليه وآله) متحقق في أهل البيت (عليهم السلام) لأنهم الراسخون في العلم, وورثة الكتاب من جهة. وهم ذرية مصطفاة, لا تصلح الإمامة إلا بهم من جهة ثانية. وثالثاً هم الشهداء الذين يتوسطون بين النبي (صلّى الله عليه وآله) وبين الأمة.

ولدى الإمعان في قوله تعالى: ﴿فسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ نفهم أن الأمة المأمورة بسؤال «أهل الذكر» يستلزم أن يكون أهل الذكر مراجع للأمة وأئمة لها, وإلا فما الفائدة بالرجوع إليهم في الاستفسار، عن كل أمور الدين وعن كل علم الكتاب, مع عدم الائتمام بهم, إذن نفس صيغة الأمر تستلزم الإئتمام، وتوجب كون من نرجع إليهم أئمة من قبل الله تعالی أُلهموا كل علوم الدين. وهنا تظهر لنا بوضوح وظيفة الأمة, إمام الشهداء, الذين هم أهل الذكر (عليه السلام). وهذا يعني أن أهل الذكر هم الذين يتولون شؤون الأمة بمختلف أمورها. ولا يحق للأمة أن ترجع في أمورها لأي كان غيرهم.

ولم يقتصر القرآن الكريم في بيان الحقيقة على ذلك, بل زاد الأمر وضوحاً بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾([48])فأوضحت الآية بجلاء أن الأمة مأمورة برد الأمور ـ كل الأمور ـ إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) من بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى أولى الأمر ولا شك أن كل أمور الأمة لا تخلو من أمرين إما الخوف أو الأمن، وهذا يعني أن الأمة مطالبة بإرجاع كل أمورها إلى أولي الأمر. وفي الآية بيان آخر وهو أن أولي الأمر يعلمون كل ما يرد عليهم من الأمور, وتحصل السعادة للأمة بحل تلك الأمور من الأمن أو الخوف.

وفي آية أخرى بيّن الباري تعالى وجوب الطاعة المطلقة لأولي الأمر, بعد أن بين الخصائص التي يتميز بها أولو الأمر, من العلم بالأمور كلها, والرسوخ في العلم، ورؤية الأعمال, والشهادة عليها, ورقابة الأمة. وبذلك تكون وظيفة الأمة من حيث الانقياد التام لأوامرهم عليهم السلام.

وهناك وظيفة مهمة, يقوم بها الأشهاد يوم القيامة, ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ﴾([49])حيث يؤدون الشهادة على جميع من وجبت طاعتهم عليهم ومن جملتهم الكاذبين ﴿وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ﴾([50]) وهذا يعني أن الأشهاد, لهم المعرفة الكافية, التي يميزون بها بين الصادق والكاذب, كما أن الناس لا شك, إما صادق أو كاذب, وعلى ذلك, لا بد من صفات وسمات, يعرف بها الصادق من الكاذب, إلا أن تلك المعرفة، ليست ميسورة لكل أحد, وإنما تختص بالذين يعرفون تلك السمات, ولذا جاءت الآية الكريمة، تبين تلك الوظيفة التي يقومون بها يوم القيامة ﴿يوم يقوم الأشهاد﴾ فقال تعالى: ﴿وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ﴾([51])وقال سبحانه: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾([52]).

القسم الثالث

1- واقعنا والأشهاد:

من خلال ما مرّ, يتضح أن هناك علاقات ضرورية بين الشاهد والأمة والرسالة، وأن هناك وظيفة يؤديها الشاهد في الدنيا تجاه الأمة وتجاه الرسالة, ووظيفة يؤديها يوم يقوم الأشهاد, وأن وجود الشاهد ضروري، كلّما وجد مجتمع محمّل برسالة, وأن الشاهد باعتباره القائد الأعلى لذلك المجتمع لا بد أن يكون ملماً بالرسالة بكل أبعادها, ابتداء من العلوم المبدئية وانتهاء بالعلوم التطبيقية التي تسهم في نشر تلك الرسالة, وتبليغها قدر المستطاع إلی الإنسان أينما حل, باعتباره المخاطب بهذه الرسالة, وأن الشاهد هو الإنسان الرسالي الوحيد الذي يعي تلك الرسالة بكل تفاصيلها, ويعتبر النموذج الأعلى في تطبيق تلك الرسالة فهو الإنسان المجسّد عملياً لتلك الرسالة. وأن الأمة تبقی بحاجة ماسة إليه مادامت تؤمن بتلك الرسالة الإلهية, وأنه القائم مقام الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأن أمور الدنيا والدين لا تفهم ولا تطبق بشكلها الصحيح الكامل إلا من خلال ذلك الشهيد.

وعملية فهم الرسالة وتطبيقها تبقى متعثرة بل مستحيلة وفيها كثير من الثغرات, بافتراض عدم وجود ذلك الشهيد في كل زمان. وأن ذلك الشهيد هو الحبل المتين والعروة الوثيقة التي بالتمسك بها يتمكن الإنسان من معرفة مراد الله تعالى من الأحكام وفلسفة وتعليل كل ما في الكون. وأن أية شخصية تفترض, وتوضع في ذلك المقام لتحل محل الشهيد الذي أشارت إليه تلك الآيات الكريمة يستحيل أن تسدّ مسدّه وتقوم مقامه. لافتقار أمثال هذه الشخصيات إلى الإمداد والتأييد الإلهي، والى المعرفة والإحاطة التامة بكل أبعاد الرسالة, والطريقة المثلی لتطبيق الرسالة وإنزالها للميدان العملي جهد الإمكان. هذا يعني أن الأرض لا تخلو من الشاهد المجعول من قبل السماء. أي لا بد لكل عصر من شهيد, إذن لا بد لعصرنا هذا من شهيد يقوم بتلك الوظائف الأنفة الذكر. بدليل قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾([53]) فالآية تشير بوضوح إلى وجود شهيد في كل امة. وكذا قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء﴾([54]) وقوله تعالى:﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ﴾([55]). فكل هذه الآيات تشير إلى أنّه لابد لكل من أمة شهيد, ذلك الشهيد يبعثه الله تعالى ويتخذه ويصطفيه من الأمة ويجيء به شهيداً على تلك الأمة, إذن لا بدّ في عصرنا هذا من شهيد يقوم بوظيفة الشهادة, ونكون نحن مسؤولين إمامه في دين الله تعالى. وأن ذلك الشهيد يتميز بكل تلك المميزات التي أشرنا إليها سابقاً من العلم, وقمة التقوى, والعدالة، والصدق والحرص على الرسالة والأمة. فمن هو شهيد العصر؟

2- شهيد العصر:

يقول الباري سبحانه: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ والطاعة هنا مطلقة غير مقيدة بفرد دون آخر بل كل الأمة بدون استثناء ملزمة بطاعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وطاعة أُولي الأمر, وأُولي الأمر جاءت بصيغة الجمع مما يدلل على تعددهم في كل زمان ولي هو ولي أمر واحد, كما هو الحال مع الرسول (صلّى الله عليه وآله) والفعل: «اطيعوا» فعل أمر صادر من الباري تعالى لكل الأمة ويخاطب جميع أفرادها. والفعل مطلق غير مقيّد بزمان بل يشمل كل زمان, وبضمنه زماننا هذا والازمان القادمة, كما أن الله تعالى عندما يأمر بإطاعة ولي الأمر فهو يأمر بإطاعة شخصية ثابتة الوجود في الخارج، ولا يأمر بأطاعة المعدوم وبما أن الطاعة مطلقة في كل زمان إذن لا بد من وجود ولي الأمر في كل زمان, لأنّ حصول الطاعة متوقف على وجوده فوجب وجوده في كل زمان, ولما كانت طاعة مطلقة, فهذا يعني أن أي أمر أو نهي يصدر عنه, فالأمة ملزمة بتنفيذ ذلك، وهذا يعني أن ولي الأمر الذي تطالبنا الآية بطاعته طاعة مطلقة لابدّ أن يكون ملماً عارفاً بكل أمر ونهي جاءت به الشريعة، ولا يخفی عليه شيء من شؤونها, وأن كل ما أمر به أو نهى عنه فهو مطابق لمراد الله تعالى وأمره ونهيه وبما أن أوامر ولي الأمر ونواهيه مطابقة لأوامر الله تعالى إذن فأوامر ولي الأمر ونواهيه أيضاً معصومة يستحيل فيها الخطأ إذن لا بد أن يكون ولي الأمر الواجب وجوده في كل زمان معصوماً،وذلك هو الشهيد الذي يستحيل أن ينفك عنه عصر من العصور, وذلك هو المصداق لأهل الذكر الذين أمرنا بأن نسألهم، عن كل ما نجهل: ﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾([56]).

وبما أن الاحاطة الشاملة بعلوم الشريعة ومراد الله تعالى غير متيسر لأي فرد من الناس إذن لا بد أن يكون علم ذلك الشخص بتعليم الله تعالى, أي أن علمه لدني، وليس علماً حصولياً, كما يتم للناس العاديين في التعليم وعلى هذا فلا بد أن يكون علم ولي الأمر من الله تعالى, ويترتب على هذا أن يكون تعيين ولي الأمر من قبل الباري تعالى, فهو الذي يصطفيه ويورثه علم الكتاب ويؤهله لقيادة الأمة: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾([57])وهذه الوراثة مستمرة ما دام الكتاب موجوداً في هذا الكون, إذن لا بد من وجود ولي أمر شهيد معصوم عالم بكل ما في الكتاب, فمن هو هذا الولي الحجة على كل البشر في هذا العصر؟ وبما أنّه لا أحد من الناس الحاضرين الظاهرين يدّعي وجود مثل هذه الصفات فيه, وانه لابد من وجود الولي حياً وبيننا، إذن لا بد من غيبة, لأنه لا فرض رابع للفروض الثلاثة وهي إما حضور الولي أو موته أو غيبته ولما استحال عدمه ولم يثبت للظاهرين ذلك فوجب أن يكون غائباً, إذن الآية الكريمة ترشدنا إلى ضرورة وجود ولي أمر معصوم عالم بكل علوم الإسلام غائب عنا وذلك هو شهيد العصر, وأمل البشرية في انقاذها من كل مآسيها وآلامها ومعاناتها, والذي إذا التزمت البشرية بنهجه فإنها لا تضل أبداً مصداقاً للحديث الشريف الذي تواتر لدى الشيعة والسنة وهو حديث التمسك بالثقلين وهما كتاب الله وأهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) أي عترته.

وقد صرح غير واحد من اعلام المسلين بتواتر الحديث وأورده ما ينيف، عن العشرين صحابياً قال ابن حجرالشافعي في صواعقه([58]): « ثم إعلم أن الحديث التمسك بذلك ( يعني التمسك بالكتاب والعترة) طرقاً كثيرة وردت، عن نيف وعشرين صحابياً, ونص الحديث الشريف قال (صلّى الله عليه وآله): [إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض, فانظروا كيف تخلفوني فيهما], أخرج الحديث الترمذي، عن زيد بن أرقم 5/429, وجاء بطرق وروايات متقاربة، راجع في ذلك صحيح مسلم ج2 ص362,ط عيسى الحلبي، خصائص النسائي ص21, ط التقدم بمصر, أسد الغابة لابن الاثير ج3, ص147،الصواعق المحرقة لابن حجر 124, كنز العمال ج1 ص165, المعجم الصغير للطبراني ج1ص131, المعجم الكبير للطبراني ص137, تفسير ابن كثير ج4ص113,ط دار إحياء الكتاب العربية بمصر, مصابيح السنة للبغوي ص206،ط القاهرة الفتح الكبير للنبهاني ج1 ص503, ط دار الكتاب العربية بمصر, تفسير الخازن ج1ص4, مسند أحمد بن حنبل ج3 ص117,ط الميمنية بمصر, تاريخ دمشق لا بن عساكر الشافعي ج2 ص60, لسان العرب لابن منظور ج13, ص93 ط بولاق, تاج العروس ج7 ص245ط الخيرية بمصر, القاموس للفيروز آبادي الشافعي ج2 ص342, المطبعة الحسينية بمصر.

وهناك مصادر كثيرة جداً أوردت هذا الحديث الشريف وصرّحت بتواتره, ومايشير إليه الحديث الشريف من المعاني ينطبق تمام الانطباق على ما تشير إليه الآيات الكريمة في صفات شهيد العصر، التي استخلصنا آنفاً. فالحديث الشريف يصرح بعدم انفكاك وافتراق الكتاب، عن العترة حتى يوم القيامة وهذا يعني وجوب فرد من أهل بيت النبي (صلّى الله عليه وآله) يتصف بتلك الصفات السالفة وأن الأمة متى ما تمسكت به يعني بنهجه وبأوامره ونواهيه, فلا تضل, وأن الأرض لا تخلو من فرد بهذه الصفات من أفراد عترة النبي (صلّى الله عليه وآله) بدليل [حتى يردا عليَّ الحوض] والحديث الشريف يشير بوضوح إلى عصمة ولي الأمر من العترة الطاهرة, لأنّ التمسك به يعني عدم الضلال والاستقامة على الصراط المستقيم، وهذا معنى العصمة.

والأمر الآخر أن التمسك بالقران يوجب عدم الضلال والتمسك بالعترة يوجب عدم الضلال أيضاً؛ وبما أن القرآن معصوم والعترة لا تفترق عنه والمتمسك بهما لا يضل، إذن فالعترة معصومة بالضرورة. والتمسك بالعترة يعني الالتزام بأوامرها ونواهيها وهذا يعني أن العترة عالمة بكل أحكام الشريعة لأنّ الشريعة مجموعة أوامر ونواهي تحقق سعادة الدنيا والآخرة. ولا نقصد بالعترة كل ذرية الرسول (صلّى الله عليه وآله) بل الأئمة القادة من الذرية الطاهرة, ولا بد أن يكون واحداً منهم في كل زمان يقود البشرية نحو الخير إذا تمسّكت به.

3- الشهيد المنتظر:

وهناك آيات كريمة تشير إلى هذه الحقيقة مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ*فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ﴾([59]) فالاية الكريمة تذكر يوماً وصفته بأنه يوم الفتح, فأي فتح هذا؟ هل هو فتح مكة؟ قطعاً لا, لأنّ الكافر بعد فتح مكة ينفعه ايمانه, في حين أن الآية تشير, إلى أن الإيمان حينئذ لا ينفع الكافر, ونسأل السؤال الاتي وهو: هل مرت فترة زمنية منذ البعثة النبوية لحد الآن على الكفار وهم لم ينفعهم الإيمان إذا آمنوا؟ الجواب بالتأكيد بالنفي, لأنّ الإسلام ينفعهم فلا شك أن الإيمان أنفع لهم، إذن اليوم الذي تشير إليه الآية الكريمة لم يتحقق بعد, وهو من الغيوب المستقبلية, ووصفته الآية بأنه يوم الفتح, وأطلقت (الفتح) ولم تقيده, فهو لا بد أن يكون فتحاً شاملاً لكل المعمورة، ولكل الشعوب وظاهراً على كل الأديان.

قال تعالى: ﴿هوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً﴾([60])إذن لهذه الآية صلة بآية يوم الفتح ولا بد أن يتحقق ذلك اليوم لأنه وعد الله تعالى وفي ذلك اليوم يظهر دين الله على كل الأديان, وفي كل الأرض, لأنّ هذا الأمر لم يتحقق بالسابق, والاسلام لم ينتشر إلا في بقعة صغيرة في العالم، وآية الفتح وآية إظهار الدين مطلقتان, فلا بد من تحققهما في المستقبل, وبالضرورة لا بد من وجود قائد تتحقق على يده تلك الاهداف العظيمة السامية, التي تبشر بها الايتان الكريمتان.

وإذا أمعنا انظر في قوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ﴾ نلاحظ أن الاعراض هنا يدل على وصول هؤلاء المعرض عنهم إلى درجة من الانحراف بحيث لم يعد عدم الاعراض عنهم يجدي نفعاً, وأن الرسول (صلّى الله عليه وآله) مأمور بالانتظار إلى ذلك اليوم الذي هم يوم الفتح الذي لا ينتفع فيه الكفار بايمانهم وهذا ما تؤكده الآية الكريمة: ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾([61])ولا شك أن شهيد العصر هو بعض آيات الله إذا تحقق على يديه فتح العالم كلّه بدين الله الذي سيظهر على الدين كله بإذنه تعالى فحينئذٍ لا ينتفع الكفار بإيمانهم، وتلاحظ أن آخر الآية الأولى: ﴿وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ﴾ والآية الثانية: ﴿قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾ والإشارة إلى الانتظار للمنتظر الموعود بيّنة بفضل الله تعالى.

4- عدد الأشهاد:

ثم إن الشريعة الإسلامية حددت بعدد معين الأشهاد، أولياء الأمر بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولم تترك هذا الأمر, فهناك إشارات إجمالية للأشهاد الذين هم ورثة الكتاب وأهل الذكر وأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً, وهناك إشارة إلى عدد معين, وهذه الإشارة تدل على معان عديدة- سنورد بعضها بعد قليل بإذنه تعالى- حيث أخرج البخاري في الجزء الرابع الصفحة 144 في باب الأمراء من قريش وكذا في آخر كتاب الأحكام في الجزء الرابع الصفحة 153, وكذا أخرجه مسلم في أول كتاب الإمارة الجزء الثاني الصفحة 79 كلاهما وغير هما من أصحاب الحديث أخرجوا النص على عدد الأئمة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ففي البخاري، عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: [يكون بعدي إثنا عشر أميراً], ثم قال كلمة لم أسمعها قال: قال أبي: [كلهم من قريش] وفيه أيضاً، عن ابن عيينة قال, قال رسول الله: [لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً] ثم تكلم بكلمة خفيت علىَّ, فسألت أبي, ماذا قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ فقال: قال: [كلهم من قريش].

وأخرج مسلم في صحيحه عنه (صلّى الله عليه وآله) قال: [لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش].

وهذا الحديث الشريف من الأحاديث المتواترة حيث ورد بعدة طرق وفي مختلف الصحاح حيث ورد-إضافة إلى ما أورده البخاري ومسلم- في صحيح أبي داود ومسند أحمد بن حنبل, والجمع بين الصحاح الستة وغيرها من الكتب المعتبرة لدى أهل السنة. ومن جملة ما يدل عليه هذا الحديث الشريف. أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) لم يترك قضية الخلافة بعده بدون تعيين بل عيّن و إلى الثاني عشر من الأئمة وانه كان بهذه القضية في غاية الحرص على تبليغ هذا الأمر حيث أنّه (صلّى الله عليه وآله) لم يكتف بتعيين الخليفة من بعده بل عيّن وحدد إلى الخليفة الثاني عشر.

هذا بالإضافة إلى أن غير هؤلاء الاثني عشر لا يصلح للخلافة, لأنّ العدد محدود ومحصور بهم، فتكون الخلافة منحصرة بهم.

كما لا يخفي أن المعدل المتوسط لاعمار الناس يتراوح بين 60-70 سنة ومجموع مدة هؤلاء الأئمة على أكثر تقدير يكون 400 سنة،وحينئذ لا بد من قيام الساعة, لأنّ النص الشريف يشير إلى أن وجود هؤلاء الاثني عشر يستغرق كل المدة بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى أن تقوم الساعة: إلا أن الساعة لم تقم إلى هذا العصر مع مرور 14 قرناً وهذا يعني بالضرورة أن هناك من هؤلاء الأئمة من لم يكن عمره بالعمر المعتاد ولا بد أن يكون عمره خارجاً، عن المألوف وخارجاً، عن العادة أي خارقاً للنواميس الطبيعية, حتى يستغرق كل هذا الزمن، وسيمتد إلى يوم القيامة, لأنّ الأرض لا تخلو من واحد من هؤلاء الاثنى عشر حتى تقوم الساعة, كما ينص على ذلك الحديث الشريف, وبما أن الحديث الذي أوردناه آنفاً أشار إشارة إجمالية إلى الخلافة في أهل البيت (عليه السلام) وهو حديث الثقلين، إذن لا بد من وجود إمام من أئمة أهل البيت عليهم السلام في عصرنا هذا, وبما أنّه لا أحد ظاهر يدعي الإمامة بنص من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فلا بد أن يكون هذا الإمام غائباً.

5- مهدي آل محمّد (صلوات الله عليهم):

ومما ينبغي الإشارة إليه: أن أطروحة الأئمة الاثنى عشر لا تنطبق إلا على مذهب الأمامية الاثني عشرية, ولا يوجد هناك في المذاهب الإسلامية من يدعى أن النبي (صلّى الله عليه وآله) أوصى من بعده إلى اثني عشر إماماً غير الإمامية الاثني عشرية, وبما أن هؤلاء يقولون بتسلسل الأئمة من الإمام علي (عليه السلام) حتى الإمام محمّد بن الحسن العسكري فثبت بالضرورة أنّه هو إمام العصر وشهيد العصر, وانه هو المنتظر الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

وبما أن أحاديث المهدي (عليه السلام) متواترة لدى الفريقين وانه من ولد فاطمة عليها السلام. إذن فهو المتعين دون غيره وبه تثبت صحة عقيدة الاثني عشر إماماً والحمد لله رب العالمين.

وأحاديث المهدي (عليه السلام) وانه من ولد فاطمة عليها السلام متواترة أخرجها أصحاب الحديث بطرق عديدة من الفريقين. فقد أخرج مسلم في صحيحه وكذا أحمد بن حنبل في مسنده، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال: [يكون في آخر الزمان خليفة يحثو المال حثواً] وبما أن عدد الخلفاء محدود وهو آخرهم فبالضرورة يكون المهدي خاتمهم, وأخرج أحمد بن حنبل في مسنده، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) [لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتّی يبعث الله رجلاً من أهل بيتي، يواطىء اسمه اسمي... يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً] وفي هذا الحديث إشارة صريحة إلى أن خاتم الأئمة من أهل البيت عليهم السلام وإشارة إلى اسمه الشريف وهذا من أوضح الأدلة على أن الرسول الله (صلّى الله عليه وآله) قد حدد عدد الأئمة من بعده وأنهم من ذريته وانه حددهم بأسمائهم, فلمّا حدّد عدداً وذكر اسم آخرهم فمن باب اولى أن يذكر من قبله وخاصّة من يأتي بعده مباشرة.

القسم الرابع

1- النص أم الانتخاب؟

تبين من خلال البحث في الأقسام السابقة أن الشهيد على الأمة, الذي يشهد على أعمالهم ويشهد لها أمام الله تعالى, حقيقة قرآنيّة ثابتة, وانه لا بد في كل عصر، تبيّنا بعض صفاته من استقراء بعض الآيات الكريمة ذات الصلة بالبحث, إلا أننا لم نتطرق للطريقة التي تتم بها معرفة «الاشهاد» باعتبارهم أشخاص فاعلين وأساسيين في عملية استمرار الرسالة وديمومتها, والكشف، عن أسرارها, وباعتبارهم المكملين للدور الرسالي لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبدونهم تضيع كل الجهود التي بذلت لتبليغ هذه الرسالة، وتركيز دعائمها.

2- الرسول وآية التبليغ:

﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾([62])

فالرسالة بأجمعها متوقفة على ذلك التبليغ المقصود في هذه الآية الكريمة, والرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) إن بلّغ المقصود بهذه الآية, فيكون قد بلّغ كل الرسالة, وإن لم يفعل, فكأن كل الرسالة لم يبلغها، وهذه الآية الكريمة نزلت في حجّة الوداع في الثامن عشر من ذي الحجة, وبين نزولها وبين انتقال الرسول (صلّى الله عليه وآله) إلى الرفيق الأعلى قرابة سبعين يوماً.

وفي هذه السبعين يوماً لم يبلّغنا الرسول (صلّى الله عليه وآله) صلاة جديدة ولا صياماً جديداً ولا زكاة ولا قضية أساسية من هذا القبيل ولا شك أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) بلّغ ما أمره الله تعالى بتبليغه في تلك الآية، إذن ما هو ذلك الشيء الخطير والعظيم الذي بلّغه الرسول (صلّى الله عليه وآله) في تلك الآية؟ ما هو ذلك الأمر الذي يتوقف عليه تبليغ كل الرسالة, لا شك أنّه أمر في غاية الاهمية, ويجب على كل مسلم أن يعرف الأمر الذي يشكل ركناً أساسياً في تلك الرسالة.

وإذا أردنا أن نعرف ذلك الأمر, فلا بّد أن ندرس الظروف الموضوعيّة التي اكتنفت نزول هذه الآية المباركة (آية التبليغ) فالرسول (صلّى الله عليه وآله) قدّم مقدمة في خطبته في حجة الوداع نعى فيها نفسه, والجدير بالذكر أنّ نفس عملية إشعار الأمة بقرب رحيل الرسول (صلّى الله عليه وآله) وتحققه فعلاً بعد سبعين يوماً, معجزة من معجزات الرسول (صلّى الله عليه وآله) وأمر غيبي قد بلّغه الرسول أمام آلاف المسلمين,فلماذا بلّغ الرسول (صلّى الله عليه وآله) ؟

للجواب على هذا السؤال نرجع إلى كتب الحديث([63]) وكتب التفسير ([64])وأسباب النزول([65]), فنجد أن جميع هذه الكتب عند ذكرها لهذه الواقعة تذكر أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأن الرسول (صلّى الله عليه وآله) بلّغ الأمة في مضمون قوله على مختلف الروايات الصحيحة المتواترة لدى الأمة، من جملة ما قال: [ألست اولى بكم من أنفسكم قالوا: بلى يا رسول الله: قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه, اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله] وهذا يسمى بحديث الغدير لأنّ الواقعة حدثت عند غدير يسمى «خماً».

ولا نريد أن ندخل في تفاصيل الموضوع فهناك كتب كثيرة الفت في هذه الشأن منها وأهمها «الغدير» للعلامة الاميني, إلا أن الذي أريد أن أخلص إليه هو أن أهم شيء بلّغه الرسول (صلّى الله عليه وآله) هو في شأن علي (عليه السلام) وانه مولى المؤمنين بعده, وهو أولى بهم من أنفسهم بعده, وقد صرح بتواتر حديث الغدير كثير من الأعلام وذلك لاشتهار الحديث بسبب كثرة من حضر هذه الواقعة حيث يتراوح عددهم بين تسعين ألفاً ومائة وعشرين ألفاً.

وبعد أن بلّغ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما أمره به الله تعالى نزل قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾([66]) وهذه الآية نزلت بعد أن بلّغ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أن الخليفة من بعده هو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كما صرّح بسبب نزول هذه الآية في هذا الشأن كثيرون, منهم جلال الدين السيوطي([67]), ابن كثير الشافعي([68]), وابن عساكر الشافعي([69]), والالوسي([70]), وغيرهم كثير.

فإكمال الدين تم بهذا التبليغ وهذه الآية تشير إلى أن الدين لا يكمل إلا بالإمامة, والرسالة لم تبلّغ إلا بعد تبليغ الرسول (صلّى الله عليه وآله) من الإمام من بعده وأن النعمة لا تتم إلا بهذا الأمر, وأن الله تعالى لا يرتضي من عباده هذا الدين بدون أمر الإمامة, فهي ركن أساسي في هذا الدين.

وحين النظر في الوقت الذي نزلت به هذه الآيات الكريمة, وأسباب نزولها, نجد أن العناية الإلهية أولت هذا الأمر، عن طريق الوحي الإلهي الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله) اهتماماً بالغاً, وذلك لتوقف أمر الرسالة بأجمعها عليه.

3- الانتخاب والدليل العقلي:

والآن نريد أن نلقي نظرة على هذا الأمر من الناحية العقلية ثم نتناولها باختصار من الناحية القرآنية، بالاستعانة في توضيح الأمر بما ورد بالسنة النبوية المطهرة.

فنقول:

الإسلام كامل مطلقاً, لأنه دين الله تعالى، والله تعالى له الكمال المطلق, والصادر، عن الكامل كامل، إذن فكل أحكام الإسلام كاملة مطلقة, وكل ما هو كامل تصح نسبته للإسلام، وما خالف ذلك لا يصح أن ننسبه للإسلام، وشهادة القرآن الكريم بكمال الإسلام بيّنة ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾([71])والسؤال الذي نطرحه في هذا المجال: من أكمل حتى ننسبه للإسلام الكامل؟ هل أن الله تعالى هو الذي يتولى تعيين ونصب الإمام على الأمة, أم يوكل هذا الأمر للأمة ويحدث الاختلاف في مرشحيها للإمامة؟ حيث تختار كل قبيلة من ترغبة؟ فهذا لديه فلان هو الارجح والانسب للإمامة, وذلك لديه فلان وليس فلاناً, وهكذا تتفرق الأمة وتتمزق والله تبارك وتعالى يأمرنا بالتوحّد وينهانا، عن التفرق ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾([72]) فأي الأمرين أكمل حتى ننسبه للإسلام الكامل؟

لا شك أن نصب الإمام من قبل الله تعالى, يخلص الأمة من التمزق والانحراف، وهذا أمر عقلي, يستقل العقل في الحكم بذلك, ولما كان الإمام لا بدّ من وجوده, حيث اتفق الناس من مسلمين وغيرهم إلى أن أمور الناس متى كان لهم رئيس يحكمهم فيردع المعتدي, ويحملهم على تطبيق الأحكام التي آمنوا بها كان ذلك أصلح وأبعد من الفساد, ومتى ما خلت الناس من قائد وإمام لزم الفساد, إذن فنصب الإمام واجب عقلي, وانطلاقاً من هذا الوجوب نستنبط الوجوب الثاني وهو أن نصب الإمام من قبل الله تعالى أنفع وأكمل من أن تنصبه الأمة فيحدث الاختلاف.

لأنّ الإمامة في الإسلام رئاسة عامة في امور الدين والدنيا, أي أن الذي يتولى هذا المنصب يقوم مقام النبي (صلّى الله عليه وآله) ولما كانت الإمامة تقرب العبد إلى الطاعة وتبعده عن المعصية فهي لطف على حد تعبير المتكلمين([73]), وكل لطف فالباري تعالى أكرم من أن لا يفعله, فوجب وجود هذا اللطف بعدل الباري تعالى وبرحمته, وانه من قبله تعالى،لا من قبل الناس, لأنّ فرضه من قبل الناس يوجب الاختلاف والتعدد بالائمة والتمزق بالامة.

والسؤال الثاني الذي نطرحه: أي أمر أكمل حتى ننسبه للإسلام الكامل والمبرّا من كل نقص؟ هل أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) هو الذي يتولى تنصيب الإمام بنفسه، وبأمر الله تعالى واختياره للإمام، وحينئذ تجتمع عليه الأمة ولا تتفرق؟ أم أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) يترك هذا الأمر للأمة ويحدث الاختلاف؟

والجواب: أن أمر تنصيب الإمام من قبل الرسول (صلّى الله عليه وآله) أكمل من جعل ذلك للأمة؟ وهذا ما يصح أن ننسبه للإسلام الكامل, وما ينسجم مع حرص الرسول (صلّى الله عليه وآله) على استمرارية وديمومة هذه الرسالة وتطبيقها على أكمل وجه ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾([74]) الذي لم يترك خيراً إلا علمه الأمة ولم يترك شراً إلا نبه الأمة عليه وأمر باجتنابه, بل أنّه حرص على تعليمنا حتى المستحبات، وحتى أدق الأمور, وعلّمنا حتى آداب دخولنا المسجد وتقديمنا القدم اليمنى على اليسرى, وكيفية دخولنا الخلوة وتقديم القدم اليسرى على اليمنى, هذا الرسول الرءوف بالأمة، الرحيم بها, والذي يعلمنا مثل هذه الأمور, وكيف يجوز عقلاً أن نصفه بأنه يترك الأمة بدون إمام تجتمع عليه الأمة وتتوحد؟

كيف يترك الأمة تختار هي لنفسها إماماً؟ وفي الأمة المنافقون ومن يتربص بها الدوائر, وفيها المؤلفة قلوبهم, وفيها وفيها..., وحينئذٍ لا شك إن المنافقين سوف ينتخبون إماماً من جنسهم يخدم قضيتهم, والمؤلفة قلوبهم يحذون حذوهم، وهكذا كل قبيلة وطائفة، وبذلك تتمزق الأمة وتتفرق بعد الجهاد والجهود المضينية التي بذلها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لا ستقامتها وهدايتها, لا شك أن ذلك لا يقبله العقل إطلاقاً ولايصح أن نصف به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولا ينسجم مع أخلاقه ورأفته ورحمته بالأمة, إذن لابد وأن يكون الرسول (صلّى الله عليه وآله) قد قام بهذا الأمر المهم والعظيم، وبلّغ الأمة بمن يجب عليها أن تتبعه, و إلا لزم أن يخلّ بواجب عظيم لا نرتضيه لأبسط الناس منصباً وعقلاً ورأفة, فكيف نرتضيه لسيد الخلق أكملهم عقلاً وأورجحهم رأياً, وأحرصهم على الإسلام والمسلمين، وأرأفهم بالمؤمنين, وأرحمهم لهم, فمن هذه الناحية لا بد أن نبرئ ساحة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وننزهه من أن يترك الأمة بدون إمام.

فالعقل يحكم بأن الرسول (صلّى الله عليه وآله) لا بد أن بلّغ الأمة بالإمام المفترض الطاعة والمختار من قبل الله تعالى.

أمّا من ناحية الأمة ذاتها فأي عملية أكمل في عقلها حتى تنسبها إلى الإسلام الكامل؟ هل أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) الذي لا ينطق، عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى، والذي نحن مأمورون باتباع كل ما آتانا به والانتهاء، عن كل ما نهانا عنه ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾([75])هل أن الأمة تطمئن نفوسها لمن يعيّنه الرسول الذي هو بهذه الصفات والآداب الإلهية, إن تطمئن نفوسها لمن تعيّنه الأمة بل بعض الأمة؟

فمن البديهي أن المؤمن تطمئن نفسه لمن يختاره الله ورسوله, لا لمن تختاره الأمة التي قد يقع اختبارها على منحرف، عن الإسلام أو كافر أو منافق.

في حين أن اختبار الله تعالى لذلك المنصب لا يكون إلا لصالح الأمة بل في قمة الصلاح.

ولما كان الغرض من نصب الإمام هو رفع الاختلاف بين الأمة, بجمعها على تطبيق أحكام الله تعالى، ولو تركت الأمة واختيارها وآرائها, لتفرقت وتمزقت وذلك لانها حتماً سوف ترجع إلى الكتاب والسنة, إلا أن الكتاب فيه محكم ومتشابه وناسخ ومنسوخ ومجمل ومفصّل وعام وخاص, والسنة فيها ذلك أيضاً، فحينئذٍ ينتقل الخلاف في تأويل الآيات الكريمة لأنّ كثيراً منها حمالة أوجه, وينتقل الخلاف في السنة في صحة الحديث وعدمه, ووضعه وعدمه... الخ.

إذن فرجوع الأمة إلى الكتاب والسنة لا يرفع الخلاف بينها, لأنّ الخلاف-كما ترى- استمرار بالامة مع رجوعها للكتاب والسنة, فلا بد من مفزع تفزع إليه الأمة غير الكتاب والسنة وذلك المفزع هو الإمام, فإن كان ذلك الإمام معين من قبل الأمة, عاد الكلام الذي ذكرناه, حيث يلزم التعدد في الأئمة, لأنّ كل جماعة تفسر وتؤول بما تراه من الكتاب والسنة الشريفة فلا يرتفع الخلاف ويبقى على حاله, فينتفي الغرض من نصب الإمام وهو رفع الخلاف.

إذن لا بد أن يكون الإمام معين من قبل الله تعالى وحينذاك يرتفع الخلاف وتطمئن له نفوس الأمة أجمع, لأنه عارف جملة وتفصيلاً بأحكام الكتاب والسنة, لأنه من قبل الله تعالى, ولعصمته-كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

والأمر الآخر أن العقل دلّ على أن الله تعالى لا يفعل إلا الأصلح والارحم بعباده, والمتدبر لمخلوقات الله تعالى يعرف هذه الحقيقة, ويستدل عليها عقلاً, كما أن الكتاب الكريم دلّ عليها بقوله تعالى: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾([76]) وقوله تعالى: ﴿إن علينا للهدى﴾([77]) وبقوله تعالى: ﴿وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ﴾([78]) ونصب الإمام من قبل الله تعالى أرحم وأصلح للأمة ورافع للخلاف بينها, والله تعالى رحيم بعباده فثبت أنّه تعالى هو الذي يختار الإمام لا الأمة.

و الإسلام تملأ أحكامه الحياة, لأنه كامل شامل لكل مجالات الحياة, ولأنه خاتمة الرسالات، فلا بد أن يكون مشتملاً على جميع الأحكام بجزئياتها وكلياتها, ومحتوياً على كل تطور يحصل في المستقبل.

أما دليل العقل, فلان الإسلام كامل وهو دين الله تعالى الصادر من الكامل كامل.

وحين مقارنة الإسلام مع غيره من الأنظمة الترابية, تتضح جدارة الإسلام لقيادة الحياة, وبسطه العدالة المطلقة حين تطبيقه.

أما الدليل النقلي فقوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾([79])وقوله تعالى ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾([80])وقوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾([81])ولذم الله تعالى للأنظمة الوضعية قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾([82])فحكم الله تعالى هو الأحسن والأكمل وكل ما عداه باطل مذموم جاهلي.

4- شمولية الإسلام تستلزم النص:

فالإسلام شامل لكل واقعة في الحياة، ما من واقعة إلا ولله فيها حكم، حيث أن الأحكام الخمسة- واجب, مستحب, مباح, مكروه, حرام- تنطبق على كل واقعة في الحياة, وهذا التفصيل الواسع لأحكام الإسلام التي تملأ الحياة، لا تحيط به الأمة، كل فرد فيها، وحتى بعض أحكام المجتهدين فهي ظنية وليست يقينية، وأحكام المجتهدين، لا ترفع الاختلاف بين الأمة بل قد تزيدها تمزقاً واختلافاً، إذن فلا بد من وجود شخص مطلع على أحكام الإسلام بجزئياتها وكلياتها, ولا يتسنى ذلك للأفراد ولا للأمة, فتعين أن يكون ذلك باختيار شخص من الأمة, يعلّمه الله تعالى كل ما تحتاجه الأمة ليكون إماماً لها وشاهداً عليها, ومرجعاً للأمة وعلمائها.

وشمولية الإسلام أيضاً تستدعي أن ينصب إمام من قبل الله تعالى.

إن الإسلام لا يفصل بين الدين والدولة, وهذا يعني أن أمر الإمامة يشمل الدين والدولة، إذن فأمر الإمامة من أمور الدين وليس للأمة اختيار وحكم في أمر الدين، لقوله تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾([83]) بل إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو سيد الخلق ليس له من الأمر شيء, بل الأمر كلّه لله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ﴾([84]) وقال تعالى: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ﴾([85])ثم إنّ الإمام لابد من كونه معصوماً - كما سيأتي - والعصمة أمر خفي لا يعلمه إلا الله تعالى، فلزم تعيينه من قبل الله تعالى.

وبيان ذلك: أن الإمام وجب تنصيبه لأجل تطبيق أحكام الله تعالى وردع المعتدي والانتصاف للمظلوم ورفع الخلاف بين الأمة، وهذه الأمور لا تتحقق إلا بإطاعة الإمام, إذن فطاعة الرسول (صلّى الله عليه وآله) تماماً بقوله تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾([86]).

إذن فالإمام تجب طاعته على الأمة طاعة مطلقة بدليل العقل والنقل, وهذه الطاعة المطلقة لولي الأمر تجب لولي أمر معلوم ومشخص لا مجهول, ولا بد أن يكون هذا الولي لا يأمر إلا بطاعة الله تعالى, ولاينهى إلا، عن معصية الله تعالى, ومثل هذا الإنسان لا يمكن التيقن من اتصافه بهذا الأمر, إذا كان اختياره من قبل الأمة, بل يبقى الأمر ظنياً ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً﴾([87]) فتعين نصب الإمام من قبل الله تعالى, ووجب تشخيصه من قبل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وتبليغ الأمة بذلك، حتى يتسنى للأمة التعرف إلى الشخص الذي أوجب الله تعالى عليها طاعته طاعة مطلقة, وبالتمسك بطاعته ومتابعته (ولايته) تتوحد وتتفق وتبتعد، عن الاختلاف والتفرّق الذي نهى الله تعالى عنه.

ثم إن اختيار الأمة للإمام إما أن يكون بإجماع الأمة, ولم يحصل إجماع, أو بالقلّة ولا دليل على رجحان القلّة, أو بالكثرة ولا دليل بعصمة الكثرة من الخطأ بل إن الكثرة على مر الدهور والعصور ﴿وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾([88]) ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾([89]) ﴿فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾([90]) ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِين﴾([91]) والواقع يصدق الآيات الكريمة، قد شهد كبار الصحابة ببطلان الانتخاب, ووقوع بيعة أبي بكر بدون تدبّر ورويّة (فلتة)، فإذا كان الصحابة بل الكثير من أعاظم الصحابة وهم أقرب الناس عهداً برسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأكثر هم معاشرة ومخالطة له وكانت البيعة فلتة منهم، فكيف بمن تأخر عنهم بسنين بل بقرون, فإذا ثبت بطلان الاختيار من قبل الأمة, ثبت وجوب تعيين الإمام من قبل الله تعالى.

فقد اخرج البخاري في كتاب الحدود, باب رجم الحبلی من الزنا إذا أحصنت في الجزء الثامن الصفحة 26 أفست دار الفكر على طبعة استانبول حيث نقل البخاري هناك قول عمر: «إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرّها» بل إن أبا بكر نفسه يصرح بهذه الحقيقة في خطبته بقوله: «ان بيعتي كانت فلتة، وقى الله شرّها، وخشيت الفتنة»([92])والفلتة كما يشرحها الجوهري في الصحاح: «يقال: كان ذلك الأمر فلتة، أي فجأة, إذا لم يكن عن تردد ولا تدبر»([93]) ويشرحها ابن منظور في اللسان بقوله: «والفلتة: الأمر يقع من غير إحكام وفي حديث عمر: أن بيعة أبي بكر كانت فلتة، وقى الله شرها».

5- لا دليل على الانتخاب:

ثم إن اختيار الإمام من قبل الأمة, لا دليل عليه من العقل ولا من النقل كتاباً وسنّة, فكيف ساغ لبعضهم الركون إليه والعمل به, ولو فرضنا أن هناك دليلاً على وجوب العلم به،فكيف جاز لبعضهم مخالفته فعمد إلى النص.

والخلاصة أن أمر الاختيار من قبل الأمة لا دليل عليه, ولا يصمد جوازه أمام الأدلة العقلية والنقلية الدالة بشكل قطعي على وجوب تعيين الإمام من قبل الله تعالى.

6- سنة الرسول (صلّى الله عليه وآله) وتعيين الإمام:

والذي يؤكد هذا الحكم العقلي ويؤيده, سنة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أقواله وسيرته, حيث أنّه حدد عدد الخلفاء من بعده, باثني عشر خليفة حيث أجمعت الأمة الإسلامية على ذلك، كما أجمع أصحاب الصحاح والسنن على صحة الحديث التالي وتواتره.

فقد أخرجه البخاري في صحيحه، في أول كتاب الأحكام، في باب الأمراء من قريش, الجزء الرابع, الصفحة 144, وكذا أورده البخاري في آخر كتاب الأحكام الصفحة 153.

وأخرجه مسلم في صحيحه، في أول كتاب الإمارة، الجزء الثاني الصفحة 79، عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: [لا يزال الدين قائماً، حتى تقوم الساعة, ويكون عليهم اثنا عشر خليفة،كلهم من قريش].

وعن جابر بن سمرة قال:

سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: [يكون بعدي اثنا عشر أميراً، ثم قال كلمة لم أسمعها، قال: قال أبي: كلهم من قريش].

فهذا الحديث الشريف يدلنا على أمور عديدة منها: أن أمر الخلافة كان من الأمور التي أولاها النبي (صلّى الله عليه وآله) العناية التامة، وكانت تشغل باله, وانه لم يتركها للأمة بل إنّه حدّد الخلفاء من بعده وبين عددهم، وليس من المعقول إطلاقاً أن يترك بيان أسمائهم, لاسيّما من يخلفه مباشرة وبدون فصل, فإنّه لا شك معروف للأمة، وللصحابة جميعاً، ولا يفصل بينه وبينهم فاصل زمني كبير كبقية الخلفاء الأحد عشر.

و الأمر الآخر أن تبيان العدد وتحديده بالاثني عشر لا شك أنّه أمر غيبي لأنه يخص مستقبل الأمة. والغيب لله تعالى ﴿فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً﴾([94]) ولاشك أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خير من ارتضاه الله تعالى, لذا أطلعه علی هذا الغيب خلفاء من بعده.

إلا أن هناك غيوباً علّمها الله تعالى نبيه (صلّى الله عليه وآله) واختصه بها ولم يطلع النبي (صلّى الله عليه وآله) الأمة عليها، لأنه ليس من شؤونها، بيد أن هذا الغيب، وهو أن الأئمة من بعده اثنا عشر، قد أطلعهم النبي (صلّى الله عليه وآله) عليه وأبلغهم به, ونقله الصحابة ووصلنا ذلك النقل, وهذا يعني أن هذا الغيب مما يخص الأمة، وأن الأمة لا بد أن تعلمه، لتعلم مَن الإمام ومَن لا يصلح للإمامة؟

و الأمر الآخر: أن أمر الإمامة محدود وليس مطلقاً, أقصد أن أمر الإمامة محدود بهذا العدد بأشخاص معيّنين، يعني أن غير هؤلاء لا يصلح للإمامة, وأن أكثر من هذا العدد ليس بإمام، وانه محصور بهذا العدد إلی أن تقوم الساعة.

و الأمر الآخر أيضاً: أن النبي (صلّى الله عليه وآله) حدد البطن الذي ينحدر منه الأئمة, فلا يصلح مَن غيرهم، إلا أن الواقع الذي جری في أمر الإمامة اختلف كثيراً عن تطبيقات الحديث, والامر الآخر الذي نستفيده من الحديث الشريف أن في الأئمة مَن عمره ليس متعارفاً لأنّ امتدادهم حتّی تقوم الساعة والعدد اثنا عشر غير كافٍ لسدّ هذه المدة بالاعمار المتعارفة، إذن ففي العمر أيضاً أمرّ خارق للعادة. وأخيراً فإن الحديث يعلمنا أن الأرض لا تخلو منهم إلى أن تقوم الساعة.

إن سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) نستنبط منها أنّه لا بد وقد نصب خليفة من بعده, لأنّه لم يترك مدينة أو بلداً من البلدان والمدن الإسلامية إلا ونصب من ينوب عنه فيها, فكيف يعقل أن يترك أمر الأمة بأجمعها بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى بدون خليفة، و الأمر المهم أن النبي (صلّى الله عليه وآله) حينما كان يولّي من يقوم مقامه في تلك البلدان لم يوكل أمر توليته إلى أهل تلك البلدان, بل كان يعيّنه وينصّبه بنفسه الطاهرة وبذكر اسمه صراحة, فكيف يترك أمر الأمة من بعده, بدون أن يشخص من يقوم من بعده, إذن لا بد أن يكون قد فعل ذلك وبكل وضوح, كما تدلنا الأحاديث الشريفة التي سنوردها فيما يلي إن شاء الله تعالى.

القسم الخامس

1- العصمة:

تبين مما تقدم أن الشاهد على الأمة لا بد أن يكون منصوصاً عليه من قبل الله تعالى أو من قبل الشاهد الذي قبله, والنص من قبل الله تعالى يشير إلى معناه العام آيات كثيرة، منها قوله تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء﴾([95]), فالاتخاذ- الاختيار- من قبله تعالى لا من قبل الأمة ومن تفيد معنى بعض، وكذا قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾([96]) وقوله تعالى: ﴿هوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾([97]) والصفة الثانية التي نتحدث عنها في هذا القسم هي صفة العصمة التي يتصف بها الشاهد باعتباره إماما للأمة وهادياً لها.

وهذه الصفة تنطلق ضرورتها من ماهية حاجة الأمة للإمام الهادي, قال الله تعالى مخاطباً رسوله (صلّى الله عليه وآله) ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَاد﴾([98]), فالاية الكريمة تقرر وجود هادٍ لكل قوم, والهادي يهدي للحق، والحق الذي يذكره القرآن صادق مطلقاً لا باطل فيه, وهذا معنى العصمة - كما سيتضح بعد قليل- والذي يهدي إلى الحق أحق بالامامة لأنه أحق بالاتباع ﴿أفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى﴾([99]).

إذن فالهادي المقرر بالآية لكل قوم, هو الإمام لأنه الأحق بالاتباع من غيره وطبيعة الهداية إلى الحق تستلزم أن يكون الإمام معصوماً, لأنّ الذي يهدي إلى الحق لا بد أن يكون الحق واضحاً لديه, وهو عالم به, ومتصف بالهداية وبالحق وإلا شمله قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾([100]) وقوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾([101]), والهداية إلى الحق في الآية الكريمة مطلقة غير مقيدة بزمان ولا بحق جزئي, وهذا معنى العصمة باعتبارها الدرجة العليا من الالتزام بالحق. ومن المعلوم أن الحكومات المعاصرة لا تعيّن موظفاً بسيطاً في دائرة حكومية إلا أن تشترط عليه أن يحضر وثيقة تثبت نظافة ماضيه من السوابق والجرائم فما بالك بامام الأمة أو رسولها فلا بد أن يكون ماضيه خالياً تماماً من أي وصمة وكذا حاضره ومستقبله.

2- مواقف الناس من الرسالة:

ولمواكبة البحث ابتغاءً للفهم والتوضيح نعرض لقضية العصمة من بدايتها, فنقول: إن المسلم, أي مسلم كان في أي موقع من المسؤولية فإنّه مكلّف أن لا يعصي الله تعالى حين يأمره, ولا يفعل ما ينهاه عنه والذي يلتزم بأوامر الله, فهذا يعني أنّه لا يعصي، والذي لا يعصي فهو معصوم فهل هذه الصفة ممتنعة على الإنسان العادي؟

الجواب: لا، والدليل على ذلك من القرآن الكريم: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾([102])ولا شك أن بوسع كل إنسان أن لا يعصي, والله تعالى كلّف العبد, أن لا يعصيه, أي أن يكون بعيداً عن المعاصي, أي أن يكون معصوماً, الله تعالى أرسل الرسل وأنزل عليهم الشريعة (الرسالة) فاتخذ الناس مواقف مختلفة من الرسالة فمنهم من لم يؤمن بها, ومنهم من آمن بها, وهاك أقسامهم:

1- أناس لم يؤمنوا بالرسالة، واحتمال الإيمان منهم غير موجود بل مستبعد جداً وإن كان ممكن عقلاً, وهؤلاء يعبر عنهم القرآن الكريم بتعابير مختلفة, فمرة ينبئ بأنهم سيدخلون النار كما في قصّة أبي لهب ﴿سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ﴾([103]), ومرة بالختم كقوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾([104]).

وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ*لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ﴾([105]), وقوله تعالى: ﴿وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾([106]), فهذه الآيات تنبئ، عن ضلالة أناس، واستمراريتها أي أنهم توغّلوا بالكفر إلى درجة لا يرتجى منهم الإيمان.

2- أناس لم يؤمنوا بالرسالة، إلا أن الإيمان متوقع منهم فضلاً عن امكانه عقلاً, وهؤلاء أقرب للرسالة من القسم الأول.

3- أناس آمنوا بالرسالة، إلا أنهم لم يلتزموا بتطبيقها، ولم يتوغل الإيمان بقلوبهم.

4- أناس آمنوا بالرسالة والتزموا بتطبيقها وقد تصدر منهم المعاصي بدرجات متفاوتة يقتربون فيها إلى الدرجات العليا من التقوى ويبتعدون.

5- أناس آمنوا بالرسالة والتزموا بتطبيقها تماماً, ولا يوجد أي احتمال لصدور المعصية منهم وهؤلاء هم المعصومون. وهم درجات أيضاً يبدأون بالتفاضل من هذه المرحلة بأمور أخرى غير قضية ابتعادهم عن المعاصي ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾([107]) ﴿ومنهم سابق للخيرات بأذن الله﴾([108]).

فالمسلون غير المعصومين ينحصرون بين الخط الثالث والخط الخامس, ويشكلون خطوطاً بيانية في أعمالهم والتزامهم, يقتربون ويبتعدون فيها، عن خط العصمة, فالذين يمثلون القسم الأول, الذين بلغوا القمة بالكفر والنفاق ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ﴾([109]), فهؤلاء علم الله تعالى بعلمه الازلي أنهم لا يؤمنون، وإضافة إلى عدم إيمانهم فانهم يدعون الناس إلى الكفر والضلال, ويقودونهم بالنتيجة إلى نارجهنم، فهم أئمة الكفر, فهؤلاء جعلهم الله تعالى أئمة للكفر, لأنهم استحقّوا هذه الإمامة فهم القمّة بالشر, والخير لا يرتجى منهم, قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ﴾([110]).

وقال تعالى: ﴿فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾([111]). وأئمة الكفر على مرّ التاريخ يتفاوتون في درجات الضلال، فمنهم في أسفل درجات الضلال, أمثال فرعون وهامان, وبعض المنافقين الذين قال عنهم الباري تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ* وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾([112]).

ثم يقول عنهم الباري تعالى: ﴿سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾([113]) فهؤلاء من الذين شهد الله عليهم بأنهم كاذبون وأنهم طبع على قلوبهم، وأنهم لن يغفر الله لهم, و «لن» تفيد النفي والتأكيد, مثل قوله تعالى بنفيه الإتيان بمثل القرآن أو بسورة من مثله ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ ﴾([114]) وأمثال إبليس لعنة الله تعالى وغيرهم من أئمة الكفر قال تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾([115]).

أما الكفار من القسم الثاني- الخط الثاني- فإنهم ينحصرون بين خط الختم - الختم على القلوب- وخط دون الإسلام، ويقتربون ويبتعدون بدرجات متفاوتة عن خط الختم تبعاً لما يصدر منهم من الأعمال السيئة والحسنة, وإمكانية هداية هؤلاء موجودة من ناحية الإمكان العقلي أو الفعلي.

أما القسم الثالث فهم أناس أعلنوا الاستجابة للرسالة, ولم يتمكن الإيمان بالرسالة من قلوبهم، ولم يلتزموا بتطبيق تعاليمها،وليس بينهم وبين الكفر إلا إنكار الإيمان بالرسالة, ولهم القابلية والقدرة للوصول إلى الخط الرابع- خط العدالة- أي الملكة المانعة غالباً من الوقوع بالمعاصي وإذا صدرت نادراً، حصل الندم والتوبة عقبها.

والقسم الرابع: الذين نصفهم بالعدول لديهم الملكة المانعة- العاصمة- غالباً كل المعاصي الصغيرة والكبيرة, وبالإمكان هؤلاء أن يطوروا من ملكتهم هذه حتى يصلوا بها إلى درجة العصمة بالسلوك, وهم يتفاوتون في شدّة هذه الملكة وضعفها قرباً وبعداً عن خط العصمة الخط الذي يضم القسم الخامس والذي هو موضوع حديثنا.

3- العصمة نسبيّة ومطلقة:

والناس في قسم من هذه الأقسام لديهم موانع- مهما كان نوع هذه الموانع- تمنعهم من ممارسة بعض الأفعال, وهذه الموانع العاصمة لديهم من ارتكاب بعض الأفعال ناشئة من قناعة موجودة لدى الإنسان, تجعل احتمال ارتكاب الفعل الفلاني ضعيف جداً أو يكاد يكون معدوماً, أو معدوماً بالفعل.

ويضربون مثالاً على العصمة النسبية التي تعم كثيراً من الناس «من غير فرق بين أولياء الله وغيرهم، بأن الإنسان الشريف الذي لا يقلّ وجوده في أوساطنا, وإن كان يقترف بعض المعاصي, لكنه يجتنب عن بعضها اجتناباً تاماً بحيث لا تعرض لتفكيره, فضلاً عن الإتيان بها.

فمثلاً الإنسان الشريف لا يمشي عارياً في الشوارع والطرقات, مهما بلغ تحريض الآخرين واغراؤ هم له على ذلك الفعل, كما أن كثيراً من الناس لا يسرقون ولا ينهبون أي شيء رخيصاً كان أو ثميناً, كما لا يقدمون على قتل الأبرياء أو قتل أنفسهم وإن عرضت عليهم مكافآت مادية كبيرة, ولا توجد في نفوسهم الحوافز والدواعي للقيام بهذه الأعمال المنكرة, أو أن تلك الحوافز والدواعي تردّها التقوى التي تحلّى بها هؤلاء الناس، لذلك صاروا بمعزل ومنأى عن تلك الأفعال القبيحة, حتى أنهم لا يفكرون بها ولا يحدثون بها أنفسهم أبداً.

والعصمة النسبية التي تعرّفنا عليها تقرّب حقيقة العصمة المطلقة في أذهاننا, فلو بلغت تلك الحالة النفسية- الرادعة- في الإنسان حداً كبيراً ومرحلة شديدة بحيث تمنعه عن اقتراف جميع القبائح, يصبح معصوماً مطلقاً كما أن الإنسان في القسم الأول صار معصوماً نسبياً»([116])

فالعصمة النسبية تشمل جميع الناس بدرجات متفاوتة باستثناء المعصوم بالعصمة المطلقة, وبالإمكان عد المؤمن العادل معصوماً - بنسبة معينة- تزداد وتنقص, تبعاً لشدة عدالته وضعفها.

ولأجل أن نفهم معنى العصمة بمختلف أنواعها, لا بد من التعريف بها, فالعصمة في علم الكلام: هي القوّة تمنع الإنسان من اقتراف المعصية ومن الوقوع في الخطأ([117]).

وعرّفها بعضهم بأنها: «ملكة تقتضى عدم مخالفة التكاليف اللزومّية عمداً وخطأ مع القدرة على الخلاف»([118]).

وعرّفها بعضهم بقوله: «العصمة عبارة عن لطف يفعله الله في المكلّف بحيث لا يكون مع ذلك داع إلى ترك الطاعة, ولا إلى فعل المعصية مع قدرته على ذلك, ويحصل انتظام ذلك اللطف بأن يحصل له ملكة مانعة من الفجور, والإقدام على المعاصي مضافاً إلى العلم بما في الطاعة من الثواب, والعصمة من العقاب, مع خوف المؤاخذة على ترك الأولى, وفعل المنشي»([119]).

وهذه التعاريف المتقدمة إنما هي للعصمة المطلقة, وهي لطيفة خاصة من الناس, والعصمة المطلقة بالنسبة للأنبياء والأئمة تشمل العصمة في السلوك (عدم المخالفة في الواجبات وعدم مقارفة المعاصي) والعصمة في تلقي الأوامر الإلهية, وتبليغها والكشف عن مراد الله من الأحكام, والعصمة في الفكر.

وهذه الأقسام الثلاثة تشمل الأنبياء والأئمة, ولا بد من توفرها وبتعبير آخر: أن العصمة: ملكة تجعل صاحبها مستقيماً على خط الإسلام, فكراً وسلوكاً في جميع أحواله قولاً وفعلاً ونيّة, وتمنع من التفكير بالمعاصي صغيرة أو كبيرة فضلاً عن مقارفتها عمداً أو سهواً.

وهذا يعني أن المعصوم ملتزم بالخط الإسلامي (الصراط المستقيم) بشكل مطلق, فهو من الذين أنعم الله عليهم, وجعلهم من أصحاب الصراط المستقيم ﴿اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾([120]).

فوصف الله تعالى الصراط، بإضافته للمعصوم. إذن فالعصمة الاستقامة على الصراط المستقيم مطلقاً, صراط المستقيم يمثل الحق الذي لا يحتمل أي انحراف مهما دقّ هذا الانحراف, ولنضرب مثالاً على ذلك: فالحقيقة الرياضية 1+1=2 حقيقة صادقة تتمتع باليقين الرياضي, وعندما نطرح هذه القضية 1+1=2 أو أي قضية أخرى تطرح على الفكر البشري, فإن الناس يقفون منها موقفاً لا يخلو من رأيين أما أن يقولوا الجواب (2) أو غير (2) وغير الاثنين يشمل جميع الارقام باستثناء (2) فمنهم من يقول مثلاً يساوي (3) ومنهم من يقول يساوي (4) وآخر (9) أو (100) أو مليون أو أجزاء القضية كان يقول (2) إلا واحداً بالألف أو بالمليون, وهكذا..., فالناس يبتعدون ويقتربون عن الحقيقة الصادقة وهي (2) إلا أن الحق الثابت في هذه القضية يبقى (2) وما عداه من النتائج يبقى باطلاً.

وبتعبير آخر: أن الحق واحد لا يتعدد ولا يتجزأ, أما الباطل فهو متعدد وممكن أن يتجزأ. فخط العصمة هو الذي يمثل الاستقامة على الحق بشكل مطلق. ولنضرب مثالاً آخر على ذلك من الهندسة.

فالمستقيم هو أقصر الخطوط التي يمكن وصلها بين نقطتين, ويستحيل أن نربط بين نقطتين بخطين وكلاهما مستقيمان, فلا بد أن يكون احدهما مستقيماً والثاني معوجاً أي لا بد للخط الثاني أو الخطوط الأخرى أن تنحرف عن التقسيم بدرجات متفاوتة قرباً وبعداً عن الخط المستقيم, ويوصف الصراط المستقيم يوم القيامة بأنه أدق من الشعرة وأحدّ من السيف.

4- الحقيقة واحدة:

ويشير القرآن الكريم في بعض آياته إلى هذه الحقيقة, فيذكر طرق الباطل بالتعدد ويفرد طريق الحق قال تعالى: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾([121])وقال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾([122])فأفرد الصراط المستقيم وجمع السبيل بلفظة (السبل) وهي تفرّق الناس عن الحق, وتبعدهم عنه.

وأصحاب الصراط المستقيم هم أناس خواص, من الذين أنعم الله عليهم واصطفاهم واجتباهم من بين خلقه وهداهم صراطه المستقيم.

قال تعالى: ﴿وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾([123]),وقال تعالى: ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾([124]).

 ويصف الله تعالى رسوله بأنه على الصراط المستقيم, وانه يهدي إلى الصراط المستقيم ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً﴾([125]) وقال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾([126]) ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾([127]) ﴿إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾([128]) ﴿وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾([129]).

وجاء في مضمون الحديث الشريف أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) خطّ لاصحابه خطاً في الأرض، ثم خطّ حوله خطوطاً, بما يشبه السعفة وأشار إلى الخط الوسط بأنه الصراط المستقيم وهذه الخطوط التي حوله, على كل خط منها شيطان يدعو إلى سبيله.

وقد وردت لفظة سبيل بالقران الكريم أكثر من (160) مرة بصيغة الإفراد وأغلب ورودها يراد به (سبيل الله) - الصراط المستقيم- حينما يضاف لله تعالى, وقد وردت بصيغة الجمع ثلاث مرات, مرة مضافة لكلمة (السلام) بقوله: ﴿يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ﴾([130]), وفي آيتين مصافة لـ«نا» المتكلم ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا﴾([131])وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾([132]), وجميع هذه السبل الواردة في الآيات الثلاثة إنما هي طرق الهداية إلى الصراط المستقيم.

وقد وصفت بعض الروايات الصراط المستقيم في الآخرة بأنه أدق من الشعرة وأحدّ من السيف, وهذه إشارة واضحة إلى استحالة التعدد فيه, وانه الحق الذي من خالفه, انحاز إلى الباطل, ومن تنكب عنه هوى في النار, فالصراط المستقيم هنا, الالتزام باوامر الله تعالى, والاجتناب عن نواهيه, والذي يوفق هنا لهذا الالتزام، يوفق هناك للسير على الصراط بدون أن يهوي, وبدون عراقيل تعيقه من الوصول إلى الجنة التي ينتهي اليها الصراط المستقيم.

والامام باعتباره القائد الأعلى للأمة, يقودها لما يريده الله تعالى, وعلى ما يريده الله تعالى: ﴿الصراط المستقيم﴾ فبالضرورة لا بد أن يكون هو ملتزماً بالسير على هذا الصراط, وأن أي انحراف عن ذلك الصراط, مهما كان صغيراً, فإنّه يشكل خطراً عظيماً في الأمة, لأنه يلزم أن تلتزم الأمة بذلك الانحراف، فتنحرف بأجمعها، لأنها ملزمة شرعاً بطاعة ولي الأمر.

وجواز الخطأ على القائد الأعلى - مهما كان هذا الخطأ صغيراً- يعني جرّ الأمة برمتها إلى ذلك الخطأ, فالأمة ملزمة بطاعة الإمام من جهة, وإذا جاز عليه الخطأ وجب على الأمة أن تنهاه عن المنكر, فيحدث التناقض, بين وجوب نهي الإمام، عن المنكر, وبين وجوب طاعته, وهذا مستحيل, فلزم عصمة الإمام لرفع التناقض وهذا يعني ضرورة اتصاف الإمام بالعصمة المطلقة, وهي السير في سلوكه وفكره وأحكامه على الصراط المستقيم.

6- العصمة في عالم التكوين:

ولنأخذ مثالاً من العصمة في عالم التكوين, فالإنسان مركب من وجودين.

1- وجود مادّي: وهو الذي يعبر عنه القرآن الكريم «تراب» ﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ﴾([133]) ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى﴾([134]).

وقد أثبت العلم الحديث أن مركبات الإنسان المادية تتكون من ستة عشر عنصراً من الفلزات واللافلزات, وهذه العناصر هي بذاتها تشكل معنی التراب بلا زيادة ولا نقيصة وهذا اعجاز قرآني. وجسم الإنسان يتركب من أجهزة وخلايا, والخلايا من مادة عضوية يشترك في تركيبها, ذرات هذه العناصر الستة عشر.

2- وجود لا مادي: وهو ما يعبر عنه بوجود النفس والروح, وكما أن الجانب المادي من الإنسان مركب من عدة عناصر لكل منها خواص؛ وهذه العناصر تركب خلايا, وتلك الخلايا أجهزة, فهذا جهاز الدورة الدموية وذلك جهاز التنفس, وجهاز التناسل, وجهاز الهضم... الخ ولكل من هذه الأجهزة وظيفة مهمة في كيان الإنسان, فكذلك الجانب اللامادي مركب من أقسام, فهناك الذات المدركة الواعية (النفس الناطقة) وهناك النفس الحياتية التي تشرف على النشاط الحيوي من نمو وتكاثر وفاعليات متنوعة في جسم الإنسان, وهناك النفس الشهوانية, والنفس اللوامة, والنفس الأمارة بالسوء.

قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾([135]) وقال تعالى: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾([136]) وقال تعالى: ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ﴾([137]) وقال تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾([138]).

والذي يهمنا من هذه النفوس في هذا البحث النفس الحياتية.

حيث أنها تهيمن على كل فاعليات البدن, ولا تفارق البدن بأي حال من الأحوال إلا في الموت في حين أن النفس الناطقة (المدركة الواعية) تفارق البدن في حالة النوم والغيبوبة ولا نقصد بتفارق, الانفصال كما في المادة, فهذا لا يصح في الجانب اللامادي إنما نقصد بمفارقتها للبدن, أنها في حالة النوم وما شاكله تفقد هيمنتها على البدن, باعتبار أن أجزاء البدن عبارة عن أجهزة, تقترب فيها الذات الواعية إلى عالم الطبيعة, وتعتبر هذه الأجهزة نوافذ النفس الواعية إلى عالم المادة, كما أن جهاز التلفزيون وجهاز الراديو يكشفان لنا عن الأمواج الكهر ومغناطيسية والالكترونية, لمحدودية طاقة العين والأذن في الإبصار والسمع لحكمة بالغة.

والمهم أن النفس الناطقة تفارق البدن في النوم ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا﴾([139]) فمع سلامة كل أجهزة الإنسان في حالة النوم إلا أنّه لا يرى ولا يسمع ولا يستنبط, فأذن النائم مفتوحة ولا يوجد سداد لمنع الصوت من الوصول اليها, ومع ذلك فالنائم لا يسمع الأصوات, التي هو مؤهل لسماعها حين يقظته, وبعض الناس ينام مفتوح العينين ومع ذلك لا يرى بهما.

والسر في ذلك هو غياب النفس الواعية, في حين أن الفاعليات المادية (الحيوية) كلها تعمل في جسم الإنسان, فالدم يدور, والتنفس موجود والعضلات كلها تعمل, وتوزيع الغذاء يتم بدقة متناهية, وتصنيع الخلايا يتم والإفرازات مستمرة تصنع في مصانعها, وهذا يعني أن النفس الحياتية التي تشرف على هذه النشاطات في البدن, لم تغادر البدن, في حين أن هذه النفس تغادر البدن عند الموت, فتُشل كل النشاطات بمغادرتها ويصبح البدن كقطعة من تراب كما كان بمجرد مغادرة هذه النفس جسم الإنسان.

فالجانب اللامادي من الإنسان يفقد هيمنته تماماً على الجسم الترابي بالموت, ويستقل بالجسم الأثيري- المثالي- أو البرزخي- والذي اعتقد بوجوده في حياة الإنسان الدنيوية, وانه ينمو بنمو الجسم الترابي, ويمتد بامتداده. وبالموت ينفصل عن الجسم الترابي وتبقى النفس (الجانب اللامادي من الإنسان) تعيش في عالم البرزخ في ذلك الجسم المثالي, وهو يشبه هذا الجسم بالضبط وله قابليات وطاقات تتناسب ومايحتاجه في عالم البرزخ.

والمهم أن النفس الحياتية تشرف على كل خلية في جسم الإنسان, ماهي حاجتها من الغذاء؟ وكم ذرّة تحتاج؟ وما نوع الذرات والمركبات الكيمياوية التي تحتاجها؟ وما المشاكل التي تعترضها في مسيرتها؟ وهل أن نموها منسجم مع هندسة الجسم الكلية؟ وهل أنها تؤدي وظائفها بشكل صحيح تقدم فيها الخدمة لمملكة البدن؟ فخلايا البدن كلها ترتبط بالمخ عن طريق الجهاز العصبي, والمخ يعتبر (كونترول الجسم) يعني جهاز التحكم والسيطرة على كل أجزاء الجسم,وهذا الجسم هو بيد النفس الحياتية, فالمخ عبارة عن (ريموت كونترول)([140]) بيد النفس الحياتية.

إلا أننا لا ندرك عظمة جهاز التحكم هذا, وكيف يشرف بدقة فائقة على كل خلية في جسم الإنسان, فإذا علمت أن جسم الإنسان تموت فيه في كل ثانية 125 مليون خلية, وتولد فيه أكثر من ذلك ليتسنى له النمو لأنه لو تساوی ما يموت فيه بما يولد, لما نمى جسم الإنسان.

وإذا علمت أن الخلايا العصبية في جسم الإنسان تقارب 14 مليار خلية تتوزع في كل أنحاء البدن. فتصوّر كم عدد خلايا البدن؟ وكم تحتاج كل خلية من الغذاء وطرح الفضلات؟ أنت تأكل الطعام ويدخل في معدتك, وفي المعدة تطرح عليه عصارات الببسين والرنين وبعدها يسير في الامعاء وتطرح عليه عصارات مختلفة ثم تبدأ الزغابات بامتصاص المفيد منه. إلا أن السؤال المهم, هو كيف يتم توزيع الغذاء بعدالة تامة على كل خلية في جسم الإنسان بدون زيادة ونقيصة؟ ومن يقوم بتوزيع هذا الغذاء وحسب الحاجة؟

كل خلية في جسم الإنسان ترسل بإشارة إلى المخ عن طريق الأعصاب أنني بحاجة مثلاً إلى ذرّة من الاوكسجين و إلى ذرتين من الكالسيوم وإلى ذرة من الصوديوم... وهكذا, ويستلم المخ هذه الملايين من الاشارات ويترجمها للنفس الحياتية بأسرع من لمح البصر, وتبدأ النفس الحياتية بإرسال ملايين الأوامر لكل انحاء الجسم بإرسال المؤن وتهيئة طريق المواصلات, بحيث تذهب مؤونة كل خلية اليها بدون زيادة ولا نقيصة وبدون تغيير في نوعية الذرات, فلا ترسل للخلية التي تحتاج ذرتين من الصوديوم، ثلاثة من الكالسيوم مثلاً, ولا ترسل ما تحتاجه الخلية البصرية إلى ما تحتاجه الخلية العظيمة, وهكذا مع مليارات الخلايا في جسم الإنسان إضافة إلى مشاكل كل خلية، وطرح فضلاتها ونموها وتكاثرها, ودفن الأموات من الخلايا, وطرحها خارج مملكة البدن لإبعاد الضرر.

كل ذلك يجري بأقل من الثانية, وهو مستمر ما دام الإنسان على قيد الحياة، مليارات الأوامر والإرشادات والدلائل كلها تعمل بدون خطأ, ولو حدث أي خطأ وبعثت زيادة بالغذاء لهذه اليد دون تلك الطالت اليد اليمنى على اليسرى مثلاً بأمتار ولصغرت العين اليسرى وكبرت اليمنی ولخرج القلب خارج الجسم بدلاً من وجوده بالقفص الصدري ولحدثت ملايين الاحتمالات الخاطئة, هناك بعض الهرمونات إذا اختلت الكثافة فيها بنسبة واحد بالمليون لأثّر على جسم الإنسان بزيادة بالطول أو القصر أو سواد البشرة أو بياضها وما شاكل ذلك.

فكل هذا البناء والهدم والفاعليات المختلفة تتم تحت إشراف النفس الحياتية بدون خطأ أي أنها معصومة، فهي لها الولاية التكوينية على مملكة البدن, إلا أنها مسخرة بقدرة خالقها سبحانه, فهي ليس لها الفضل في هذه العصمة بل الفضل لله، سخرها وقهرها على العصمة, فالذي أعطى لهذه النفس هذه القدرة والطاقة, وأعطاها العصمة والعدالة في التوزيع لبدن واحد من أبدان الناس, كيف يترك امة محمّد (صلّى الله عليه وآله) وعلى مدى العصور بدون إمام معصوم يعلم كل ما يفتقر إليه الإنسان في أمور دينه ودنياه, ويطبّقها بكل حذافيرها بدون خطأ ولو بمقدار ذرّة.

والكون كله مخلوق للعبادة ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾([141])وكما أن النفس الحياتية عالمة وشاهدة على كل خلية في جسم الإنسان, وقادرة على أن ترشدها إلى الصراط المستقيم الذي بإتباعه تحيى مملكة البدن باستقامة تامة, فكذلك الإمام المعصوم فإنّه يعلم بحاجة الأمة بكل أجزائها, ويعلم طريق علاجها, ويعلم الحلول الناجحة لكل مشاكلها, وله القدرة على إيصال الحق لكل ذي حق, وأخذ الحق من كل ظالم, إذا سلّمت له الأمة زمام قيادتها, فالإمام المعصوم لـه الولاية التكوينية على الأمة, وهو الكاشف عن مراد الله تعالى لكل الأحكام. والمطبق لتشريع الله تعالى بحذافيره.

وتجدر الإشارة أن السكّر الذي يتغذى عليه المخ يعتبر من أرقى أنواع السكريات ويقوم الجسم بإرسال أفضل أنواع السكر إلى المخ, وإذا حدثت في الجسم أزمة في الغذاء, فإن الجسم أول ما يبدأ بسد حاجة المخ, ثم يبعث حاجات بقية الأعضاء.

ومن الملاحظ في التشريع الإسلامي أن الله تعالى حرّم الصدقة على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته, ولم يرتضِ لهم الأكل من تلك الأوساخ, وفرض لهم خمس الغنائم (الأرباح) نظيفة طاهرة عن الصدقات لأنّ لائمة أهل البيت القيادة والسيادة على الأمة, حيث عصمهم الله تعالى وطهرهم وأذهب عنهم الأرجاس بكل أنواعها تهيئة لقيادة الأمة نحو النزاهة والطهارة التي يريدها الله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾([142]) ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾([143])فالله تعالى يحب المتطهرين فما بالك بمن طهّرهم هو سبحانه.

ومثال العصمة في عالم التكوين لم يكن مقتصراً على بدن الإنسان, بل إن ذلك واضح في كل الحيوانات والنباتات والذرات والنجوم والسدم والمجرّات, ففي عالم الذرة, تدور الالكترونات حول النواة بسرعة ثابتة لا تزيد ولا تنقص, ويوجد في كل بعد عن النواة مقدار ثابت من الالكترونات, لو تغير فيه العدد لا ختل توازن الذرة ولتغيرت خواصها وكذا لو ازدادت سرعة الالكترونات أو نقصت.

ولنأخذ مثالاً: مجموعتنا الشمسية, فالشمس مركز هذه المجموعة, والكواكب تدور حولها, فالأرض تقطع المسافة (الفلك) حول الشمس في 365 يوماً وخمس ساعات, و49 دقيقة, وكذا ثانية وهذه المدة ثابتة ولا تنقص, لأنه لو ازدادت-ولو في السنة ثانية واحدة أو جزء الثانية- لتجمعت تلك الزيادات وبملايين السنين, ولأصبحت السنة آلاف الأيام بدلاً من 365 يوماً, وكذا الكلام لو نقصت في السنة ولو ثانية أو أقل لنقصت السنة عن 365 يوماً حتى تقف الأرض بمرور السنين.

إلا أن الأرض - كذا كل الكواكب والسدم والمجرات- مسخرة بتسخير الله تعالى لها, ويستحيل أن تزيد أو تنقص في حركاتها وسرعاتها, فهي معصومة في حركتها, رغم تباعد المسافات الشاسعة التي يصعب على العقل تصورها. فالعصمة واضحة في عالم التكوين, وعالم التكوين في خدمة النفس الإنسانية, فمن الأولى عصمة نفس قائد هذه النفوس وإمامها, حتى تنسجم الإرادة التشريعية مع الإرادة التكوينية, والولاية التشريعية مع الولاية التكوينية, لأنّ كل ما في هذا الكون يسير بنظام وأي نظام!

6- عصمة الإمام ليست قهرية:

إلا أن عصمة الإمام ليست قهرية, أي أنّه ليس معصوماً بالجبر, وإلا لما كان له فضل على أقل الناس شأناً, وإنما عصمة لوضوح الحق لديه ولقوة اليقين ولأمور أخرى- سنورد بعضها إن شاء الله تعالى بعد قليل- قال تعالى ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾([144])وتمام الحجة تكون بنصب الإمام من قبله تعالى وكونه معصوماً, ولو جاز الخطأ على الإمام (عدم عصمته) مع افتراض طاعته, فلا تتم الحجة البالغة, في حين أن الإمام حجّة على الخلق, وهو الحجة البالغة, والحجّة معناها الدليل والبرهان و الإمام دليل على الله وعلى أحكامه, وبرهان ساطع ونور كاشف لمراد الله من الأحكام, يهتدي بهذا النور من التزم بهدْيه, لأنه الهادي للأمة ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾([145]).

7- مؤهلات الإمامة:

والإمام لم يتخذه الله تعالى إماماً, إلا بعد امتحانات يمرّ بها, وينجح فيها ويصبر عليها, وبعد أن يصل إلى درجة من اليقين تؤهله للإمامة, والأئمة من الأنبياء وغيرهم يتفاوتون ويتفاضلون طبقاً لتلك الدرجة من الصبر, وقوة اليقين التي وصلوا إليها قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾([146]).

فالإمام مجعول بجعل الهي, وهو يهدي للحق (الصراط المستقيم) بأمر الله تعالى, وانه استحق هذا الجعل، لأنه صبر وكان يوقن بآيات الله تعالى.

ولقد مرّ إبراهيم الخليل (عليه السلام) بمراحل متعددة حتى وصل لدرجة الإمامة وتأهل لأنّ يجعله الله تعالى إماماً للناس, فهو فطر على الإسلام, وعلى الإيمان, ثم تعاقب عليه درجات الإسلام والإيمان الأخرى, فمع إسلامه الفطري نراه يسلم لرب العالمين إسلاماً آخر أعلى درجة من التسليم الأول ﴿إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾([147]), ثم يسلم إسلاماً آخر أعلى درجة بعد أن ينجح بابتلاء سابق ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾([148]), ونراه يطلب من الباري تعالى درجة من الإسلام مفقودة لديه ﴿رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ﴾([149]), وهو في كل ذلك يمرّ بالابتلاء تلو الابتلاء ويصبر وينجح فيرتقي درجة.

يرافق ذلك زيادة اليقين. ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾([150]), فلمّا تم له اليقين المؤهل للإمامة, وتمّ البلاء الذي يؤهله لذلك ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ﴾([151])فحينذاك, صدر الأمر الإلهي بجعله إماماً ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾([152]),فعهد الإمامة لا ينال الظالم فضلاً عن الظلام, فالظالم اسم فاعل, والظلام صيغة مبالغة من اسم الفاعل, والذي يرتكب ذنباً ولو مرّة واحدة بحياته, يكون ظالماً لنفسه فلا يستحق أن يناله عهد الإمامة, لأنّ هذا العهد مقتصراً على من لا يظلم ولو لمرة واحدة في عمره, أي لا يصلح إلا للمعصوم.

وكل كافر ولو لحظة في حياته فهو ظالم, فلا يصلح للإمامة قال تعالى: ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾([153])فالكفر ممتنع في الواقع على الأنبياء والأئمة ﴿ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾([154]), و «لو» حرف امتناع لا متناع فالشرك ممتنع لوجود مانع عاصم يمنعه, وهو العصمة ﴿أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾([155])وقال تعالى: ﴿مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ﴾([156]). فالكفر بكل أنواعه ليس من شأن الحجج (الأنبياء والأئمة).

وما كان لهم أن يشركوا, فالشرك أيضاً ممتنع عنهم, والشرك له أقسام أيضاً, والشرك بكل أقسامه, الأنبياء والأئمة منزهون عنه, سواء كان هذا, الشرك بذات الباري سبحانه, أي التعدد بالذات أم كان من النوع الثاني, وهو الشرك بالعبادة, والذي أشارت إليه الآية الكريمة: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾([157])والنهي هنا عن الشرك بالعبادة: أي أن الطاعة لغير الله (لحكم غير الله) فهو شرك, فتنفيذ ما لا يريده الله تعالى من الأحكام، كأحكام الطواغيت أو حكم الاهواء, كل ذلك, عبادة لغير الله تعالى, فطاعة غير الله- بالحكم سواء من الهوى أو الطواغيت- فهو شرك، لأنّ الحكم ينفرد به الله تعالى, ويختص به, قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاه﴾([158])فطاعة الهوى إذن هي عبادة لغير الله ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً﴾([159]) وكل معصية فهي طاعة للهوى وتنفيذ لحكم لا يريده الله تعالى لأنّ الله تعالى نهى عن المعاصي.

إذن فكل معصية فهي شرك في العبادة لأنها طاعة للهوى, ونحن قد نُهينا عن اتباع الهوى, ووعدنا بالخير بمخالفة النفس عن اتباع الهوى ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى﴾([160])فكل معصية هي اتباع للهوى, ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى﴾([161])وكل اتباع للهوى هو شرك في العبادة, والأنبياء والأئمة منزهون عن الشرك بالعبادة, إذن لا بد أن يكون النبي والإمام منزه عن المعاصي والذنوب, لأنه منزه عن الشرك بكل أقسامه ومنه الشرك بالعبادة.

وليس طاعة الهوى واتباعه فقط لغير الله تعالى, بل إن إطاعة أي مخلوق من دون الله تعالى- بغير حكم الله تعالى أقصد الأحكام الشرعية الخمسة- فإنّه طاعة وعبادة لغير الله, أي أن الذي يطيع هوى نفسه أو أي مخلوق, بغير حكم الله, فيكون قد اتخذه ربّاً والهاً من دون الله تعالى, قال سبحانه ﴿اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾([162]), وفي الآية إشارة إلى عبادة المخلوقين من دون الله, وإشارة إلى النهي عن الشرك في العبادة.

وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: (اتخذوا احبارهم ورهبانهم, ارباباً من دون الله) فقال: «اما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم إلى عبادة أنفسهم ما أجابوهم, ولكن احلّوا لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون».

إذن فالانبياء منزهون عن الذنوب والمعاصي, لأنّ في الذنوب والمعاصي طاعة للهوى وليس لله تعالى, وطاعة الهوى, تعني اتخاذه إلهاً من دون الله, وكذا إطاعة الأحبار والرهبان من دون الله وإطاعة أي طاغية من دون الله وتنفيذ أي أحكام غير أحكام الله, كل ذلك عبارة، عن آلهة مزيفة مصنعة تُتخذ من دون الله, وطاعة هذه الآلهة المزّيفة, عبادة من دون الله فكلها شرك, والأنبياء والأئمة منزهون، عن الشرك بالعبادة وعن الكفر بكل أنواعه.

وقال تعالى: ﴿يَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾([163]) فالشهيد ( النبي أو الإمام) لايتخذه الله تعالى ما لم يكن غير ظالم, وكل من اقترف ذنباً, فهو ظالم لنفسه, فلا يصلح أن يتخذه الله شهيداً على الأمة وإماماً لها, وهذا يعني أن كل من قارب المعصية ولو مرّة واحدة في حياته فإنّه لا يصلح للإمامة, لأنه بتلك المعصية يكون قد ظلم نفسه وبظلمه لنفسه أصبح غير محبوب للباري تعالی, لأنّ الله «لا يحب الظالمين» في حين أن الإمام الشهيد على الأمة هو هاد لها ومطهّر لها من الذنوب والآثام لأنه بهدايته لها يبعدها عن الذنوب والآثام إن هي التزمت بنهجه, فمن الأولى أن يكون هو سيد المتطهرين فيكون حينئذ محبوباً للباري سبحانه ﴿ إنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾([164]).

وقال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾([165]) فكل مسلم مأمور من قبل الله تعالى أن لا يطيع الآثم ولا الكفور, والإمام وجد ليطاع فإذا جاز منه الإثم, انتفت طاعته وحرُمت, فتنتفي إمامته في حين أن الإمام واجب الطاعة, والآية تنهانا عن طاعة الآثم فإما يلزم: التناقض الباطل, أو تجب عصمة الإمام عن كل إثم.

وقال تعالى: ﴿ والله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾([166]) وكل مذنب ظالم لنفسه, فلا يوفق للهداية الخاصة التي لا ضلال فيها ولا مآثم ولا ذنوب, وذلك لظلمه لنفسه, وباختياره الذنوب والمعاصي, فلا يصلح للهداية, بينما الإمام هاد للأمة, فمن الأولى أن يكون هو من المهتدين ﴿إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ فلكل قوم إمام هاد يهديهم, فمن الأولى أن يكون هو مهتدياً, كي تتسنى له هداية الآخرين, فلا بد من كونه غير ظالم, أي معصوم من الذنوب, كي يوفق لهداية الله تعالى المطلقة.

وإذا تمت له تلك الهداية أصبح مؤهلاً لهداية الناس بإذن الله تعالى وأمره قال تعالى ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾([167])وقال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾([168])فهذه الهداية إنما هي بأمر الله تعالى وبإذنه, ويصل اليها الإمام الشهيد الهادي بعد ابتلاءات تمرّ به, ويجتازها بنجاح تام, وبعد أن يصل إلى درجة كافية من اليقين, فحينذاك يتأهل لهذا المنصب الإلهي فيصلح لهذا الاختيار ﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾([169]).

فالإمام المعصوم شهيد على أعمال العباد ومطلع عليها, وجعله واختياره بهذا المنصب من قبل الله تعالى, وبتوفر أمور تؤهله لذلك, وبتسلّمه المنصب, فإنّه يطلع على كل صغيرة وكبيرة من أعمال العباد ويراها, قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾([170])وأن المقربين من الشهداء (الأنبياء والأئمة) يشهدون صحائف الأعمال على حقيقتها قال تعالى: ﴿كَلاّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾([171])وهؤلاء الشهداء غير محجوبين عن الله تعالى بحجب الآثام والمعاصي والجهل والشك، بل هم من الموقنين الذين أراهم الله تعالی ملكوت السموات والأرض ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾([172])

كما أن الآيات الكريمة تشير بوضوح إلى أن الإمام الشاهد لا ينفك عنه كل زمان، بل لا بدّ من وجوده في كل زمان, لأنّ الأبرار وجودهم مستمر, وأعمالهم يشهدها المقربون, ويراها ويطّلع عليهم الأئمة الشهود الذين يحشر الناس الملتزمون بخطهم يوم القيامة بهم, قال تعالى ﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾([173])وهذا يعني أن لكل أناس امام وأن الدنيا لا تنفك عن وجود الإمام لأنّ الدعوة قائمة على كل أناس وبإمامهم.

قال صاحب الميزان في تفسير القرآن 1/274: «ان المراد بالظالمين في قوله تعالی: ﴿قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ مطلق من صدر عنه ظلم ما, من شرك أو معصية, وإن كان منه في برهة من عمره, ثم تاب وصلح.

وقد سئل بعض أساتيذنا رحمة الله عليه: عن تقريب دلالة الآية على عصمة الإمام.

فأجاب: إن الناس بحسب القسمة العقلية على أربعة أقسام:

من كان ظالماً في جميع عمره, ومن لم يكن ظالماً في جميع عمره, ومن هو ظالم في أول عمره دون آخر, ومن هو بعكس هذا. وإبراهيم عليه السلام اجل شأناً من أن يسأل الإمامة للقسم الأول والرابع من ذريته, فبقي قسمان وقد نفى الله احدهما, وهو الذي يكون ظالماً في أول عمره دون أخره, فبقي الآخر, وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره, انتهى.

وقد ظهر مما تقدم من البيان أمور:

الأول: أن الإمام مجعولة.

الثاني: أن الإمامة يجب أن يكون معصوماً بعصمة إلهية.

الثالث: أن الأرض وفيها الناس, لا تخلو عن إمام حق.

الرابع: أن الإمام يجب أن يكون مؤيداً من عند الله تعالى.

الخامس: أن أعمال العباد غير محجوبة عن علم الإمام.

السادس: أنّه يجب أن يكون عالماً بجميع ما يحتاج إليه الناس في أمور معاشهم ومعادهم.

السابع: أنّه يستحيل أن يوجد فيهم ممن يفوقه في فضائل النفس».

 

 

 

 

 

المراجع

  1. القرآن الكريم.
  2. الإتقان في علوم القرآن ـ جلال الدين السيوطي ـ نشر الحلبي بمصر الطبعة الثالثة 1951م.
  3. أسباب النزول ـ الواحدي ـ طبعة دار القبلة ـ الرياض، جدّة.
  4. أسد الغابة في معرفة الصحابة ـ ابن الأثير الجرزي ـ الطبعة الأولی بمصر.
  5. الباب الحادي عشر ـ الحلّي.
  6. تاريخ دمشق ـ ابن عساكر الشافعي.
  7. تفسر ابن كثير ـ الطبعة الأولی ـ مصر ـ الطبعة الثانية ـ دار إحياء الكتب العربية.
  8. تفسير الدر المنثورـ جلال الدين السيوطي ـ الطبعة الأولی ـ مصر.
  9. تفسير روح المعاني ـ الآلوسي ـ المطبعة المنيرية بمصر.
  10. تفسير مفاتيح الغيب ـ فخر الدين الرازي ـ الدار العامرة، بمصر.
  11. تفسير المنار ـ محمّد عبده ـ مصر.
  12. حلية الأولياء ـ أبو نعيم الأصفهاني ـ أفست علی مطبعة السعادة.
  13. الذنوب الكبيرة ـ للشهيد السيّد دستغيب.
  14. سنن ابن ماجة ـ مطبعة دار إحياء الكتب العربية ـ تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي.
  15. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد المعتزلي ـ الطبعة الثانية بمصر ـ تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم.

شواهد التنزيل لقواعد التفضيل ـ الحاكم الحسكاني الحنفي ـ

 

([1]) الرعد: 11

([2]) التوبة: 105.

([3]) النحل: 84.

([4]) الزمر: 69.

([5]) المائدة: 177.

([6]) النساء: 159.

([7]) فصلت: 22.

([8]) فصلت: 21.

([9]) النور: 24.

([10]) يس: 65.

([11]) ق: 18.

([12]) الكهف: 54.

([13]) الأنعام: 28.

([14]) النحل: 111.

([15]) الأنعام: 149.

([16]) لقمان: 28.

([17]) آل عمران: 140.

([18]) البقرة: 143.

([19]) الرعد: 43.

([20]) هود: 17.

([21]) الرعد:7.

([22]) التوبة: 105.

([23]) آل عمران: 140.

([24]) النساء: 41.

([25]) النحل: 84.

([26]) الزمر:69.

([27]) النحل:89.

([28]) الحج: 78.

([29]) ص: 82، 83.

([30]) الحج: 78.

([31]) البقرة:31.

([32]) النساء:54.

([33]) النحل: 84.

([34]) الزمرد: 69.

([35]) المائدة: 177.

([36]) التوبة: 195.

([37]) النحل: 43.

([38]) آل عمران: 7.

([39]) آل عمران: 58.

([40]) النحل:44.

([41]) الأنبياء: 50.

([42]) النحل: 89.

([43]) فاطر: 31-32.

([44]) الطلاق: 10-11.

([45]) آل عمران: 33- 34.

([46]) عيون أخبار الرضا، وانظر الذنوب الكبيرة للشهيد السيد عبد الحسين دستغيب1/51.

([47]) الذنوب الكبيرة للسيد الشهيد عبد الحسين دستغيب1/52.

([48]) النساء: 83.

([49]) غافر: 51.

([50]) هود: 11.

([51]) الاعراف: 46.

([52]) الاعراف: 48.

([53]) النحل: 84.

([54]) آل عمران 140.

([55]) النحل: 89.

([56]) النحل: 42.

([57]) فاطر: 32.

([58]) الصواعق المحرقة لابن حجر ص148.

([59]) السجدة: 29.

([60]) الفتح: 28.

([61]) الانعام: 158.

([62]) المائدة: 67.

([63]) انظر صحيح مسلم ج2/362 طبعة عيسى الحلبي بمصر, النسائي ص93 الطبعة الحيدرية مسند أحمد بن حنبل ج4/372 , صحيح الترمذي ج5/17, سنن ابن ماجة ج1/45, كنز العمال ج15/91,92 مستدرك الحاكم ج3/110, أسد الغابة ج1/396, حلية الأولياء لأبي نعيم 5/26, وغيرهم عدد يفوق الحصر بهذه العجالة, واعترف بتواتر حديث الغدير كثير من علماء السنة, أحمد بن حنبل أربعين طريقاً, الطبري 72طريقاّ, وأبو سعيد السجستاني من 120 طريقاً.

([64]) تفسير الفخر الرازي ج3/636, الدار العامرة بمصر. شواهد التنزيل للحاكم الحكساني الحنفي ج1/157, الدر المنثور للسيوطي ج2/298, أفست بيروت على طبعة مصر, فتح القدير للشوكاني ج2/60 طبعة الحلبي, تفسير النيسابوري ج6/170, روح المعاني للالوسي ج2/348, تفسير المنار لمحمّد عبده ج6/ 463.

([65]) أسباب النزول للواحدي، طبعة دار القبلة ـ جدة ـ الرياض، تحقيق السيد أحمد صقر ص195, شواهد التنزيل ج1/187, فتح البيان في مقاصد القرآن، ج3/63, مطبعة العاصمة بالقاهرة

([66]) المائدة: 3.

([67]) الدر المنثورج2/259 الطبعة الأولى بمصر, الاتقان1/52 طبعة مصر.

([68]) في تفسيره ج2/14 الطبعة الأولى بمصر.

([69]) تاريخ دمشق ج2/75 ح575

([70]) روح المعاني ج6/55.

([71]) المائدة: 3.

([72]) آل عمران: 103.

([73]) الباب الحادي عشرص54.

([74]) التوبة: 128.

([75]) الحشر: 7.

([76]) الأنعام: 12.

([77]) الليل:12.

([78]) النحل:9.

([79]) النحل: 89.

([80]) الانعام: 38.

([81]) الإسراء: 12.

([82]) المائدة: 50.

([83]) القصص: 68.

([84]) الانعام:57.

([85]) آل عمران: 128.

([86]) النساء: 59.

([87]) النجم: 28.

([88]) المؤمنون: 70.

([89]) العنكبوت: 63.

([90]) فصلت: 4.

([91]) الصافات: 71.

([92]) الصحاح للجوهري 1/26 مادة فلت.

([93]) لسان العرب 5/3455 مادة فلت.

([94]) الجن 26-28.

([95]) آل عمران: 140.

([96]) الشورى: 13.

([97]) الحج: 78.

([98]) الرعد: 7.

([99]) يونس: 35.

([100]) الصف: 3.

([101]) البقرة: 44.

([102]) البقرة: 286.

([103]) اللهب: 3.

([104]) البقرة: 7.

([105]) الحجر: 14-15.

([106]) يونس: 101.

([107]) الإسراء: 55.

([108]) فاطر: 32.

([109]) النساء: 145.

([110]) القصص: 41.

([111]) التوبة: 12.

([112]) المنافقون: 4.

([113]) المنافقون: 6.

([114]) البقرة: 24.

([115]) غافر: 46.

([116]) عصمة الأنبياء ص23 للأستاذ جعفر السبحاني.

([117]) الميزان2/142.

([118]) دلائل الصدوق 2/14.

([119]) عصمة الأنبياء ص20 وإرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين ص301-302.

([120]) الفاتحة: 6-7.

([121]) البقرة: 257.

([122]) الأنعام:153.

([123]) الأنعام: 87.

([124]) المائدة: 16.

([125]) الأنعام: 161.

([126]) المؤمنون: 73.

([127]) الشورى: 52.

([128]) الزخرف: 43.

([129]) الزخرف: 61.

([130]) المائدة: 16.

([131]) إبراهيم: 12.

([132]) العنكبوت: 69.

([133]) الحج: 5.

([134]) طه: 55.

([135]) الشمس: 8.

([136]) القيامة: 2-1.

([137]) يوسف: 53.

([138]) الفجر: 27- 28.

([139]) الزمر: 42.

([140]) ريموت كونترول تعني التحكم عن بعد.

([141]) الذاريات: 56.

([142]) البقرة: 222.

([143]) الاحزاب: 33.

([144]) الأنعام: 149.

([145]) الرعد: 7.

([146]) السجدة: 24.

([147]) البقرة: 131.

([148]) الصافات: 103.

([149]) البقرة: 128.

([150]) الأنعام: 75.

([151]) الصافات: 106.

([152]) البقرة: 124.

([153]) البقرة 254.

([154]) الأنعام: 88.

([155]) الأنعام: 89.

([156]) يوسف: 38.

([157]) الكهف:110

([158]) يوسف:40.

([159]) الفرقان: 43.

([160]) النازعات: 40.

([161]) النجم: 23.

([162]) التوبة:31.

([163]) آل عمران: 140.

([164]) البقرة: 222.

([165]) الإنسان:24.

([166]) البقرة: 258.

([167]) الأنبياء: 73.

([168]) السجدة: 24.

([169]) الدخان: 32.

([170]) التوبة: 105.

([171]) المطففين: 21.

([172]) الأنعام: 75.

([173]) الإسراء: 71.